النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 2
بواكير النقد اليوناني:
كان اليونانيون سبّاقين إلى تقبل فكرة النقد الأدبي بسبب من اهتمامهم بالفلسفة وبلوغهم
شأواً بعيداً في الوعي الابستمولوجي، ولكن الثابت تاريخياً أن هناك مرحلة نقدية بسيطة سبقت عصر النقد اليوناني القار؛ وهذه المرحلة تجلو لنا النقد بهيئة تقنية يعرفها الشعراء الذين أخضعوا قصائدهم للحذف والتعديل ويمتحنون إيقاعاتها وفق المقامات الشفاهية المتوارثة لديهم، وإلا كيف نفسر نضج أعمال هوميروس الأدبية من نحو الإلياذة والأوديسة لو لم يكن هذان العملان مثلاً مسبوقين بتجارب نقدية مهمة تعتمد الخطأ والصواب وذائقة الجمهور،… وكان ظهور طبقة الرواة نقلة مهمة في اتضاح الأفكار النقدية البسيطة؛ فالراوي أساساً رجل موثوق به من جهة الشاعر أو الناثر الفني أو الجمهور، الراوي ذو ذائقة متميزة وذكاء حاد؛ فكان يعدّل النص ويعرضه على الشاعر فيرضى الشاعر ويثني عليه، ولسان حال الشاعر يقول ما قاله المتنبي في راويته وناقده ابن جني (أين صاحبي ابن جني فهو أعلم بشعري مني)!!.. ويجيء القرن السادس ق.م فيظهر الشعر التمثيلي، ضرباً يتطلب خبرة واسعة عميقة في صياغة النص ويستدعي التعامل مع مبادئ نقدية ترقى إلى تقاعيد وتقاليد يتبعها المبدع حين ينتج شعره التمثيلي ليرضى عنه الناقد وجمهوره، وصحب ذلك مسابقات بين الشعراء، وكل عمل مسرحي شعري أو قراءة شعرية كانت تقوّم مباشرة من قبل جمهور الحاضرين، فالجمهور حين يأنس للعمل الأدبي أو الفني يصفق طرباً ويرقص فرحاً وينثر الورد على الممثلين أو الشاعر، وحين يستاء يصفّر ويقذف الممثلين أو الشاعر بالبيض أو الطماطم، فضلاً عن وجود لجنة معترف بها تبدي رأيها بما شاهدت أو سمعت، فإذا قبلته الجماهير قدمت الهدايا للشاعر حالة الاستحسان أو حجبتها عن الشاعر حالة الاستياء!! فإذا رفض الشاعر آراء اللجنة وتعاطف الجمهور مع رفضه عرضت قرارات اللجنة للاقتراع .
وقد فعل هذا النقد فعله في صياغة النص وتعاطف الجمهور معه رغم بدائية هذا النقد وبدائية وسائله، ويكفي النقد أثراً أنه جعل الشعراء يلتفتون إلى الأرض والناس بعد أن تعلقت عيونهم بالسماء والآلهة، واهتموا بالطبقات الوسطى وهم الأكثرون بعد أن كانوا حريصين على الكتابة للصفوة والنخبة؛ ورصد منتجو الشعر التمثيلي حياة الناس فنقدوها ونقدوا الأساليب السياسية معها فكانت الملهاة عند أرسطو فانيس (448ق.م-380) الذي أثار مشكلة القدامة والحداثة في مسرحية (الضفادع) التي وصف فيها الشاعر اسخيلوس بأنه رمز للقديم!! وشاعر المأساة يوربيدس بأنه رمز للحديث؛ والمسرحية تصف ببراعة رحلة ديونسيوس إله المسرح إلى الدار الآخرة وخلال عبوره نهر العالم الآخر كانت جوقة الضفادع تناغم نقيقها مع ضربات المجاذيف في الماء بما شكل أغنية الطبيعة بعدها تبدأ مناظرة في العالم السفلي بين يوربيدس واسخيلوس تنتهي بهزيمة يوربيدس ليقتنع ديونيوس بأن اسخيلوس أجدر منه بالنقد الاجتماعي فيصادقه ويصطحبه معه إلى العالم الأرضي ليرشد بمسرحياته الاثينيين حتى يتطهروا من الضلال . لقد كان ظهور السوفسطائيين عاملاً مهماً في شيوع فن المناظرة والنقد والبحث عن المسوّغات إذ جرّح هؤلاء معظم القناعات القارة لأنهم يعتمدون المغالطة والمكر الكلامي وفق مخطط يعدونه مسبقاً يوازن بين قدرات السوفسطائي وقدرات غريمه، إنهم يختطفون النص ويغيرون مساره ويحولون القواعد الخاصة بظاهرة ما إلى ظاهرة أخرى!! وكان أهل السفسطة أول عهدهم معلمين جوالين نشروا المعرفة والفنون البلاغية بين الناس لكن سقراط وتلميذه أفلاطون هاجما اطروحاتهم التي كرست فكرة الجدل والمكر الكلامي قبل فكرة البحث عن الحقيقة!! بيد أن السوفسطائيين أسهموا في الوعي النقدي بين اليونانيين قبل سطوع نجمي سقراط وأفلاطون، بل إن محاولاتهم في النقد والأدب واللغة كانت (معيناً خصباً لبحوث أفلاطون وأرسطو في النقد) . وكانت آراء سقراط غير المدونة عوناً للنقاد اليونانيين فيما بعد وبخاصة لتلميذه الدؤوب أفلاطون، حتى قيل ان آراء الأستاذ والتلميذ قد اختلطت ولم يعد ممكناً الفصل بينهما!! وقد تميز أفلاطون (428ق.م-347ق.م) فأسس منهجاً علمياً للنقد ودعا إلى المثالية الموضوعية التي ترى أن الروح جوهر والمادة عرض! وهذه المثالية مختلفة عن المثالية الذاتية وبات كتابه (الجمهورية الفاضلة) مصدراً مهماً لآرائه في الشعر والنقد والمحاكاة ومحاكاة المحاكاة، فالحوار الذي اجترحه أفلاطون بين المنشد أيون وأستاذه سقراط يعطي انطباعاً واضحاً عن المشهد النقدي الذي ساد عهد ذاك وكان من بين ما أثاره الحوار: هل الشعر فن أم إلهام؟ وهل ثمة فرق بين مرجعيتي الشاعر والناقد وحرفتيهما وهدفيهما؟؟؟ فضلاً عن رؤية أفلاطون التي تؤسس دوراً محدوداً للمنشد، فهو (المنشد) حين ينشد شعر هوميروس مثلاً ويفسره إنما يعتمد على ذائقته وخبرته ولا يعتمد على القواعد النقدية أو المنطقية بسبب تماهيه مع النص إلى الحد الذي يغيب فيه عن شعوره لحظة الإنشاد أو الشرح، والشاعر أدرى بالحياة من الناقد، فالشاعر يأخذ خبرته من الحياة والناقد يضيع خبرته في النقد، ودليل ذلك هوميروس الذي تجلوه كتابة الإلياذة خبيراً بالطب والصيد وقيادة الجيش وعواطف العشاق ومشاعر القتلة بينا يكون المنشد والناقد مفتقداً لمثل هذه الخبرات المهمة. وكانت نظرة أفلاطون للمحاكاة عهداً نقدياً جديداً في حياة اليونان بعد أن مهد لهذا العهد سقراط الذي نظر إلى المحاكاة بشكل مختلف فأفلاطون يميز الحقيقة عن صورتها والجوهر عن العرض، إذ الوجود جوهر والمحاكاة عرض وانعكاس له، فهي (المحاكاة) لا تغني عنه ولا تحل محله، لأن عالم المثل عصي على عالم الحواس والمشاعر. والمحاكون إزاء المثل يشبهون أناساً يجلسون في سرداب وظهورهم باتجاه فتحة ضيقة منه وثمة نار مشبوبة، فهم يرون أشباحهم على الحائط وهي تتحرك بالانعكاس أي أنهم يرون أشباحهم المنعكسة عن المثال ولا يرون المثال!! وهكذا يكون الشاعر (أو الفنان) مسهماً في التضليل حين يبعد الجوهر عن العرض، فإذا وصف الشاعر امرأة جميلة واقفة أمامه فإن وصفه لها بمثابة مرحلة ثالثة من الوجود؛ ثمة أولاً فكرة شكل المرأة كما أرادها الله وثانياً المرأة المجسدة (كسر السين) لتلك الفكرة وثمة وصف الشاعر، فالوصف لا يحاكي الفكرة ولا تجسيدها وإنما يكون وصف الشاعر مثابة لمحاكاة المحاكاة! إذن الشاعر والفنان ليسا خالقين وإنما هما مقلدان!! وثمة مثال آخر موضح لفكرة أفلاطون عن المحاكاة.. الكرسي يمتلك صورة عند الله وصورة عند النجار والصورة الثالثة عند الشاعر! وهكذا يكون الشاعر عند أفلاطون أقل مرتبة من الصانع (النجار) وذلك ما يفسر استغناء جمهورية أفلاطون عن الشاعر والفنان .
بواكير النقد الأدبي العربي:-
مر بنا مطلع هذا المبحث عثور المنقبين في وادي الرافدين على نسخ مختلفة لملاحم (حينما في العلى) و (جلجامش) و(تموز) ولاحظ المنقبون الاختلاف الواضح لنسخ كل ملحمة من هذه الملاحم مما عزز الرأي القائل أن الشاعر أو الناسخ كان يجري التعديلات على النص الأصلي طمعاً في إرضاء ذائقة الجمهور وتسويق تلك النسخ، وهذه التعديلات لابد أن تكون قائمة على عدد من القواعد النقدية مهما قللنا من وعيها ونضجها والبابليون عرب هاجروا الجزيرة بعد الجفاف الذي داهم الجزيرة العربية وطابت لهم الإقامة في العراق حيث الماء والخضرة والاستقرار. وقد ضاعت النصوص الشعرية والنقدية التي تمتد من القرن 25ق.م حتى القرنين السابقين للهجرة النبوية الشريفة ومثل هذا الضياع العجيب خسارة فادحة للمشتغلين بالأدب العربي ونقده ومازال الأمل معقوداً على التنقيبات الهميمة في شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. لكن العينات التي بين أيدينا وهي لن تتجاوز القرنين السابقين على الهجرة يمكن أن تكون لدى الباحث فكرة مناسبة عن طبائع النقد الجاهلي وأصوله!! فقد وجد مبدع النص الأدبي القبسلامي عدداً من خيارات كتابة النص مثل الطين المشوي ورقّ الغزال وخشب الرحل والعظام المصقولة والقماش وعسب النخل…الخ؛ وكانت السكين أداة المحو لديه في حالات التحكيك (تعديل النص)، ألم ينقل عن المزني زهير بن أبي سُلمى: خير الشعر الحولي المحكك؟! ألم يقسم الجاهليون أدبهم إلى شعر ونثر ثم ميزوا نمطين من الشعر: مطبوع ومصنوع كما ميزوا نمطين من النثر: فني وسوقي!! وكانت هذه التقسيمات إشارة نابهة إلى الوعي المستجد في تقويم الأدب وتقسيمه وترسيم حدوده وبما يعزز الاتجاه النقدي عهد ذاك.
وشهد النقد الأدبي مرحلة نقدية متطورة وهي المرحلة التي اتخذت من الصورة الفنية معياراً نقدياً، المعيار الذي اعتمده عدد من النقاد الجاهليين في يثرب ومكة وعكاظ وذي مجنة وعدن أبين والحيرة.. جاء في طليعتهم النابغة الذبياني وأم جندب . وسنتلبث عند هذا البواكير في الفصل الرابع (المبحث الثاني) الخاص بالنـزعات الأدبية العربية وبسؤال النظرية النقدية العربية.
* دلالات المصطلح:
يحاول هذا المبحث التلبث عند عددٍ من الصيغ التي تتصل بكتابنا هذا من نحو مصطلح
-أدب-أدبية-شعرية-نقد-حديث-منهج-تماه-انزياح-تراسل-صورة-…الخ. ومن ثم معرفة مكونات الأديب.
المصطلح: كلمة والكلمة حاصل جمع عدد من الحروف تؤدي معنى أولا تؤدي! وهي أيضاً طاقة لا تفنى ولا تستحدث ويتعين على المتصرف بها معرفة طبائعها وأصولها وفروعها. فقد تنسحب كلمة إلى العتمة وتنعم أخرى بالضوء وفق قانون الاستعمال والإهمال، لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويضمر بيد أنه لايموت وإنما يرقّن حين يدب الانحلال والتشرذم في جسده! إن للكلمة ثلاث دلالات يمكن استنباطها من جهة استقراء تاريخ مسيرتها أو مسيرة تاريخها، فالدلالة الأولى تعتمد مرجعية اللغة مظنة لها وتسمى الدلالة اللغوية، والدلالة الأخرى مظنتها مرجعية وضعية اتفق المشتغلون بها عليها!! وتظل الدلالة الثالثة الأخيرة مقترنة برؤية الباحث الخاصة وطبيعة شغله ومنهجه وهمومه وتسمى الدلالة التأسيسية، قارن الدلالات الثلاث:
1- دلالة لغوية (معجمية قاموسية). 2- دلالة اصطلاحية(تواضعية اجتماعية). 3- دلالة تأسيسية (ذاتية تتصل بقناعة الباحث ومنهجه).
إن الجدل بالعلة والمعلول قائم بين هذه الدلالات، إذ لا يمكن لقنوات التواصل بين هذه الدلالات أن تنقطع؛ ثمة تأويل دائم وتوجيه دائب يحيلان على المعاني المشتركة بين الدلالات وإن بدا الأمر للوهلة الأولى مختلفاً.. هاكم أمثال معززة تتمحور حول (أسلم-كفر-عقل).
1- أسلم ç لغــة ç ذل وخضع.
ç اصطلاحاً ç صار مسلماً.
ç تأسيسـاً ç أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
2- كفر ç لغــة ç ستر وغطّى وحرث
ç اصطلاحاً ç لم يؤمن بالوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو بثلاثتها.
ç تأسيساً ç ضل السبيل القويم.
3- عقل ç لغــة ç شد الشيء بالحبل.
ç اصطلاحاً ç أدرك المقصود..
ç تأسيساً ç تجنب الهدر في التفكير والطاقة والزمن.
الأدب والأدبية والشعرية: يمثل الأدب في حاضنة اللغة آفاقاً شاسعة ويتوفّر على دلالات كثيرة العدد والوجوه، أهمها الرياضة والطعام والاعتياد والمعرفة العامة والمروءة والتعليم والأعراف والمجازاة . وإذا كانت مفردة (أدب) متقلبة في حاضنة اللغة فهي كذلك في الاصطلاح!! ويبدو الاختلاف جلياً حتى الآن على دلالاتها ووظائفها، إذ تضمنت علوم الأدب عند أجدادنا اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء! ولم يختلف الأمر كثيراً عند الخلف، فما زال الاشتباك متصلاً حتى الآن بين علوم اللغة والدين والآداب، وهذه أقسام اللغة العربية في كليات الآداب والتربية واللغات في الوطن العربي معنية بمفردات هذه العلوم، بل أضيف إليها تعلّم لغة غربية أو شرقية فضلاً عن درس الفلسفة، وأي غضاضة في الأمر؟ فالأديب معني أكثر من سواه بالجانب المعرفي وهو يخدم توجهه الأدبي والابستمولوجي ويعمّق تجربته ويصقل موهبته، وتظل هذه العلوم علوماً مساعدة وليست أدباً بأي تسويغ!! والأدب الخالص هو المعاني الجميلة المؤثرة في عواطف المتلقي وذائقته مصاغة بأسلوب متميز بجاذبيته ورقته؛ وقولنا المعاني الجميلة لا ينصرف إلى الفهم السائد للجمال، فقد يجد المتلقي جمالاً في النص الأدبي، وهو يتحدث عن الدمار في هيروشيما وناكازاكي أو مذبحة قانا!! والجمال متأت من رفض القبح والقتل بتصويرهما فنياً وتسليط الأضواء الكاشفة عليهما؛ متأت من تغنّي النص بقيم الإنسان العصي على الاتّساخ والاستسلام!! المعاني الجميلة ليست وفقاً على تصوير الفتاة الجذابة والبحر الغامض والفرح العابر، بل هو (الجمال) كامن في سويداء الأشياء والنفوس الجميلة تعرف كيف تتعامل مع الجمالين: الظاهر والباطن قارن مقولة عمرو بن معديكرب:
فاختر وإن أرديت بُرداًومناقبٌ أورثن مجداً ليس الجمال بمئزرٍ إن الجمال معادنٌ
ومقولة إيليا أبو ماضي:
لا يرى في الحياة شيئاً جميلا والذي نفسه بغير جمال
إذن: الجمال الأدبي قد يخرج من بؤرة الشيء إلى طريقة النظر إليه وأسلوب تناوله والتعامل معه!! جمال الأسلوب ليس في موضوعه أو تنميقه حسب؛ وإنما هو متجلّ في الابتكار والجدة وصدق التجربة وعمق المكابدة بما يعزز حضور النص في الوجدان ويعمق حب الحياة ويعضد قيمها النبيلة المغيبة ويجذر الإيمان بالله، مبدع السماوات والأرض ويجنبنا العَمَه والتطرف والانغلاق.
*الأدبية: مصطلح جديد وفق حدوده التي وصلتنا، ويعني الصفة التي يكتسبها النص المتحول (كسر الواو المشددة) من حالة السكون واللا أدب إلى الأدب (لأن الأدبية إذا توافرت في نص ما اغتدى أدبياً) .
*الشعرية: هي بؤرة الجمال في النص أو المسمع أو الملمس فالشعرية هي (السحر الحلال) الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا وبين النص حتى كأننا ونحن نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه؛ وكل شعر محروم من الشعرية افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت قشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك، والمهم جداً في هذا الميدان هو أن الشعرية غير مقصورة على ظاهرة واحدة أو سمة واحدة؛ وإنما هي كل الظواهر ومزاج السمات. وعليه فالشعرية ليست قرينة الشعر حسب، فربما امتدت إلى اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية وعروض الأزياء وهندسة العمارة ونبرة الصوت وملامح الوجه وحركة اليد وطيبة القلب!! إنها بؤرة الجمال في الموضوع.. رب شعر بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك أو أي قصيدة حذقت النظم ولم تحذق الجمال!! قارن قول ابن جحدر:
شمرجلة خلقها سيظمبها من وحي الجن زيزيم!! حلفت بما أرقلت حوله وما شبرقت من تنوفية
ورب شعرية بلا شعر.. مثل شمعة وسط ظلام دامس وموجة وسط بحر ساكن وقطرة طل على تويج زهرة…الخ .
النقد: تتوفر مادة (نقد) في المعجمات اللغوية على معانِ مؤتلفة مرة، مختلفة أخرى وللدارس أن يميز ميزانين لهذه المادة: الأول يعتمد نصب القاف في (نقد) والآخر يعتمد كسرها؛ ولكل ميزان إحالاته الدلالية..
أ- نَقَد (فتح القاف) ç نقد العينة اختبرها وميز جيدها من رديئها، ونقد الطائر الفخ توجس خيفة منه فاختبره حذراً؛ ونقد الصيرفي الدرهم نقداً وتنقاداً نقرها؛ ووضعها بين السبابة والإبهام ليمتحن الأصيل والزائف والجيد والرديء؛ ونقدت الأفعى زيداً لدغته؛ ونقد عمرو زيداً اختلس النظر نحوه حتى لا يفطن إليه؛ ونقد فلان الدراهم نقداً وتنقاداً أعطاها للبائع معجلاً؛ فالنقد في البيع خلاف النسيئة وانتقد بابها نصر.
ب- نَقِد: (كسر القاف) ç نقد الطعام نقداً وقع فيه الفساد؛ ونقد الضرس أو الحافر تآكل وتكسر؛ ونقد الجذع أكلته الأرضة فهو جذع نقد (كسر القاف) ونقد (فتحها)! ونقد الحافر تقشر، والمعاني (أ.ب) تكوّن فكرة عن دلالات هذه المادة؛ فإذا تناقد القوم تناقشوا والحصيلة هي حالتان: حالة المنقود أن يعرض على الناقد؛ وحالة الناقد أن يتفحص المنقود! ولابد والحال هذه أن يكون المنقود على صورتين: الأولى صحيحة والأخرى عليلة. وللمتفحّص أن يلاحظ أيّ الصورتين ميّزت المنقود؟ ولم ترد نقد في القرآن الكريم بأي من دلالاتها لكنها وردت في الشعر الجاهلي كثيراً وفق مستوياتها اللغوية، قال أعشى بكر:
فلا تحبسنا بتنقادها دراهمنا كلُّها جيدٌ
وقال عبدمناف بن ربع الهذلي:
لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدامن بطن حلية لا رطباً ولا نقداضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا ماذا يغير ابنتّيْ ربْع عويلهُماكلتاهما أبطنت أحشاءها قصباًإذا تأوّبَ نوحٌ قامتا معه
*والنقد في الاصطلاح ç يرمي إلى ملاحظة النص وامتحانه، بما يتهيأ للناقد من خبرة وذكاء لمعرفة قيمته؛ وما إذا كان مبتكراً أو متأثراً بنص آخر؛ وكان النقد الأدبي مطلع وهلته الأولى ميالاً إلى التعميم لأنه ثمرة حضارة الشعر وقتذاك، ولم يحصل النقد على مصطلحه (الواضح) إلا في وقت متأخر نسبياً وكان الناقد الجاهلي مثل زعيم القبيلة يوازن بين المعاني والألفاظ والصور بخبرته الخاصة وبوهمه أنه يمتلك المعرفة والحقيقة وحده! وربما احتكم إلى أصحاب الخبرة لينصحوه أو احتكم إلى ذوقه الخاص أو هواه أو ولائه!! فالناقد زعيم على نحو ما أو حاكم، وكان نابغة ذبيان ممسكاً بزمام الشعراء، يقول رأيه فيهم فيرضون وأطلق الجاهليون عليه (رأس حكومة الشعر) فكانت تضرب له خيمة من الجلد الأحمر على مسطبة رملية محددة بالحجارة المرصوصة بالقار تجعله في مشهد يراه فيه الجمهور الواسع دون عناء!!
ونقدنا الحديث قائم على أحد المنهجين: المعياري أوالوصفي..
*النقد المعياري ç وهو النقد التقليدي الذي يخول الناقد محاكمة النص الأدبي وإصدار الحكم له أو عليه، والمبدع لا يمتلك إلا القبول بأبوّة الناقد، والقارئ لا يفكر ولا يجتهد لأن ثمة ناقداً يفكر نيابةً عنه ويجتهد بدلاً منه!! ولعلنا نتذكر المقولات النقدية القديمة من نحو أشعر بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأمدح بيت وأخنث بيت.. كما نتذكر: الشعر المصنوع والشعر المطبوع وشعر الفحول وشعر الطبقة!! وقد أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن هذه الأحكام لم تكن قائمة على الاستقراء والموضوعية!!
*النقد الوصفيç يحاول هذا النقد التخفيف من سلطة الناقد الحاكم بأمره، حتى اقترح على عملية النقد اسم (قراءة النص) واعتد القارئ (غير الناقد) ناقداً لأنه يعيد إنتاج النص في متخيله. هذا النقد ظهر في الربع الأول من القرن العشرين وقد اهتم ومازال ببنية النص وجعلها اثنتين الأولى الشكل والأخرى المعنى وإن جعل المعنى تبعاً للشكل وكان هاجس هذا النقد ومازال هو نقل النقد من مرحلة الانطباع إلى مرحلة العلم.. ثمة آليات اعتمد عليها الناقد الوصفي مثل البنية والحقل والمستوى والانتظام والتآلف والتخالف..الخ فالناقد يشرّح النص ويصف تقنياته بطريقة حاذقة تترك للقارئ سانحة الاجتهاد في تلقي النص أو الحكم عليه.
*النقد المزدوج ç يحاول هذا الكيف من النقد استثمار مزايا المنهجين المعياري والوصفي وإقصاء فكرة البعد الواحد عن النقد. وقد أثبتت التجارب النقدية الرائدة أن هذا النقد المزدوج قمين بملامسة شغاف النص وابتكارات المنتج أو إخفاقاته وتلبية حاجات المتلقي وصولاً إلى الارتقاء بعملية التوصيل مراقي الجمال وتطويرها باتجاه فكرة الفريق المتألف من الأديب وجمهوره وناقده.. وثمة الكثير من المنطلقات النقدية الواقعة في نقطة التقاطع بين الخطين المتصالبين..
[مشجرة النقد]
النقد
المعيارية المزدوجة الوصفية
المدرسية النسبيّة المطلقة الموازنة النصيّة المقارنة الأخلاقية الصحفية التفسيرية
*الأسلوب ç معاني الأسلوب وفيرة في اللغة بينها الطريق الذي تسير فيه والسطر من كل شيء والسلوك والفن وقد أورده أعشى بكر بمعنى الاعتياد:
إن بني قلابة القلـوب أنوفهم مِ الفخر في أسلوب
أما في الاصطلاح فهو (طريقة التفكير والتصوير والتعبير) وقال أبو هلال العسكري: الأسلوب قطعة من عقل الرجل! وقال بيفون: الأسلوب هو الشخص نفسه. أي أن الأسلوب هو مجموعة المكونات التي تشكل الإنسان تفكيراً وتدبيراً ورغبات ورهبات وعادات وشهوات.. ولا يمكن إغفال دور هذه المكونات في صياغة العبارة عند الأديب مهما حرص على تغييبها على مستوى السطح.
والأسلوب أسلوبان.. الأول هو الأسلوب العلمي. الذي يصوغ العبارة بمقدار الفكرة متجنباً المجازات من كنايات واستعارات ملتصقاً بالموضوع والنقد الحديث منتم للأسلوب العلمي..
والآخر الأسلوب الأدبي وهو النحو الذي يتبعه الأديب في إثارة العاطفة الجمالية لدى المتلقي ويكون ذلك بآليات الصياغة الأدبية المعروفة من مجاز وتشبيه وإخفاء وتجل وطي ونشر…
*الحديث ç الحديث مصطلح بثلاث دلالات، الدلالة الأولى زمانية والأخرى فنية والأخيرة تأسيسية، وإذا نقبنا في الغاطس من هذا المصطلح استناداً إلى المعجمات اللغوية (حدث) ألفينا الآتي: حدث الشيء حدوثاً وحداثة نقيض قدم وأحدث زيد الشيء ابتدعه وأوجده؛ جاء في الذكر الحكيم [لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً – الطلاق1) وأحدث السيف ونحوه: جلاه؛ والحادث ما يجد ويحدث، والحداثة سن الشباب والحدث: صغير السن والمحدث (كسر الدال) المجدد في العلم والفن والمحدث (فتح الدال) مالم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع (المعجم الوسيط – حدث) وقد شاعت كلمة محدث في القرن الثاني الهجري بعد ظهور أجيال من الأدباء الشباب التائقين إلى التجديد؛ بحيث قال زبان بن سيار ت154 (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بأن آمر صبياننا بروايته) ثم اتسعت الهوة بين الأدباء الشباب والأدباء الشيوخ وبات خلاف الهوى عصبية مغلقة فتنبه إلى ذلك الناقد ابن قتيبة ت276هـ وكان قاضياً (فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله! ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن) ويثار جدل مستمر حول دلالتي حديث/ معاصر فمن قائل أن حديث قريبة إلى دلالة التجديد الفني إلى قائل أن معاصر أقرب من حديث إلى دلالة التجديد الفني واستلهام روح العصر!! فإذا عدنا إلى المصطلح ألفينا دلالة العصر متموضعة حول حقبة زمنية من تطور أدب ما تتميز بسمات خاصة وبتغليب مذهب من مذاهب الأدب على غيره من المذاهب، جاء في اللغة: أعصر دخل في وقت العصر وأعصرت الفتاة بلغت شبابها وأدركت والعصر زمن ينسب إلى زعيم أو دولة أو حدث.إ.هـ. ولا نرجّح نصرة مصطلح على آخر؛ فقد مر بنا أن للكلمة ثلاثة مستويات. لغوي واصطلاحي وتأسيسي؛ فإذا اقتربنا من التأسيسي وجدنا أن الباحث أوالمؤلف أوالمحاضر محق في انتقاء المصطلح الذي يناسب منهجه إذا سوغ الانتقاء على مستوى التأسيس! وقد وجدنا في إضافة (الحديث) إلى (النقد الأدبي) مناسبة لعنوان كتابنا وطبيعة شغلنا وتأسيسنا فالمراد بالحديث هو: الدلالة الزمنية والدلالة الفنية دون التورط في العصبيات البحثية، فالنقد الأدبي الحديث موضوع ميدانه تحليل النصوص وخاماته: النصوص الأدبية الحديثة، فالدلالة الزمنية تفصل بين زمنين للأدب: قديم وحديث! ولم يتفق الدارسون على الفترة الحاسمة التي بدأ منها الأدب الحديث! فمن قائل أنه (الأدب الحديث) ثمرة الوعي المضاد لحملة نابليون على مصر إلى قائل أن الأدب الحديث بدأ مع رياح النهضة والتغيير في مبادي القرن العشرين إلى مؤكد أن الأدب الحديث مقترن بالفترة الإحيائية التي نفثت الحياة في جسد الأدب الصافي!! بل أن عدداً من الدارسين رأى أن
النقد الأدبي الحديث رديف حركة التجديد التي بزغت أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينات من القرن العشرين وتجلت في نصوص الشرقي والشبيبي والصافي ورافقتها حركة الشعر الحر التي تبلورت من خلال نصوص بلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة
وعبدالوهاب البياتي وشاذل طاقة وصلاح عبدالصبور ولميعة عباس عمارة… ومازال
الجدل قائماً بين الفرق الأدبية وهو جدل صحي يسهم في حوار الآراء وتبادل الخبر
وموضعة الأدلة.
*الانزياح ç وهو مشاكسة المدلول المألوف للدال، ويبدو ذلك في حقول كثيرة أهمها المجاز والرمز والصورة. والنص الأدبي هو الأجدر بتقنية الانزياح بسبب اشتغاله في مخبر الجمال وسعيه إلى الشعرية التي تضمن تفوّق النص وتفرّده ثم تعاطف المتلقي معه وقد توصل عبدالقاهر الجرجاني
إلى حدود هذا المصطلح حين درس المعاني الثواني بيد أنه لم يسمّه، و آ.آ.ريتشاردز حين رصد معنى المعنى في النص.
*البيان ç إيراد المعنى الواحد في أساليب متعددة لإيصال المعنى بصياغة جميلة وهو المجاز مع التشبيه، فأما المجاز فهو عقلي ومرسل وسبيله الاستعارة المكنية والاستعارة التصريحية والكناية وينبغي أن ينـزاح المعنى عن إرادة الشيء المباشر وتقوم قرينة مانعة من إرادة المعنى الظاهر.
*التشبيه ç وأما التشبيه فهو غير المجاز على رأي عبدالقاهر الجرجاني أما ابن الأثير فالتشبيه عنده اثنان: تشبيه تام وهو التشبيه الذي استوفى أركانه الأربعة أو طرفي التشبيه وتشبيه ناقص أو محذوف وهو الاستعارة!! وهو أنواع أحصى د.أحمد مطلوب أهمها وعرّف بها وعززها بالأمثلة وعضدها بالإحالات منها:
1- حسي×حسي 2- ذهني × ذهني 3-حسي×ذهني 4-ذهني × حسي 5-بسيط 6-مركب
7-مضمر 8-بعيد 9-قريب 10-تسوية 11-تفضيل 12-تمثيلي 13-توكيد 14-جمع 15-واقعي
16-خيالي 17-صورة×صورة 18-قاصد 19-كناية 20-مطلق 21-معكوس 22-مفرط 23-مفروق 24-مفصل 25-مقارب 26-مقبول 27-ملفوف 28-عقيم 29-مؤكد 30-متجاوز 31-متخيل
32-متعدد 33-مجمل 34-مختصر 35-مردود 36-مرسل 37-مستطرف 38-مشروط 39-مصيب
40-مطرد ، ومعلوم أثر الصفات والوظائف على هذه الأنواع التي شققت التشبيه وهذه الأنواع يمكن اختزالها بأربعة أنواع مثل التشبيه التام والبليغ والعقلي والمرسل .
*الاستعارة ç تشبيه خسر أحد ركنيه إما المشبه وإما المشبه به فإن خسر المشبه به وأظهر المشبه فالاستعارة مكنية وإن خسر المشبه وأظهر المشبه به فالاستعارة تصريحية.
*التجسيم ç تحويل الذهني المجرد إلى حسي فلا يمكن استقبال الصورة الذهنية المجردة مالم تتوسل إلى التلقي بقنوات الحواس قارن يمامة الفرق للشاعر السوري عبدالقادر الحصني:
يا صديقي يا عميق الجرح والعينين/يا مشتعل الحيرة عمرك/قدّس الله وندّى في الدياميس على الوحشة سرَّك/قمر الغربة أنت./وشذا القرية أنت/ورحيل في حشاشات الينابيع إلى ينبوعها الأول أنت/ما عليك../ذاهباً في الكبد الكابد حتى منتهاه/كابد الليلُ عماه : كبدُ الليل الجمان/..والمحارات اللآلي… والعناقيد الدنان../كابد الزيتونُ في آونة العصر؟ فمما كابد الزيتون بوح/شقّ قلب الليل أورى وردة مثل الدهان/كابد الوعرُ فكان السوسن البري والنحلُ وكل الأقحوان/ثم كابدنا، فكان الجدل الفاتنُ/أطعِمْ لقمةَ الزقوم في الجنة واشرب سلسبيلا/في الجحيم/واعطِ هذين النقيضين الجميلين الأمان .
في المقاربة الأولى نلاحظ أن الشاعر حول الحيرة وهي صورة ذهنية مجردة إلى صورة حسية فالحيرة مشتعلة! وإذا كانت الوحشة حالة ذهنية فإن الندى في الدياميس جعلها نادية! حين حسسها.
والنص مكتنـز بحالات التجسيم؛ فللغربة قمر مثلاً..
التجسيد ç يخطئ من يظن أن التجسيد Personification مصطلح أجنبي! ولنا أن نسأل ماذا يحدث لو أفرغنا (جدلا) الشعر العربي من التجسيد؟ والجواب: يحدث أننا لن نجد شعراً..
التجسيد هو أنسنة غير الإنسان وإضفاء صفات الإنسان ووظائفه عليه!! قارن هذا النص للشاعر العراقي المغترب فاضل العزاوي:
هو ذا الديناصور المقتول يعود ليروي/ذكرى أسفاره في نفسه:/ماكنة تصنع أحلاماً وتقدمها للقراء/يمكن أن نقرأ بالمقلوب أو تحذف منها أفعال القول/وإذا ما شئتم فأضيفوا عن ماضي الأيام إليها/ذكرى ديناصورات أخرى../كانت تقطن هذا الوادي/ذكرى أنفسكم حيث الميناتور يجوب الغابة/في آخر رحلاته قبل الموت .
لقد شكّل فاضل العزاوي في مخيلة نصه صورة لديناصور ما.. ويبدو أنه لم ينقرض بعد.. فهو ينتظر انقراضنا هذه المرة!! ولسنا معنيين في هذا المثال بالرموز والكنايات، لأن عينة شغلنا هو التجسيد.. كيف أنسن النص الديناصور فأكسبه طباع الإنسان؟
*التماهي ç حالة اندغام بين صورتين أو معنيين لتشكيل صورة ثالثة هي مزاج الصورتين ومعنى ثالث هو نتاج المعنيين، وقد تكون الصورة الأولى مشفّة للصورة الثانية بحيث تموّه الصورتان التلقي فكأنه قبالة صورة واحدة. وقد يكون المعنى الأول متضمناً المعنى الثاني بحيث يتهيأ للمتلقي أنه يتعامل مع معنى واحد.. ولعل جذور التماهي اللغوية تحيل إلى معنى الظهور بعد الإخفاء، أو تخفية الظاهر! قارن مادة (موّه) في معجمات اللغة: ماهت البئر ظهر ماؤها! وماهت السفينة دخل فيها الماء، وماه زيدُ الشيء بالشيء: خلطه به! وماه عمرو في كلامه: خلط وأماهت الأرض: ظهر فيها النـز. موّه الموضع: صار فيه الماء وموهت السماء: نـزل منها مطر كثير! وموّه الصائغ الشيء أي طلاه بفضة أو ذهب وليس جوهره منهما وموّه الحديث أي زخرفه ومزجه وألبس الحق بالباطل . ويمكن اعتداد (التناص) حالة من التماهي لوجود حالة مزج في التخييل بين نصين: نص حاضر ونص غائب، مع الإقرار بصعوبة هذا الاعتداد لضعف مسوّغاته: أما التعادلية التي تعتمدها الصورة الفنية لحظة مزجها بين الواقع والمجاز فهي حالة تقارب التماهي حدوداً وتجانبه موضوعاً .
*التناص ç يعني أن النص الذي بين أيدينا يخبئ نصاً غائباً عن وعي أو دون وعي وقد درسه ابن رشيق القيرواني ت456 ضمن باب السرق الشعري وقال في العمدة 2/280 (وهذا باب متسع جداً لايقدر أحد من الشعراء أن يدّعي السلامة منه) وقد درسته جوليانا كرستيفا في أوائل الستينات من القرن العشرين وميزت نمطين منه الأول: الواعي واعتدته سرقة أو شبيهاً بالسرقة والآخر غير الواعي وأجازته شريطة أن لا تكون الصورة نمامة أو فضاحة! فإذا أخذ الشاعر الصياغة أو المعنى عن سابق تصميم وأشار في الهامش إلى اقتباسه من شاعر آخر وذكر اسمه فإن صنيعه هذا لا يدخل في دائرة التناص وقد يكون التناص كلياً أو جزئياً أو في الصورة أوالمعنى أو الصياغة.. وهذا نموذج في التناص. قال الأعشى الكبير (جاهلي):
وأخرى تداويت منها بها وكأسٍ شربتُ على لذة
ثم قال أبو نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداءُ دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
(إن المقارنة بين الصورة والصورة لا تعني بالضرورة أن تكون الصورتان وجهين لمنظور واحد وإن كانتا من بحر واحد وقافية واحدة ومرمى واحد! فقد لا يجد النظر العجلان وجه شبه بين الصورتين مباشراً!! وذلك لا يمنع وجود وجه شبه أكيد إذا نهد له رصد نقدي متأن.. إذن نحن في مختبر التناص قبالة نصين: الأول غائب أنجزه الأعشى والآخر ماثل أنجزه أبو نواس وكل ما حاولناه الجمع بين النص الغائب والنص الحاضر لكشف الحبل السري بين النصين أو الصورتين)
*الخطاب ç يمتلك الخطاب دلالتين تليدة وطارفة؛ فالخطاب هو الكلام، جاء في الذكر العزيز (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب! وفصل الخطاب أيضاً: الحكم بالبينة أو اليمين أو الفقه في القضاء أو النطق بـ أما بعد وأن يفصل بين الحق والباطل وأن لا يكون فيه اختصار مخل ولا إسهاب ممل! والخطاب الكلام، جاء في التنـزيل العزيز (فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب)
أما الخطاب في مفهومه الجديد.. فهو النص ومحمولاته الفكرية أو الأيديولوجية أو الجمالية بحيث لا يمكن الفصل بين المركز (النص) والأطراف (المحمولات) والخطاب الأدبي صنفان. الخطاب الشعري وهو المتضمن فنون الشعر ومحمولاتها من نحو الشعر التقليدي والحديث وشعر الغزل والهجاء والمديح.. الخ والخطاب السردي ويتضمن نصوص النثر الفني ومحمولاتها من نحو الرواية والقصة والمقالة والسيرة..الخ.
*الحكاية الشعرية ç تمثل القصيدة في حالات عديدة بناء قصصياً في أحسن حالاتها، لقدرة الحكي على التأثير في قدرات المتلقي على الاستقبال وفي حالات أخرى محاكاة تعكس انبهار الشاعر بالحكايات الخارقة ودلالاتها المثيرة وصورة أحداثها في عينيه ونفسه، وقد درسنا تشكيل الحكاية عند الأعشى في كتابنا (الصورة الفنية معياراً نقدياً) ص275 الذي صدر عام 1987 ولاحظنا كيف تعامل النص الأعشوي مع فن الحكاية فقد وفر لها عنصر الزمكان والشخوص والحوار والعقدة ولحظة التنوير.. وذكرنا عدداً من النصوص الشعرية ، ولا يمكن تخيل قصيدة ية أو
موضوعية بمعزل عن مناخ الحكاية في مخيال الشاعر. أما الشعر القصصي فهو ضرب صريح باعتماده على فنون الحكي والسرد من حدث وعقدة ووقائع وحركة وحوار (بل يبلغ التطرف
ببعضهم إلى حد استعادة قول فردريك شليغل: إن كل الشعر الحديث يستعيد تلويناته
الأصلية من الحكاية) .
وقد شاع فن الحكاية في شعرنا الحديث حتى بات واحداً من ملامح هذا الشعر.. ولعل الشعراء الرواد كانوا المبكرين في استثمار فن الحكاية الشعرية، فإذا قرأت نصوصهم وجدت حالات من فنون الحكاية! قارن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا ولميعة عباس عمارة وشاذل طاقة وصلاح عبدالصبور وأدونيس.
نموذج من (الحكاية الشعرية) قصيدة زيارة -للشاعر عبدالرزاق عبدالواحد (عراقي):
من دون ميعاد/من دون أن تقلق أولادي/أطرق على الباب/أكون في مكتبتي في معظم الأحيان../أجلس كأي زائر وسوف لا اسأل لا ماذا ولا من أين/وحينما تبصرني مغرورق العينين/خذ من يدي الكتاب/أعده لو تسمح دون ضجة للرف حيث كان/وعندما تخرج لا توقظ ببيتي أحداً/لأن من أفجع ما تبصره العيون/وجوه أولادي حين يعلمون..
لقد اخترنا هذا النص، ليس بوصفه حكاية، وإنما بوصفه نصاً استثمر آليات الحكاية بحذق، فقد اصطنع اللازمان لزمان الحدث وانتقى المكان وفق رؤية فنية تسهم في توصيل هذه المرثية الجميلة التي رثى بها الشاعر نفسه فبكى على نفسه وكبريائه اللذين أضاعهما في رهانٍ خاسر، رهانٍ مهين! فلم يحسب لساعة الندم من قبلُ أي حساب! ثم أجرى حواراً مكثفاً بين ضمير المتكلم والزائر الذي غيّب ملامحه وحواره ورسم لنا فعله ودوره فضلاً عن الوصف الدقيق للمشاهد والمشاعر.. زد على ذلك هذا التطريب الشجي بين استهلال القصيدة وقفلها بما يؤثل نمواً يرتقي بالانفعال إلى أعلى مراقيه.. ثم يهبط به فجأة بصورة ترينا وجوه أطفال الشاعر (حين يعلمون) مصير أبيهم!! فكانت الخاتمة مفتوحة على صور اقترانية كثيرة..
نموذج ثانٍ من (الحكاية الشعرية) قصيدة فطور مغربي للشاعر محمد حسين الأعرجي:
( إلى أشباح المدن في المغرب العربي ساعة الإفطار في شهر رمضان)
ثمّ نادى الأذانُ: حيَّ على الأكْلِ، فَكُنَّتْ مدينةُ الأشباحِ أفقٌ كالحٌ كأنّ نهاياتِ مداهُ مدائنٌ من نُباحج
أم سدومٌ وما لها مِن جُناح؟ إرمٌ هذه ولا (عادَ) فيها
شجرٌ خائفٌ قد التفّ بالصّمتِ على نسغِهِ مهيضَ الجناحودروبٌ يخفْنَ حتى مِن الضوءِ؛ فاضواؤها كقيح الجراح
فتظنُّ الأمواتَ أنضاءَ راحِمن رمادٍ حملْنَهُ بجناحلم تُلامِسْهُ مُترباتُ الرياحِ وحشةٌ تفزَعُ المقابرٌ منهاأيُّ صمتٍ هذا؟ كأن طيوراًثم ذرّينَهُ فلم يبقَ نبضٌ
يا لهذا الغروبِ، هل قرّبَ اللهُ معادَ النشورِ في الألواح
بَعد جوعٍ، ونغبةً من قراح أم تُرى أن قُصعةً من حساءٍ
تشربانِ المدينةَ الآنَ، والناسَ، وهمْسَ الغصونِ في الأدواحِ؟يا لقُرْصِ الرغيفِ كمْ دارتِ الأرضُ، ولم تختلف معاني الصباح؟
الجزائر 22-4-1988
فطور مغربي، قصيدة حاولت التماس الدلالي من خلال الجمالي، ويحيلنا حرص الشاعر المعروف د.محمد حسين الأعرجي المقيم حالياً في بولندا على نشر هذه القصيدة بعد اثنتي عشرة سنة من نظمها على فداحة الصورة التي استوعبتها الذاكرة الشعرية، فهذه القصيدة وهي سيرة مدينة جزائرية في شهر مقدّس تختزن الكثير من الصور الجارحة التي تتماهى مع الصورة الأم، فأنت قبالة مرثية للفرح، مرثية للمدينة العربية التي حذقت عن قصد أو جهل تحريف دلالات الأشياء، فالأرواح أشباح والإفطار قصعة تملأ المعدة وليس ميقاتاً روحانياً يميّز المقدّس من المدنّس، والطبيعة المؤنقة شجرٌ خائف ووحشة دونها وحشة القبور، ودرب خلفية احترفت العتمة!! لقد استدعت الصورة الكلية التي اقترنت بصوت المؤذن عدداً من صور الذاكرة المقتبسة من مدن العراق، فلو غيّرت (فطور مغربي) بفطور عراقي لم تجُرْ على بؤرة النص ولم تختطف المعنى وتحوّل سير اتجاهه، فالأعرجي الذي غادر جنّته (العراق) قبل ربع قرن بعد أن استحال إلى (جهنم) تزدرد الأبناء وتحرق الأحلام!! محلل النص لا يعنيه أن اراد الشاعر ذلك الاقتران بين الخرابين والضياعين أم لم يرده، ولكن الشاعر منح صورة المدينة لحظة الأذان ألواناً من الرماد المبقّع بالدماء. وأياً كانت الرؤية فإن قصيدة (فطور مغربي) تؤسس بحذق (يبدو تلقائياً) لفن الحكاية الشعرية من خلال التداعي والاسترجاع والاستدعاء، ويمكن القول أن بطل الحكاية في هذه القصيدة النفيسة هو الوصف المكثف المتوتر الذي أغنانا عن الحوار والحدث، والمدينة بفضاء زمكاني لمركزية الهمّين الجمالي والأيديولوجي.
*السرد ç طريقة المبدع في قص الحدث باستثمار جماليات الأسلوب، ولا يشترط القص أن تكون بؤرة الحدث واقعية أم خيالية وثمة السرد Narrative والقص Narration الذي ينصرف معناه إلى عرض الحدث بطريقة فنية، ويكون السرد في الرواية طويلاً وفي القصة معتدلاً. ولم يكن السرد طارئاً على الأدب العربي، فثمة حكايات شبه مكتملة عرفها العصر الجاهلي ولنا للمثال قراءة الروض الأُنف للسهيلي ومحاضرات الراغب الإصفهاني فقد نقل هذان الكتابان كثيراً من أفانين السرد الجاهلي يقول مؤلف فن القصة: القصة مهما يكن نوعها هي في حقيقتها نوع من الحكاية ولهذا علينا بعد قراءتها أن نتساءل: هل استطاع الكاتب أن يسردها دون أن يفسد تسلسلها بالحشو والإسهاب في بعض المواضع وبالحذف والإيجاز في المواضع الأخرى؟ أي هل حافظ على التناسب والتناسق أثناء السرد . ويرى د.صبري مسلم أن السرد هو القص الذي يستوعب الجملة القصصية التي ترسم الشخصية وتبني الحدث وتجري الحوار وتردد آفاق الفضاء الزماني والمهاد المكاني وأن من أولى وظائف السرد هي الإمساك بخيوط الأحداث ومتابعتها ورصد حركتها واتجاهها منذ استهلال الرواية أو القصة وحتى خاتمتها ويفترض في السرد أن يجري على سجيته من غير افتعال أو تدخل مباشر من القاص إذ أن مثل هذا التدخل مشروع في القص الشفاهي للحكاية أو السيرة الشعبية إلا أنه يعد عيباً في بناء الرواية أو القصة المعاصرتين؛ والسرد يبدو مثل خيط سحري ينتظم الأدوات الفنية في القصة ويخضع لهندسة واعية يخطط لها القاص ويطبقها في عمله الفني فتعطيه طابعه الخاص ونكهته المميزة .
ويرى د.عز الدين اسماعيل: أن السرد هو نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية فحين نقرأ مثلاً: وجرى نحو الباب وهو يلهث ودفعه في عنف ولكن قواه كانت قد خارت فسقط خلف الباب من الإعياء!! نلاحظ هذه الأفعال: جرى يلهث دفع خار سقط فهذه الأفعال شيء من الواقع ولكن السرد الفني لا يكتفي عادةً بالأفعال كما يحدث في كتابة التاريخ بل نلاحظ دائماً أن السرد الفني يستخدم العنصر النفسي الذي يصور به هذه الأفعال ، والفرق بين الوصف والسرد أن الوصف ينصرف إلى تصوير المرئيات دون تدخل في سياقها القصصي أو الروائي أما السرد فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصياغة المشروع القصصي ونمو الأحداث فيه وتتابعها وانتهاء بخاتمتها ولاشك أن للوصف دوره المؤثر في النص القصصي مما يميزه عن السرد بيد أن الفرز بينهما من العمليات الصعبة يقول جيرار جينيت: إن السرد والوصف عمليتان متماثلتان لكن موضوعهما مختلف. فالسرد يعيد التتابع الزمني للحوادث بينا الوصف يمثل موضوعات متزامنة ومتجاورة في المكان وربما انصرف الوصف إلى الشخصية وأبعادها الظاهرة ومشاعرها الباطنة فضلاً عن المكان ومفرداته! والوصف في الفن القصصي ليس مجرد نقل حرفي من الواقع بل إنه ليمتزج بالضرورة مع سياق القصة وما تتطلبه من إيحاءات يقوم الوصف بإيصالها بديلاً من التعبير المباشر الذي ينأى عن الفن .
*الصورة الفنية ç نسخة جمالية تسعى لنقل المشهد الواقعي إلى المشهد التوقعي بمكنات التخييل وفق تعادلية بين الحقيقة والمجاز تشكلها منظومة من العلاقات المتشابكة المتصلة بعناصر التوصيل (المرسل-الرسالة-الشفرة-المرسل إليه) ويمكن القول أن التسميات التي أطلقت على الصورة منصرفة إلى وظائفها وصفاتها، فأنت مثلاً قبالة ثنائيات صوفنية كثيرة (وكثيرة جداً) من نحو الصورتين: المجازية والواقعية. ثم الحسية والذهنية. ثم الكلية والجزئية. ثم الحية والميتة. ثم الساكنة والمتحركة. ثم الطويلة والعريضة.. وقد عرف النقد اليوناني معيار الصورة واعتدها حالة
من المحاكاة! كما عرف النقد الجاهلي الصورة الفنية واعتدها حالة من الوصف ولدينا من العصر الجاهلي عدد من الشواهد التي تعزز فكرة اهتمام الأديب الجاهلي بالصورة الفنية، فهي
معياره في تقويم النصوص، ولنا فقط ان نتذكر قول أم جندب لامرئ القيس (فرس علقمة أكرم
من فرسك) وقول النابغة لحسان بن ثابت (أقللت سيوفك وجفانك..) وقول طرفة (استنوق خالي المتلمس الجمل) .
*القناع ç تقنية إخفائية قديمة تقوم على وضع وجه مصنوع من الجلد أو المعدن أو الخشب Mask على وجه الشخصية الروائية أو المسرحية Persona وربما استثمر (البيرسونا) التقاليد الدينية اليونانية في بعض المواسم والأعياد التي يمتزج بها الغناء والرقص والطقس الديني من نحو أعياد باخوس (إله الخمر) حيث كان الناس يخرجون إلى الشوارع مرتدين قناع باخوس الذي هو وجه معزى.. وقد استثمر الشعر الحديث هذه التقنية باتجاه الموازنة بين شعرية شكل النص ومعناه وليس من
الثابت أن يكون القناع رقية يحملها النص لينقذ منتجه من أذى السلطة أو أية قوة قاهرة، فما أكثر ما يمتلكه الشاعر من تقنيات التعبير لتمويه المعنى وهتك من يشاء هتكه دون أن يضطر إلى التصريح باسمه أو رسمه!! لكن الثابت هو أن القناع شكل جميل من أشكال التعبير يستهوي الشاعر كما يستهوي المتلقي فضلاً عن أنه يفتح عيون النص على أفكار جديدة وهموم غير مألوفة بل إن القناع أسلوب من أساليب الإقناع، فالشاعر الذي يسعى إلى هدف فني أو سياسي أو اجتماعي أو ديني أو حضاري يمكنه قول أشياء كثيرة من خلال القناع!! أما خامات القناع فهي كثيرة، وكثيرة جداً نذكر منها الرموز التاريخية والأسطورية والخرافية والاجتماعية والدينية والصوفية من نحو سيدنا آدم وسيدنا نوح وسيدنا لوط (ع) وزرقاء اليمامة وسطيح الذئبي والحلاج والتستري والطريقة المتبعة هي أن يختار الشاعر الرمز الذي يتعاطف معه أو الرمز الذي يقتسم معه هموماً مشتركة أو الرمز المؤثر في شريحة المتلقين ويختبئ فيه ثم يدعه يتكلم موهماً المتلقي أن المتكلم هو الرمز الذي اختير قناعاً وليس الشاعر، فالشاعر الذي يحذق صنعته قادر على خلق حالة من التماهي بين صوت الشاعر (المشبه) أو صوت صاحب القناع (المشبه به) دون معاضلة تبدد البؤرة أو مباشرة تسطحها .
قارن هذا النموذج في القناع:
(مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان للشاعر عبدالعزيز المقالح..)
قلت لكم من قبل أن يثور ماء البحر/قبل أن تعربد الأمواج/وقبل أن يغيب وجه الأرض/قلت الداء والعلاج/لم تحفلوا.. / لم تسمعوا../ كنتم هناك في الغيوم في الأبراج/أرجلكم ممدودة كانت إلى السحاب /رؤوسكم مغروزة في الوحل في التراب/قرّبت مشفقاً سفينتي / أنفقت عمري أجمع الأعواد والأخشاب/قطعت وجه الليل والنهار.. / أقرأ في الكتاب/أشد مسماراً إلى مسمار.. / لكن صوتي ضاع في الرياح/سفينتي تاهت بها الأمواج/ فأبحرت خالية إلا من الأحزان والملاح./..بكيت/ .. شدني العذاب والألم/حين رأيتكم رأيت السفح والقمم / في قبضة الإعصار./أحزنني أن أشهد الأطفال / أن أشهد النساء./غارقة تضرع في ابتهال / تلعنكم.. / تبصق في وجوهكم يا أيها الرجال./يا أيها الأنذال / أحزنني أن تختفي البيوت والأشجار./أن تختفي الآثار/ أن تغرق القباب/ أن يغرق الشيوخ والشباب/أن تغمر المياه الزرع والمدائن/ أن تغمر المآذن/أحزنني أن ألمح البطون فوق الماء / مبقورة شوهاء/أحزنني. عميت لم أعد أرى.. / شيئاً من الناس.. من القرى/تلاشت الألوان والأسماء / وأطبق الدجى / وغام وجه الأرض والسما/قلت لكم والمد لم يزل بعيداً / والبحر لم يزل بعيداً/أن تفتحوا عيونكم على الخطر.. / أن تجمعوا السادة والعبيدا/أن تصنعوا من شوقكم، من حبكم نشيدا../لتصعدوا به إلى القمر / لكنكم لم تسمعوا؛ تعالت الضحكات/في ردهات القات / أقعى الضمير في دياركم ومات./فكان هذا الهول والأحزان../ كانت الهـزّات/لا سفن البحر ولا الفضاء/ تنقذكم من قبضة القضاء/فقد طغى الطوفان/ وكان يا ماكان.
قصيدة (الصخرة) للشاعرة فدوى طوقان
انظر هنا؟ / الصخرة السوداء شدت فوق صدري/بسلاسل القدر العتي / ب