النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 9
البـاب الثــاني
الخطاب السّردي الفصل الأول
(إشكاليات التجنيس بين الخطابين الشعري والسردي)
أشار افلاطون ت 347 ق.م إلى التجنيس الأدبي، لكنه لم يحدد مفهوماً واضحاً لمقولة الجنس، بينا قال ارسطو ت 322 ق.م شيئاً في الإجناسية الأدبية!! فإذا كان الشعر محاكاة أو محاكاة المحاكاة، فهو قبل هذه وبعدها أجناس من نحو: شعر الملاحم؛ والمأساة، والملهاة، والديثرمبوس وقد استبعد أرسطو الشعر الغنائي؛ لأنه رآه أدخل في جنس الموسيقى!! وحسناً فعل!! بيد أن التقسيمات الأرسطية مبنية على الحدس والجدل، وقد لا يجد القارئ المدقِق ذلك الوضوح المطمئن الذي يعتده ضالته؛ لأن الفن الذي يحاكى باللغة، عند ارسطو نوعان: نثر وشعر إن الجنس (genre) عند انيتاكفن حالة مختلفة؛ فالأدب عندها اثنان: حسي وروحي وهذا الرأي يمثل قسر المثال على القاعدة؛ فالحسية والروحية داخلتان في الفروع بعيدتان عن الأصول!! وربما اتضح المقصود بالجنس في الربع الأول من القرن العشرين الصاخب؛ مع ظهور الاصوليات العرقية المتجلببة ب: الوطنية أو القومية أوالعقيدية، التي اسس لها ودشنها الحزبان: النازي الألماني بقيادة معتوه داء العظمة هتلر والفاشي بقيادة ملتاث داء الكراهية موسوليني!! وهي اصوليات دمَّرت حضارة قرن بتمامه، قائمة على الصفاء المزعوم للدم والأرومة، وإن لكل جنس خصائص ينماز بها، تحدد مقدار شرفه بين الأجناس وعلوّه فوق مراتب الآخرين (كذا!!) فاستعيرت هذه الأصولية للأدب!! والحق ان اصول النظرية العرقية قديمة قدم الحضارات القديمة، فقد ساد الإعتقاد لدى اليونان والإغريق وسكان وادي الرافدين ووادي النيل، أن دماء السادة تختلف عن دماء العبيد، فالدماء التي تجري في عروق النخبة المؤلفة من الآلهة وأنصاف الآلهة والملوك والكهنة غير الدماء التي تجري في عروق الشعب ودماء البيض غير دماء السود (كذا!!) وكانت نظرية تشارلز روبرت دارون (1809-1882) العالم البريطاني التي ضمّنها كتابه الشهير (في اصل الأنواع) On the Origin of Species الصادرة عام 1859 تصويباً لكثير من الأفكار المسعورة عن الجنس! فاستعيرت الأصولية العرقية للأدب، ثم تجلببت بلبوس العلم والمنطق الأكاديمي لإسكات الأصوات القائلة بوحدة الفنون!! الشعر إذن جنس، والنثر جنس، وهما مثل خطين متوازيين قدّر عليهما أن لا يلتقيا مهما امتدّا!! وكما يسمح للجنس الألماني بالتجاوز والتزاوج داخل حدوده فقد سمح مثلاً لأنواع الشعر بالتداخل والتكامل، وسمح لأنواع النثر الفني بمثل ذلك واشتدت العصبية للتجنيس حتى غدا الجنس الأدبي، علماً له مقدماته، وقوانينه، وتطبيقاته،بل غدا موجها من موجهات القراءة. وإذا تصالح الدارسون على أهمية التمييز بين الأجناس؛ فقد اختلفوا في ملفوظ الجنس ومحمولاته، فأيهم الأكبر؟ وأيهم الاصغر؟ وأيهم الأقرب؟ وأيهم الأبعد؟ الجنس genre أم الفن art أم النوع kind أم الشكل form….الخ؟؟ إن تعدد مفهومات الجنس حالة لا تشكل خطراً على المؤسسة الاصطلاحية إذا نهضت على تأسيس نظري يوضح الغاية؛ فالدكتور عبد الله الغذامي يقول تحت عنوان: التكاذيب بوصفها جنساً أدبياً (وتأتي التكاذيب لتكون فرعاً لذلك الاساس وهي هنا جنس أدبي ينافس الأجناس الأخرى كالشعر والرواية وكلها فروع لاصل واحد). وقد استقرأ الدكتور الغذامي حشداً من آراء خبراء الجنس ومبدعي الأجناس الأدبية قبل أن يقيم اقتراحه!! واستناداً إلى هذه المشكلة تمثل (قصيدة النثر) حالة مروق لا تشاكل الشعر؛ ولا تشاكل النثر؛ وهي تأسيس يمثل جلداً مُتْلِفاَ لجسم الشعرية الحي، حتى زعم أن قصيدة النثر جنس مخنث منفعل بنفسه مثل زهرة الجوري؛ فيها صفات الذكر والأنثى معاً!! وقصيدة النثر فيها صفات الشعر وصفات النثر معاً… وتنبّه الشاعر الرائد حسين مردان رحمه الله مطلع الخمسينات الى هذه الإشكالية الصعبة فأطلق على قصائده النثرية (النثر الفني المركز) وحين عاتبه مريدوه في إحدى جلسات مؤتمر الأدباء العرب السابع التي عقدت في قاعة الخلد بغداد أيلول 1969م أجاب على مسمع ومرأى منا واعضاء الوفود العربية وبطريقته الساخرة المرتبكة المعهودة (يا ناس أنا أب قصيدة النثر ومن حق الأب ان يقترح اسماً لمولوده!! بصراحة هي بردعتي أضعها على أي حمار شئت..)!! وتنبّه كذلك الشعراء الحداثيون إلى الإشكالية ذاتها، فرضوا باطلاق (نصوص) على قصائدهم النثرية و(قصائد) على قصائد التفعيلة، وإذا كان التجنيس ممكناً دون منغصات في شعرية الأنواع الأدبية في الغرب؛فإن أمره مستعص على أدبنا العربي، الباذخ!!وقد ورد في لسان العرب (جنس): الجنس: هو الضرب من كل شيء؛ والجمع أجناس وجنوس؛ والجنس أعم من النوع؛ ومنه المجانسة والتجنيس. ويقال هذا يجانس هذا أي يشاكله، والحيوان أجناس؛ فالناس جنس والإبل جنس والبقر جنس!! وثمة مرادفة بين جنس وسنخ فالسنخ (اللسان –سنخ) الأصل من كل شيء والجمع أسناخ وسنوخ!! أما مجمع اللغة العربية في القاهرة فقد نص على أن الجنس هو الأصل، وهو النوع في اصطلاح أهل المنطق، وهو أعم من النوع، فالحيوان جنس والإنسان نوع ووجد مجدي وهبة وكامل المهندس أن الجنس genre هو أحد القوالب التي تصب فيها الآثار الأدبية؛ فالمسرحية مثلاً جنس أدبي وكذا القصة وهكذا…. ومن عهد النهضة بأوروبا حتى أواخر القرن الثامن عشر، كان الإعتقاد شائعاً بأن كل جنس يتميّز تميّزاً واضحاً عن غيره من الأجناس الأدبية كما أنه يخضع لقواعد خاصه به لا بد للأديب أن يتقيد بها، وفي أواخر القرن التاسع عشر طبق الناقد الفرنسي فرديناند برونتير، نظرية التطور على الأجناس الأدبية. وقد أفرد د.أحمد كمال زكي الفصل الثاني من كتابه (دراسات في النقد الأدبي) للحديث عن (أجناس العمل الأدبي) وتطرّف في موالاته لنظرية برونتير الملغومة! وسيأتي تفصيل الحديث عن ذلك لاحقاً ونرجح أن هذه الإشكاليات المحيقة بالتجنيس قد سوّغت لبعض النقاد فكرة تحديث الأجناس الأدبية بيد (أن الوعي بهذه الأجناس على مستوى النقاد العرب والقراء العرب لم يبلغ بعد درجة مرضية وكافية للإقدام على تحديث الأجناس) ولعل الجاحظ هول أول من استعار مصطلح الجنس للمقولات الأدبية بعد أن نفّض عنها الغبار القاموسي حين قال (الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير) ولم ترد (جنس) بشحناتها الجمالية والدلالية في أدبيات العصر الجاهلي في حدود علمنا المتواضع وانطلقت أكثر الدراسات التي تصدّت لأجناس الأدب من مفهومات غربية تبلورت عبر مناقشات طويلة لمقولات أفلاطون وأرسطو… وهي مقولات اشتغلت على طبائع الآداب القديمة زمنذاك، فالأجناس الأدبية الكبرى هي ذاتها الأجناس المتوفرة على صيغها التعبيرية المتميزة مثل الخطابة والشعر الغنائي والمسرحية إذ أن كل جنس يشير إلى إجناسيته من جهة شحناته التأثيرية وجاذبياته الخاصة المتأصلّة عن الألفاظ والأخيلة والمعاني والمجازات، واليونان يميزون بين نمطين من الأدب: الأول ذاتي ويتكفّل به الشعر الغنائي والآخر موضوعي وتتكفلَ به المسرحية والقصة وما يدور معهما وحولهما، ثم تتبلور الخطابة بوصفها جنساً مركباً بسبب اشتراطاته النفعية،وقد يبدو ثمة شبه بين الخطابة والأجناس الأدبية الأخرى: المسرحية مثلاً !!ولكنه على أية حال شبه سطحي!والقصيدة الجاهلية مثلاً (مركبّة)أيضاً لأنها تشبه الشعر الغنائي من حيث انطلاقاتها الذاتية وتشبه بالمقابل الخطابة أيضاً لأنها تعدّ لتلقى أو تنشد، والإلقاء حالة خطابية تقترب من آليات النثر، وهذه الإشكالية عرفت نظائر لها في الأدب اليوناني القديم فالمسرحية (وهي شعر في أصلها ) تعد لتلقى، ويعيب أرسطو على كتاب المسرحية أو مخرجيها انهم يجعلون الممثلين المسرحيين خطباء، والخطبة تقترب من النثر بقدر ابتعادها عن الشعر مما يزهّد الجمهور في مثل هذه المسرحيات التي تخلط دون إرادتها بين جنسي الشعر والنثر. ويستنبط د. نبيل راغب من دراساته الأدبية أربعة مستويات في الشكل الفني 1-تنظيم عناصر المضمون وتحقيق الإرتباط العضوي. 2-عناصر المكوّنات ليست المكونات الحسيّة فقط، وإنما هي أيضاً المكونات التعبيرية..3-ويختص بالأشكال الخارجية مثل الملحمة والسونيت والمسرحية والرواية والقصة القصيرة في مجال الأدب أو السوناتا والفوجا والسيمفونية في مجال الموسيقى. 4-ويلخص المستويات الثلاثة ويحدد شكل النص وآفاق الرداءة والجودة فيه (وعمل فني بلا شكل يعني أنه ليس عملاً فنياً) ويرى د.راغب أن الوحدة في التنوع هي بأهمية الوحدة العضوية فالانفصال بين الأنواع والاتصال قائم على ضرورات لا تبدو إلا نادراً فالحاجة ماثلة اذن لدراسات عربية قائمة على استقراء الذهنية النصوصية القريبة من أجل الوصول إلى جدل الإجناسية والشعرية (العربيتين) بحدود الممكن والمتاح!! فقد بدأت الشعرية الأدبية في بواكير العصر الجاهلي سجْعاً يتداوله الكهّان والخطباء والزعماء؛ ثم ضاق المتلقون ذرعاً برتابة السجع وهلهلته، فدشنت الشعرية عهد ذاك خطوة جديدة نحو الأفضل، فجاء الرجز الذي يمثل تطوراً نوعياً للسجع، وإنما سمي رجزاً لاضطرابه؛ وقد التفتت الذهنية الجاهلية الى إشكالية الرجز بوصفه شعراً، وهو يخرج من رحم السجع بوصفه نثراً!! فطردت الرجز عن بيت الشعر، ليقرّ الأدب الجاهلي على رجز وقصيد ونثر فني، فالرجز منـزلة بين منـزلتين ، وهو ليس شعراً (معتبراً ) فالشعر معتبر ومهمل، فالمهمل هو الرجز والهزج والمعتبر هو القريض، والعربي لا يعد الراجز شاعراً، حتى قيل أن التراجز هو التشاتم بين الشخصين بالرجز أو سواه. ، وحين لجأت قريش إلى أفضل بلغائها ومتكلميها ليسكت بخطابه الأرضي خطاب النبي (ص) السماوي فسألوه أهو مجنون؟ قال لا! أهو ساحر؟ لا! أهو كاهن؟ قال لا!! ثم اتفقوا على اتهام النبي الأمين بالشعر… فاعترض الوليد بن المغيرة وحين سألوه عن سبب اعتراضه قال (ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشاعر.. والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة) ويتبنى ابن منظور فكرة: الرجز ليس شعراً: (وقد اختلف في الرجز فزعم قوم أنه ليس بشعر وأن مجازه مجاز السجع)، وأضاف ابن منظور: وزعم الخليل أن الرجز ليس بشعر… ودليل الخليل في ذلك ما روي عن النبي وجرى على لسانه (ص): (أنا النبي لا كذب _ أنا ابن عبد المطلب) وقال (والرجز كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر… والرجز ليس بشعر عند أكثرهم) والناس عهد ذاك تميّز بين (المقصد) رفع الميم سكون القاف كسر الصاد، وبين الراجز !! فالمقصد شاعر لأنه يقول القصيد والراجز ليس بشاعر لأنه يقول الرجز.. قال الراجز: (قد وَرَدَتْ مثل اليماني الهزْهاز –تدفعُ عن أعناقها بالأعجاز –أعيتْ على مقصدنا والرجّاز) والعربي يقلب أحياناً الزاي سيناً فيقول رجس وهو يريد رجز فتماهى المعنيان (الرجز والرجس) وبات معنى الرجز هو الذنب والعذاب والصنم والوسوسة!! جاء في القران الكريم: 1- (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك). 2-(وينـزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان). 3-(إنا منـزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) 3-(فأنـزلنا على الذين ظلموا رجْزا من السماء بما كانوا يفسقون) 4-(أولئك لهم عذابٌ من رجْز أليم.) 5-(وثيابك فطهِّر والرجْز فاهجر.) وحدث التداخل الآخر بين الأنواع حين تماهى المثل السائر مع الشعر، فالشعر يفكك نثرية المثل (الشفاهي) ويصبّها في قوالبه، والمثل بهذه نثر في حاضنة الشعر، أما المثل فهو ذو فاعلية أكيدة جذبت الشعر إلى حقل النثر!! فإذا اشرق الإسلام وأضاء القران الكريم عتمات المكان والزمان والنفس حصلت إشكالية جديدة!! إشكالية إجناسية، فالقرآن ليس شعراً وليس نثراً ولا زمزمة كما يقول الوليد بن المغيرة!! وهكذا توفرت الخبرة الأدبية على ثلاثة أجناس هي: الشعر والنثر والقرآن، ثم ظهرت في العصر الأموي.. الفترة المندغمة مع العصر العباسي إشكالية الموشحات الاندلسية.. وبؤرتها (الخرجة) وهي كلام نثري لهجوي أو أعجمي يقفل به الموشح أغصانه، مما ضيَّق الفجوة بين الشعر والنثر مرة أخرى.. والسؤال: أي غرابة في أن يضم الشعر (قصيدة النثر) في حاضنته، وتراثنا فعل هذا قبلها دون حرج؟! وثمة دائماً الشعرية التي تقرّ في ضمير النص بؤرة للجمال والإبتكار، ولسنا مضطرين إلى تنصيص مصطلحها الناتئ (قصيدة النثر) فقد رأينا شعراً بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك، وشعرية بلا شعر مثل اللوحة التشكيلية الجميلة أو القطعة الموسيقية، فإذا لم يكن التنصيص موافقاً لتقاليد القصيدة الجاهلية (عمود الشعر) فهو موافق لحرية الشعر الحديث، وبخاصة نمط الشعر الحر free verse وهو أمر يمثل حالة من الانـزياح عن مصطلح الشعر الحر؛ والشعر المنثور prose poems أو النثر المشعور poetic prose. وربما يكون المصطلح العربي أدخل في روع الأجناس من المصطلح الإنجليزي!! ثم قارن الآتي: (مشجّرة مقترح لإجناسية أدبية عربية حديثة) النص شعري نثـري مقالة سيرة مسرحية حكاية قصة قصيرة جداً قصة رواية موضوعي ذاتــي (شعر مسرحي) شعر مقـيّد شعر تفعيلة شعر منثور شعر مقيــّد شعر حــــر قصيدة تفعيلة قصيدة نثر (مشجّرة مقترح لإجناسية عربية قديمة) النــص الشعر النثر الوصف الرسائل المعاهدات والأحلاف الوصايا الحكاية المنافرة سجْع الكهّان الأمثال الخطابة الاعتذار الحكمة المديح والارتزاق السلام التوثيب الرثاء الهجاء الفخر الغزل لقد تأيد لنا أن علماء الشعر الجاهليين لم يعرفوا نظرية الأجناس الأدبية بحدودها الاصطلاحية المعاصرة، وقصارى ما عرفوه هو أن هناك فنين هما: فن الشعر وفن النثر، وهم بذلك لم يبلغوا في التجنيس شأو اليونانيين، وربتما وضحت الفروق بشكل أدق في العصر العباسي، فوضع عدد من نياقدة الأدب حدوداً بين الشعر والنثر بما يقرب تلك الحدود من طبيعة التجنيس، فانبرى أبو عمروبن العلاء ت 154ه وحماد الرواية ت 155ه والمفضل الضبي ت 168ه والخليل الفراهيدي ت 175ه وسيبويه ت 180ه وخلف بن حيان (الأحمر) 180ه وسهل بن هارون ت215ه والأصمعي ت216ه والفارابي ت239ه والجاحظ ت255ه وابن أبي عون ت322ه والسجستاني ت380ه ومحمد بن الحسن الحاتمي ت388ه وعبد الكريم النهشلي ت403ه وابن هند الكاتب ت420ه والمرزوقي ت421ه والتوحيدي ت421ه والجرجاني ت471ه وابو القاسم الكلاعي ت543ه وابن الأثير ت637ه، انبرى هؤلاء وسواهم لدراسة الشعر والنثر والنظر في أوجه الائتلاف والاختلاف بينهما، واستمرت جهود النياقدة العرب في تأصيل نوعي الشعر والنثر حتى بعد سقوط الدولة العباسية عام 656هـ فتصدى ابن خلدون ت 808ه لهذه الإشكالية ففصل فصلاً تاماً بين الشعر والنثر ولم تسلم فكرة التجنيس من الخلط واللبس الأمر الذي دعا فان تيغم إلى التحذير من أضرار الخلط بين مفهومات الأجناس: قارن قوله: 1- ويمكننا أن نطلق على دراسة الأنواع الأدبية –جينولوجيا- أي الأنواع النثرية والشعرية والمسرحية وفن القريض الذي يشكل وحده موضوعاً قائماً بذاته. 2- وهذا المبدأ، مبدأ النوع ليس موضة اليوم.. انه يشكل بالنسبة للأدب المقارن مقياساً ذا قيمة كبيرة.. والأنواع الأدبية ليست ضرورية لعلاقتها بالمواهب الفردية فحسب، بل لأنها كذلك تعطينا أفضل ترتيب للإنتاجات الطبيعية. 3- أن القول بالنوع الأدبي يعني إثارة سلسلة من الأشباح، ويتعرّض لانتقادات شديدة، وما زالت فرنسا تعاني ألم الذكرى السيئة، ذكرى نظرية فرديناند برونتير (1849م-1906م) في تطور الأنواع، تلك النظرية القائمة على مؤسسة نظامية يشوبها التمويه، قائمة على أوجه الشبه بين الأنواع الأدبية، والأنواع البشرية.. إ.ه . ويلاحظ الدارس حرص فان تيغم على الصفة العلمية للأجناس الأدبية مع درايته التامة بأن شعوب غرب أوروبا تتوجّس خيفة وتتشاءم من مقولة الأجناس التي قادت أوروبا والعالم إلى مذابح مجنونة ذهب ضحيتها ملايين البشر الأبرياء! وتيغم يحذر من مخاطر النظر إلى التجنيس الأدبي على أنه غير مهم في الدراسات النقدية أو أنه موضة يتباهى بها النقاد لزمن محدد ثم يتخلصون منها؛ وكأن تيغم يلمح إلى أولئك النقاد الشاملين الذين يتذمرون من الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ويطالبون بإلغاء تلك الحدود جهلاً منهم أو رغبة في التخريب كدأب بعض النقاد العرب اليوم الذين يتوهمون أو يوهمون أن الحداثة تقتضي الخلط بين الأجناس الأدبية!! ويفرد د. احمد كمال زكي (كما مرّ بنا) الفصل الثاني من كتابه (دراسات في النقد الأدبي بعنوان [أجناس العمل الأدبي] مشدداً على أهمية الأجناس الأدبية ويرى أن هذه النظرية تقوم أساساً على عنصر الزمن لتكشف عن تأثر اللاحق بالسابق بحيث يكون على الناقد معرفة خصائص النص الذي ينقده.. وعلى هذا لا يمكن ان نفهم تماماً قصيدة من الشعر المرسل لشاعر محدث دون ان نربطها بكل مجهودات الشعراء الذين سبقوه، بل ربما وجدنا فيها ما قد يلزمنا بالتعرف على بدايات الشعر التي تتوغل في عصور سحيقة)!! وإذا أردنا ان نحكم على مسرحية معاصرة فلابد أن نلم بماضي الدراما وهل بدأت شعراً أم نثرا، فندرك أنها كانت تراجيديا ثم نشأت الكوميديا غير معتنى بها كما يقول أرسطو وبعد ذلك اختفت في العصور الوسطى إثر ظهور الدراما الدينية!! ثم يعرّف بفرديناند برونتير (كان هذا مدرساً بمدرسة المعلمين العليا ومديراً لمجلة المعلمين ونشر في النقد وتاريخ الأدب ثماني مجموعات كلها تشهد بحرصه على أن يؤكد دائماً العلاقة بين العلوم الطبيعية وتاريخ الأدب ورأى استناداً إلى نظريات دارون ولامارك سبنسر في بعض ضروب الأدب ما يشبه الأنواع في مملكة الحيوان، من حيث تطورها وتسلسلها المعروف) والدكتور زكي لا يرى أن برونتير كان أول من اهتم بنظرية الأجناس الأدبية مع أنه طبقها على ثلاثة أجناس أدبية هي المسرح والشعر الغنائي والنقد الأدبي! فلقد قسّم ارسطو في فن الشعر- الأدب تقسيماً عقلياً هندسياً ليميز القصص والغناء والتمثيل ويقسّم التمثيل إلى تراجيديا وكوميديا! (ولكن برونتير نبه إلى أن نظرية التطور في الأدب لا ترمي إلى بعث الماضي لمجرد بعثه -بقدر ما تستهدف استنباط قانون يمكن ان يفسّر مجموعات المعاناة الفنية في مراحل التطور الاجتماعي، انها توضح تسلسلات العوامل وردود فعلها في الكائن الأدبي طوال رحلته عبر الزمان والمكان آخذة أومعطية؛ متحركة أو واقفة، موجدة في آخر الأمر نوعاً جديداً يجمع عناصره من بقايا نوع سابق؛ ليجسّد علاقة جمالية جديدة تلائم طبيعة النظام الاجتماعي للعصر) ثم يلاحظ د. زكي ذكاء برونتير من إحكامه لنظريته التجنيسية! لكن الذكاء جانبه حين رفض كل إنتاج أدبي (مهما كان خطره) لا يتفق مع فكرته!! ويسوّغ د. زكي موقفه من نظرية برونتير الملغومة (واذا كنا ندعو إلى التمسك بنظرية برونتير فإنما على سبيل ألا تكون دراستنا ذات طابع وصفي وبتعليلات لا نفترض أن تكون ملزمة على طول الخط مع تقرير أن الأعمال الأدبية العظيمة تظل محتفظة بقيمتها الفنية بعد انقضاء وضعها التاريخي الذي نشأت فيه كاستجابة من الأديب لحاجة مجتمعه) م.ن ص 27، إن تقسيم الأدب إلى نثر وشعر لم يحسم المشكلة فقد ارتبط النثر مثلاً بالخطبة والمثل والقصة والسيرة الأدبية (وبدرجة أقل المسرحية التي نشأت شعراً)؛ كما ارتبط الشعر بالملحمة والغنائيات والمسرحيات الشعرية وبصفة أقل الأمثال والقصص الشعري الذي حل محل الملاحم الكلاسية الكبرى! فالقسمة الثنائية تقرّب ولا تحسم (وهي لا تعني شيئاً كثيراً في صياغة الجنس الواحد الا بمقدار ما يكون هناك من فرق بين الأداء الشعري في المسرحية مثلاً والأداء النثري) والدكتور زكي يؤول أن استقرار الأنواع الأدبية (مؤيد لفكرة برونتير، أي أن قوانين التطور في عالم الأحياء لها ما يماثلها في عالم الفنون، فالملحمة مثلاً تشبه الكائن البيولوجي في أنها تنشأ وتتطور ثم تنقرض وانقراضها لا يعني فناءها وإنما يعني أن بعض عناصرها جعل أساسا لنوع آخر كالمسرحية مثلاً أو الرواية النثرية) م.ن ص 28 ويتلبث د.زكي عند (الأجناس الأدبية لأدبنا العربي) بيد أنه تلبث عجل ومضطرب معاً !! ويفسر ذلك بأن الاضطراب ناجم عن اضطراب الرؤية العربية إلى الفنون النثرية وعجزها عن قبول فكرة الجنس المزدوج، (مثل حكايات الأبطال التي ترد في سياق القصيدة الجديدة بتفصيلات تبعدها عن الشعر؛ ومسرحيات البطولة والمواقف التاريخية اللافتة التي تزدحم بالغنائيات والوصف الحسي والخطابية الجوفاء) والخط الفاصل بين الجنس والآخر دقيق جداً إذ لا يكفي أن يكون عروض القصيدة (بحر-وزن-قافية) فيصلاً وحيداً بين الشعر والنثر!! وقد أدى اطلاع عدد من الدارسين العرب على إنجازات الغرب في التجنيس إلى حدوث وعي إجناسي مناسب والى (رفض بعضهم نظرية برونتير القائمة على قاعدة التطور مع تسليمهم بملابسات النشأة والنمو والذبول قبل تحوّل النوع الذابل إلى نوع جديد؛ واستعاضوا عنها بعملية مادية ترد الجماليات إلى الممارسة الاجتماعية داخل إطار التاريخ)! إن البحث الجاد عن بواكير نظرية الجنس الأدبي يحيلنا إلى السجع الديني في الأدب الجاهلي والأناشيد الدينية الإغريقية التي تنشد ضمن طقوس تمجيد الآلهة التي يرأسها ديونسيوس إله الخصب، فهذه الأناشيد تمثل الظهور الأول لعصور الأدب وهذا القول لا ينفي الطور الميتافيزيقي الذي تميزه الحكاية (ولا ينفي أن تكون الأسطورة شعيرة كلامية يقصد بها ترديد أقوال الآلهة في أثناء الطقوس) فالأسطورة موجودة قبل ان تختلط بالحكاية الخرافية ثم أصبحت الأسطورة دستور الحياة والموت في قالب قصصي! وما زال بعض الدارسين لا يميز فيسيولوجياً بين الحكاية والأسطورة مثلاً! وما زالت الحدود غير واضحة بين (النظرة التطورية البرونتيرية والنظرة المادية) (لكننا سرعان ما نكتشف شدة ارتباط النشاط الأدبي كفن بالنشاط الاجتماعي وإن للأنواع الأدبية ومنها الحكاية الأسطورية وظيفة اجتماعية يحكمها التاريخ) . ويفيدنا د. عبده عبود في إضاءة السياقات التاريخية لمقولة الأنواع رغبة في فهم الإشكاليات وتجاوزها.. اقرأ قوله (ومن الظواهر الأدبية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتلقي المنتج الأجناس الأدبية الثابتة نسبياً؛ التي تظهر بداية في أدب قومي ما؛ ثم ما تلبث أن تنتقل إلى الآداب القومية الأخرى، وتنتشر فيها بمساعدة التلقي المنتج المؤدي إلى تأثر إبداعي… إن علماء الأدب يميّزون بين ثلاثة أجناس أدبية أساسية هي: الأدب الملحمي أو السردي والأدب الدرامي أو المسرحي والشعر الغنائي؛ وهم يقسّمون كلاً من هذه الأجناس الأساسية إلى أجناس أدبية فرعية؛ ففي الأدب الملحمي أو السردي كما أصبحنا نقول حديثاً؛ نجد الملحمة الشعرية القديمة والرواية والأقصوصة والقصة القصيرة؛ ومن الأجناس الفرعية في الأدب المسرحي: المأساة والملهاة والدراما والمسرحية الغنائية والمسرحية الشعرية والمونودراما.. والشعر الغنائي ينقسم بدوره إلى أجناس فرعية متعددة وفقاً لشكله الفني أو أغراضه كشعر الغزل والهجاء والمدح والقصة الشعرية؛ ومسألة الأجناس مسألة على درجة كبيرة من الأهمية في الأدب العربي؛ فهذا الأدب لم يشهد حتى أواسط القرن التاسع عشر ظهور أجناس أساسية، كالأدب المسرحي بأجناسه الفرعية كافة والأجناس السردية المتطورة عن رواية؛ وقصة قصيرة، وأقصوصة. ولم يعرف الأدب العربي الأجناس الدرامية أ والمسرحية لأسباب تاريخية حضارية معروفة؛ وإن كان التراث الشعبي قد سجل نشوء بعض الظواهر المسرحية كالأراجوز وخيال الظل؛ إلا أنه لم يسجل ظهور أدب مسرحي في شكله المتطور الذي عرفته الثقافات والآداب الأوروبية! ولعل إحجام العرب عن استقبال المسرح اليوناني القديم إبان العصر الذهبي الأول لحركة الترجمة دليل قاطع على أن نشاطات الاستقبال الإبداعي تخضع لحاجات الثقافة المستقبلة في الدرجة الأولى؛ أما على صعيد الأجناس القصصية أو السردية فقد شهد الأدب العربي القديم ظهور فن المقامة فيه، وهو شكل جنيني من أشكال القصة القصيرة.. ومن ظواهر الأدب السردي التي ظهرت عند العرب في وقت مبكر قصص الحيوان والملاحم الشعبية والحكايات الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة..) والملاحظة غير الصحية في الجهد الإجناسي العربي هو وضع صفات مشتركة بين الأجناس والأنواع مما يجعل الحدود باهتة فناقد كبير مثل (صاحب العمدة في نقد الشعر) يضح وكده في تمييز الأنواع على المتلقي ناسياً أن حدود الأنواع حقيقة بالنص أولاً وآخـراً… يقول د. محمد رضا مبارك (ويلاحظ ان الصفات التي وضعها ابن رشيق لشعر المديح –مثلاً- في بعض جوانبها مطلوبة في كل قول مثل جزالة المعنى ونقاء اللفظ وابتعاده عن الابتذال، بيد أن القسم الآخر فيه قيد وإكراه دون شك، مثل سلوك طريق الإيضاح وتجنّب سآمة الملوك وضجرهم). وإذا كان د. مبارك قد أخذ على صاحب العمدة انه نقل الضوء في التجنيس من النص إلى المتلقي فانه لاحظ احتراز صاحب الصناعتين في صياغة خطابه الإجناسي، فلم يخف إعجابه به (وما أحسن ما صنع أبو هلال العسكري حين صاغ أسس صناعة الكلام معتمداً على من سبقه من النقاد، ملخصاً آراءهم لا سيما الجاحظ، مستخدماً ذكاءً وحذقاً في تثبيت مواصفات الكلام المنثور والمنظوم) إن الحدود بين جنسي الشعر والنثر ليست خبيئة على الدارسين، الأجانب أو العرب فهي تفصح عن مدخولاتها من خلال إبداع المبدعين ونقد الناقدين، بيد أن تشريح كل جنس من هذين الجنسين وفق علم الأجناس (الجينولوجيا) ،لم يلق الاهتمام المناسب لخطورته، ولم نعثر -بحدود اطلاعنا- على جهد مكرّس لدراسة هذه المعضلة العلمية والفنية معاً! ويبدو أن المعضلة ستستمر (فالنقاد العرب لم يتفقوا بعد على دلالات صارمة ومحددة لمقولات الجنس والنوع في أدبينا: القديم والحديث والنقاد العرب المعاصرون لم يستطيعوا بعد ترسيخ مفاهيمها، ومحاولاتهم في هذا الاتجاه مازالت محاولات مدرسية بسيطة متواضعة، محمد مندور، عز الدين اسماعيل، خلدون الشمعة، بالإضافة الى محاولات كل من الأستاذين إحسان عباس ومحمد يوسف نجم؛ وما يجمع بين هذه المحاولات خلا الشمعة هو إصرارها على نعت الجنس الأدبي بالفن الأدبي، الأمر الذي أدى إلى زعزعة مفهوم الجنس الأدبي في ذهن القارئ) لقد ظهرت كتب عربية تتحدث عن الجنس الأدبي، وكأن صانعيها من الحذّاق لا يخاطبون القرّاء وإنما يناجون أنفسهم أمام المرآة، من قبيل السطو على مقولات علماء التجنيس الغربيين دون أية إشارة تُنَـزِّه كتبهم فضلاً عن أن أولئك (الحذاق) يهرفون بما لا يعرفون، فهم في كل واد معرفي أدبي يهيمون، وكل موجة يعتلون!! واستناداً إلى هذه الحيثية التي اشاعها (بعض) الكتاب (المتفيهقين المتشادقين) فقد شهدنا سباقاً (ماراثونياً) بين أبعاض هذا البعض، وكل يدعي اكتشاف حقائق في مساحة الإبداع الجاهلي، فهذا يثبت أن الجاهليين عرفوا فن المسرح، وان جمهور الأسواق كان دائماً على موعد مع أعمال مسرحية!! (متطوّرة) وذاك يؤسس على (هذا) ان العرب مارسوا فن التمثيل وحذقوه فالحكواتي كان يمثل أمام جمهوره، وكذلك الشاعر بين مستمعيه، فضلاً عن الولع بخيال الظلّ!! ثم ينبري آخر ليحدثنا عن الإنشاد الأوبرالي وأن الأعشى كان يمسك آلة الصنج الموسيقية الوترية وينشد أشعاره إنشاداً اوبراليا!! وإذا كان الأمر بمثل هذه السهولة !! مجرّد زعم بلا أدلة فقد ظهر كتاب آخرون فوجدوا طريق الادعاء ممهداً، فزعموا أن العرب الجاهليين برعوا في فن الرواية.. إلا أن الرواية كانت شفهية لعدم شيوع الكتابة والقراءة، وان الرواية كانت متوفرة على عناصرها المعروفة.. ما أكثر المزاعم التي يحدو أكثرها هدف نبيل وهو أن العرب ليسوا أقل شأناً من اليونان والرومان! ولسنا الآن في معرض محاورة أولئك او مفاتشتهم، وكنا نتمنى عليهم ملاحظة المسرح السومري والآشوري والبابلي في بلاد وادي الرافدين ومسرح بلاد وادي النيل، وملاحم التكوين وجلجامش وتموز وطقوس الاستسقاء والخصب والزواج ورقصات الحب والحرب والسلام، وقد شاهدت بنفسي بقايا مسرح مدرّج كبير وفخم في بابل ومسرح آخر في قصر الأكيدر (قرب عين التمر) في العراق، ومسرح كبير ومتطور جدا في مدينة صبراتا (قرب طرابلس-ليبيا) فكواليسه تتألف من سبعة طوابق وهو قائم على شاطئ البحر… وثمة غرف لراحة الممثلين وأخرى لاستبدال ملابسهم، وقد تحدث هيرودوتس عن هذه الفنون حين زار بابل وجيمس فريزر في غصنه الذهبي (كتابنا الزمن عند الشعراء العرب، قارن طقوس الإستسقاء) وقد يعترض معترض على قولنا، فيقول ومن أدرانا أن الذين بنوا المسارح البابلية والمصرية والليبية هم عرب؟ والجواب بكل بساطة هو أن أولئك البناة كانوا أجدادنا، ولا أحد يراهن على صفاء الدم، وهذه المسارح مقامة في أرض عربية شعباً وتاريخاً وسماء… زد على ذلك أن فنون أولئك السلف تمتلك وثائق لا تدحض، أما فنون العصر الجاهلي المتخصصة مثل المسرح والملحمة والأوبرا.. فهذه أمور لا تمتلك دليلاً عقليا ولا نقلياً!! وسنحاول فيما يأتي لاحقاً رصد عدد من الفنون النثرية السردية بحدود المتاح والمتوفر. الفصــــــل الثانــــــي (أنمــاط الســــّرد) إن الحديث عن الحدود بين أنماط السّرد أمر تكتنفه إشكالات كثيرة! بسبب حالات التداخل بين الحدود! مثلاً : يتحدث د.محمد يوسف نجم عن القصة وعناصرها ويقدم بين يدي حديثه شواهد منتقاة من أعمال روائية معروفة! وكتابه على أهميته وريادته خال من فكرة ترسيم الحدود بين الأنماط السردية! أما احمد أمين فتعويله في ترسيم الحدود قائم على مساحة النص و توريخه، وسواهما معني بترسيم الحدود بين خطابي الشعر والنثر!! وقلة أولئك الذين جابهوا الحدود وحاولوا تلوين أنماط السّرد! والقصة كما مرّ بنا: مساحة من الأحداث غير القابلة للنمو؛ وربما تركت القصة مؤشرات للنمو قد يعيد القاص صياغتها في عمل لاحق؛ وخيال المتلقي في القراءة الأولى أو اللاحقة؛ فالقصة تأخذ مقطعاً طولياً أو عرضياً لحياة فرد معين أو جماعة ثم تضاء بؤرة في هذا المقطع ليشتغل عليها القاص؛ فقد تستغرق القصة صفحة واحدة (فل سكوب) أو خمساً.. أو خمسين أو اكثر دون أن تفتقد شيئاً من طبيعتها أو تنهب مقداراً من حدود الرواية؛ فالقصة قصة وان طالت وان قصرت، والرواية رواية وان طالت وان قصرت وإذا كان الغربيون مبكرين في دراسة أنماط السرد، وتشريح ماهيات الأنماط، والتآلف مع مصطلح الرواية، فان العرب لم يدرسوا هذه الأنماط إلا متأخراً، ولم يكن مصطلح الرواية قارّاً ! وقد أوقع مصطلح (الرواية) و (الراوي) في العصر الجاهلي الدارسين في إرباك شديد، وكانت الرواية منصرفة إلى رواية الشعر ثم تحولت دلالاتها فباتت في العصر الإسلامي تحيل إلى رواية الحديث الشريف.. والمحاولات الدراسية العربية كابدت هذا الالتباس في المصطلح كثيراً.. ثم اضطرت إلى استعماله يقول أن حركة النقد الأدبي المعاصر قد شهدت في العقدين المنصرمين حوارات متشعبة حول تأصيل الأجناس الأدبية وترسيم حدودها في الأدب العربي وقد احتلت موضوعات عمود الشعر وقصيدة النثر مواقع متقدمة في ذلك الحوار، الذي ما زال مستمراً بصيغ وأشكال مختلفة، ويأتي اهتمام حركة النقد بموضوعي القصة والرواية وعلاقتيهما بالأجناس الأدبية، موازياً لاهتمامها السابق بالشعر، وقد اجتهد الباحثون في هذا المضمار، فحاول كل منهم صياغة رؤيته للقوانين الناظمة في تجنيس فنون السّرد العربي) وقد تواتر تقسيم الأنماط السردية على قصة و قصة قصيرة جداً وحكاية ورواية ومسرحية وسيرة ومقالة.. 1- القصـــــة: هي نص نثري قوامه مجموعة من الحركات والأحداث يوظفها القاص للتعبير عن رؤية محددة؛ لشطر معين من الحياة، ضمن إطار من الوصف والحوار والأحداث والحركة؛ وتختلف القصة عن القصة القصيرة short story في أنها تصور مساحة زمنية وحدثية أوسع في آن إن القصة القصيرة تتناول مقطعاً أو عينة من الحياة وثمة فن آخر هو القصة القصيرة جداً وهو فن يعتمد اختزال مساحة النص إلى أقصى حد، فلا يزيد عن ربع صفحة فلسكوب كما يعتمد الومضة أو الصدمة بما يقرب القصة القصيرة جداً من آليات قصيدة النثر!! وتعتمد القصة على عدد من العناصر المكوّنة لبنيتيها: الداخلية والخارجية،منها الاستهلال والحركة والحدث والفكرة واللون السائد وإطار الحدث والبطل الرئيس والبطل الهامش، والذروة والتشويق والخاتمة….الخ ويرى أحمد أمين أن هناك حدوداً (حجمية) و (تاريخية) بين القصة والرواية والمسرحية (القصة ما كانت قصيرة والرواية ما كانت طويلة؛ والمسرحية ما كانت رواية تمثيلية، فمن الناحية التاريخية كانت المسرحية اسبق من الرواية لأنها نشأت قبلها.. وواضح أن المسرحية والرواية تتكوّنان من عنصر واحد) ورأي أحمد أمين يبسِّط الحدود بين القصة والرواية ثم يضببها لينأى بها عن الاشتراطات الفنية والموضوعية!! ونحاول لاحقاً تحليل عدد من عناصر القصة: 1-الحدث: ليس ثمة قصة دون حدث، فهو حركة القصة باتجاه همومها الاجتماعية والفنية، وينبغي أن يكون الحدث مقنعاً فلا يشعر القارئ أن الحدث مقحم وقد تمحل فيه النص القصصي! أحياناً تقرأ قصة فترى أبطالاً خشبيين بمشاعر لا تشبه مشاعرنا، يصنعون حدثاً (همايونيا) لا يحدث في الواقع على أي نحو كان، وإنما يدور في القصة، الأمر الذي يوصد الباب بين الحدث القصصي المختلق والحدث الواقعي الفني!! وقد نجحت القصص البوليسية وقصص المغامرات والحركة في اجتذاب عدد كبير من القراء، بيد أنها لم تؤسس لها وعياً وفناً عاليين فبمجرد أن ينتهي القارئ من قراءتها، يتخلص منها ليبحث عن سواها، وإذا وقعت هذه القصص بين عيني قارئ ناضج مولع بأدبية الفن القصصي شعر أن تلك الأعمال إنما كتبت لذوي الوعي البسيط، وللمراهقين، وهي على أحسن فرض مكتوبة لتزجية الوقت وقتل الفراغ. 2-العقدة أو البؤرة: وهي الحالة التي يسعى إليها الحدث والأبطال حثيثاً دون أن يشعر القارئ بالإقحام، فإذا اتضحت العقدة، شدت إليها كل عناصر القصة وبات على القاص والمتلقي البحث عن حلول لها، ويفضل أن تكون العقدة من جنس البداية، والعرض وان لا تكون مبهِظة (كسر الهاء) أو ساذجة تعتمد على المفاجآت مع الإشارة إلى أن القصة الحديثة ليست معنية بالحلول التي تطفئ أوار الحدث وتسوِّغ العقدة كما أن القصة الحديثة غير مسؤولة عن نقل البطل والقارئ المتعاطف معه إلى مراقي الطمأنينة والسرور! 3- الأشخاص : ويتميز البطل بينهم ، والبطل تسمية مدرسية، إنما هو واحد منا يشبهنا كثيراً، وقد يجد القارئ حالة تماه بينه وبين البطل، المقنع الذي يصارع عتوّ الآخرين وأطماعهم بإمكانات الإنسان الاعتيادي! ونحن قبالة ابن البلد أو ابن المحلة أو زميل دراسة أو تِرْب (كسر التاء وسكون الراء) ولسنا قبالة super man أو الرجل السامي over man وكلما كان البطل حديدياً كلما كان النص هشاً، زد على هذا أن القصة الناجحة هي التي لا تدع البطل مستأثراً بالضوء كله، بحيث يلغي الحدث والأسلوب وقدرتنا على الإعجاب به واستساغته لأنه يجر شركاءه من الأبطال الثانويين إلى الظل مثل أي حاكم عسكري!! وغالباً ما تركِّز القصص الملتزمة أو القصص ذات الهاجس الإعلامي أو التبشيري على شخصية البطل الفردي الخارق الذي لا يؤثر فيه الرصاص ولن يناله القَصّاص ولن تنال منه دسائس الآخرين، لأنه بطل آت من خارج النص، من خارج زماننا وهمومنا وبعيد عن السياقات الفنية والحياتية. 4- التشويق: مفردة تتصل بطبيعة الموضوع وتقنية القصة، بحيث لا يبدو التشويق تملّقاً للقارئ واستغفالاً له، أو إنقاذاً للقصة من الهبوط والملل وقد يتركز التشويق على الحدث أوالبطل أو الفكرة أو اللغة الفنية أو إشراك المتلقي في المعضلة أو الحبكة، فبعض القصص استعان بالطبيعة حتى قيل ان الطبيعة يمكن أن تكون بطلاً تاماً لأية قصة تحذق الإفادة منها، وقد بات التشويق شيئاً من سر المهنة، بعض القصص يسلِّط غضبَ الطبيعة على الأبطال السلبيين من زلازل وفيضانات وحروب وكوارث، ويوظف (سالنجر) المدرسة وغرفة النوم والزقاق لقول أشياء شائقة تنوب عن كلمات البطل أو الآخرين، ثم يكثف هذه الصور بوصف مختصر ويجعل وَكْدَ قصصه في اللامتوقّع من تصرفات البطل الرئيس أو الثانوي!! وموسى كريدي (قاص عراقي) ينطلق في تشويقه القصصي من هتك التقاليد المتعفنة والنوايا السيئة الخبيئة دون أن يحرج نصه أو قارئه بهلاميات الوعظ!! 5- شخصية القاص: تكون غائبة على السطح، والقاص مثل الممسك بالخيوط في مسرح الدمى، يرى الناس حركة البطل الخشبي ولا يرون شيئاً من هيئة ملاعب الدمى! فكيف إذن يتسوغ ضمير المتكلم في القصة؟ والجواب أن ضمير المتكلم لا يعني بالضرورة صوت القاص! فالقاص الحاذق محايد (علىالسطح) ديمقراطي وصبور يترك الحرية للحدث والأبطال في الحركة دون إشعارنا بتدخله (الخفي)، ومعلوم أن اعظم القصاص هم أولئك الذين يدرسون أجواء قصصهم قبل كتابتها، ويخططون لها؛ ويعايشون أبطالها بحيث تأتي متطابقة مع حلمهم الفني والاجتماعي ومتطابقة أيضاً مع كم القرّاء ونوعهم! وفي كل ذلك يكون الصدق الفني الوصفة السحرية لنجاح أي عمل! ومعلوم ذلك الفرق بين الصدق الفني المستند إلى تجربة ومقدرة ووعي، بحيث يقنع ويبهج وبين الصدق الأخلاقي الذي يتّعظ ويعظ ويستعطف القارئ لكي ينحاز الى جانب الفضيلة ويتجنب الرذيلة، وذلك ما يؤخذ أحياناً على أعمال المنفلوطي التي تمُعِن في إبكاء القارئ ليتطهّر من الأرجاس!. 6- المعالجة: القاص فنان استثنائي والقصة فن استثنائي، فالمتلقي ليس قارئاً وحسب وإنما هو يشاطر القاص في صناعة الأحداث والمناخات والمعالجة، النص يترك مساحات ومسوّغات لتدخل مخيال المتلقي في المشاطرة، دون أن يهبط بأدواته إلى مستوى تملّق المتلقي وإرضائه بوسائل غير فنية، وهذا يفسّر انحسار الضوء الذي أحاط ببعض الأعمال القصصية التي كتبها أناس لاحظوا الملامح الاجتماعية للمكان الذي يكتبون عنه؛ فإذا كان المجتمع علمانياً طلعت القصص التي تدغدغ المشاعر العلمانية! وإذا كان التيار دينياً وضعت القصص التي تخطب ودّ الناس وتدعوهم إلى نبذ المعاصي واتقاء عذاب جهنم! وإذا كان الشارع الثقافي خاضعاً لتأثير موظف (مهم) أو تاجر (مرموق) أو داعية (خطير) وُجِدَتْ القصص التي تناجي مشاعره ولا تعبر خطوطه الحمراء!! والأمر ليس على هذا النحو، بإمكان القاص أن يتأثر بالمحيط والأحداث والأشخاص، بل ينبغي له أن يتأثر ولكن عليه أن يتأثر بوصفه فناناً مبدعاً يرى قامته بارتفاع أعلى نخلة أو شجرة في محيطه وليس بوصفه نهّازاً يخضع فنه لحسابات الربح والخسارة الماديين! الفنان الحق يتجاوز بقصته الزمكان الواقعي اليابس، الى زمكان حلمي مؤنّق مدخلاً تقنيات القصة في مفردات المعالجة؟ …فقد تبدأ القصة على النحو التقليدي: استهلال –عرض- عقدة- تنوير- خاتمة، وقد تبدأ القصة بالخاتمة أو من الوسط ثم تستنجد بتقنيات الاسترجاع والمونتاج لوصل لحمة القسم الأول بالقسم الثاني، والقاص الموهوب يدرك كيف ومتى وأين ولماذا يبدأ أو يعرض أو يختم. 7-الحبكة intrigue: وتعني هذه (الكلمة) في جذورها: الخدعة وإثارة الفضول وتعني الآن شدّ أجزاء القصة الى بعضها وجعلها تدور حول بؤرة العمل حتى لتبدو حوادث القصة متسلسلة متجانسة وهي على نحو آخر صياغة كل مفردات القص في سبيكة واحدة هي جسد القصة؛ ويرى أرسطو أن الحبكة هي قلب التراجيديا ونواتها أو روحها؛ ثم تأتي الفكرة والهموم الأخلاقية لاحقة وتابعة لها؛ مؤكّداً على وحدة الحبكة الناجمة عن صلة العلة بالمعلول والضرورة بالمسوغ . *لحظة واحدة من فضلك، قصة عبد الستار ناصر .. الى هديه حسين: آخر الصور: سهواً فتحت البوم الصور، تلك التي جمعتني بالعشاق والأهل والأصدقاء، بالنساء اللواتي أحببتهن طوال ثلاثين سنة من الصبا والخداع… سهواً رأيت نفسي في شوارع باريس أغازل امرأة في “البيغال” أضحك أمام شاشة عريضة نقلت بحث “شارلي شابلن” عن الذهب وكيف انه اغلق باب بيته على نفسه حالما أخبر أن الجماهير ما عادت تضحك أبدا على أسلوبه السلفي العتيق. رأيت في ألبوم ذكرياتي كيف أنني تزوجت سهواً ثلاث مرات وأنجبت ثلاثة أطفال، كيف أنني مضيت الى “القاهرة” أكثر من عشرين مرة، ولم أتمكن أبداً من اكتشاف نفسي وأخطائي.. رأيت “المونمارتر” وخجلت من أوراقي: كيف أنني لم أفكر يوماً بالفقراء برغم أنهم من الطين الذي احتواني ورماني إلى الحياة. كم عدد صفحاته.. ألبوم الصور الذي اشتريته ذات يوم من “كونستانسا”؟ من جاء بهذا “الهرم” الشامخ العنيد وألصقه خلفي؟ من أضاء وجهي قبالة برج إيفل؟ من أخذني الى جبهات القتال وأيقظ ذاكرتي في “شرق البصرة” ومعي منذر الجبوري؟ من أعطاني الحق في الجلوس قرب “فاليري جيسكار ديستان” بعد ان اشترى البطاطا من سوق الأحد الرخيص؟ سهواً جرى ما جرى، إلا يوم رأيت نفسي على “جمل” في “صحراء سيتي” وأنا أغني طرباً واسابق “عمر خورشيد” في قطع الشوط الى الجيزة، ترى حقاً من علّمني الغناء ليلتها بينما الخمرة لم تصل بعد إلى فمي؟ سبحان الله على ما أراد لي، كيف أنني رميت نفسي بنفسي إلى “الإسكندرية” وغرقت فوراً في بحرها اللامع الأبدي، تُرى من أنقذني يومها ومَن “صوّره” وألصقه في ألبوم حياتي؟ هاهو نفسه على الصفحة الرابعة يضحك -وله الحق في ذلك طبعاً- فقد أنقذني من الموت. والدليل: تلك الصورة العجائبية على الصفحة الرابعة من حياتي. سهواً ، رأيت هذا المكان البعيد من خارطة الدنيا، مطر وعواصف وجبال تتصدع كيف تراني احتملت ذلك كله؟ وإن كنت حقاً تمكنت من البقاء حياً، فمن هو المجنون الذي التقط حالات الرعب والبرد والرياح واختصرها في صورة واحدة؟ هكذا الحال في الجزائر يوم صارت ملامحي، -محض خلل في الكمبيوتر- تشبه ملامح إرهابي شهير من عائلة “بادر ماينهوف” واحتل وجهي يومها شاشات العالم كلها وأجهزة المخابرات ومخزون الليزر وفراغات الديسك التي قالت بالحرف الواحد: عثرنا على “عطية الله الحلبي” الهارب من رحيق العدالة، ولا أحد منهم يعلم حجم سعادتي وأنا أرى نفسي في كل جزء من الكرة الأرضية، حتى أعادوني إلى وكني وهم يعتذرون (مع مجموعة من الصور الجميلة التي نشروها في وكالات الأنباء والصحف الرسمية وأجهزة الرصد الخاصة بأعظم المهربين والقتلة ورجال المافيا) يا لهذا “الخطأ” الممتع كم أعطاني من اللذة والنشوة ما يكفي عشرات السنين، ها هو الخطأ الحلو أراه في ألبوم الصور: كيف أنهم جرجروني بسلاسل من فولاذ، نقلوني من الجزائر صوب “أمستردام” ثم إلى “كوبنهاجن” ولم استقر فيها غير نصف ساعة حتى أجلسوني في مطار “هيثرو” بحراسة ذوي الثياب السود، إذا بهم فجأة يضحكون وهم ينـزعون السلاسل من يدي ويشربون الشاي معي، بل ويلتقطون الصور الى جانبي وأمامي ولصق أصابعي، ثم يعتذرون مني، حتى إذا ما أعادوني الى الجزائر ثانية أعطوني خمسة آلاف دولار تعويضاً عن الخطأ الذي “سقطوا” فيه دون ذنب جنيت، وما مِنْ أحد منهم يعلم حتى اليوم أية لذة عشت فيها وأنا أرى العالم حولي ينقل أخباري وموجزاً ما اقترفت من جرائم حول العالم، يرسم ملامحي على شاشات التلفزيون في كل جزء من هذا السحر العالمي المنفوش الذي يسمونه “بادر ماينهوف” والذي كان على رأس عجائبه “عطية الله الحلبي” انا؟. عدتُ بكنـز من الصور التي ما يزال بعضها يبتسم وبعضها يشكون في ألبوم حياتي، جمعتها، تلك الذكريات التي تشبه المستحيل، مع أيام البارات والمقاهي والنساء، كم من صديق مات هنا؟ كم من امرأة هجرتني؟ كم عزيزاً راح ولم يعد؟ كم حلماً غادرني وكم من بلاد لم أعد أفكر فيها؟ ها هي جبهة القتال على امتداد حدود البصرة، الشهيد عامر والشهيد مهران، كلنا في صورة واحدة نشرب الشاي في زورق بحري يقطع المعجزة نحو العدو.. “انـزل هنا، المهمة بالنسبة لك أن تكتب، أما البقية منها فهذا عسير عليك”. وأنـزل في نهايات شط العرب، أنام بقية الليل في “فندق حمدان” حتى يجيء الصباح الذي أسمع فيه كيف غادرني عامر وعبد الزهرة ومهران دون أن نشرب الشاي ثانية الى يوم الدين؟ بقينا نحتسي الشاي في الصورة فقط. رعشة برد داخل مرقص “ميناهاوس” وحمدي خلف ينتظر الغجرية السوداء حتى تنتهي من جنونها ليأخذها صوب ملذاته المعتقة (مكتوب على ظهر الصورة: الذكرى ناقوس يدق في وادي النسيان).. تحت زحمة من غيوم يجلس “شاكر نوري” في مقهى جورج الخامس مع أخطر كاتب قصة في الوطن العربي ويضحك: -أتراك تعني ما تقول ؟ المجلة قد ترفض هذا الحوار. ثم يأخذني قرب “اللوفر” وأنا أضحك (في الصورة أيضاً) على حضارة هناك سرقوها منذ مئات السنين وكانت “أخطر ما نملكه ذات يوم . عند “متحف الإنسان” ليلة أعياد الميلاد، خلعت حذائي في باريس ومشيت حافياً،كان أول يوم أخلع فيه شيئا وأنا اغازل حريتي أمام الناس وأضحك مثلهم علىما انطوى من خراب وحروب.. لكن الصورة في “حي سوهو” كانت مختلفة تماماً ومعتمة جداً، برغم ذلك احتفظت بها لئلا أنسى بمرور الزمان. ملامح فوزي كريم. لم أقف أبداً في شوارع “لندن” ولا في “شمبارة الميمونة” ولا في “كازابلانكا” كنت أمشي بهدوء مضحك لا يناسب ثورة جلدي، لكن الصور التي مازالت تحت يدي –غريب أمرها فعلاً- تخبرني عكس ذلك، لا ادري حقاً كيف ترغمك الصورة على لحظة ما تيقنت منها ولا تدري أي شيء عنها في كل جزء مضيت اليه من شوارع الدنيا وأسواقها وباراتها هناك شيء خاطف باهر لا يمكن اللحاق به ولا تملك أن تحكمه بأمرك والآن اصبح ذلك كله في متاع الكهولة في وداع الصبا،محض ابتسامة حزينة في نهاية الشوط، على بداية ماجنيت منها سوى انتظار المعجزة. ثم انـزلق الجبل على قطعة مرمر! أي جبل هو الذي انزلق يومها على قطعة مرمر؟ في الصورة رأيت نفسي تحت كوم رهيب من الحجارة و”خفرع” يمتد نحو السماء، لا أحد في مصر كلها يعرف السرّ غيري؛ أصابني الرعب من كثرة الموتى وكثرة الصور التي أعادتهم الى الحياة في ألبومي.. أي زحام عجيب هذا؟ لماذا لا يموت، دون بقية ركاب الريل، غير “نصر محمد راغب” وهو يحمل في دفتره الأنيق آخر ضحكة جمعتنا في شارع الرشيد؟ يا لتلك الصورة كيف أخبرتني سهواً متى سيموت ذلك الصديق العجيب! عيني على باب البيت، أعرف أن لا أحد يطرقها بعد اليوم، فقد ذهب العشاق والمحبون ولم يبق سوى الغرباء.. لن أمتحن جسدي بعد الليلة ولا أبكيه، خذلتني الدموع يوم رأيت الموتى يسرعون الى المقبرة.. تمهل قليلاً يا محمود، ما بالك تلهث فوق جسر “الشهداء” يا ابن جنداري، قف رجاء يا موسى كريدي،ما هكذا نحتسي الشاي ونمضي دون سلام ولا كلام..وحتى إن رحلت دموعي، سأعرف كيف أكفكفها بمنديلك يامحمد، يا أحلى-حقاً- من شمسي وغروري وحياء هذا الدمع المظلوم. كلهم، هكذا دخلوا سهواً إلى آخر الصفحات وستبقى هناك دائماً بقية تكفي ابتسامة في بيروت لا أدري من سيأتيني بها، تكفي قبلة في شارع “الشانـزليزيه” لا أعلم من سيلتقط شفاهها.. معي بين ضلوعي ملامح أطفالي لا أحتاج من يدلّني أو يذكرني بها، غير أن ألبوم “كونستانسا” ما يزال يشير الى سنواتي وملذات عمري وأخطائي. أما أيام قتلي في سراديب الفزع المغلقة على جلدي، فوحدها، هناك .. وطوال عام واحد من النحيب والصراخ أتلوى وحدي، حيث .. لا صورة. الليرة وبائع المثلجات – قصة د. احمد زياد محبك: “تعال يا علي” يناديه جده بحنان، وهو يشير إليه بعينيه، ويده إليه ممدودة. وتدفع به أمه، فينـزل من المقعد الذي كان فيه بجوارها، ويمضي نحو جدِّه بهدوء وتردد “تعال ، تعال يا علي” ويضمه جده إلى صدره، يقبّله ويضع ليرة في يده. ويدخل عليهم ابن خاله فاروق، فيلمح الليرة في يد علي، فيسرع إليه، ليقول له: “وأنا جدّي أعطاني ليرة، صار معي ثلاث ليرات، أبي أعطاني ليرتين، أنت كم أعطاك أبوك؟” وتنهض أم علي لتخرج، وقد امتلأت عيناها بالدموع. ويصيح الجد بفاروق: “هيا، هيا يا فاروق، اذهب أنت وعلي وكل الأولاد، اذهبوا الى الساحة، تفرجوا على المراجيح، اشتروا ما شئتم” ويمسك فاروق يد علي، وهو يقول له: “هيا، سنشتري مثلجات” وقبل أن ينطلق الأولاد، يقول لهم الجد “تنبهوا جيداُ، ثياب العيد جديدة، حافظوا عليها” الأولاد يتزاحمون أمام بائع المثلجات، كل منهم يمد إليه يده، ويفد عليّ على البائع مع أولاد خاله، البائع يصيح بهم: “بهدوء بهدوء، وبالدور” ويمد يده يجمع الليرات من هذا وذاك، حتى يستوفي النقود من كل الأيدي الممدودة، ثم يبدأ بمناولة الأولاد المثلجات،وهو يعمل بسرعة وجدّ. فاروق يأخذ قطعته،ويركض بها؛ سناء تأخذ قطعتها. أمجد يأخذ قطعته علي ما زال يمد يده ، ينتظر دوره. خالد يأخذ قطعته. علي ما يزال ينتظر يفد أولاد آخرون، يمدون أيديهم بالنقود، وهم يتصايحون، كلٌّ منهم يريد مناولة البائع ليرته. عليّ ما يزال ينتظر البائع يصيح بـهم: “بهدوء، بهدوء يا أولاد، بالدور، عندي مثلجات كثيرة” البائع يمد يده، يجمع النقود من هذا وذاك يد علي ما تزال تمتد، وهو ينتظر البائع يصبح به: “وأنت، أين ليرتك؟” “أعطيتك ليرتي” “كذّاب” علي يلتفت، ينظر الى الساحة، يرى أولاد خاله يتراكضون فرحين وبأيديهم المثلجات،وهم يلعقون سائلها الشهي، ومن حولهم المراجيح والباعة والعربات. أولاد خاله غير منتبهين إليه. يلتفت الى البائع يؤكد له: “والله يا عمي أعطيتك” : البائع يزجره: “ابتعد، لا تحلف بالله، لص كذّاب” شفتا علي تتقلّصان، صوته يتهدّج: “والله ، والله يا عمي” ويغص بالدموع. البائع يصيح به،وهو يهم بضربه: ابتعد، كذّاب” ويأخذ في مناولة الأولاد المثلجات، وهو يغمغم: “كذاب، الذنب ما هو ذنبك أبوك ما رباك” ويعلو من بين الأولاد صوت يقول: “حرام لا تشتمْه، أبوه ميت” علي ينسحب من بين الأولاد، وهو يبكي. يلتفت الى الساحة، يرمقها بنظره والدموع تملأ عينيه ثم ينطلق. علي يدخل على جده ، والدموع تنسكب من عينيه، وهو ينشج ويُنهنه جده يستقبله بذراعين مفتوحين، ويسأله: “ماذا حصل؟ هل ضربك أحد؟ هل أضعت الليرة؟ أين أولاد خالك؟!” علي يقف أمام جده،يمسح دموعه، يخبط الأرض بقدمه،يصيح، وهو يغص بالدموع “لماذا قلتم أبي مسافر؟ لماذا كذبتم علي؟” 2- القصة القصيرة جداً: استحدث هذا النمط في أدبنا العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وقد تأثر بالنمط الغربي للقصة القصيرة جداً وبقصيدة الهايكو اليابانية! وهذا النمط يشترط قصر المساحة إلى أقصى حد فقد تستغرق قصص هذا النحو الربع صفحة فلسكوب على أكثر تقدير، إلا أن لها آليات تشترك فيها مع القصة نادراً وتناكفها غالباً!! وكادت القصة القصيرة جداً أن تنسى حدودها مع قصيدة النثر وقصيدة الصورة اليابانية، فهي فن لم يكتمل بعد مع أنه يمتلك جاذبية عالية، والقصة القصيرة جداً ومضة سريعة تحاول تكثيف مساحتها إلى أبعد حد . وقد انتشر فن القصة القصيرة جداً في الوطن العربي خلال وقت قياسيّ السرعة!! وكانت انطلاقته الأولى من مصر والعراق وسوريا ولبنان ثم وجد مزيداً من المبدعين والمتلقين الذين استظرفوه في بقية أقطار الوطن العربي المشرقي منها والمغربي على حدّ سواء، ومازال هذا الفن متربعاً على مساحة كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام والقراء والدارسين.. إلا أن مبدعاً عربياً واحداً لم يتخصص في هذا الفن، وكل ما نلاحظه الآن هو أن هذا الفن مشاع لكتّاب الرواية والقصة والقصيدة.. فليس ثمة حدود واضحة له سوى المبالغة في وضع أكبر قدر ممكن من الشحنات القصصية في أقصر مساحة، وقد جمع موريس شابلان في مختارات من قصائد النثر عدداً من التقنيات المختلفة ذات الحدود النوعية المختلفة فكان النقاد يرون أن قصائد شابلان النثرية هي مزيج من: أ-قصيدة النثر ب-حكايات فورنيريه ج-شظايا من رويات روسيل د-ومضات من مذكرات جي رينار. نماذج من القصة القصيرة جداً تحت الأضواء في الزحام – عمر أبو القاسم الككلي (قاص ليبي): امرأة ورجل يسيران تحت الأضواء، وسط الزحام الكثيف، بمناسبة اقتراب العيد، المرأة طويلة ذات بنية عريضة قوية وممتلئة بملامح غليظة، والرجل قصير نحيف ذو شعر أجعد يرتدي نظارات طبية ذات عدسات سميكة بوجه متغضن. ربما بسبب طريقته في التحديق بعينيه المريضتين، وهو من النوع الذي يحار المرء في تقدير عمره، ولا يؤثر الزمان في ملامحه سريعاً! المرأة تخاصر الرجل بيدها المتينة والرجل يسير بشكل مائل الى الخلف قليلاً بحيث يبدو كما لو أنه سيسقط طريحاً على ظهره. فجأة يتحادثان ويضحكان. ضحك الرجل وما يطفح على وجهه من تعابير يعطي انطباعاً بأنه ينطوي على شعور غامر بالزهو أكثر مما هو شعور بالانشراح. ضحكُ المرأة وتعابير وجهها يعطيان انطباعاً بأنها ممتنة ومغتبطة وليست مزهرة. أن تنتظر – منتصر القفّاس (قاص من مصر): دون أن تكون مهيئاً لذلك تتركك وحدك وهي تتوارى وراء ستار سميك؛ تحدس بوجهها، فتخرج رأسها وتسألك عن أحوالك فتجيب وأنت تثق في أنها ستختفي سريعاً، ويعود الستار بينكما؛ تحاول أن تتذكر بماذا أجبتها؛ فتعرف أن كل إجاباتك كانت محاولة لتصنّع الاتزان والقدرة والقوة، ولم تكشف عن حالك وأنت تعيش أمام ستار لا يمنحك الا تموّجات تكاد أن تختفي قصص قصيرة جداً – هدى العطّاس (قاصة يمنية): 1-اخضلال: مخضلة بالشاي، كانت الملعقة ترقص وسط الفنجان، بعد أن ذاب السكر، مسجّاة، كانت على الطبق بإهمال. 2- ســعة: كان فضاء الغرفة أضيق من أن يتسع لانهماراتهما؛ عندئذ سكبت عينيها داخله وانسابت. 3- إغماضة: جسد يشرع نوافذه، يعمر متنه، يبرّز القول! قالت: اللمسُ لغة! حط عصفور عشه بينهما، نامت شجرة القلق؛ فتحت الصورة أجفانها، أغمض الضجيج عينيه، وقال: الغصون لا تذهب سوى لنهرها المنتظر واعتلى فضاءه. وإذا كانت هدى العطاس قد أعلمتنا في (اخضلال) و(سعة) و(إغماضة) أنها تنسب هذه الثلاث إلى فن القصة القصيرة جداً، فضلاً عن أن القصص الثلاث امتلكت تقنيات القصة القصيرة جداً وحدودها! إلا أننا نقرأ لهدى العطاس نصوصاً فيما بعد لم تجنّسها!؟ ونشرتـها الصحيفة غفلاً إلا من العنوان! زد على ذلك أن هذه النصوص التي سنقرأها لاحقاً لا تمتلك حدوداً بين الخاطرة وقصيدة النثر والقصة القصيرة جداً!!وإنما تابعنا القاصة الشابة هدى العطاس لنعزز قولنا أن الإشكالية في القصة القصيرة جداً كامنة في حالات الاشتباك بينها وبين الخاطرة وقصيدة النثر وقصيدة الهايكو اليابانية وسنجترح لها عنواناً هو(نصوص)حتى ننأى بشغلنا عن الخلط بين حدود الأنواع.. نصوص – هدى العطاس 1- فيض الرؤى: رأيت فيما يرى الصائم أن هناك قمراً أطل على شرفتي.. نوراً أقل قمري! نوراً أقل. ورأيت فيما يرى النائم أن شرفتي قد اتسعت حتى اكتظت بما في أرضي، ورأيت متسولين وقد كفت أيديهم عن ذلك وحفاة وقد انتعلوا، وعراة وقد لبسوا، وجائعين وقد طعموا، رأيت الكتب تتوسد الأيدي والعلم يسكن الأدمغة، والنور يشرق في النفوس، ورأيت الحرية تمشي حرة على قدمين وتصافح الجميع، والأمان يقف على أعتاب الشرفة فيحرسها من غير المرغوب فيهم. رأيت الأرض وقد أينعت واخضرت أعواد الحقول. رأيت بيوتاً تسدّ عين الشمس وشوارع وقد رصفت وأبرقت، رأيت رجلاً وامرأة ونهراً شفيفاً ينساب بينهما . ورأيت فيما لا يُرى بقعة من ظلام اهتدي بها. 2- اندياح : لي مايشبه الصيف / ولحم نافذتي لي / واطلاله للعابرين / لهم ظل الشجيرات / وندى الباب.. وما تبقى من الطل على عتبتي /ولي إغلاقة السر/ وما صان قلبي من ألم. 3- جرس: تلك السيول التي تجلجل بأجراس الروح/هل غادرت جثثها، هل تنبت ما تستحقه من شجر/أي بصيرة للماء/تقتفيها عيون السيل../حين فضاء يعتلي الماء/تلكم غيوثي/واحتمال مطر.. 4-غيث: أول الغيث كان تلك القطرة المضطرة للسقوط.. آخر الغيث كان الهبوط . *الجثة – دريد يحيى الخواجة أينما ذهبت أتيقظ على رائحة جثة.. لعلها تحتي حيث أجلس، أوفي الغرفة المجاورة لي، أو قد تكون مسجّاة على باب المنـزل المغلق.. بدأت أشك في كل الناس.. كثيراً ما تشتد الرائحة في أنفي، تفغمه بقوة متزايدة، وأنا أحدّ النظر إلى من حوالي مستنكراً.. أنفي يسألهم عما أشتم وأكاد أتقيأ منه.. بيد أنني في كل مرة أرتد خائباً، لا أحد يستشعر هذا مثلي.. تعذبني تصوراتي الجثثية وما يعقبها من رعدة، واضطراب، ومرض.. ألم يفكر أحد بجثة في مكان، ولم تأت رائحة جثث على مكان، ولم يخبئ أحد جثة في مكان.. بدأتُ أغضب غضبة شديدة من هذا الخبث الذي يلاحقني وألاحقه ولا أرى منبعه.. لم أجد حتى كلمات تصرّح بما أتيقظ عليه.. وأدخل طقسه النـتن.. حتى لا أتهم بالجنون زاد صمتي وزاد تفشّي الرائحة.. أخيراً لقد كان حذري سديداً لأنني، اكتشفت أن الرائحة صادرة عني.. وكانت تخصني وحدي .