النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 10
الفصــل الــرابـع أ / المقـــالـة ب/السيرةالذاتي أ / المقـالـة Essay
المقالة ديباجة قصيرة في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع، تنشر في صحيفة أو مجلة، وهي كلمة محدثة جاء في اللسان (قول) المقالة والقالة والقول والقيل: الكلام على الترتيب وكل لفظ قال به اللسان وهو المذهب أيضاً والقول في الخير والشر والقال والقيل في الشر خاصة! ونفى ثعلب ذلك وحكى: إنهم لقالة بالحق والمِقْوَل اللسان إ.ه ولم نجد في اللسان أية اشارة يمكن اقتناصها تعزيزاً لدلالة مصطلح المقالة!! مع ان (مقالة/قول) وردتا في الشعر الجاهلي، قال النابغة: وتلك التي تستك منها المسامعوذلك من تلقاء مثلك رائعله من عدو مثل ذلك شافعولم يأت بالحق الذي هو ناصعولو كبلت في ساعديَّ الجوامع ج أتاني أبيت اللعن أنك لمتني(مقالة) ان قد قلت سوف أنالهأتاك امرؤ مستبطن لي بغضةأتاك ب (قول) هلهل النسج كاذبٍأتاك ب (قول) لم أكن لأقوله والمقالة ردف الرسالة والمراد بها: النص المكتوب الذي يتناول الأفكار العامة المتعلقة بموضوع ما بصياغة نثرية وديباجة قصيرة عادة والمقالة في الأدب الإنجليزي نوعان: 1- المقالة الحرة:وقد ظهرت في القرن17بتأثير الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) والفرنسي ميشيل مونتني(1533-1592)وهي ذات أسلوب تجريبـي شخصي خفيف لا يعالج الموضوع بطريقة منهجية كاملة. 2- المقالة المنهجية: وتعالج بطريقة جدية موضوعاً معيناً بأسلوب رفيع مبتعد الى حد بعيد عن الخيال والأفانين البلاغية وقد اعتد صاحب المعجم كتاب النظرات لمصطفى لطفي المنفلوطي مجموعة مقالات حرة!! كما اعتد (عبقرية محمد) لعباس محمود العقاد مثالاً آخر للمقالة المنهجية! وقد ذكر ضربين من المقالة الأول هو المقالة الشعرية (POTICAL ESSAY) وكان شاهدهما قول المعري ت 449ه: نوح باك ولا ترنّم شاد غير مجد في ملتي واعتقادي والآخر: المقالة النقدية.. وهي نص مطوّل محوره النقد ومثاله على رأي صاحبي المعجم مقالات د.لويس عوض في نقد شعر صلاح عبد الصبور وإذا سلّمنا بتقسيم المقالة إلى شعريــة ونقدية فإن هذا التسليم يحيلنا الى تقسيمات منفلتة كثيرة من نحو المقالة التشكيلية والمقالة الموسيقية والمقالة السياسية والمقالة الفلكية!! ويوجه د. محمد يوسف نجم تقسيم المقالة على نحو آخر فهي ذاتية وموضوعية!!. *خصائص المقالة الذاتية: أ-تعتمد على قيمة الأفكار التي تتبناها المقالة. ب-صياغتها بأسلوب أدبي جميل ومؤثر. جـ-جاذبيتها تستهوي القارئ. د-تعبّر بأمانة عن شخصية منتجها على ان لا تتضخم (الأنا)الى درجة مرضية. هـ-الجدة والطرافة وعدم تكرار مقولات الآخرين وبلاغاتهم. *خصائص المقالة الموضوعية: أ-انها صيغة علمية بحثية تسعى إلى إيصال أفكار العلماء والباحثين ومنجزاتهم. ب-تستند الى بلاغة العلم وجاذبيته بدلا من بلاغة الأدب فهي ند يحسب حسابه للمقالة الذاتية جـ-ثمة محاولات للتقريب بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية، سعى اليها كل طرف والمسوغات كثيرة.. د-الوضوح والجلاء فصوت المقالة أضعف من صوت الفكرة.. هـ-تقوم على منهج وخطة فهي مقدمة وعرض وخاتمة وتقويم وبراهين. وقد تطورت المقالة في النصف الثاني من القرن العشرين تطوراً سريعاً وبخاصة المقالة الصحفية وابتعدت عن التلقائية الفنية والأدبية لتقترب من عوامل السرعة والارتزاق والشمول، بل اقترب بعض المقالات من طبيعة (البروبوجندا) فهي تزيّن الأفكار والمذاهب تارة وتسوّق بطريق خفي بعض السلع أو ترسم صورة جذّابة للأشخاص ذوي السطوة والنفوذ ابتداءً بالحاكم مروراً بالتاجر وانتهاء بالجنرالات!! ويرى د.عز الدين إسماعيل ان أول استعمال لكلمة مقالة ظهر حين نشر مونتين مقالاته عام 1580 وكانت المقالة آنذاك شبيهة بالرسالة التي عرفها أدبنا العربي القديم مثل رسائل اخوان الصفا فتطول حتى تملأ عشرات الصفحات، لكن المقالة الفنية الحديثة ذات سمات محددة: أ-حجمها القصير. ب-التماس المعلومات المتصلة بموضوعها وعنوانها كما صنع لوك في (مقال عن الإدراك) جـ-اللغة الأدبية الجذابة د-اتقان عناصرها هـ-عنصر التشويق و-العنصر الذاتي . والمقالة في بدئها فكرة ثم تغلّفت بالديباجة؛ فالفكرة تنمو في ذهن المقالي ثم تكبر وتبين ملامحها لتنعم من ثم بالملاحظة والدربة والخبرة الشخصية، وذلك ما يسوّغ اعتماد المقالة على الحكاية والمثل والإشارة، ويحرص المقالي المبدع على الموازنة بين فنية المقالة ومتطلباتها من جهة وامتناع القارئ واسترضائه من جهة أخرى، وكانت الصحافة العربية قبل الحرب العالمية الثانية صحافة مقالة ثم تحوّلت إلى صحافة خبر ليضحى المقال فيها ثانوياً لاحقاً للخبر ويرى د.إسماعيل ان المقالة قد استعادت عافيتها، ودورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة للقرن العشرين فاسترجعت منـزلتها الرئيسة في الصحف والمجلات وبخاصة المقالة الأدبية وكان الأديب احمد حسن الزيات واحداً من أفضل كتّاب المقالة العرب المعاصرين إن لم يكن أفضلهم، وقد شهدت مجلة الرسالة التي أصدرها بين يناير 1933 وحتى فبراير 1953 نضج فن المقالة على يديه بالدرجة الأولى وعلى أيدي أسرة تحرير المجلة وهم إبراهيم عبد القادر المازني وساطع الحصري ومحمد اسعاف النشاشيـبي وزكي مبارك واحمد رمزي و علي الطنطاوي ومحمود شاكر وعبد الوهاب عزام. وقد وظف الزيات موهبته في فن المقالة للحديث عن هموم زمانه وهي: أ-محاربة ثالوث الفقر والجهل والمرض و(الثالوث) من ابتكارات الزيات. ب-شن حملة على الإقطاع الزراعي في مصر جـ-مناصرة حركة التجديد في الأدب التي تعرّضت لحملات عنيفة من خلال مقالات العقاد وطه حسين و المازني رغم ان المازني ضمن هيئة تحرير الرسالة د-تشجيع الأعمال الإبداعية فقد اهدى توفيق الحكيم رواية يوميات نائب في الأرياف للزيات، وعندما اصدر د.نجيب محمود ترجمته لأربع من محاورات افلاطون سنة 1937 اهداها للزيات. هـ-الدعوة إلى سلامة اللغة العربية والحفاظ عليها، وفتح المجال أمام جهود تجديد النحو. و-الدعوة إلى التمسك بعروة العروبة بيد أن القدح المعلى في مقالات أحمد حسن الزيات كان للمقالة الأدبية الوجدانية التي استحوذت على أفئدة القراء العرب في كل مكان وكانت مقالاته الأدبية خليطاً من احزانه الخاصة واحزان الناس و احلامه الخاصة و أحلام الناس وقد جمع رحمه الله اجمل ما قاله في كتاب صدر مطبوعاً بعنوان (المقتبس من وحي الرسالة) والغريب حقاً أن لا ينال الأسلوب المقالي عند الزيات قبولاً عند د.محمد يوسف نجم فقدجرّده من أهم فضائل الكتابة المقالية!! ولا أحسب الأمر تقويماً علمياً، فجمال أسلوب الزيات في المقالة وحذقه أمر اتفق عليه حتى خصومه وأسمِّي هجوم د.نجم علي نجومية الزيات المقالية (شطحة) أو ان نجم الزيات لا يوافق نجم د.نجم أم أن في الأمر شيئاً لا نعلمه!! وللأمانة نذكر مقالة د.نجم في مقالة أبى المقالة العربية ورائدها احمد حسن الزيات (وأسلوب الزيات يعتمد على الصنعة المحكمة والتكلف المرهق وتوفير القيم اللفظية والتوازن الموسيقي ولو أدى ذلك إلى هدر المعنى والإفتئات على الفكرة.. فهو ضفيرة منسّقة من الألفاظ الموسيقية المجلجلة أو قطعة من الفسيفساء ابتدعتها يدفنان صناع أو هو قوالب جاهزة يلبسها لكل فكرة ويلقيها علىكل موضوع دون أن يحاول الخروج عن النسق المعتاد أو السنة المقررة ودون ان يعنى بتحوير القالب وتهذيبه بحيث يلائم الشكل المطلوب وهو بهذه اللفظة المحكمة يتنكّر للبلاغة ما دامت البلاغة ملاءمة الكلام لمقتضى الحال) وقد ظهر عدد كبير من المقاليين العرب مثل علي أمين ومصطفى أمين ثم غسان كنفاني الذي نشر مقالاته في جريدة الحرية التي تصدر في بيروت عن حركة القوميين العرب خلال ستينات القرن العشرين في صفحة مشاعل صغيرة وباسم مستعار (غينكاف) تارة واسمه الصريح أخرى وظهر في العراق مقاليون متميزون استطاعوا التأثير في أذواق الناس وولاءاتهم مثل إبراهيم الوائلي الذي عرفت إذاعة ثورة مايس 1941 مقالاته الإذاعية التي كان يلقيها بنفسه وقتذاك وسلمان الصفواني وجعفر الخليلي ومحمد علي البلاغي وعلي الشرقي ومحمد مهدي الجواهري وكامل الجادرجي ومن ثم عزيز الحاج وعبد القادر إسماعيل وعبدالرزاق الصافي وجليل العطية، وظهرت في العراق المقالة الهزلية التي اضطلعت بها جريدة جزبوز، وقد انجز د.سعيد عدنان عدداً من البحوث الأكاديمية المهمة عن فن المقالة في العراق فظهر له إبراهيم الوائلي مقالياً وعلي جواد الطاهر مقالياً.. ويرى السيد قطب (1906-1967) ان هناك نوعين من العمل الأدبي نطلق عليهما لفظ (المقالة) وهما يتشابهان في الظاهر ويختلفان في الحقيقة أحدهما المقالة الانفعالية والأخرى التقريرية والأنسب التفريق بينهما في الاسم بدلاً من أن نفرق بينهما في الوصف فنقصر لفظة المقالة على النوع الثاني فنسمّي النوع الأول الخاطرة وربما دخلت الخاطرة الصحافة الأدبية بعنوان (العمود الصحفي) فالأوصاف التي يحددها السيد قطب للخاطرة تنطبق على العمود الصحفي، والخاطرة في النشر تقابل القصيدة الغنائية في الشعر فكلتاهما تصدر عن ذات المنتج وهمومها الخاصة بينا تكون المقالة فكرة قبل كل شيء تتمحور حول موضوع محدد! والسؤال هو: هل ان المقالة فن جديد لم يعرفه الغابرون؟ ان المقالة فن قديم ظهرت آثاره عند الكتاب الإغريق وتميز منهم فيثاغورس وهيرودوتس وأبيقور ولونجينوس ممن عاش بين القرن السابع قبل الميلاد وحتى القرن الثامن بعد الميلاد! بل ان افلاطون كان معروفاً في كتاباته بطلاقة التعبير وجماله وعمقه وهي ميزات المقالة الرئيسة التي استثمرها فيما بعد رائد المقالة الحديثة مونتين! وثمة كتّاب رومان اسهموا في تأسيس تقاليد مهمة للمقالة مثل هوراس الذي كتب رسالة (فن الشعر) على هيئة مقالة نقدية شعرية!! ويُعَد شيشرون ت43 ق.م وسينكا ت 65 ب.م واولوس جيليوس (القرن الثاني الميلادي) اهم صناع المقالة المتميزة عن الفنون الأخرى، وكان شيشرون ابرزهم؛ أنتج مقالات مهمة مثل (الشيخوخة) والصداقة! ووجد الدارسون ان مونتين استفاد ايضاً من جهود هؤلاء الثلاثة وبخاصة مقالات سنيكا الموجهة إلى لوسيليوس فهي مقالات مؤسسة لفن المقالة التأملية التي تحلل بعمق وبأسلوب فني جميل كما تأثر مونتين بمقالات جيليوس وبخاصة مقالة (الليالي الأتيكية) ذات المنحى الشخصي ويمكن اضافة (اعترافات القديس اوغسطين) ت 400 ب.م، إلى فن المقالة الخاطرة وإضافة كتابات الشيرازي ونظامي الكنجوي من الفرس ومندفيل وشوشر من الإنجليز (القرن 13) إلى فن المقالة الوصفية والقصصية!! وظهر بين 1400-1600 أعلام كبار أمثال دانتي وبترارك وميكافيلي ولوثر ومرغريت النفارية ورابليه؛ وقد عرف أولئك بمقالاتهم المؤثرة شعبياً وربما أثر أولئك في كتاب المقالة من بعد وبخاصة توماس اليوت وتوماس ولسون ووالتر والي وإذا أردنا مقاربة فن المقالة أو الإرهاص بفن المقالة في أدبنا العربي القديم فثمة الوثائق عالية القيمة بين يدي المقاربة لكن المعضلة القائمة التي تعتور الدرس هو ذلك الاختلاط بين فنون الخطابة والمنافرة والحكاية وسجع الكهان ولم تختف المعضلة في العصر الإسلامي وإنما دخل المعضلة فنّا الرسالة والمناظرة؛ وكان الغالب على هذا النمط الهجين من المقالات الأسلوب البلاغي الموشَّى بالمحسنات البديعية والبيانية التي تجلو الفكرة وتشحذ الانتباه وتوشّي الإثارة مع غلبة السجع! ثم ظهرت المقالة العربية الحديثة بعد ظهور المقالة الغربية، واستندت المقالة العربية إلى عدد من المرجعيات أهمها الأنماط التراثية التي تشبه المقالة من نحو كتابات ابن المقفع والحسن البصري و الجاحظ والصاحب بن عباد وابو حيان التوحيدي، وكذلك الأنماط الأدبية الغربية. قارن مشجرة تنميط المقالة . الصورة الشخصية الفلسفية النقدية (أدبية، اجتماعية) الوصفية الرحلة الخاطرة والعمود التاريخية الوعظية علمية (بحتة وتعليمية) الرسالة السخرية الهادفة الذائدة نمـــاذج مقاليــــة *الرسالة: أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوٌّ وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفِظه، وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه.. ألا وإن لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بِطِمْرَيْه ومن طعمه بقُرْصيْه، ألا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد؛ فوالله ما كنـزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا اعددت لبالي ثوبي طِمْراً.. ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفّى هذا العسل ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة. من لا طمع له في القرص ولاعهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أو اكون كما قال القائل: وحسبك داء أن تبيت ببطنةٍ وحولك أكبادٌ تحنُّ إلى القِدِّ ….وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن ابي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. الا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً،.. إليك عني يا دنيا فحبلكِ على غارِبِك، قد انسللتُ من مخالبك وأفلتُّ من حبائلك.. طوبى لنفس أدَّت إلى ربها فرضها وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غِمْضَها، فإذا غلب الكرى عليها افترشتْ أرضها وتوسَّدت كفَّها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم.. فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك اقراصك ليكون من النار خلاصك.. الإمام علي بن أبي طالب(رض) *النقدية الاجتماعية: والفقر داعية إلى صاحبه مَقْتَ الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبه للعلم والأدب، ومعدن للتهمة ومجمعة للبلايا؛ ومن نـزل به الفقر والفاقة لم يجد بداً من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مُقِتَ، ومن مُقِت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن فقد ذهب عقله، واستنكر حفظه وفهمه، فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يظن به حسناً..؛ وليس من خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير عيب! فان كان شجاعاً سمي أهوج؛ وان كان جواداً سمي مفسداً، وان كان حليماً سمي ضعيفاً؛ وان كان وقوراً سمي بليداً، وان كان لَسِناً سمي مهذاراً، وان كان صموتاً سمي عَيِيّاً. ابن المقفع *الأدبية التعليمية: شروط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقماً، وان تكون النقمة خفيفة يشيع منها لون باهت من التفكه الجميل، فان التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها وان افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم ان المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. وان شئت فاقرأ لرب المقالة الإنكليزية أديسون ما كتب، فلن تجده الا مازجاً سخطه بفكاهته فكان ذلك أفضل أدوات الإصلاح. د.زكي نجيب محمود *الرحلة: وقلت للسلطان كيف اجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض؟ فقال هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعاً، وانت ضيف إمارة جاوه فيجب اكرامك. ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلاً بيده سكين قد وضعه على رقبته وتكلم بكلام كثير لم أفهمه، ثم أمسك السكين بيديه معاً وقطع عنق نفسه فوقع رأسه لحدّة السكين وشدة إمساكه بالأرض، فعجبت من شأنه! وقال لي السلطان: أيفعل هذا أحد عندكم؟ فقلت له ما رأيت هذا قط؛ فضحك وقال: هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا، وأمر به فرفع وأحرق؛ وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه. واخبرني من كان حاضراً في ذلك المجلس ان الكلام الذي تكلم به كان تقريراً لمحبته في السلطان وانه يقتل نفسه في حبه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه وجدُّه نفسه في حب جده. ابن بطوطة *الصورة الشخصية: قال أبو عثمان الناجم: دخلت على ابن الرومي في علته التي مات فيها وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج وخنجر مجرد لو ضرب به صدر لخرج من ظهر، فقلت له ما هذا ؟ قال الماء أبلّ به حلقي، فقلما يموت إنسان الا وهو عطشان؛ والخنجر إن زاد علي الألم نحرت به نفسي.. اردت الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة فشاورت صديقنا أبا الفضل وهو مشتق من الأفضال، فقال إذا جئت القنطرة فخذ على يمينك وهو مشتق من اليمن واذهب الى سكة النعيمة وهو مشتق من النعيم، فاسكن دار ابن أبي المعافى، وهو مشتق من العافية، فخالفته لتعسي ونحسي فشاورت صديقنا جعفرا وهو مشتق من الجوع والفرار: فقال إذا جئت القنطرة فخذ على شمالك وهو مشتق من الشؤم واسكن دار ابن قلابة وهي هذه لا جرم قد انقلبت بي الدنيا، وأضر ما عليّ العصافير في هذه السدرة تصيح سيق سيق، فها أنا في السياق ومات من الغد.. أبو العلاء المعري *الوصفية: لا.. لا أعرف عيشاً أهنأ من عيش الأودية، وأحب الأودية يا ماري في الشتاء ونحن أمام موقد، ورائحة السرو المحروق تملأ البيت، والسماء تنثر الثلوج خارجاً، والريح تتلاعب بها، وقناديل الجليد مدلاة وراء زجاج النافذة، وصوت النهر البعيد وصوت العاصفة البيضاء يتآلفان في مسامعنا، ولكن إذا لم تكن صغيرتي المحبوبة قريبة مني فلا كان الوادي ولا الثلج ولا رائحة عود السرو ولا بلور قناديل الجليد ولا أنشودة النهر ولا هيبة العاصفة. جبران خليل جبران *الخـاطرة: أنا وأنت سجينان من سجناء الحياة، وكما يعرف السجناء بأرقامهم يعرف كل حي باسمه. – بنظرك النافذ الهادئ تذوقت غبطة من له عين ترقبه وتهتم به. فصرت ماذكرتك الا ارتدت نفسي بثوب فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنية أن انثر الخير والسعادة على جميع الخلائق، لي بك ثقة موثوقة، وقلبي العتي يفيض دموعاً. سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثّك شكوى أحزاني- أنا التي تراني طروبة طيارة. وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي وحنت رأسي منذ فجر أيامي – أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل وسأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر. وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواماً بالمحبين. وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق. وسأطلعك على ضعفي واحتياجي الى المعونة أنا التي تتخيل في قوة الأبطال ومناعة الصناديد. وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك، وأنت لا تدري. وسأطلب منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل. كل ذلك، وأنت لا تعلم! سأستعيد ذكرك متكلماً في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك. حكاية البشر المتجمعة في فرد أحد. وسأتسمّع إلى جميع الأصوات علّي أعثر على لهجة صوتك. وأشرح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك. وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة لأنها ليست صورة تعبيرك ومعناك. وسأبتسم في المرآة ابتسامتك. في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك، سأتصورك عليلاً لأشفيك، مصاباً لأعزيك، مطروداً مرذولاً لأكون لك وطناً وأهل وطن، سجيناً لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أبصرك متفوقاً فريداً لأفاخر بك وأركن إليك. وسأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب وكيف تشتاق، وكيف تحزن وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلا الانفعال النبيل، وسأتخيل ألف الف مرة الى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب. وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً لأنك أوحيت إليَّ ما عجز دونه الآخرون. أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم، ذلك أنت الذي لا أريد أن تعلم؟. مي زيادة *العمود: لم يبق سوى ثلاثة أسابيع وتسارع بيروت في تسليم لقب عاصمة الثقافة الى مدينة عربية أخرى وقبل أن ينطوي العالم وتنطوي معه ذكريات عام حافل تجدر الإشارة إلى ان بيروت كانت منذ الخمسينات عاصمة الثقافة العربية دون منازع، وحتى في أجواء الحرب التي استمرت سبعة عشر عاماً لم يتوقف دور بيروت الثقافي ولا دورها في صناعة الكتاب وتوزيعه. والآن وقد عاد إليها الاستقرار، وصارت طوال عام 1999 عاصمة للثقافة العربية نتمنى بكل مشاعرنا وعواطفنا ان تظل عاصمة الثقافة لكل عام فهي المدينة التي لا تضيق بالرأي وتفتح قلبها وعقلها لكل الأصوات من كل الأقطار العربية، وكان بعض الحريصين عليها والمحبين لها يخافون عليها من الانفتاح الزائد، ويؤثر على عروبتها ولكن الأيام أثبتت ان الحماية الحقيقية ليبقى لبنان للعرب ولبنان لنفسه، ولكي تبقى بيروت لا يكون الا بهذا الانفتاح والدليل أنه من لبنان تصدر إلى بقية الأقطار العربية آلاف العناوين الجديدة كل عام ومن لبنان نفسه تنطلق المقاومة الوحيدة في الوطن العربي ضد الغزوة الصهيونية والاحتلال الاستيطاني بعد ان أغلقت جميع الحدود منافذ التحدي، وهو أمر يدعو إلى إكبار هذا البلد العربي الصغير في حجمه والكبير في دوره وهو ما يؤكد أن الشعوب ليس بتعدادها ولا بمساحة أرضها. واذا كانت بعض الأقطار العربية قد توهّمت ان وجود عشرات المطابع الفخمة والصحف الملونة قادرة على استقطاب المثقفين العرب وعلى سرقة الأضواء من بيروت العربية فان الأيام أكدت ان بيروت هي الأولى بلا منازع ولا منافس، وسوف تثبت الاعوام القادمة هذه الحقيقة بمزيد من الأدلة والبراهين، تحية إليها وإلى لبنان العربي الصادق. د.عبدالعزيز المقالح *الـوعظية: الشباب هم سواعد الأمة وأداة الإبداع والتطوير فيها، وتمثل جهودهم ما لا يقل عن (75%) من النشاط اليومي في مختلف مواقع العمل والعطاء، ويقاس تقدم الشعوب بمدى فاعلية الشباب ومشاركاته في الحياة وإنما اجتهدت المجتمعات البشرية في وضع نظم للتعليم وأساليب للتربية والتهذيب ومؤسسات للتوعية والتثقيف، والرعاية الصحية والإجتماعية، كل ذلك من أجل إعداد الأجيال المتتابعة من الشباب على مستوى عال من البناء المتكامل روحياً وجسدياً ونفسياً وعلمياً ومهنياً، لينهضوا بكل مسؤوليات المجتمع والدولة وبما يناسب العصر ويحقق كل الأهداف. واذا كانت معظم أنظمتنا السياسية العربية والإسلامية لا تولي الشباب العناية المطلوبة، ولا تمتلك خططاً ولا برامج علمية، بل لا تمتلك رؤية صحيحة واضحة لحقيقة دور الشباب وكيفية توجيههم والإفادة من طاقاتهم، فان الغرب من خلال مؤسساته المخابراتية الضخمة مهتم بالشباب المسلم بعامة والعربي بخاصة، وهو جاد كل الجد في رصد نسب تزايدهم السكاني واتجاهاتهم وحركاتهم مسخراً لذلك آلاف المراسلين والباحثين والدارسين والمحللين المتخصصين، راصداً كل ما يتعلق بالشباب في الصحافة والإعلام والمؤسسات والمساجد والملتقيات، لإعداد التقارير المتتابعة والمتزامنة مع كل أحداث العالم، لتكون بين أيدي ساسة الغرب ومفكريه الكبار وأصحاب القرار الإستراتيجي لديه وقد انعكست هذه الشبكة المعقدة المتخصصة في شؤون شبابنا بكل وضوح في تلك المعلومات والإحصاءات والرسومات البيانية التي تناول بها “هنتنغتون” قطاعات شبابنا في كتابه المذكور. واذا كانت عنايتنا بالشباب لا تتجاوز غالباً ما عليه نظم تعليمنا وأساليب التربية والتثقيف التقليدية لدينا، وما تقدمه وسائل إعلامنا المتخلف، وهو مرهون بالاضطراب والتخبط كما انه صدى الأهواء السياسية والنـزوات الشخصية المتغيرة، فان عناية الغرب بشبابنا عناية أكبر من التصور والتشخيص مع أن آثارها واضحة لكل ذي عقل وذي عينين. لقد خطط الغرب وبرمج لشبابنا بخاصة، ولشباب العالم بعامة، منذ عقود بعيدة وما فتيء يطور وسائله لغزونا حتى بلغ ما بلغه اليوم مع إطلالة القرن الجديد. فقد برمجت الصهيونية للشباب منذ اجتماعها الخطير بسويسرا في نهاية القرن التاسع عشر من خلال دستورها “بروتوكولات حكماء صهيون” كما برمجت الماسونية للشباب من خلال أنديتها وجمعياتها في كل العالم، وأنشأت فرنسا منظمتها الضخمة الفرانكفونية التي بسطت سلطانها في كثير من بلدان العالم، واحتضنت بريطانيا حركات ودعوات هدامة، دينية وسياسية، زرعتها في آفاقنا العربية والإسلامية، وضربت الشيوعية بأسهمها فكان لها حضور فاعل في كثير من الساحات العربية أحدث انشقاقات في بناء الأمة الفكري، وانتج صراعات ما تزال أصداؤها حتى اليوم ومع نهاية هذا القرن العشرين حركت الثقافة الغربية بعض الدمى العربية، فأوجدوا عدداً من القنوات الفضائية العربية، لا تمتلك من العروبة الا اللهجة والقشور، وهي اليوم الوكيل الناجح لتصدير القيم والعادات الغربية السيئة عن طريق المسلسلات والأغاني الفاسدة والإعلانات التجارية، والمقابلات الهابطة والبرامج الحوارية الهدامة لكل أصيل ومقدس في حياتنا. ترى متى تدرك أمتنا قيمة شبابها وتحسن اعدادهم وتسمع لهم، وتتعامل معهم بالعلم والمنطق وروح العصر؟ متى تدرك امتنا تلك المخططات العالمية التي أعدت لشبابنا لاحتوائهم وتضييعهم، فتعمل على التصدي العلمي الواعي لها؟ متى؟ متى توجد البرامج الإصلاحية الشاملة التي تقضي على البطالة، وتعد الشباب نفسياً ومهنياً وثقافياً من أجل الإيمان بنفسه وبوطنه، ومن أجل العطاء والإبداع؟ متى تعيد النظر في كثير من مؤسساتها الإعلامية والثقافية والتربوية؟ متى تلتفت بجدية واخلاص لاسترجاع عقولنا المهاجرة، وتوفير كل ما يجدونه من مزايا وحقوق لدى الآخرين؟. ان الطريق واضحة، والحلول جاهزة، وأهل المشورة والرأي من المفكرين والخبراء مستعدون، ونعلم جيداً أن إمكانات الأمة وثرواتها التي استأمننا الله عليها هي فوق ما يصف الخيال. فهل هناك نية خالصة لإنقاذ شباب هذه الأمة؟ د.محمد مصطفى بن الحاج *العلمية: إن دلالة أسماء الشهور العربية التي اتخذت تاريخاً للهجرة توحي بأنها كانت ثابتة لا تتغير مع تغير الفصول، فجمادى شهر يدل على البرد ورمضان شهر الحر الشديد وإلا فلا يعقل أن يبقى الإسم غير دال على مسمّاه فكيف يكون جمادى في فصل الصيف ورمضان في وقت الشتاء، وبهذا يختل التقويم في أذهان الناس الذين يربطون مواسمهم بالتقويم الذي يتبعونه. إذن لابد أنهم كانوا قبل الإسلام يتبعون تقويماً يجعل هذه الشهور ثابتة، وذلك هو النسيء الذي أبطله الإسلام. قال المسعودي: وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهراً وتسميه النسيء وهو التأخير وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله (انما النسيء زيادة في الكفر) سورة التوبة (37)، وأسمت العرب الشهور فبدأت بالمحرم لأول السنة وإنما سمته المحرم لتحريمها الحرب والغارات فيه.. وذكر ابن الاجدابي “الكبس” والسنة الكبيسة عند العبرانيين واليونايين ثم قال: “وكانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهراً على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين وكانوا يسمون ذلك النسيء، وكانت سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً قمرية وكانت شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة، كان لكل شهر منها زمن لا يعدوه، فهذا كان فعل الجاهلية حين احدثوا النسيء وعملوا به. واطلق النسيء على فعل آخر غير هذا عند العرب قبل الإسلام وهو تقديم شهر وتأخير شهر للتلاعب بالأشهر الحرم، وقد ذكر اللغويون والمفسرون ذلك في تفسير الآية الكريمة (انما النسيء زيادة في الكفر)، انهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول انا الذي لا يرد لي قضاء فيقولون انسئنا شهراً أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها لأن معاشهم كان على الغارة.. فيحل لهم المحرم. فالنسيء بهذا المعنى تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر فيحلون الشهر الحرام وهم على هذا أيضاً يؤخرون الحج من وقت إلى آخر، حيث لا يجب فيخالفون بذلك ما اتفق عليه من الأشهر الحرام “فكانوا يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة”، إذن كان النسيء يعني قضيتين: أولاهما التلاعب بالأشهر بتأخير شهر المحرم إلى صفر، لشن الغارات وطلب الثأر، وقد يكون التلاعب بالأشهر النسيء بعد ذي الحجة فيكون بينه وبين صفر الأول الذي هو المحرم من الأشهر الحرم، وبذلك يكونون قد فصلوا بين الأشهر الحرم الثلاثة بأن جعلوا شهراً حلالاً جديداً بين الشهرين المحرمين. الثانية: النسيء بمعنى الكبس باضافة فرق ما بين السنة القمرية والسنة الشمسية إلى الشهور القمرية لتكون الشهور القمرية ثابتة وتكون المواسم في اوقاتها فلا تدور اوقاتها بين الصيف والشتاء كما صار يقع بعد ان حرم الإسلام النسيء. لقد ابطل الإسلام النسيء بمعنييه هذين بقوله تعالى (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) وقوله: (انما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما). وفراراً من اسم النسيء الذي في قوله تعالى كانوا صدر في الإسلام يسقطون عند رأس كل ثلاث وثلاثين سنة عربية، سنة ويسمونها سنة الإزدلاق، لأن كل ثلاث وثلاثين سنة عربية تساوي اثنتين وثلاثين سنة شمسية تقريباً. د.زهير غازي زاهد. *السخرية الهادفة: انني في حاجة قصوى لمن ينقذني من أحمد مرسي، هذا الذي استغل طيبتي المعهودة وحسن النوايا المنتشرة في أفكاري، فاستدرجني إلى منخفض بالغ الخضرة دون ان انتبه انني آخر الأمر أصبحت محاصراً بجبال صخرية شرسة بالغة الارتفاع، إذ انني يا أصدقائي ظللت طوال الأحقاب الماضية سائماً في البراري أفخر بأنني متآلف مع كل هذه التكوينات المصرية التي تتداخل فيها المواويل مع التوسلات والابتهالات ورسوم الجدران ومداخن أفران الخبيز وزخارف بيارق اتباع أولياء الله وتمتمات فتح الأبواب وتحريك الضمائر ومقاطع العديد واللطم والانتحاب فقداً للأعزّاء أو هجاء للخصوم ونقراً على الرّق ترقيصاً للقرود… أتجوّل وسط كل ذلك دون أن أدري أو أعرف أكثر مما تدريه أنت عن حركة الشهب ومعنى الديمقراطية وبؤس الكفار والملحدين والخارجين على رضاء الوالدين،.. ان الفهم والإدراك هما العدو الأساس يا سادتي للتلقائية ويحولان بيني وبين الاندماج البدائي ما دمت شديد اليقظة. محمد مستجاب * المقالة الذائدة: الدكتور مهدي المخزومي عَلَمٌ باذِخُ الرِّفعة مِن أعلامِ ثقافتِنا الوطنيةِ العربية نضالاً وعِلماً؛ فمن نضاله أنّهُ اختارَ أن يكونَ الأمينَ على قضايا شعبِه أمانةً جَعَلَتْه يُعْتَقَلُ بَعْدَ انقلاب شباط الأسود، وأن يروّعَ بالموتِ في مُعْتَقَلِهِ؛ ووجْهُهُ إلى الحائطِ معصوبَ العينينِ؛ بأنْ يُطْلَقَ الرصاصُ عليهِ وعلى أمثاله مِن وراءِ ظهورهِم تخويفاً لا قَتْلاً؛ وللقتلُ أهون كثيراً مِن تخويفٍ به. ومِن عِلمه أنْ تركَ من كتبه ما يُعَدُّ على أصابع اليدين؛ ولكنّ هذه الكتب المؤلفة التي لا تكادُ تبلغ العشرة تتجاوزُ المئاتِ في قيمتها مِن مؤلفات سواه أصالةً وجدّة وابتكارا، وهل أرقى مِن أن يكون للمخزومي في كلّ كتابٍ من كتبه ما يختصِمُ فيه الناسُ مِن بين مُعْجَبٍ مُقَرِّظ؛ وشانئٍ مُنْتَقِص: ((الخليل بن أحمد الفراهيدي/ مدرسة الكوفة/ عبقري من البصرة/ في النحو العربي/ معجم العين، تحقيق بالاشتراك (سبعة أجزاء) / ديوان الجواهري، تحقيق بالاشتراك (سبعة أجزاء). )). وكان آخر ما صدر له بعد وفاته ترجمة كتاب في اللغة – ولم أره -عن اللغة الإنكليزية. ولقد يُخيّلُ للمرء أن التحقيق -أيّ تحقيق- شيء عادي؛ فماهو إلا أن أحيله على تحقيق الدكتور عبدالله درويش الجزء الأول من كتاب العين، هذا التحقيق الذي كان سمّاه العلاّمة الدكتور مصطفى جواد: (التحقيق الدرويشي)، وأن أُحيلَه إلى تحقيق المخزومي إيّاه. هذا وقد مات المخزومي وهو غير راضٍ عما خرج به الكتاب على الناس. ولم يكن المخزومي عالماً فحسب؛ وإنما كان يزينُ عِلْمَه خلقٌ يقلُّ نظيره في أيامه وفي أيامنا هذه، فمن هذا الخُلُق العالي، ومدى تأثيره فيمن عرفه أن هرّبه تلميذٌ سلطوي من تلامذتِه إلى السعودية بعد أن خرج من المعتقل عام 1963 بأن منحه جوازَ سفرٍ وَصَلَ فيهِ إلى السعودية. وتواضعُ المخزومي شيءلا يُشبهه تواضعٌ آخر، وكراهيتهُ أن يُعرَف بعلمِه كراهيةٌ لا تدانيها كراهية، ولو لم يكن في (أبي نوال) تانك الخصلتان لكان من أعلام العرب في المقدّمة، ولكُنّا نقول ونحن نحتفل به: إننا نحتفلُ بالمخزوميّ ونسكت، كما يقول اشقاؤنا المصريون: إننا نحتفل بطه حسين، ويسكتون. ولكنّه المخزومي!. د. محمد حسين الأعرجي ب – السيرة الذاتية Auto Biography وهي نص نثري (غالباً) مكتوب بطريقة أدبية جذابة، يرصد حياة علم مشهور أو إنسان مغمور أو جماعة متجانسة أو مدينة هاجعة… بطريقة تجمع بين جمال العبارة ورشاقة الصياغة للإفصاح عن معلومة تهم الكاتب وتستثير القارئ. وقولنا نص نثري (غالباً) فيه احتراز منهجي، فقد انجز عدد من الشعراء نصوصاً يمكن تصنيفها ضمن السيرة! كما انجز بعض القصاصين نصوصاً قصصية اقتربت من السيرة الذاتية حتى كادت ان تطلس الحدود! وذلك ما سنعززه لاحقاً بالأمثلة المناسبة! وهذا القول جزء من إشكالية دراسة فن السيرة الذاتية! الإشكالية التي استقامت أسئلة مهمة: هل يمكن اعتداد السيرة الذاتية جنساً أدبياً؟ أو نوعاً أدبياً؟ أم انها مندغمة مع فنون أخرى؟ مع المقالة –كما مر بنا في المشجرة مثلاً!! ان الاتفاق لم يحصل بشأن فن السيرة، هذا الفن الجذاب الجميل الذي يستقطب مئات الآلاف من القراء! فالدكتور محمد يوسف نجم وضع فن السيرة ضمن فن المقالة، وهو وضع فيه نظر!! أما الدكتور إحسان عباس فقد صنفها فناً منفرداً واعتدها نوعاً يندرج ضمن السرد!! وإذا كانت السيرة فناً مرغوباً يلبي فضول القارئ، فان ظهورها كان مبكراً رافق عصور الأدب الأولى، يوم كانت الشفاهية غالبة عليها، فهي قوالب جاهزة وصياغات مكرورة!! وربما تفوّقت الندابات والنائحات البابليات في فن السيرة، إذ كن يجمعن معلومات مكثفة وقيمة عن الميت ليصغنها بأسلوب مبك مؤثر يختلط فيه الشعر بالنثر والغناء بالنحيب! ثم ظهر دور المنشد وكان يضع اسم صاحب السيرة المراد مديحه في الصياغة الكلية أو وضع اسم صاحب السيرة المراد هجوه، ويحيلنا –هذا- إلى ان المقصود بالسيرة هنا: المديح أو الهجو دون ان يمت هذان إلى واقع المتحدث عنه بصلة اكيدة! ويمكن القول دون تردد أن الأدب – على أي نحو كان هو سيرة الأديب أو سيرة افكاره أو احبابه أو اعدائه!! فالكون الإبداعي قائم على الذات الفردية أو الجمعية، وقد أورثت الندابات البابليات الندابات العربيات في زماننا شيئاً من خبرتهن، فهن يؤجرن مواهبهن وأصواتهن ودموعهن في الوفيات ويحفظن نصوصاً في مديح الميت، وإذا انتدبن لمرثاة ميت ما.. سألن عن اسمه وأفعاله المأثورة ثم يدخلن ذلك في سياق محفوظاتهن وتقنياتهن المتوارثة!! أما اليونان القدماء فقد اتكأوا والرومان على فن السيرة! وكانت الجماهير محتاجة إلى تزجية الوقت اثناء السلم وتوثيب العزائم وقت الحرب، فظهرت شخصية (راوي السيرة) وغالباً ما يكون الراوي فرداً يقف على مسرح أو نشز من الأرض بمواجهة الجماهير الغفيرة، ليروي سيرة بطل أسطوري أو حقيقي أو سيرة الآلهة المعروفة آنذاك، وأحياناً يضع الراوي على وجهه قناع صاحب السيرة، وربما وقفت الجوقة على المسرح لتؤدي من خلال تبادل الأدوار والإنشاد سيرة واحد من العظماء الساطعين.. أما السومريون في العراق فقد ابتدعوا من القرن 30 إلى القرن 25 ق.م انماطاً من السير التي كتب لها الذيوع والإنتشار وترجمت إلى اللغات الأخرى مثل الآشورية والبابلية واليونانية والفارسية! والغريب ان السومريين كانوا مولعين بالسيرة التي تفلسف تكوين الوجود وفناءه من خلال البطل الخارق ثم تصاغ السيرة بعبارات مؤثرة ومشحونة بالأحداث الباهرة بما يقرّبها من الأفانين العجائبية أو الواقعية السحرية لأنها تردم الفجوة بين الواقع والمجاز والنبوءة والتاريخ! أما ابطال السير المركزيون فهم الهة أو انصاف الهة مثال ذلك سيرة عشتار، وسيرة تموز وسيرة مردوك وسيرة تياما وسيرة تنتلوس…الخ وربما تجوّز الكاتب المنشد (أو الراوي وهما الضمير الجمعي أو الذاكرة الجمعية غالباً) فأطلق على سيرة جلجامش الخبـر أو الملحمة أو النشيد أو الترانيم أو الحكاية أو السيرة!! وقد حفظ لنا التاريخ هذه الاعمال التي كشفت الكثير الكثير مما غيّبه التاريخ! اما العرب الجاهليون وهم ورثة السومريين والبابليين، فكانوا يشكون ثقل الشتاء (فليله طويل ونهاره ضئيل ونوؤه مطر وقرّ ولذا كان الموقد مهجة الجلسات الليلية والرواي غرّة السمر والسهر) فالسرادقات كانت تجمع تحت سقفها عشرات الساهرين الضجرين الذين يطالبون الراوي أو الحكاء بقول شيء جديد وجميل وطويل.. وليس بعد قراءة الشعر سوى سيرة بطل همام دوّخ الناس بآثاره وأخباره مثل سيرة الزير سالم وسيرة ليلى العفيفة وسيرة عنترة والمرقّش والجرادتين وكان راوي السيرة مُفِنّاً في سرد السيرة، فهو ينتقي الصياغات المستفزّة بسلطة العبارات والصور المقترنة المتحركة التي تشد الانتباه وتطلق الخيال، وقد يزيد الراوي في السيرة أو ينقص محتفظاً بمحور السيرة واعني به ملامح صاحب السيرة. أهداف السيرة الذاتية الجاهلية وخصائصها: 1-تعتمد القوالب الشفاهية الجاهزة، فهي قابلة للحذف والإضافة دون أن تخرج عن السياق العام للبطل صاحب السيرة. 2-مناسبة حجم السيرة للوقت المخصص لها. فقد يروي سيرة عنترة في وقت قصير.. أو متوسط وقد ينجّمها على ليالي الأسبوع. 3-استثمار السيرة آليات الحكاية أو الرواية: البطل المساعد والأمكنة والأحداث والحوار والعقدة…الخ. 4-الأسلوب الأدبي الشفيف الذي تأنس اليه النفس. 5-المبالغة في توسيع السجايا الطيبة لصاحب السيرة والخصال المقززة لغريمه. 6-استثمار تقنية القناع:أي أن الراوي يغيّب صوته في صوت صاحب السيرة فيقلّد نبرة صوته وحركات رأسه وأطرافه وجذعه وهيأته. 7-التركيز على الهدف المركزي للسيرة وهو مستقى من أهداف السامعين!مثل الهدف الترفيهي أوالوعظي أوالتوثيبـي أوالمدحي أو الهجائي أو التسويقي!!. ثم ظهرت السيرة فناً شبه متكامل مع مجيء الإسلام الحنيف، وقد تكفل الرواة بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أحد الخلفاء الراشدين أو أحد الفرسان المجاهدين الخارقين أو شهيد مشهور! أو سيرة عاد وثمود للعـبرة والترهيب وكان الهدف من السيرة هو تعزيز صورة الدين الجديد في النفوس وبث مكارم الأخلاق في النفوس! وحدث بسبب رواج سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بين الجموع الغفيرة في المساجد والأسواق والمضائف أن انحرف بعض الرواة فنسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أفعالاً وأقوالاً بعيدة عن شخصيته الرفعية! مما سبب المتاعب للعلماء والغيارى.. وللأجيال فيما بعد!! وربما جاء علم الجرح والتعديل حلاً مناسباً لمقاومة الوضع الطارئ على السيرة النبوية الغراء. وقد لفت القرآن الكريم انتباه العرب إلى ضرورة الاستعبار والانتفاع بسير الغابرين. وبات مألوفاً أن يتحلَّق المسلمون في فسحات المساجد وغيرها حول شخصية الراوي الذي يتقن حرفته تماماً ويعرف جمهوره بدقة فينتقي لهم من أخبار البائدين من نحو زرقاء اليمامة والنضيرة بنت الضيزن ملك الحضر وسيف بن ذي يزن وشق وعبد السطيح… ثم اتجهت انظار المسلمين إلى كتاب سيرة النبي لفحصه والانتفاع به (فكان أول كتّاب السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام ت 92ه وابان بن عثمان ت 105ه ووهب بن منبّه ت 110هـ وشرحبيل بن سعد ت 123ه وابن شهاب الزهري ت 124ه وعبد الله بن ابي بكر بن حزم ت 135ه) وتلفت الأوراق التي كتب عليها هؤلاء أو ضاعت أو طمرت في الدياميس ولبث منها الضئيل المنثور في بطون كتب التاريخ كتاريخ الطبري! واستجدت جماعة من كتاب السيرة، وكان هؤلاء شغوفين بفن السيرة من نحو موسى بن عقبة ت 141ه ومعمربن راشد 150ه ومحمدبن اسحاق ت 152ه واعقبتها كوكبة أخرى أشد عناية بالسيرة منها زياد البكائي ت183ه ومحمدبن عمر الواقدي ت 207ه وابن هشام ت 218ه ومحمدبن سعد صاحب الطبقات.. فظهرت كتب مهمة في السيرة جاء أشهرها سيرة محمدبن اسحاق التي ألفها اثر حوار بينه وبين المنصور، فحين دخل عليه المنصور أثناء تدريسه لابنه المهدي واعجب بطريقته في ايصال المعلومة ولاحظ شغف المهدي بالدرس! فقال المنصور وهو يشير إلى ولده المهدي: أتعرف هذا يا ابن اسحاق؟ قال نعم هذا ابن أمير المؤمنين، فقال له المنصور: اذهب من ساعتك وصنف له كتاباً واسعاً وموضوعه منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك هذا. فاستجاب ابن اسحاق وصنف له كتاب السيرة! فقال له طوّلته يا ابن اسحاق! اذهب فاختصره؛ وكان له ما أراد! ثم جاء بعده ابن هشام (ابو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري ت 218ه ) فاعاد صياغة السيرة ونقّحها ،حدث ذلك بعد توليف ابن اسحاق بنحو خمسين عاماً بوساطة الحافظ أبي محمد زياد بن عبد الملك البكّائي العامري الكوفي ت 138ه. ولبثت السيرة خيطاً مشدوداً بين التاريخ والدين، فلم تحز الياتها الفنية بالشكل المتفق عليه الا بعد انفتاح فن السيرة العربية على فن السيرة الغربية ويبدو أن الغرب قد فصل فن السيرة عن الغائيات التاريخية والدينية والوعظية وامتلك تجربة رائدة في ديباجة السيرة منذ سقراط، وقد هوّن الفيلسوف الألماني أزوولد شبنغلر (1880-1936) في كتابه The decline of the west من شأن التجربتين اليونانية والرومانية في فن السيرة ورأى ان المصريين القدماء أنجزوا نصوصاً مهمة في فن السيرة، وقال ان الحضارتين اليونانية والرومانية توصلتا إلى احراق جثث الموتى واهمال تدوين أعمالهم، فإذا تقادم عهد وفاة أحد العظماء بنصف قرن مثلاً اختلطت اخباره الأكيدة بالخرافات والأساطير وأخبار الآلهة فكان احساس شعوب الحضارتين بالتاريخ هشّاً، وكان اليونان والرومان يشخصون أبطال أساطيرهم بهيئة تماثيل أو أناشيد أو مسرحيات ولم يفكر أي عظيم منهم بكتابة سيرته الذاتية بما في ذلك سقراط وأفلاطون وارسطو! أما المصريون فكانوا لفرط احساسهم بالتاريخ يحنّطون موتاهم ويدوّنون سيرهم ويصنعون تماثيلهم من البازلت والجرانيت مما يشجع على القول ان المصريين ذوو حساسية مفرطة مع الزمن والتاريخ، إ.ه وهذا الرأي المهم يجاور رأي ارنولد توينبي (1889-1975) الذي شكك بقدرة الغرب على مواجهة التحديات القادمة وأشاد بالمقابل بقدرة العرب، وتأيد له أن الإبداع العربي الأدبي كان عنصراً أساساً في مواجهة التحدي وقد أسس الجدل الغاطس أو الواضح بين (السيرة) و(التاريخ) كتابات مزدوجة فكتابة –فلوطارخس- عن عظماء اليونان والرومان كانت مزيجاً من التاريخ و السيرة! ولذا انكر -كولنجوود- ذلك الجدل في كتابه (مفهوم التاريخ) وذلك الرأي يشاكل رأي توينبي الذي نفى ان تكون السيرة تاريخا فأقصى سيرات القديس اوغسطين وجان جاك روسو والملكة فكتوريا عن التاريخ لأنها سيرات ذاتية (اذا خلطنا التاريخ بالسيرة وقعنا في الخطأ)!! لكن هذا الفصل الإعتسافي بين التايخ والسيرة غير صحيح وبالقدر نفسه يكون ارتباط السيرة بالتاريخ خطأ أيضاً!! ومع اقرارنا بأن السيرة غير التاريخ، فان السيرة ربما نهلت من التاريخ واستثمرت ذلك لتدخله ضمن قالبها الفني! وكذلك الشأن مع التاريخ، فربما استثمر السيرة كوثيقة! ولا يمنع الفرق بين لغتيهما ووظيفتيهما من الاستفادة المتبادلة! لقد عانت السيرة من انفتاح دائرتها على التاريخ والدين والأخلاق والحكمة فضلاً عن اختلاط المفهومات بينها وبين المقالة والمذكرات والحكاية كما عانت من تكريس بعض كتابها التقليديين هذا الفن على الأسماء الكبيرة وتنكبها عن الإصغاء لنبض قلوب الناس الاعتياديين، وكتاب السيرة ذوو هموم وأهداف وأساليب ومروءات مختلفة وذلك جانب صحي ينتفع منه القارئ كما تنتفع منه السيرة! إن للسيرة الذاتية حدوداً مضطربة، مع أنها الأكثر شهرة وجاذبية بين فنون الأدب الأخرى، وسيمر وقت غير قصير كي ترسم السيرة حدودها التي تفصل بينها وبين فنون الأدب الأخرى.. ونحاول في الآتي صياغة المحاولات التي سعت إلى ترسيم حدود السيرة الذاتية! قارن (حدود السيرة)! 1- السيرة نص أدبي يحكي حياة إنسان مشهور أو إنسان مغمور تستحق حياته أن يكتب عنها لتوفرها على عناصر مهمة، فقد كتب ادولف هتلر مثلاً سيرته الذاتية وأسماها (كفاحي) وكتب المهاتما غاندي (قصة تجاربي مع الحقيقة) وكتب عبدالله ملك الأردن مذكرات الملك عبد الله ثم كتب الملك حسين بن طلال مذكراته! وكتب الملك المغربي الحسن الثاني مذكراته! وهؤلاء أعلام مشهورون تجتذب حياتهم الخاصة آلاف القراء الذين يتحرّقون شوقاً لمعرفة خبايا حياتهم وثمة اناس اخرون وجدوا أن حياتهم غنية بالتجارب العميقة والأحداث المهمة فكتبوا مذكراتهم، وقد قرأنا كماً غير قليل من الكتب التي أصدرها معلمون أو طلبة ذاقوا الغربة أو مرافقو رجال مهمين كما كتبت بعض الفنانات (أو كتب لهن) سيرتهن الخاصة وتحدثن عن علاقاتهن العاطفية مع أعلام كبار مثل الراقصة بديعة مصابني والممثلة السينمائية برلنتي عبد الحميد.. 2- تكتب السيرة بضمير المتكلم، فصاحب السيرة هو الراوي وأحياناً بضمير المخاطب كأن يقول صاحب السيرة.. انك يا صاحبي صيّاد ماهر للمشاكل ويعني: إنني صياد ماهر للمشاكل!! وقد تكتب السيرة بضمير الغائب، فلكل كاتب ذوقه الخاص وأدواته الذاتية في انتقاء الضمير الذي يناسبه، وأياً كان الضمير.. فالسيرة تدور حول اسم صاحبها. 3- السيرة نص يهتك حياة صاحبها، وهي مختلفة عن المذكرات أو الخواطر أو اليوميات مع الإقرار بوجود حالة من التداخل. 4- كأن السيرة تجيب عن هذه الأسئلة س: أيها القارئ إنني أعرض عليك صداقتي.. أموافق أنت على ذلك؟ س: أنا مشهور كما تعلم، هل ترغب في معرفة الطريق الدامي الذي سلكته لأصل إلى ما أنا عليه؟ س: هناك أناس (رجال أو نساء) مشهورون، يبدون ورعين، وأنا كفيل بكشف الغطاء عن فضائحهم التي تزكم الأنوف! س: لدي حماقات عاطفية تستحق الحديث عنها، ومغامرات سياسية مروّعة، وتجارب في الغربة لا تنسى.. أمصغ أنت لها؟.. الى آخر الأسئلة. 5- قد تتحدث السيرة الذاتية عن رجل أو امرأة أو مدينة أو قرية أو حقبة زمنية أو حادثة أو مجتمع.. 6- قد تحكي السيرة حياة الكاتب من خلال حديثه عن المدينة، أو نكتشف سيرة المدينة من خلال سيرة الكاتب. 7- بعض السير يمكن استثماره وثائق تنفع المؤرخين أو علماء النفس أو علماء الإجتماع أو علماء النظرية.. سواء أتعمّد الكاتب ذلك أم جاء عفو الخاطر.. 8- تكتب السيرة –أحياناً- لدوافع غير فنية، وبخاصة إذا كان الكاتب ممسوساً بداء العظمة أو مدعيّاً أو كذاباً.. أو إنسانا قزماً يستعير قامة غيره واحيانا تكون السيرة ترويجاً للسلطة أو مذهب ما.. أومؤسسة مالية!!ودعاية لتاجر مثر،أومهرج يتقن المشي على الحبال وصباغة وجهه..فما العمل؟! 9- بعض المخفقين من كتاب السيرة.. يجعلون السيرة تعويضاً عن الفرص التي افتقدوها.. والمواقف التي لم يحسنوها.. والكلمات التي أساءوا بها واليها.. فيتحدثون عن أسماء موهومة وبطولات مزعومة.. نظير السيرة التي كتبتها ثريا اسفنديار زوج شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي. 10- سيرة الفضائح، تنـزل الحضيض لإرضاء القارئ ويتحكم في صياغتها وَهْمُ قَوْلِ الصدق فيفضح الكاتب نفسه والأبرياء من أصدقائه ومعارفه.. نحو ما فعله جان جاك روسو.. فقد ذكر فضائح أساءت إلى أناس كان يمقتهم ونحو ما فعلته الفنانة بديعة مصابني.. فقد زجّت بأسماء سياسية مهمة ووجوه اجتماعية ذات شأن ورجال دين ورعين وادعت أنهم أقاموا علاقات (ماجنة) معها.. وتذكر الأسماء والتواريخ والأمكنة لتدخل في روع القارئ أنها صادقة!! 11- سيرة القصاص.. وهي تعتمد على تصفية الحسابات كأن يذكر صاحب السيرة –عرضا- اسم زعيم وطني ويدعي انه كان يقبض من سفارة أجنبية مبلغاً من الدولارات لقاء تقارير يقدمها عن وطنه! أو يذكر اسم استاذة قديرة ويدعي أنها راودته يوم كان تلميذاً.. وبعض الأدباء النرجسيين الذين قصرت قاماتهم عن مطاولة قامات زملائهم.. فانهم يزعمون ان زوجة الأديب الرائد فلان كانت تعرض نفسها عليه أو على أي ضيف وزوجها لا يعلم.. هي تصفية حسابات بطريقة شيطانية… وقد كتب الروائي القاص الرائد ذو النون أيوب سيرته الذاتية وحشاها بالأباطيل والأكاذيب لكي يسيء إلى كثير من الأدباء والفنانين، وقيل ان حوادث قتل وطلاق جرت بعد صدور سيرته الذاتية!!. 12- يمتلك (فن السيرة الذاتية) جمهوراً عريضاً لا يدانيه جمهور أي فن أدبي اخر، لأنه اقرب إلى مزاج القارئ من الفنون الأدبية الأخرى بيد ان هذا الفن لم يتطوّر عربياً ولم يحصل على مساحته المشروعة بسبب غياب الحرية أو غياب الوعي لدى بعض الكتاب والقراء أو الخوف الشخصي من قول الحقيقة.. فقد يكتب الروائي سيرته الذاتية بهيئة رواية لكي يسقط على البطل كل مشاعره، فيتحرك البطل بحرية تامة دون ان ينال كاتب الرواية أي شعور بالخوف أو الذنب وقد تصدر السيرة بهيئة قصيدة أو ديوان، فكل نص ممكن أن يكون في الآخرين إلا نص السيرة!! 13- نمطان من السيرة الذاتية –ثمة- الأول يصف الخارج من بيوت ووجوه وأحداث والآخر يصف الداخل فيحلل المشاعر ويستبطن السلوك. 14- يمكن النظر إلى بعض الحكايات الموجودة في كتب التراث على أنها شكل من أشكال السيرة.. من نحو ما ذكره ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة وابن خلدون في التعريف وأسامة بن منقذ في الاعتبار!! 15- توفرت عناصر السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين وتربية سلامة لسلامة موسى وحياتي لأحمد امين وكذلك مذكرات محمد كرد علي ومذكرات الرافعي ومذكرات محمد شفيق باشا، ومذكرات محمد حسين هيكل. 16- ويرى د.إحسان عباس، ان الأيام سيرة ذاتية فنية أدبية لو أن طه حسين أجرى فيه بعض التعديلات لأصبح قصة كما فعل توفيق الحكيم في عودة الروح والمازني في إبراهيم الكاتب والعقاد في قصة سارة، ثم يؤكد د.عباس ان في هذه الكتب شيئاً غير قليل من العناصر الذاتية والترجمة الشخصية بيد انه موضوع في اطار قصصي (ممزوج بقسط غير قليل من الخيال؛ فهي كتب لاحقة بالقصص لا بالسير الذاتية) 17- السيرة الذاتية للكاتب أو لمن ينتقيه للكتابة تشكل بؤرة الأعمال القصصية والروائية والحكايات والقصائد لأن السيرة تقول أشياء تهم المنتج كثيراً فهي بانوراما مرسومة في وجدانه بالأسماء والأحداث والأمكنة والتواريخ دون مواربة أو تمويه! في حين ان الرواية تضلل القارئ بتقنيات فنية لكي لا يشتبه بالروائي! ويمكن القول ان رواية الوشم سيرة ذاتية للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي وأصدقائه ورفقائه وإن حاول إبعاد شبح هذه المقولة عن روايته. 18- (أول سيرة ذاتية عربية ظهرت في العصر الحديث هي كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق لأحمد فارس الشدياق وفيها حديث عن تنقلات الشدياق وبعض أحواله ولكن هذا كله غارق في الاستطرادات والمترادفات اللغوية وفي السخرية والمجون وهما من أبرز خصائص الكتاب، د.احسان عباس ص 130) نصوص من فن السيرة الذاتية * دعني أخبرك اني أحد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة، وذلك اني كنت اشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نعم، وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخُلقاً وموافقة لي، وكنت أنا صاحب عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة ففجعتني بها الأقدار واخترمتها الليالي، ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسنّي حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد اقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفترّ لي دمعة على جمودعيني وقلة اسعادها وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الان، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من خالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً طائعاً، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها؛ ولقد عفا حبي لها على كل ما قبله وحرم ما كان بعده. ابن حزم الأندلسي * ومرة كنت معه وهو واقف في قاعة داره، وإذا حية عظيمة قد اخرجت رأسها على افريز رواق القناطر التي في الدار فوقف يبصرها فحملت سلماً كان في جانب الدار اسندته تحت الحية وصعدت اليها وهو يراني ولا ينهاني، واخرجت سكيناً صغيراً من وسطي وطرحتها على رقبة الحية وهي نائمة وبين وجهي وبينها دون الذراع، وجعلت أحزّ رأسها، وخرجت فالتفت على يدي إلى ان قطعت رأسها والقيتها إلى الدار وهي ميتة. اسامة بن منقذ * زرت اليوم مكاناً لعله أرعب الأمكنة بعد مسارح الجرائم الخفية، أعني القاعة الكبرى في محكمة الجنايات، ذهبت إلى تلك القاعة حيث تنعقد المحكمة العسكرية لمحاكمة المتهمين.. دخلت الدهليز الواسع بين الجنود المنتصبين يمنة ويسرة، فتلقاني جندي حاجب، قدمت له تذكرة الدخول فأوصلني إلى آخر، وسار بي هذا إلى ثالث وأنا أعدّ الأزرار الذهبية المنضّدة على كتف كل منهم واتظاهر بعدم الإكتراث لاسكت دقات قلبي فوجدتني بغتة في قاعة متوسطة الإتساع وبدلاً من أن أخطو وراء الجندي الذي سار ليدلني على مكاني ظللت واقفة وانا في اجفالي اتفرس في الوجوه المستوية في صدر القاعة.. الجميع يحدّقون فيّ أم انا في هلوعي اظنهم فاعلين؟ رفعت بصري اتبين الأمر في سيماء القضاة فإذا بهم يرقبونني وقد ادركوا في سرهم مقدار جزعي واضطرابي.. مي زيادة * خرجت من ظلمات المجهول إلى عالم غير مستعد لتقبلي. أمي حاولت التخلص مني في الشهور الأولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة ولكنها فشلت. عشر مرات حملت أمي خمسة بنين اعطت الي الحياة وخمس بنات، ولكنها لم تحاول الإجهاض قط الا حين جاء دوري.. هذا ما كنت اسمعها ترويه منذ صغري. كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع. يوم تزوجت كانت في الحادية عشرة من عمرها، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد واستمرت هذه الأرض السخية -كأرض فلسطين- تعطي أبي غلتها من بنين وبنات بانتظام.. احمد-إبراهيم-بندر-فتايا-يوسف-رحمي! كان هذا كافياً بالنسبة لأمي وآن لها ان تستريح ولكنها حملت بالرقم السابع على كره، وحين التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبثاً في رحمها تشبث الشجر بالأرض وكأنما يحمل في تكوينه روح الإصرار والتحدي المعتاد؛ ولأول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع أبي عن محادثة أمي لبضعة أيام فقد أغضبته محاولة الإجهاض!! كان المال والبنون بالنسبة له زينة الحياة الدنيا، وكان يطمع بصبي خامس، لكني خيبت أمله وتوقعه أصبح لديه الان ثلاث بنات مع البنين الأربعة وتبعني فيما بعد: أديبة ثم نمر ثم حنان، فاستكملنا العدد (عشرة).. لم تكن الظروف الحياتية التي عاشتها طفولتي مع الأسرة لتلبي حاجاتي النفسية، كما ان حاجاتي المادية لم تعرف في تلك المرحلة الرضى والارتياح …. لقد ظللت أتلهف للحصول على دمية تغمض عينيها وتفتحها وكنت استعيض عن دمية خرجت من مصنع بدمية تصنعها لي خالتي أم عبد الله وابنة الجارة علياء من مزق القماش وقصاصاته الملونة. ولم أكن احب ملابسي لا قماشاً ولا تفصيلاً. فقد كانت أمي تخيطها بنفسها ولم تكن تتقن هذه الصنعة، وكانت ابنة عمي شهيرة تلبس دائماً أجمل مما ألبس بما لا يقاس، إذ كانت امها تبعث بملابسها إلى خياطة محترفة! أما بنيتي فكانت عليلة منهكة بحمى الملاريا التي رافقت سني طفولتي! وكان شحوبي ونحولي مصدراً للتندر والفكاهة، وإطلاق النعوت الجارحة عليّ! تعالي يا صفراء، روحي يا خضراء… كان ضعف شهيتي للطعام من ضمن اعراض ضعفي الجسدي العام فلم اكن طفلة شرهة … ابنة عمي شهيرة كانت تكبرني بأربع سنوات وحين ماتت في الرابعة عشرة من العمر بمرض الروماتيزم لم يهزني موتها! كانت تعذبني بترفعها وتعاليها عنى. ترشقني باستمرار بنظرات عدائية قاسية، وقد نشأنا في نفس الدار والبيئة ولم أكن لأهتدي إلى سبب كرهها لي، فقد كانت مدللة من قبل والديها وتتمتع بالحب والاهتمام اللذين ظللت اتوق اليهما في طفولتي، كان لها قرطان ذهبيان يتدليان على جانبي عنقها الأبيض وكنت احب حركة القرطين وهما يرقصان كلما حركت رأسها! وكم تمنيت لنفسي مثل هذين القرطين البراقين الراقصين، ولكن هيهات، فما كان أحد ليعنى بتلبية حاجاتي المادية دعك من حاجاتي النفسية. كانت غرفتنا تواجه غرفة زوجة عمي وبناتها الثلاث، ولم يكن من تقاليد البيت ان ينام الوالدان في نفس الغرفة فللأب دائماً غرفة نومه الخاصة أما الأم فكانت تنام مع أطفالها في غرفة أخرى. فدوى طوقان *1- البداية هي مجلة (سمير التلميذ) المصرية يا صديقي؛ فقد عرفتها وأنا في السنة الثالثة من الدراسة الابتدائية ففتنتني، أي يوم كنت في الثامنة من عمري، فأنت تعلم أنني من مواليد1930…، وقد شغفت بتلك المجلة شغفاً عظيماً فكنت أفضّل قراءتها على أداء واجباتي المدرسية وأستطيع القول أنها كانت معلمي الأول في القصة، وأنا مدين بمعرفتي لهذه المجلة بتوجّهي نحو القصة إلى أخي المرحوم الدكتور جعفر أستاذ التاريخ السابق الذي كان يحرص على إحضارها لي في مطلع كل أسبوع ص7 وأستطيع القول أن معرفتي بمجلة الرواية المصرية كانت هي المرحلة الانتقالية التالية في حياتي الأدبية، والحقيقة أنني أعتبر معرفة هذه المجلة ذا خطر عظيم في حياتي، هذه المعرفة التي قادتني إلى القراءة الأدبية الجادة، وكانت مجلة الرواية شقيقة لمجلة (الرسالة) وكان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، ثم توقفت (الرواية) في أوائل الأربعينات بينما توقفت الرسالة في الخمسينات…ص16. 2-لقد عرفت غائب طعمة فرمان في القاهرة ولم أكن قد سمعت به أو قرأت له، وكانت تجمعنا ندوة كازينو أوبرا، وكان يدرس على نفقته الخاصة فكان بالكاد يقوّم أوده ولكنه لم يشك يوماً؛ واضطر إلى العمل محرراً في مجلة الثقافة ولم يكن يُجْزَ على عمله سوى القليل وكان يبدو شاحب الوجه معتلّ الصحة دائماً. وكانت عيناه الناعستان تطلاّن من وراء نظارته السميكة وهما تعكسان شيئاً من التعب والإرهاق،.. زرته في المستشفى فوجدت أنه يعاني من مرض السل في مراحله المبكرة وحزنت لذلك حزناً شديداً وانقطع عن الدراسة في ذلك العام وأمضى عامه في المستشفى أو على الأدق في المصح.. وبمناسبة الحديث عن المصاعب التي أحاطت بحياة غائب في القاهرة أقول بأن هذه المصاعب لاحقته أيضاً في إقامته الطويلة في موسكو وقد عمل هناك مترجماً في دار التقدم وقد ساهم غائب بترجمة بعض تلك الآثار بأسلوبه الجميل الرائق ولغته الشفّافة العذبة،.. وقد تزوج غائب من طبيبة روسية لكنه كان زواجاً فاشلاً انتهى بهما إلى الطلاق بعد سنوات قليلة وقد ظلا يعيشان في نفس الشقة لسنوات طويلة بسبب مصاعب السكن ص120. 3-عبد المجيد لطفي يمثل في ذهني نمطاً شبيهاً بنمط محمود أحمد السيد في مثابرته على الكتابة رغم خيبة الأمل التي واجهته على صعيد السوق وعلى صعيد النقاد. فقد واصل الكتابة إلى آخر يوم من حياته. ولقد التقيته قبل أن يموت بسنوات قلائل (توفي عام 1993) وكان قد تجاوز الخامسة والثمانين لكنه لا يزال يحتفظ بوعيه الكامل وإن انقطع عن الكتابة؛ وكان شيء من الارتعاش قد أصاب يديه فصار من الصعب عليه الإمساك بالقلم؛ وقد ظل إلى آخر يوم من حياته محتفظاً بروحه المعنوية العالية وبميله إلى الفكاهة وكان مجلسه ظريفاً مؤنساً حافلاً بالملامح والأقاصيص الفكهة.. وكثيراً ما عجبت كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يحتفظ بهذه الروح الفكهة العذبة، فحياته العائلية لم تكن موفقة، ثمة فجوة بين زوجه العاطلة من الثقافة وبين تطلعاته الثقافية العالية. وكان طوال عمره يعيش عيشة الكفاف وكان منذ بداية الستينات من عمره يشكو أمراضاً عديدة وكان فوق ذلك كله يشكو جحوداً من الدولة والمعارف والهيئات الثقافية والسياسية.. وهنا أود أن أسجّل له بمداد الفخر إباءه وتمسكه بآرائه ومُثُلِه؛ فقد عرض عليه العمل في صحافة السلطة لقاء راتبٍ مُغْرٍ ولم يكن يملك سوى راتبه التقاعدي الضئيل فرفض العرض رفضاً باتّاً لئلاّ يتحول إلى بوق للسلطة وظل رافع الرأس متمسكاً بالكلمة الشريفة المخلصة الصادقة إلى آخر حياته ص72. د.شاكر خصباك *السيرة والرواية: السيرة الذاتية والرواية صديقتان مشاغلهما متشابهة واحلامهما متقاربة وقد مر بنا رباعية شمران الياسري التي كانت سيرة ذاتية لحقبة من النضال الوطني.. ورواية الوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي التي خبأ صوته فيها وهمومه وجعل الأبطال يتحدثون عن كثير مما يريد قوله عن حياته.. ويعد الروائي العراقي د. شاكر خصباك من أكثر الروائيين العراقيين رغبة في استثمار تقنيتي الرواية والسيرة لقول أشياء يراها مهمة، فإذا عدنا إلى الحكاية الأولى من رواية حكايات من بلدتنا الفيناها ضرباً من السيرة الذاتية للروائي ولبلدته المنتهكة! وربما قاده ذلك إلى وضع عنوان ينضح شجناً وعويلاً (البرابرة يغتصبون بلدتنا)! فصوت الراوي نتاج عدد من الأصوات تتمحور كما يتهيأ لنا حوله (كانت بلدتنا وادعة سعيدة، وكان حبها يعمر قلوبنا، وكثيراً ما هتفنا ونحن نخترق شارعها الرئيسي المظلل بأشجار النخيل: ما أحلى بلدتنا!؟ فالنهر يقدم من أعلى الجبل غاضباً هادراً وما إن يشارف بلدتنا حتى ينساب وكأنه يستلقي على صدر أم رؤوم) وشاكر خصباك يمعن في ترقيق صورة بلدته، فهي ام تحضن اولادها وتسكن ثورة النهر! وهي حبيبة باذخة الجمال والبهاء (وكانت بلدتنا تبدو في اجمل اوقاتها قبيل الغروب، فتياتـها يتهادين في الشارع الرئيسي بوجوه مشرقة وبسمات خفرة، وكان الشارع يزدحم بنا نحن الشبان، ونحن نتـنـزه جماعات جماعات، وكنا نختلس منهن نظرات عجلى هي كل زادنا في الحب)!! اذن هو رسم الروائي صورة وادعة محببة لمدينة عراقية نشأت وترعرعت على القيم النبيلة.. وفجأة يحدث الخراب ويعم الوباء وتروع هذه المدينة المسالمة التي تشبه الأم وهي ترى إلى فتيانها وفتياتها يتعرضون إلى التصفيات الجسدية المهينة (وذات صباح دوت شوارع بلدتنا بأزيز الرصاص وعجت بزئير البنادق، فترددت بيننا همهمات فزعة: لقد اغتصب البرابرة بلدتنا)! هذه الرواية سير ذاتية لبلدة عراقية في مطلع الستينات من القرن العشرين، بل هي سيرة ذاتية للكاتب نفسه وان خبأ صوت الراوي بـ (نا) المتكلمين وينسى أحياناً حين يستبدل ضمير المتكلمين (نا) بضمير النسبة للمتكلم (وحتى في اسباب إحجامي عن الزواج الذي كان يحير الحاجة –ام مهدي- على الخصوص.. لكن الحاجة أم مهدي كانت تظل واقفة حينما تلمحني مقبلاً من بعيد، وكانت نظراتها المحبة تصاحبني حتى مسكني) وقد التفت (غسان كنفاني) إلى نهج شاكر خصباك في توثيق الحدث بفنية عالية وروايته مزاج السيرة والحكاية!! يقول كنفاني (هذه الرواية الشظية، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة وكان طوال الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر) ولقد كان الجدل بين السيرة والرواية موضع اهتمام كثير من الدراسات الرصينة فقد افردت الدكتورة (سفيتلانا براجوغينا) الفصل الثاني من كتابها (حدود العصور حدود الثقافات) برمته لملاحظة التماهي بين فني الرواية والسيرة، اطلقت عليه (ادراك العالم الذاتي –تطور جنس السيرة كتطور للوعي الذاتي القومي) وقارئ هذا الكتاب مكتشف لا محالة ان كل الكتاب بفصوله الستة وخاتمته، انما هو جدل في السيرة والرواية، واجمل ما في هذا الكتاب المهم انه يلاحظ انعكاس الواقع المغاربي (المغرب- الجزائر-تونس) على الأدب وبخاصة الرواية، الواقع بشقيه الجمعي والفردي، وكان الأدب في المغرب العربي ميداناً رحيباً لدراسة هذه الباحثة الروسية القديرة فدرست اوسع مساحة من الروائيين، الطاهر بن جلون ورشيد بوجدرة وعبد الكبير الخطيبـي ومولود معمري وعلي بومهدي ومولود فرعون واحمد رضا حوحو ومرغريت طاووس واحمد صفريو ومحمد ديب والبير ميمي وادريس شرايبـي ونبيل فارس ومحمد خير الدين وعمروش وكاتب ياسين ومالك حداد كما درست روائيين آخرين والملاحظ أنها درست روايات السيرة المغربية على أنها خاضعة لمرجعية واحدة رغم الفروقات المحلية كما انها حشّدت في دراستها روائيين من أجيال مختلفة ومناهج متباينة وانتماءات متضادة، فكانت دراستها بحق موسوعة في الرواية المغاربية لا يمكن لأي دارس تجاوزها أو القفز فوقها، وقد وجدنا أهمية صناعة ملحق مقتبس من هذا السفر النفيس .