لماذا التّعليم الإلكترونيّ؟
يشوب قطاع التّعليم العالي العديد والكثير من المشاكل والمعوقات،بعضٌ منها عالميّ والآخر محليٌّ أو وطنيّ .وعلى الرّغم من الخطوات الايجابيّة التي حقّقتها مؤسّسات التّعليم العالي العراقيّ,لكن لا تزال هناك الكثير من الإشكاليات والعقبات التي تقف في طريق تقدّمه وتطوّره وتحسّن أدائه،ومن أهم المشاكل المتفاقمة التي ظهرت خلال العقود القليلة الماضية هي زيادة الطّلب على مؤسّسات التّعليم العالي من قِبل شتّى الأعمار والشّرائح المجتمعيّة والكوادر العلميّة والمهنيّة،فضلاً عمّن يرغبون في دراسة تخصّصات أرى مساندة لتخصّصاتها أو اعتماد مبدأ ضرورة التّعليم مدى الحياة،مضافاً إلى تلك الشّرائح من يرغبون في الحصول على المهارات المهنيّة للولوج إلى سوق العمل بعد أن أكملوا دراساتهم الأكاديميّة النّظريّة وحصولهم على شهادتهم،هذا حقٌّ طبيعيّ لكلّ إنسان.
إنّ الازدياد المطّرد في أعداد الدّارسين في مؤسّسات التّعليم العالي يعدّ مشكلة عالميّة تواجهها معظم الجّامعات في كافة أنحاء العالم،وهي مشكلة لا تقتصر على جامعة بعينها أو منطقة ما بشكل حصريّ.إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ عدد الطّلبة الملتحقين بمؤسّسات التّعليم العالي عالميّاً في عام 1970 قد بلغ 28,2 مليون، ليصبح عددهم 132 مليون في عام 2004 ،أي أنّ الزّيادة العالميّة تبلغ 3% ،في حين أنّ الإحصاءات العراقيّة تشير إلى أنّ الزّيادة السّنويّة قد بلغت 7% للسّنوات ما بعد عام 2003.
وعلى الرّغم من هذه الزّيادة في أعداد الطّلبة إلاّ أن مشهد المؤسّسات التّعليميّة قد شهد ظهور برامج ونظم الجودة الحديثة فيه،وقد عُدّ هذا الظّهور من الأدوات التّنافسيّة بين الجّامعات, الأمر الذي تطلّب إعادة النّظر في مهام الجّامعات ووظائفها وأدائها،وهذا الأمر ليس بالسّهل لأنّه يحتاج إلى الخبرات والابتكارات والإبداعات التي لا يمكن أن تقدّم من قبل الخبراء التّقليدين بل يحتاج إلى خبرات المهنيين والأكاديميين المتواصلين والمتابعين للمستجدّات في شؤون التّعليم العالي،كما تحتاج إلى خبرات المبدعين والمبتكرين في العمل الأكاديميّ.
وعلى الرّغم من الزّيادة المتسارعة في أعداد الجّامعات العراقية الرّسميّة التي بلغت 29 جامعة, ماعدا جامعات كردستان, بالإضافة للجامعات والكليّات الأهليّة التي تجاوز عددها الـ30 ،إلاّ أنّها لا تغطّي ولا تستوعب أعداد خرّيجي الدّراسة الإعداديّة المتزايد سنويّاً التي بلغت (160) ألف طالب لعام 20132014 ،وهذه الزّيادة الكبيرة قد أرغمت وزارة التّعليم العالي على زيادة خطّة القبول التي قد تشكّل نقاط ضعف أساسيّة مع وجود الإشراقات في كثير من الجوانب الأخرى التي وفّرتها وتوفرها الوزارة،إذ إنّ زيادة خطّة القبول سبّبت بعض السّلبيّات ،ومنها:
1- الزّحام الشّديد في القاعات والمختبرات وأروقة وساحات المباني الجّامعيّة من ناحية أعداد الطلبة،وهذا أمر يشير سلباً إلى نوعيّة التّعليم وجودته .
2- ضعف الخرجين في جوانب المهارات والتّفكير الإبداعيّ والتّفكير النّاقد والتّحليل السّلبيّ،الأمر الذي أضعف قدراتهم على المنافسة والاستجابة لمتطلّبات أسواق العمل المحليّة والإقليميّة, فالمهارة المكتسبة من التّعليم هي تحرز فرص عمل جيّدة.
3-ضعف القدرة التّنافسيّة للجّامعات العراقيّة مع الجّامعات العالميّة ،مردّ ذلك إلى أسباب كثيرة بالإضافة إلى سبب زيادة أعداد الطلبة،ومن هذه العوامل عدم تبنّي نظم تعليميّة وإداريّة حديثة،وذلك قد أدّى إلى تدنّي المستوى العلميّ لنسبة غير قليلة من أعضاء هيئة التّدريس العاملين في مؤسّسات التّعليم العالي العراقيّ.
لذا أصبح من الضّرورة التّفكير في إعادة بناء النّظام التّعليميّ لتوفير الفرص الجّامعيّة لأكبر عدد ممكن من الطّلبة مع الالتزام بمعايير جودة التّعليم،وذلك وفق خطوات مدروسة ومقنّنة،وذلك بإدخال نظم التّعليم الإلكترونيّ ضمن ضوابط وآليات معتمدة بعد تأهيل نخبة من الكادر التّدريسي وتقنيين مساعدين لهم.
وفي هذا الصّدد نذكر بعض الإجراءات الضروريّة والملحّة لأجل تحقيق بعض الأهداف،ومنها:
1- تقليل الزّحام في الجّامعات باتباع أساليب وطرق لإيصال المعلومة أو المهارة للطّالب دون الحاجة إلى تواجده في الحرم الجّامعيّ إلاّ للضّرورة وضمن البرنامج المعدّ والمؤشر عليه للطّلبة،مثل حضور في أيام الاختبارات أو الحضور للسّاعات المختبريّة أو العمليّة.
2- التّخلّص من مشكلة عدم توفر التّدريسيين والمصادر من الكتب لبعض المواضيع والمواد الدّراسيّة العلميّة ولاسيما الحديثة منها ،وهي تتناغم وتساير حافات العلوم ومستجداتها.
3- نقل التّعليم من حالة تلقين المعلومات إلى حالة تزويد الطّلبة بالمهارات والكفايات اللازمة لسوق العمل ومتطلّبات التّنمية الشّاملة والمستدامة.
4-الانتقال من حاله التّركيز على مدخلات التّعليم إلى حالة التّركيز على تحقيق معايير الاعتماد وإلى التّركيز على نوعيّة وجودة البرامج،لتغدو جودة مؤهّلات المخرج هي الهدف الرّئيس.
5- الانتقال بالتّعليم الجّامعيّ من وصفه حاجة اجتماعيّة ليصبح حاجة مجتمعيّة, بمعنى أن يرتبط التّعليم العالي بحاجة المجتمع وسوق العمل وبرامج التّنميّة،ولا يكون امتداداً للرّغبات الاجتماعيّة للأهل أو لذوي الطّلبة؛فتقدم المجتمع وازدهاره يجب أن لا يترك لرغبات الأسر في تحديد البرامج التي يلتحق الأبناء بها.
6- وضع الخطط لتخفيف الهوّة بين التّعليم المدرسيّ والتّعليم الجّامعيّ بما يؤمن يكون التّعليم الجّامعيّ مكمّلاً عمليّاً وفعليّاً للتّعليم المدرسيّ،فالتّعليم المدرسيّ يجب أن ينتقل من حالة التّلقين والحفظ إلى حالة تزويد الطّالب بالمهارات الضّروريّة، ومنها التّفكير النّاقد والتّحليل والاستنتاج والبحث والاعتماد على المراجع وغيرها من وسائط التّفكير العلميّ السّليم والبحث العلميّ الممنهج.
ولحلّ المشكلات أعلاه مع تحقيق الأهداف السّالفة الذّكر يجب أن تتمّ بشكل بشكل تدريجيّ بالاعتماد على التّعليم الإلكترونيّ،وذلك سيراً على ما كان عليه الأمر في التّجارب العالميّة النّاجحة،فالتّعليم الإلكترونيّ أصبح ظاهرة عالميّة متزايدة،وهنالك تجارب ناجحة في العديد من مؤسّسات التّعليم العالي المرموقة، فعلى سبيل المثال تقوم جامعة ستنافورد بتدريس عدد من المناهج إلكترونيّاً،ومنها مادّة تسمّى (مدخل إلى الذّكاء الاصطناعيّ)،وقد التحق بهذه المادّة حوالي 160,000 طالب وطالبة من دول العالم جميعها.
وعند اجتياز الطّلبة للامتحان الإلكترونيّ المقرّر يُمنح الشّهادة التي تفيد بذلك.ويقيّم البرنامج بأنّه قد أحرز أفضل أنواع التّعليم إذا ما توسّع وانتشر،وهذا الأمر سيؤدّي إلى تقدّم التّخّصصات البشريّة بسرعة كبيرة كما يؤدّي إلى تنوّعها. وحاليا تقدّم الجّامعة ذاتها حوالي 11 برنامجاً تعليميّاً بالطّريقة نفسها، بما فيها مواد مثل (مقدّمة في الفيزياء) ،وتقدّم المواقع وجامعات أخرى مثل هارفد وام اي تي وبييل وغيرها برامج تعليميّة مختلفة. وتشير الإحصاءات حالياً إلى أنّ ما يقرب من 6000 كورس يقدّم إلكترونياً في منصّات تعليميّة ثقافيّة عالميّة.
وقد تأسّست منظّمة ادكس ((edx بوصفها مؤسّسة غير ربحيّة رائدة في مجال التّعليم الإلكترونيّ ،إذ قدّمت مجموعة من (المساقات الإلكترونيّة الجماعيّة المفتوحة) موكس (MOOCs) لتقدّمها في منصة تعليميّة فيها مساقات جامعيّة عبر الانترنت،لتكون متاحة للجميع،وهي تدار من قِبَل أفضل التّدريسيين والجّامعات في العالم،مثل جامعة هارفرد وجامعة ماسشوستس للتّكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي ،وبلغ عدد هذه المؤسّسات التّعليميّة العالميّة نحو 50 مؤسّسة عالميّة في عام 2012 ،وهي تطرح 170 برنامجاً دراسيّاً، وينتمي إليها 2.2 مليون طالب، وقد تبنّت هذه المنصّة مفتوحة المصادر الهيئات الحكوميّة والخاصّة وبعض الدّول،مثل الولايات المتحدة الأمريكيّة وبريطانيا والصّين وفرنسا،وفي يوم الإثنين الموافق لـ 19/5/2014 أُجري حفل إطلاق منصّة عربيّة تبنّتها مؤسسة الملكة رانيا للتّعليم والتّنميّة في المملكة الأردنيّة الهاشميّة (إدراك) بالمشاركة مع المؤسّسة العالميّة (ادكس) المختصّة في المجال نفسه لتكون أوّل منصّة عربيّة إلكترونيّة غير ربحيّة للمساقات الجماعيّة الإلكترونيّة المفتوحة المصادر لتمنح الفرصة لأبناء العالم العربيّ مجّاناً لمواكبة التّطوّرات العالميّة في مجال التّعليم وفي كافّة التّخصّصات لتؤهّل الملتحقين في بعض هذه المساقات للحصول على شهادات تبرهن استكمالهم للمتطلّبات المعرفيّة المطلوبة.ومن المخطّط له من قِبَل (إدراك) إدراج مساقات في مجالات علم الحاسوب والإحصاء بالإضافة إلى إجراء بحوث حول طُرق تعلّم الطّلاب لمهارات عديدة في مجال تصميم الدّوائر الكهربائيّة وإعداد برامج استنهاض المواطنة في الوطن العربيّ،وبرامج الصّحة النّفسيّة للطّفل.كما سيتمّ إدراج برامج تعليميّة أخرى عالية الجّودة ذات محتوى متقدّم ومواكب لتطوّرات العالم بعد أن تتمّ ترجمة أفضل البرامج العلميّة العالميّة أو تعريبها.
إنّ التّوجيهات الحديثة لنظم التّعليم تركّز على تزويد الدّارسين بالمهارات والخبرات العمليّة التي يحتاج المجتمع إليها،وتعزّز القدرة التّنافسيّة لمؤسّسات التّعليم العالي وخفظ الكلفة وبناء القدرات. وقد وفرّت التّكنولوجيا الحديثة كمّاً هائلاً من المعلومات والمعارف والمهارات لأيّ موضوع،وأصبحت متاحة للجميع، وقد أثّرت في نواحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والعلميّة كافّة،وشرع التّواصل والتّفاعل البشريّ المباشر يتحّول تدريجيّاً إلى تفاعل وتواصل غير مباشر،وذلك بواسطة التّكنولوجيا الإلكترونيّة.
وهذا يطرح سؤالاً لاهثاً ملحّاً،وهو:لماذا لم يصبح تعليمنا إلكترونيّاً ؟ كي يسدّ الفجوة التي نعيشها في ظلّ تدني نوعية التّعليم وعدم مواكبة خبرات وقدرات الخريجين لمتطلّبات سوق العمل لاسيما في حالة التغيب عن البحث العلميّ والنّشر في المجلات والنّشرات العالميّة والنّقص الحادّ في المهارات بكلّ أشكالها.
وقد كان من ضمن استراتيجياتي في جامعة الكوفة عندما كنتُ مكلف برئاستها التوّجه إلى التّعليم الإلكترونيّ،وفي هذا الشّأن قمنا بتوثيق محاضرات الأساتذة الأكفاء في كليّات الآداب والتّربية الأساسيّة والهندسة وكليات المجموعة الطبية فيديويّا،وعرضناها جميعاً في الموقع الإلكترونيّ للجّامعة لتصبح متاحة للطّلبة الرّاغبين في الاطلاع عليها في أوقات فراغهم،وقد باركت وزارة التّعليم العالي خطواتنا بعد أن اطّلع عليها ميدانيّاًمن قبل المدراء العامّين للبحث والتّطوير والدّراسات والتّخطيط في زيارتهم الميدانيّة للجّامعة.
وبالطّبع كان هناك اعتراض على هذه الاستراتيجيّة من طرف ضعاف التّدريسيين ومن قبل غير المتابعين للتّقنيات العلميّة الحديثة،وهم غير متواصلين مع المؤسّسات العلميّة العالميّة،وقد شرعوا يوجّهون الاتّهامات إليّ وإلى الجّامعة بذريعة أنّني أستخدم أساليب التّصوير للمحاضرات لمراقبتهم داخل القاعات التّدريسيّة.والأمر المحزن بحقّ أنّه تمّ إيقاف هذه البرامج التّعليميّة الإلكترونيّة بعد مغادرتي لرئاسة الجّامعة.
ويبقى القول إنّ التّعلم عبر الإنترنت هو فرصة ثمينة للحصول على المهارات والعلم والمعرفة التي يمكن أن تحدث نقلة نوعيّة في مسيرتنا العلميّة والتّقنيّة والمهنيّة،وذلك عبر إتاحة المعرفة لكلّ من يرغب فيها، كما هو طريقة ناجعة لاستنهاض العقول العراقيّة التي يمكن أن تضخّ نتاجها الفكريّ والبحثيّ وخبرتها على الإنترنت لتصبح متاحة للجميع.وعندها يمكن أن يصبح تعليمنا إلكترونيّاً ولو بشكل جزئيّ.