النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 5
5- الدادية Dadaism : كان المشهد الإبداعي الأوروبي مكتظاً بأشلاء المدارس النافقة، وكل مدرسة تجيء لكي تتربع على منبر الاهتمام فترة قد تطول أو تقصر ثم تترك منبرها طائعة أو صاغرة لمدرسة جديدة، ومن خلال هذا المشهد تراءت الدادية، حين سئم الأدباء والمثقفون والفنانون أمارات الشيخوخة والترهل التي حاقت بعدد من المدارس وبخاصة الواقعية والرمزية، وربما ظن بعض مؤرخي الأدب أن الدادية هي تشكيل هجين تلفّق من شظايا بالمدارس السابقة والمعاصرة لها!! لقد اجتمع نفر من المبدعين والمثقفين في أحد مقاهي مدينة زيوريخ.. وكان أكثر المجتمعين حماسة لتشكيل (مدرسة مغايرة) هو الشاعر الفرنسي تريستان تزارا (1896-1963)، وتمخّض الاجتماع عن إصدار (البيان الدادي) الذي سلمت نسخ منه إلى الصحف! وقد انتقد البيان همجية الرجال المولعين بإضرام الحروب مهما كانت المسوّغات والمزاعم، وندد بتجار الحروب من الرأسماليين وأدباء المذابح!! أما مصطلح الدادية فهو يعني في الفرنسية: اللازمة الصوتية Dada التي تشجع بها الأم طفلها وهو يخطو خطواته الأولى فتقول له: دادا/دادا/دادا/ والطفل يستعذب هذا الإيقاع حين يتدرب على المشي!! وانتقل الشاعر تزارا إلى فرنسا بعد التوقيع على البيان الدادي في سويسرا خلال الحرب الكونية الأولى ثم صدرت سلسلة من بيانات (اللامعقول) وقد انتشرت في أوساط الشباب والمراهقين والناقمين على التقاليد والأخلاق.. ودعت هذه السلسلة إلى إحلال الجنون (الواعي) محل القيم السائدة!! وتتميز الدادية بمحاولاتها (غير الموفقة) لفك العلاقة المنطقية بين الفكر والتعبير وتحطيم كل عقبة تقف حائلاً بين الفنان وحريته! ثم التركيز على تلقائية الشكل والمضمون في الأدب والفن! أما الوسيلة فهي استخدام السخرية والتهكم والهجاء.. إن لهذه المدرسة ميزة محددة وهي دعوتها للتخلص من سلطة العقل وإلغاء العلاقة السببية بين العلة والمعلول والمشبه والمشبه به والتفكير والتعبير وقد احتلت حركة Mouve Ment dada مكاناً مهماً في الشارع الثقافي بين عامي 1916-1924 حين أجهزت على المؤسسات الثقافية وسخرت من خبرتها المتراكمة!! تقول فاطمة الطبال بركة: كان لأعضاء المدرسة الدادية وبخاصة تريستان تزارا علاقات حميمة مع شعراء فرنسيين أسسوا الحركة السوريالية! إذ أثرت الدادية في السوريالية حين بذرت مبدأ الشك في غائية الأدب والفن وسعت إلى تقويض الصورة السائدة لكل منهما . 6- السوريالية Surrealism : قرر أندريه بريتون (1896-1966) وهو دادي معروف تشكيل المدرسة السوريالية، كان ذلك في حدود عام 1904 حين شهد اختلافاً بين الداديين حول الصيغة المثلى لإصلاح الدادية أو إنقاذها أو إحيائها بعد أن مرضت بوباء لاشفاء منه!! وهو لهاثها وراء كل رأي مخالف وفكر منحرف وذائقة فاسدة.. ويبدو أن بريتون لم يشأ في سورياليته ترميم الدادية، بل قتلها ومن ثم قبرها واستصدار شهادة وفاة لها.. والسوريالية مصطلح اجترحه الشاعر الفرنسي ابولينير (1880-1918) عام 1917 حين عرضت مسرحيته على الناس بعنوان (ثديا ترزياس)!! وقد قدّمت مسرحيته اطروحات غريبة أثارت لغطاً في الأوساط المعنية، وحين سئل عن فائدة الاطروحات الغريبة تلك؟ أجاب أنه كتب المسرحية وفي ذهنه سؤال كبير هو: كيف نهدّم واقع الناس المألوف؟ ونقودهم إلى عالم ما فوق الواقع!! وإذا جاء عام 1924 سطعت أطروحات أكثر غرابة قدّمها اندريه بريتون وهي تتصل بالأدب والفن! ثم سئل بريتون عن اسم المدرسة التي تستوعب اطروحاته المغرّبة فأجاب: إنها السوريالية بعينها!! وقد شهد عام 1925 صدور أول بيان سوريالي جاء فيه أن السوريالية تعمل على: 1- تحرير الإبداع من سلطة العقل والأخلاق السائدة. 2- الاهتمام باللاشعور واعتداده مصدر المعرفة،وعليه فالأحلام هي مركز الفكر والكتابة مركز الأحلام. 3- تحرير التفكير من الضوابط المنطقية والأخلاقية والعقيدية. 4- الالتزام بمصالح الطبقات الفقيرة والمسحوقة وتبني همومها. 5- الأمور التي تبدو دون قواسم مشتركة أو علاقات إنما هي أمور مضللة لأن اللاقواسم بين الأشياء هي القواسم. 6- السخرية والهدم هي طريقة السوريالي المثلى في التعبير عن عدم الرضا أو الاحتجاج.. فكل ماهو غير سوريالي فهو غير حقيقي.!! 7- ليس من مهمة الإبداع إفهام الآخرين أو إقناعهم، وإنما مهمته تشويش إفهام الناس وتغيير قناعاتهم من خلال صناعة زلزال يدمّر كل ماهو مألوف ومتواطئ في الواقع!! وأسهم كتاب (قوت الأرض) الذي أصدره أندريه بريتون في صناعة زلزال مؤقت ومحدود رغم احتفاء جل صحف أوروبا بقوت الأرض وكان بريتون صريحاً حين قال: إنني أبحث في قوت الأرض عن القارئ المشاكس الرافض، قوت الأرض يبحث عمن يرفضه ويناكفه ويزهد بمن يأنس إليه ويتمثّله!! وقد ورّخ الدارسون ظهور السوريالية فحدوده بالفترة الممتدة من 1920-1930 أما مرحلة ما بعد الظهور وهي السطوع والانتشار فهي تمتد من 1930-1940.. وماذا بعد السطوع والانتشار؟! ثمة الأفول الذي هو مصير كل مدرسة أدبية أو فنية!! فقد وقف السورياليون محتفلين بثورة أكتوبر الروسية! معتقدين أنها ستصنع أدباً مغايراً جديداً موافقاً لآرائهم المغايرة.. أدباً يليق بالفقراء ومفكّريهم ومبدعيهم.. ونشبت خصومة بين السورياليين وسلطة أكتوبر بسبب من أن السلطة لم تحقق الطموح السوريالي.. وأنها أبقت على نظام العائلة وحافظت على القيم الاجتماعية وأنها (السلطة) ناصرت المدرسة الواقعية الاجتماعية وقد خسر السورياليون معركتهم ضد السلطة السوفيتية، فاعتزلوا السياسة وانصرفوا إلى همومهم الإبداعية وحقق انصرافهم إلى الإبداع نجاحات متميزة في أصقاع كثيرة من أوروبا وأميركا.. فإذا جاء عام 1940 وشهد الفرنسيون دخول الجيش النازي عاصمتهم باريس، أصاب السورياليين فزع كبير!! فضلاً عن أنهم قرأوا بعض الآراء التي أدانت السورياليين واعتدتها سبباً في تفكك المجتمع الفرنسي حين أشاعت الخزعبلات بين الناس وكان أن وجد النازيون مجتمعاً فرنسياً متصدّع الروح بعيداً عن القيم الوطنية والأخلاقية.. فترك السورياليون فرنسا مذعورين من النازية والمجتمع الفرنسي معاً على اختلاف الموضوع.. وحاولوا بعث الحياة بمدرستهم في أميركا.. إلا أن أميركا لم تحقق لهم حلمهم الأخير!! . 7- الوجودية Existentialism : تولي الوجودية أهمية قصوى لذاتية الإنسان الفرد فهي تقابل ذاتية الكون وتكافؤها وترى صفات الوجود الفردي البشري مدخلاً رئيساً للوجود العام..!! وقد ظهرت هذه المدرسة جلية متكاملة في خمسينات القرن العشرين من خلال أدبيات جان بول سارتر (1905-1980) وسيمون دي بوفوار (1908-1988).. أصدر سارتر كتابه الوجود والعدم في 1943 فكان (إنجيل) الوجودية كما يصفه الوجوديون، ثم أصدرت بوفوار كتابها (الجنس الآخر) فاحتفى به الوجوديون أيضاً؛. وكان سارتر وبوفوار قد وصفا عدداً من المقترحات الوجودية.. أهمها:- 1- الحرية هي المعادل الأوحد للوجود، والوجود هو الحرية، والحرية هي الإنسان والإنسان يعبر عن الحرية بقدرته غير المحدودة على الاختيار.. قبولاً أو رفضاً. 2- جوهر الحياة الجمال والنظافة والعمق والفائدة. والوجودية يمكنها أن تجعل الحياة أجمل مماهي عليه وأنظف وأعمق وأكثر فائدة.. 3- اليأس موت الروح الذي يسبق موت الجسد!! والوجود قائم على الأمل. 4- الوجود المطلق يسبق الوجود الفعلي مع أنهما متلازمان بعد صيرورة كل منهما.. وكان سارتر قد استوحى آراء كيركجارد الدانماركي وياسبرز وهايدجر الألمانيين بيد أنه عمل على تطوير تلك الآراء.. ولم يكن سارتر ليقبل مسوّغات جماعة (الوجودية المسيحية) بقيادة جبرييل مارسيل الفرنسي لأن سارتر يفصل بين الدين والوجود بينا تقوم الوجودية المسيحية على الفكر الديني وترى أن الإنسان ليس أكثر من منفذ لإرادة الله، والحرية الوجودية تمنحه القدرة على الاجتهاد في تنفيذ تلك الإرادة..!! وقد أثرت وجودية سارتر على كتابات جمهور عريض من الفرنسيين. أما الوجودية في ألمانيا فقد بدأت بعد هزيمة الجيش الألماني المروّعة في الحرب العالمية الأولى.. ومنها انتقلت إلى فرنسا ثم انتشرت الوجودية في أوروبا وأميركا عقيب الخراب الكبير الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية.. ولكن مصطلح الوجودية ظهر بين الحربين،. تحديداً عام 1929 حين تحدث عنه هايتمان في محاضرته التي أعلن فيها إعجابه بآراء الفيلسوف الألماني (كانت)!!. وإذا كان المصطلح قد ظهر عام 1929 فإن الوجودية كفلسفة أو طريقة في التفكير قديمة، وتأثرت فيما بعد بعدد من آراء الفلاسفة الآخرين، من نحو شوبنهاور الذي ضغط على الوجودية من خلال آرائه التشاؤمية وهيوسرل ودعوته إلى الظاهراتية!! أما كير كجارد فكانت آراؤه الصوفية ذات جاذبية خاصة بالنسبة لجماعة الصوفية الدينية وهكذا تحدد اتجاهان للوجودية الأول ديني تمثل في كتابات أندريه مارسيل وغاسبر والآخر اتجاه دنيوي تمثل في كتابات سارتر وهايدجر والبير كامي وسيمون دي بوفوار.. ومهما يكن الخلاف بين الوجوديتين الدينية والدنيوية فإن الاثنتين متفقتان تماماً.. على كراهية الحرب والتشهير برموزها الذين تسببوا في تخريب الحياة وتدمير النفوس وقد شاعت تعابير حسبت على المدرسة الوجودية مثل الضياع والتمزّق والانفصام والغرق.. وكانت هذه التعابير وسواها في نظر الوجوديين تحيل إلى قلق إنسان ما بعد الحرب ويأسه التام من جدوى الايديولوجيات الاشتراكية واللبرالية في حل مشكلات الوجود!! ثم صاغت الوجودية رؤيتها إلى الأدب فهو ذاتي وموضوعي وأن الوحدة بين الذات والموضوع هي انعكاس لوحدة الوجود!! لكن الأدب حدسي أكثر مما هو عقلي لأن العقل محدود بكمية المعلومات التي يحصل عليها ويعتمدها في الاستدلال أما الحدس فهو غير محدود بمعلومات بسبب طبيعته الإلهامية!! وتميّز وفق هذه المقولات الشاعر النمساوي ريلك (1875-1926) فقد شاعت قصائده ونقدت وترجمت على أنها قصائد وجودية! تأثرت أعمال سارتر: الطريق إلى الحرية؛ والله والشيطان والأيدي القذرة؛ والبغي الفاضلة بأعمال ريلك التي أثرت أيضاً في أعمال سيمون دي بوفوار:كل الناس بشر؛ ودماء الآخرين؛ والجنس الآخر كما أثرت أعمال ريلك في كتابات البير كامي: الغريب؛ والطاعون..!! وقد بلورت الكتابات الوجودية فكرة الحرية والالتزام ودعت إلى استثمار العواطف اللاواعية في الإنسان للتعبير عن الوجود وجوهره.. 8-البنيوية Structuralism : لوسيان جولدمان (1913-1970) وهو فرنسي من أصل روماني حدد البنوية التوليدية على أنها المنهج الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبئ تحتها بنية اجتماعية،. وقد أصدر جولدمان عدداً من الكتب المتصلة بقناعاته البنيوية منها: الإله الخفي وعلم اجتماع الإبداع الأدبي ومن أجل علم اجتماع الرواية ، أما ج.س.رانسوم (1884-1967) وهو ناقد أمريكي حديث فقد توصل إلى أن النص الأدبي حاصل جمع عنصرين هما: البنية والصياغة Texture، فالعنصر الأول هو الرسالة وتتضمن (الفكرة بكل محتوياتها): أما عنصر الصياغة (النسج) فهو مجموع العناصر الجمالية لأسلوب المنتج في اجتراح نص موافق للبنية (الفكرة): وميّز نعوم جومسكي بين القدرة الكلامية وأداء المبدع كما ميّز رومان جاكوبسن عدداً من المصطلحات مثل مفتاح النص Code والرسالة Message والبنيوية تعوّل على صياغة المعنى،وهو تعويل عرفته العرب منذ ابن المقفع ت142هـ الذي شبّه المعنى بالذهب والأسلوب بالصياغة وقد تبنى الجاحظ ت255 رأي ابن المقفع فيما بعد وبلور استناد إليه نظرية النظم ثم جاء عبدالقاهر الجرجاني ت471هـ فقعّد نظرية النظم وعزّزها بالشواهد . وقد اختلفت ترجمة Genetiqe فبعض أسماها التوليدية وآخر التركيبية وثالث التكوينية! ويرى د.جابر عصفور أن التكوينية تحيلنا إلى مرجعية (توراتية) مقبوسة من سفر التكوين Genesis وهو السفر الأول الذي يصف تكوين العالم من العدم! فقبل التكوين ثمة فضاء لا متناه! ثم شاع مصطلح البنيوية اللغوية التي استندت كثيراً إلى إنجازات العالم السويسري فردناند دي سوسير (1857-1913) وقد وصلت البنيوية إلى تفكيرنا النقدي أوائل الستينات، أي أنها وصلتنا متأخرة، وبعد أن ثار عليها أنصارها وهم يرون إليها وقد أضحت أصولية جديدة أشاعت عبادة النص!! إذ تمرّد الطلاب الفرنسيون (في يونيو حزيران 1968) على المناهج البنيوية وكانوا برمين من مقولات يرددها البنيويون دون ضجر مثل النسق والبنية والحقل والنظام والإشارة والدال… حتى أن لافتات كثيرة رفعت في مداخل الجامعات كتب عليها (تسقط البنيوية) و(تسقط النسقية)، الأمر الذي حدا بعدد من البنيويين إلى نفي التهمة البنيوية عن أنفسهم مثل لوي التوسير (1918-1990) وميشيل فوكو (1926-1984)!! أما رولان بارث (1915-1980) فقد انتقل من (موت المؤلف) إلى (لذة النص) بعد أن غيّر عدداً من قناعاته! وكان الأمر مختلفاً في أمريكا حين اطلع المثقفون الأمريكان على ندوة (لغات النقد وعلوم الإنسان) في أكتوبر 1966 وتميّز في هذه الندوة الباحثون البنيويون: تزفيتان تودوروف من خلال بحثه (اللغة والأدب) ورولان بارث ببحثه (الكتابة فعل لازم) وجاك لاكان ببحثه (البنية علاقة بين الذات والآخر) ولوسيان جولدمان ببحثه (البنية الواقع الإنساني والمفهوم المنهجي)! ويبدو أن الأفكار التي طرحتها هذه البحوث قد بلبلت المواقف فثار جدال حاد في الوسط الأكاديمي حفظته الصحف والمجلات المعنية بالبنيوية والاتجاه المضاد لها. (وكانت جذرية مساءلة البنيوية الأولى دالة على نحو لافت في بحث جاك دريدا (البنية واللعب والعلاقة في خطاب العلوم الإنسانية) الذي طرح فيه نقضه الجذري لأفكار دي سوسير وكلود ليفي ستراوس بوجه خاص، وكان ذلك للمرة الأولى في جامعات أمريكا التي انتبهت إلى أهمية دريدا فاحتضنته جامعة ييل التي تحلّق حوله فيها مجموعة من النقاد الأمريكيين الذين بدأوا من أفكاره النقيضة الثورة المضادة على البنيوية في أنواعها المختلفة.. وكان كتاب بول دي مان (1919-1983) البلجيكي الأصل -العمى والبصيرة- الذي صدر عام 1971 بداية ثمار هذه الثورة المضادة من داخل جامعة بيل . أما بذرة البنيوية والبيئة التي نشأت فيها، فقد نمت وبانت غرستها حين اتصل جولدمان بأعضاء مدرسة فرانكفورت وصدور كتابي لوكاش (نظرية الرواية 1916) و (التاريخ والوعي الطبقي 1923) وهكذا تكونت جماعة مثّلت مزيجاً من الماركسيين ذوي الاتجاه الهيجلي واليساريين الألمان والأمريكان والفرنسيين ذوي النـزعات المستقلة!! أما أبرز الجهود البنيوية التي انصرفت إلى التحليل التركيبـي للنص فهي جهود اللغوي رومان جاكوبسنن وعالم السلالات البشرية ليفي ستراوس اللذين اكتشفا القرابة بين البحوث التركيبية اللغوية والانتروبولوجية من خلال تحليلهما سونيتو الشاعر شارل بودلير المسمى (القطط) وكذلك جهود رولان بارت الذي يعد أحد أبرز روّاد البنيوية التركيبية النقدية وقد اتضحت في كتابيه (راسين) و (الكتابة في درجة الصفر) وقد اغتنى نقدنا العربي الحديث بالبنيوية واستثمر نـزعتها العالمية ودعوتها إلى إلغاء الهوامش المعرفية التي تبهظ النص والالتفات إلى النص بوصفه محور عملية التوصيل، وشهدنا محاولات نقدية هادئة جمعت إلى جانب الخبرة المتراكمة الخبرة البنيوية الجديدة ولكن المضحك حقاً أن بعض المحسوبين على النقد ممن يحذقون اعتلاء الموجة ويكنـزون في طواياهم عقدة الانحطاط.. هذا البعض طلع علينا وهو يرتدي الحلة البنيوية.. فسوّد أوراقاً كثيرة ليبدو أمامنا بنيوياً أكثر من البنيويين فبتنا نشهد المشجرات والمثلثات والدوائر المتقاطعة والأسهم وأشياء أخرى أضحت من مستلزمات الشغل!! ويمكن القول ان النقاد المغاربة أكثر التصاقاً بالتحليل البنيوي لأسباب معروفة أما النقّاد المشارقة.. فإن بنيويتهم تدعو إلى الضحك حقاً.. 9-الحداثوية Modernism : ليس ثمة مصطلح اختلف على حدوده ومفهوماته وملفوظاته مثل (الحداثوية)، فالحداثة حداثات، وأطروحات متآلفة ومتخالفة، بل إن بعض الحداثات أكثر أصولية وقداموية من القدامة!! وها نحن قبالة ملفوظات حداثوية متعددة مثل: حديث – حداثوي – حداثي – جديد – معاصر – أصيل – مغاير!! لكن المصطلح المنافس للحداثوية هو مصطلح الحداثة Modernity فهو يُساكنها ويتماهى معها في أحيان كثيرة!! لقد كانت الحداثة القاتلة المقتولة في كل عصر، والظالمة المظلومة في كل مكان! قارن الصراع الذي نشب مطلع القرن العشرين بين التيار القديم والتيار الحديث إذ كان أنصار القديم غاية في القسوة والافتئات على أنصار الجديد، وشهد منتصف القرن العشرين حالة تكافؤ في الصراع إذ المعركة سجال، فإذا دخلنا عقدي الستينات والسبعينات وجدنا الكفة تمثيل لصالح الحداثة، التي حسمت أمرها وأمر خصومها!! وقد انتقم الحداثويون العرب من خصومهم انتقاماً لا يليق بفنان أو مبدع!! والحداثة منذ وهلة التاريخ الأولى تمثل انقلاباً على زمن القهر والرتابة والسائد، وكان روّادها ملعونين مخلوعين، بيد أنها المنتصرة آخر الشوط ولن يزيدها قمع الآخر وترجيفه وترهيبه وترغيبه إلا إصراراً وانتشاراً!! ولكن ويا للمفارقة: فإذا انتصرت الحداثة باتت أشد وطأة على الحداثويين الجدد أو المتوازنين وأفتك طعناً وأكثر مكراً ..!! إن الاختلاف بين الأجيال لا يقلق المنطق العلمي لأنه يتموضع ضمن النسقية الجدلية، والصراع بين اللاحق والسابق سبب حضاري وفيزيقي لديمومة الحياة وديناميتها ، وقد نشأ منظوران يحددان مفهوم الحداثة: الأول يرى أنها سلة تحتوي العديد من المذاهب والنـزعات مثل الواقعية والطبيعية والرمزية والانطباعية والتعبيرية والتصويرية والمستقبلية والدوامية والدادية والسوريالية والوجودية والعدمية والبنيوية!! والآخر يراها واحدة ومتميزة عن كل المدارس التي سبقتها أو جايلتها ونعتها الحداثة العليا Hiah Modernism ) وروادها نخبة عاصرت الحرب العالمية الأولى بينهم ازراباوند و ت.س.اليوت و وندام لويس وجيمس جويس. وقد طرح الحداثيون الإنجليز برنامجهم الذي يتضمن قطيعة تامة مع الماضي وتراثه وكان في الطليعة توماس هاردي وادورد توماس ود.هـ لورنس وهم بخلاف الحداثيين الفرنسيين الذين صالحوا بين القدامة والحداثة وقالوا إن الحداثة ابنة القدامة. ويرى المؤرخون أن الحداثة مرت بمرحلتين الأولى: ماقبل الحداثة Pre-modernism وقد ضمت عدداً من المدارس والنـزعات، وهذه الفترة سبقت الظهور المدوي لكتاب عالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز روبرت دارون 1809-1882 (في أصل الأنواع On the Origin of Species) سنة 1859 أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الحداثة العليا High Modernism أو الحداثة الحقة Proper Modernism التي بدأت سنة 1914!! والذي نراه أن التواريخ المقترحة لميلاد الحداثة غير دقيقة، فالحداثة مثل الطاسة التي تمتليء من قطرات الناقوط فهي لا تمتلئ منذ النقطة الأولى وإنما هي تبدأ من القطرة الأولى وتنتهي بآخر قطرة تفيض عن الطاسة! فهل نعتد القطرة الأولى توريخاً للامتلاء؟ كذلك الحداثة.. ولنصغ إلى التوريخات الأخرى التي تحدد ميلاد الحداثة: أ – يرى د.هـ. لورنس أن سنة 1910 شهدت نهاية العالم القديم. ب – فرجينا وولف ترى أن الحداثة بدأت سنة 1910 (حين تغيرت شخصية الإنسان). جـ- ازراباوند يقرن بين ميلاد الحداثة وميلاد النـزعة التصويرية التي قادها عام 1912 د – يختار هـ.جـ ويلز أزمة عام 1905 ميلاداً لعصر الحداثة. هـ- ويحدد هاري ليفن ميقات ميلاد الحداثة بين 1922-1924 و – أما ريتشارد إيلمان فيحدد عام 1900 تاريخاً للوعي الحداثي. ز – ويكرّس ديفيد بروكس العقود الأربعة بين 1890-1930 موسماً لازدهار الحداثة ، ومهما اختلفت الآراء وتعددت فإن ثمة أعمالاً بعينها أسهمت في بلورة مفهوم الحداثة مطلع القرن العشرين بما اشاعته من وعي بين جمهور القراء العريض مثل Ulyses التي كتبها جيمس جويس ومثل The Waste land التي كتبها ت.س.اليوت وديوان Duino Elegies لريلكة وأعمال ازراباوند ضمن حالة من التأثر الواضح بأعمال كونراد وجيمس وهيوم وبراونج والرمزيين الفرنسيين . إن مقولة الحداثة مقولة فضفاضة، لاحتوائها على الشيء ونقيضه، وهي إلى هذا سلعة دون مالك، فكان أن ادّعتها التيارات الأصولية والعلمانية والماركسية وسواها..، بل ادّعاها نمط من القدامويين على سبيل اعتلاء الموجة! وإذا كانت الحداثة واقعاً علمياً يؤازره الوعي والزمن والحركة المتغيّرة، فإن اللاعلمي هو التطرف الذي تلبّس عدداً غير قليل من الحداثويين، فهم ميالون إلى (الحداثوي الرجيم) أي الذي يقطع جذوره المتصلة بالماضي والتراث والقيم والسائد ويبدأ من درجة الصفر، ولم يكتفِ أولئك بالقطع والتفجير.. بل شنّوا حملة على الآخرين استعملوا فيها الشتائم النابية راجمين كل من لا يشايعهم بالسذاجة والتخلف والعمه!! ورحم الله ابن قتيبة ت276 فهو القائل (كل قديم حديث في عصره، وكل شرف خارجية في أوله). ومهما تعددت مآرب الحداثات ومذاهبها، فإن قاسماً مشتركاً أعظم يشدّها إلى بعضها وهو الانفتاح على روح العصر والانحياز للجديد وها أننا نوجز خصائص الحداثة: 1-استلهام روح العصر والالتفات إلى المتغيرات بوصفها مسوّغ الوجود.. 2-تجنّب الوقوع تحت التأثير السلبي للماضي أو المستقبل. 3-الانفتاح على ثقافات العالم، واعتداد الحضارة الإنسانية كُلاً لا يتجزأ. 4-الثقافة المحلية بطاقة الحداثوي للدخول إلى الثقافة العالمية، والانتباه إلى ضرورة الموازنة بين ماهو محلي وماهو عالمي سعياً لردم الفجوة بين الاثنين. 5-الإيمان بالحرية المطلقة ورفض أي مسوّغ لحجبها أو التهوين من شأنها. 6-الاهتمام بالجماهير الغفيرة دون أن يؤدي ذلك إلى إغفال حقوق الفرد!! والمجموع هو حاصل جمع الأفراد، والفرد هو اللبنة المكوّنة للمجموع. 7-القوى الضاغطة هي قوانين العصر وروح التجديد، والجماهير المستفيدة من التجديد.. أما المفهوم القديم لقوى الضغط مثل (السلطة، التقاليد القديمة، المعتقد الديني) فهو (المفهوم القديم) في زعم الحداثويين تبع للمفهوم الجديد. 8-منح الإبداع النسائي (الأدب والفن) أكبر مساحة ممكنة في اهتمامنا وفي قنوات التوصيل، والحرص على تظهير دور المرأة وتفعيله. 9-إلغاء عبارة (الإبداع رسالة) ينبغي أن يؤديها المبدع نحو مجتمعه! فالأدب عند الحداثويين -مثلاً- غير معني بأيّ جانب تربوي أو وطني أو ديني أو أممي..وهذا القول يوافق مقولة(الفن من أجل الفن). 10-خيار الحداثة هو اليسار، إن خيّرت بين اليمين واليسار، وخيارها العلمانية إن خيّرت بين التيارين الديني والعلماني، وإذا لم تدفع إلى مضايق الاختيار فإن الحداثوي يفضل تعايش اليمين واليسار والديني والعلماني تحت سقف حداثته!! 11-استثمار جاذبية (الواقعية السحرية) و (العجائبية) (والصدمة) في تكوين النص. ولغة الخطاب الإبداعي ينبغي أن تكون مبرأة من الوعظ والتقرير والمباشرة والمألوف والممل.. 12-الاقتران الشرطي بين الحداثة والأصالة ومعظم الحداثات ميّالة إلى هذا الاقتران باستثناء الحداثة الرجيمة التي يتلبسها الهوس والغوغائية وتسكنها رغبة تفجير كل شيء وهدمه. التقاليد.. اللغة.. الأدب.. الفن.. الأخلاق . 10- مابعد الحداثة Postmodernism : سؤال (ماذا بعد) بدأ مع وعي الإنسان وتطوّر بتطوره، ماذا بعد الحياة؟ بعد الشباب؟ بعد الليل؟ وقاد هذا السؤال الوعي الإنساني إلى فكرة التضاد والجدل بين المؤتلفات والمختلفات! ثم تطورت فكرة (التضاد/الجدل) لتصل بالوعي الإنساني إلى دائرية الأشياء وجريانها.. ماذا بعد الكلاسية؟ ثمة الرومانسية؟ إلى أن وصلنا إلى مؤسسة الحداثة وكان الرأي المطمئن هو أن الحداثة هي المحطة الأخيرة لسلسلة المدارس المتصلة الحلقات، لكن السؤال مالبث أن دوّى من جديد.. ماذا بعد الحداثة؟ وكان الجواب يمثل صدى السؤال نفسه وهو (ما بعد الحداثة)!! إذ لم تنته إشكاليات الحديث والحداثة والحداثوي والجديد والمعاصر حتى شاعت في الشارع الثقافي نـزعة غريبة أطلق عليها ذووها (مابعد الحداثة) فكلمة حديث Modern تقابل معاصر Contemporary!! أما مصطلحا (ما بعد حداثي Post Moder) و (مابعد الحداثية Postmodernism) فهما وإن بدا مختلفين إلا أنهما يلتقيان في ميلهما إلى الغرابة التي تقارب رغبة الخيال العلمي Science fiction ، والصواب ان محمولات النص الاصطلاحية تزيد كثيراً على محمولات النص اللغوية بسبب من تحميل المصطلح دلالات جديدة لم تكن ضمن حقله الأبستمولوجي، ففي أيّ من مصطلحات ما بعد الحداثة بدأ وما زال قائماً على أرضية هشة، ومن الصعب أن يدلّ على منظور واضح (جامع مانع)!! يقول إيان كريب ان مصطلح ما بعد الحداثة ليس جديداً كل الجدة إذ كثيراً ما أشير إلى كتابات ارنولد توينبي (1889-1975) في الخمسينات باعتبارها أصلاً لهذا الاتجاه فضلاً عن أن (هذا الاتجاه له صلة معينة بتصور دانيال بيل للمجتمع ما بعد الصناعي وفي كثير من الأحيان يوضع مصطلح ما بعد الحداثة جنباً إلى جنب مع مصطلح الحداثة مع أن العلاقة بينهما مازالت أخذاً ورداً) ثم يلاحظ كريب أن الحداثة ارتبطت بعصر التنوير وبفكرته عن العقلانية الكلية أي البحث عن المعرفة اليقينية وعن وسيلة للسيطرة على قوى الطبيعة والمجتمع.. ولكن مقتل عقلانية التنوير كامن في عقلانية الإنسان الأبيض والاطروحات التي سوّغت قيام أنظمة قمعية بهيئات ديموقراطية مارست أبشع أنواع الاضطهاد ضد الأقليات القومية والدينية والمذهبية فضلاً عن تصاعد سلطة الرجل وتراجع مكانة المرأة!! لم تفلح الحداثة على كل أصعدتها.. الآداب والفنون علوم السياسة والاجتماع في تلبية الحاجة الحضارية وبلورة المفهومات .. فكان لابد من اتجاه يتجاوزهاعلى رأي كريب..يتجاوز بنيويتها وقناعتها!!ولن تكون خيبة إيان كريب في(مابعد الحداثة) بأقل من خيبته بـ(الحداثة)فكان عنوان الفصل العاشر من كتابه(Modern Social Theory)بعنوان (مابعد البنيوية وما بعد الحداثة أو: العالم وقد جن جنونه) ، وتساءل الدارسون.. هل أن واقعنا الراهن ثمرة الحركة الحداثوية أم أن الحركة الحداثوية هي ثمرة الواقع الراهن؟ وإذا كان الراهن وحداثته يعانيان من انعدام التوازن بين التقدم المادي والتقدم الروحي وانتشار الرذيلة واتساع نطاق تعاطي المخدرات وضلال الشبان في متاهات التمرد على كل شيء واتخاذ الغريب من الملابس والأزياء وتشبه الفتيان بالفتيات وتشبه الفتيات بالفتيان لابتكار الجنس الموحّد Uni-sex وشيوع الجرائم العالمية والإرهاب الدولي والسلطوي وانعكاس ذلك على النصوص الأدبية والتشكيلية والموسيقية.. فهل ان مابعد الحداثة قادرة على رأب الصدع الحداثوي وتقديم الحلول لمشكلات الإنسان ، ونحاول لاحقاً تكثيف أهم النقاط في أطروحة (مابعد الحداثة) مركّزين على عوامل الائتلاف معرضين عن عوامل الاختلاف: 1-الغاء الموروث الثقافي والحضاري القديم من دائرة الذاكرة السلوكية. 2-التشبث بجماليات الواقعية السحرية والاندفاع إلى أقصى ما يمكن نحو العجائبي والمدهش.. 3-التحذير من الربط بين نـزعة ما بعد الحداثة والنـزعات التي تبدو مشابهة لها على السطح مثل اللامعقول Absurd والانطباعية Impressionism والتكعيبية Cubism والتعبيرية Expressionism والحداثية Modernism لاختلاف الحدود والموضوعات والمسوّغات. 4-اعتداد الصورة ضرباً من الكتابة الجديدة فهي لغة الحاضر والمستقبل معاً ويمكن إحصاء اللغة السائدة بين الكتاب والسنما والتلفزيون والفديو والحاسوب والانترنيت. 5-استثمار منجزات علم البيئة Ecologe وبخاصة منجزات باري كومونر التي أعلنها عام 1971 ومفيدها (كل شيء مرتبط بكل شيء آخر، كل مكان يفضي إلى كل مكان، وكل مجرة ثمة قبلها وبعدها مجرات!!). 6-(التعبير النموذجي لن يكون إلا بتحطيم الأصنام.. الحرية هي أن لاتخاف) هذا الكلام قاله شارلي شابلن في المؤتمر الصحفي الذي عقده في فندق ريتز وقد تبنّت جماعة ما بعد الحداثة هذا القول وجعلته أحد شعاراتها. 7-عزل النص عن ضغوط الرهبة والرغبة، وإنقاذه من المسوّغات التي تبيح الانحطاط أو الادعاء أو التمحّل وتهبط بالنص وقارئه. 8-اعتداد اليومي والمعيش والمألوف خامة أزلية تمدّ الإبداع بموضوعات لاتنفد، والتعامل مع النص على أنه سلعة متميزة عالية القيمة تتأثر بالعرض والطلب من أجل العودة إلى الثقافة الجماهيرية Mas Calture. 9-القارئ أي قارئ-صاحب حق في قراءة النص وفق مرجعيته هو لإعادة إنتاج النص،فالمعاني تشبه (الميكانو) يمكن تفكيكها وتشكيلها مجدداً فقد نجد في المرثاة هزلاً وفي الإشفاق شماتة وفي البطولة تهوّراً. 10-استثمار تقنيات الكولاج Collage (التلصيق) والتماهي والتراسل والكناية والاستعارة بطريقة مختلفة لاكتشاف وظائف مختلفة لهذه التقنيات.. والحذر -كل الحذر- من أن تكون التقنيات غاية بذاتها، وإنما هي وسائل تزيد من جاذبية الفكرة. 11-إعادة النظر بالمسلّمات، لمعرفة ما طرأ عليها وعلى المتلقين من تعديلات.. مثل التابو والمدنّس والمقدّس والجمال والمجاز والحرية..الخ!! ثمة تبادل حصل في المواقع والمعاني والدوافع.. فكيف تتغير الأسباب والنتائج باقية على حالها!!؟ 12-المدارس الشكلانية مارست إرهاباً على محللي النص بسبب أصولية (جديدة) تتصل بالنص وترقى به إلى مستوى التقديس والتأليه فلا يمكن فتح الفم أمام النص مهما تهيأ للمحلل من الهشاشة النصية!! ان النصية Text uality ليست بديلاً من حقوق القارئ في تمثيل آلاء الإبداع، ولا يمكن القول أن المبدع وحده هو الذي يمتلك كل أسرار الحقيقة والجمال.. المبدع ليس نبياً معصوماً من الانـزلاق!! وقد ظهرت كلمات تعزّز الاختلاف.. أي أنها استعملت قبلاً لتقديس النص ومدرسة ما بعد الحداثة تريد استعمالها على نحو يخفف من سلطة النص؛ مثل إعادة التوظيفRe Functioning والتحايلCunning والاختطافHijacking والاستعادة الاستبدالRedemption وكراهية النساءMisogymy والتفكيكDeconstruction والتذويب Dissolution والحل Undong والتجاورJuxtaposition والصورة الرمزيةEmblematic والتواطؤComplicity والاستهلاكC onsumption والحياة العاديةEvery day life والمؤالفة (المهارة الفطرية في تخليق أعمال فنية من مواد بدائية أو مهملةBricolage) والابتذالBanality والانـزياحDisplacement وغياب الإطار المنظم داخل العمل الفنيEntropy والموضةFashion والتعلق الشاذ بالأشياء على سبيل العادة والاعتقادFetish والنقوش والرسوم والكتابات في اللوحات والجدرانGraffiti وتنافر العناصر والأجزاء في العمل الإبداعيHeterogeneity والتناصInter textuality والعلاقة والرمزSing والتماثلUniformity . 13-الاستنساخReproduction فكرة راودت المبدعين منذ أقدم العصور ولك أن تنظر إلى تكرار الرسوم في الكهوف من حيوانات ونباتات ومرموزات وتكرار الأنغام حتى لو اقتضى الأمر وضع جمل نغمية غير ذات معانٍ، والاستنساخ الجديد ليس تكراراً للحالة وإنما هو إعادة توظيفRefunctioning أو اختطاف Hijacking البؤرة وتحويل سياقها!! ويمكن من خلال هذه الفكرة استنساخ الأفكار والأساليب، وقد تكون الأطراف مركزاً والمركز أطرافا وكان (آندي وارهول) يربط بين البيئة ومعايير الجمال (أحب دائماً أن أستمد أعمالي من المخلفات وأصنع منهاأشياء تخلَّص منها الناس ولم يروا فيها أية قيمة!! فإذا استطعت أن تصنع منها شيئاً جديداً فلن يضيع جهدك سدى كما يضيع في عمل شيء جديد! عليك أن تعيد تدويرRecycling العمل وتدوير الناس والوقت ثم تستمد عملك من أعمال الآخرين.. انظر كيف يعيد التلفزيون إنتاج كل شيء) إن رأي وارهول يلغي المسافة بين النص المركزيSenter text والنص الهامشيPara text فالدلالة في نظر (مابعد الحداثة) هي شكل من أشكال ترويج السلع عن طريق الإغراءPropaganda مثلما تتخلص التكنولوجيا من الأزبال وجثث الحيوانات النافقة والمياه الفاسدة وتحوّلها إلى منتوج نافع (كذا). 14-يرى والتر اونج في (محاضرته عام1982): أن العصر الإلكتروني يمثل مرحلة جديدة من الشفاهية التي غيبتها الكتابة، فالمؤثرات السمعية والبصرية تمتع المتلقي بيد أنها تسلبه مقابل ذلك قدرته على التركيز! وقد وظفت روايات ما بعد الحداثة تقنيات النقلة المفاجئة والقطع وإعادة صياغات أبطال من الذاكرة الجمعية والكتب الفكاهية، وإعادة رموز من العهدين القديم والجديد (التوراة والإنجيل) لمنح إشارات جديدة، فطريقة تحليل العمل الإبداعي لا تقوم على الاستقراءInduction والاستنتاجDeduction وإنما تقوم على إيجاد سبل جديدة فاعلة للتوصيلConduction. 15-اللذة Pleasur مقياس نجاح العلاقة بين النص والمتلقي وينبغي اعتدادها لوحدها القيمة الرئيسة التي تحدد نفعية النص وقد ذهب زمن التراجيدياتTragedies والملاحم الكبرىGreatepics وذلك يعود إلى تقبل النص الهجينHybrid text. ولا بأس من استثمار تقنيات التجاورJuxtaposition والصور الرمزيةSemblematic Images والتغريب المسرحي (البريختي) Alienation Effect والشحنة العاطفيةSentimentality والتكثيفCompression والمعارفEpisteme والحل المنحرف للشفرة Aberrant decoding والمهارة الفطريةBricolage والابتذالBenality والتواطؤComplicity والانـزياحDisplacement والتفكيكDisconstruction والموضةFashion والمونتاجMantage..في العمل الإبداعي!!. 16-كل أفكار مابعد الحداثة التي حللت النص وأولته ولونته قائمة على الإحساس المدمر بنهايات الأشياء.. وإفلات الزمن عن قبضة الإنسان، بل إن الزمن هو المتصرّف بالنص والمكان بسبب جريانه ودورانه ولا محدوديته.. وسرعته القصوى التي لا يمكن اللحاق بها.. وهم يستعذبون قصيدة آندرومارفل في (الحبيبة الخجولة). لو أن لنا من الدنيا والزمان ما يكفي/ماعُدّ هذا الحياء جريمة/..اسمع دائماً وراء ظهري/مركبة الزمان المجنحة تسرع عن كثب/وهناك تمتد أمامنا قفار الأبدية الشاسعة/اللحد مكان هادئ منعزل/ولكنني لا أظن أن أحداً يتعانق هناك إ.هـ. كما أنهم يستعذبون قصيدة وليم بليك في زهرة عباد الشمس: وا أسفاه يا زهرة عباد الشمس التي أضجرك الزمان/يامن تعدّين خطوات الشمس/باحثة عن ذلك المناخ الذهبي العذب/حيث ينتهي المطاف برحلة المسافر/وحيث الشاب الذي أذبلته الشهوة/والعذراء الشاحبة المكفنة بالجليد/يقومان من لحديهما ويتطلعان إلى حيث ترغب زهرتي أن تمضي/وهي تعبد الشمس..إ.هـ 17-تبني مصطلح العولمة Golbalization وفتح الحدود المعرفية بين الشعوب بله آدابها وفنونها، فالعالم قرية كبيرة، والتطرّف القومي أوالديني أو المذهبي أو العرقي سبب رئيس لإقلاق السلام وتعريض الجنس البشري إلى الفناء، وقد استعانت جماعة ما بعد الحداثة بفرع من فروع الأدب المقارن وهو (الصورلوجي) Imagology الذي ظهر في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتبلور في جهود الباحثة الفرنسية (مدام ديستال) حينما قررت تقديم صورة حقيقية عن الشعب الألماني لشعبها الفرنسي الذي تشكّلت لديه قناعات ضد الألمان مفادها أن الشعب الألماني همجي غليظ الطباع يكره السلام والفن والأدب وأن لغته تشبه حالات متتالية من البصاق والنخام فقامت بعدة زيارات ميدانية إلى ألمانيا وغبها نشرت كتاباً باللغة الفرنسية اسمه (المانيا) أكدت فيه غلط القناعات الفرنسية التي تشكلت ضد الألمان وأن الألمان شعب يعشق الحياة والسلام والفنون والآداب والفلسفة وأن الطبيعة الألمانية من أجمل الطبيعات في الدنيا فنهر الراين يتدفق خيراً وسحراً وجمالاً.. وأن الألماني مولع بالخضرة والزهور والفراشات!! إن الصورلوجي معنيّ بإزالة الغشاوة عن أعين الشعوب والبغضاء عن القلوب ويتم ذلك من خلال فحص الصور التي تتصل بحياة أي شعب من قبل الشعب الآخر.. وفي المحيط العربي تشجّع (مابعد الحداثة) مؤسسات الاستشراق والاستغراب النظيفين.. فالعولمة غاية والصورلوجي واحد من أهم الأساليب التي تقود الأدباء والفنانين إلى تقبلها والتفاعل معها.. وبعد.. إن اتجاه ما بعد الحداثة لم ينجز أعمالاً إبداعية حقيقية، ولم يتميز فيه مبدعون كبار، وأكثر مقولاته منتزعة من المعجم الحداثي، إن لم تكن (كوكتيلاً) مزج ما انتقاه من الكلاسية والرومانسية والواقعية والحداثية حتى أن ظهور اتجاه ما بعد الحداثة أمر لم يتفق عليه المؤرخون والدارسون ففي عام 1924 أي بعد مرور عامين على عام المعجزات والعجائب ذلك العام الذي صدرت فيه يوليسيس لجيمس جويس والأرض اليباب لأليوت، فقالت الروائية الإنجليزية فرجينا وولف (1882-1941) وقبل أن تنتحر بسبب إصابتها بكآبة ثقيلة بعامين: إن الحداثية (أو العالم الحديث) بدأت في ديسمبر سنة 1910 حين تغيرت شخصية الإنسان!! وقد أعاد تشارلز جنكز صياغة عبارة وولف وأضاف بجدية ساخرة هي من سمات ما بعد الحداثية: إن الحداثية انتهت في 15 يوليو 1972 في تمام الساعة 3.32 عصراً تحديداً في الساعة والدقيقة اللتين شهدتا إزالة المشروع السكني Pruitt Igoe الذي صممه المهندس الحداثي (منورو ياماساكي) عندما قرر مهندسو مدينة سانت لويس الأمريكية عدم صلاحيته ويقول روبرت ب راي: الحق أن مصطلح ما بعد الحداثة قد شاع بداية في مجال العمارة ثم تبنته الفنون والآداب وبات أسلوباً جمالياً ووضعاً ثقافياً وممارسة نقدية وموقعاً سياسياً وحالة اقتصادية إ.هـ وأطلقت الصحافة الأمريكية على الشاعر والمسرحي الأمريكي روبرت لويل لقب (ما بعد حداثي) وذهبت صحافة ما بعد الحداثية إلى بيكيت ونابوكوف (وهما حداثيان) في طليعة كتاب ما بعد الحداثة!! كما عدّت السينمائي الدنماركي دوجلاس سيرك من أ برز أعلام ما بعد الحداثة! وكان سيرك قد ألقى أواخر الستينات محاضرة عن سينما ما بعد الحداثة!! وظهرت دراسات جادة عام 1978 تحلل (المفارقة) التي ابتدعها سيرك في تقنية النص الدخيلIronic Subtext وترصد تأثره بأعمال دوشامب الجاهزة التي أعادت إنتاج عدد من اللوحات المعروفة وكان قد قدّم الموناليزا وهي صلعاء.. واقترح الشاعر والكاتب المسرحي الأمريكي المشهور روبرت لويل(1917-1977) استبدال مصطلح (مابعد حداثي) بآخر وهو (لاحداثي) وقد عزا موقفه إلى قلقه واضطرابه النفسي وتقلب مواقفه وتناقضها!! وتطرف آخرون فقالوا ان ما بعد الحداثة مصطلح يشير إلى المشي إلى الوراء ومخالفة التيار السائد قولاً وفعلاً وتفكيراً وقد وضعت صحيفة (لابريس) الفرنسية تحت اسمها ..(الجريدة سلعة استهلاكية طبعت لتموت وتشترى ليرمى بها في المزابل) بينا أكد توماس كرو أن ما بعد الحداثة مصطلح أخذ يفقد رونقه.. والأصح أنه بلا رونق!! والغريب إن دوجلاس سيرك أخذ بعد تقاعده عام 1969 يتحدث في محاضراته عن أفلامه التي حققت أعلى إيرادات في السينما ويقول ان أفلامي هدّامة دأبت على النقد والسخرية من القيم البرجوازية الأمريكية وكشفت عورات هوليود!! أفلامي تعتمد تشويش الرموز والعلامات وقابليتها للتطاير، ويقول روبرت ب راي: تمثل النقلة الفنية والأدبية إلى مابعد الحداثية انزلاقاً من التعبيرية المجردة إلى فن البوب ومن روايات روب جرييه إلى كتابات الأديب الأرجنتيني لويس بورخيس ومن موسيقى الجاز إلى الروك آند رول أي أنها عودة إلى أشياء من السهل استساغتها.. وأفضل الطرق لفهم ما بعد الحداثة أن تفكر في رواية جوليان بارنـز ببغاء فلوبير إ.هـ. لقد تصرف رونالد بارت بأعمال فلوبير وغيّر عناصرها ثم قدم بارت تحليلاً لأعمال بلزاك مغايراً لطبيعة أعماله تحت فقرة قراءة جديدة مغايرة (وليس ما قام به بارنـز إلا تنويعات مكثفة من سيرة فلوبير تتردد أصداؤها في حكاية بطل الرواية بريثويت التي كانت بمثابة حائط يقترب أو يبتعد ليتحكم في ذبذبة تلك الأصداء وكذلك صنع بارت الذي أدخل على حبكة أقصوصة بلزاك تنويعات سردية وإسقاطات أخرى)!! وكانت مقولة دريدا تكثف الاتجاه المابعد حداثي: (مادمنا قد أفضنا في كل شيء فإن على القارئ أن يصبر علينا إذا ما أطلنا الكلام قليلاً وحركتنا غرائز اللعب وكتبنا بعض ما يعن لنا)! وقد ظهرت في الشارع الثقافي العربي موجة من الأدباء والمتأدبين والمثقفين والمستثقفين تتحدث عن ما بعد الحداثة بشهية خارقة وتحاول إثبات جدارتها بما بعد الحداثة من خلال لغو الكلام والتنطّع والادعاء فاستظهروا المصطلحات المابعد حداثية وملأوا الصحف والمجلات حديثاً عن الميتالغة والميتا حداثة واللامكان واللازمان والآلهة وأنساب الآلهة!! وصدرت دعوات لإلغاء الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية واقترحت نصاً شعرياً نثرياً تشكيلياً موسيقياً سمعياً بصرياً!! كما دعت موجة ما بعد الحداثة العربية للعودة إلى ارتجال القصيدة بعد أن أصبحت نثراً لا يتطلب عناء (كذا) .