القضاء الإداري … (2)
يضعف بشكل كبير رقابة القضاء على الادارة في مجال انظمتها المستقلة حيث لا تخضع هذه الانظمة للرقابة القضائية الا من حيث الاختصاص والشكل اما من حيث المضمون فانها في معزل عن الرقابة ما اذا تضمن القرار خرقا واضحا لمقدمة الدستور او النصوص المتعلقة بها هذا مع العلم بان عددا كبيرا من المبادئ لم ترد لا في مقدمة الدستور ولا في النصوص المترتبة عليها.
لقد تعرض الراي القائل بعدم تبعية الانظمة المستقلة للقانون وعدم خضوعها للمبادئ العامة الى نقاشات فقهية كثيرة بل ان هذه المسالة كانت محل جدل كبير بين الفقهاء وقد تمخض عن الاطروحات المتعددة التي تعرضت لهذا الامر ظهور نظرية جديدة، تحتل المبادئ العامة بموجبها قيمة قانونية اعلى من قيمة القواعد التشريعية بمعنى اخر الاعتراف لهذه المبادئ بقيمة دستورية وبهذا التحليل التزم القضاء الاداري الفرنسي .
جـ معيار تمييز المبادئ العامة:
من بين القواعد الكثيرة التي يطبقها مجلس الدولة في فرنسا من دون نص مكتوب ، ما لا يمكن عدها مبادئ عامة ، وذلك لكونها لا تعدو ان تكون مجرد قواعد بسيطة او حلولا قضائية يلجأ اليها القاضي لسد النقص الذي يسببه سكوت النص، لتفسيره في حالة غموضه ولهذا سيكون باهضا ولا معنى له منع الادارة
من اصدار الانظمة المستقلة خلافا لمواضيع هذه القواعد او الحلول.
وبناء على هذا فانها لا تعد مبادئ عامة، وبما ان القضاء الاداري يؤلف المصدر الرئيس للمبادئ العامة فانه يتعين الرجوع الى احكامه لمعرفة ما اذا كان مبدا عاما للقانون من عدمه.
المطلب الثالث
الأحكام القضائية
بسبب تنوع المنازعات التي تعرض امام القضاء وتعددها يواجه القاضي حالات معينة لا تتوافر حلولها في التشريعات مع وفرتها وحيث انه ملزوم قانونا بايجاد الحل المناسب للنزاع والا كان منكرا للعدالة نجده يلجا الى ( استخلاص القواعد التي استقرت في نفس الجماعة وضمير المشرع مستهديا في ذلك بالمبادئ التي اوردتها النصوص في فروع القانون الاخرى اذا ناسبت الروابط الادارية، فان لم يجد وجب عليه ان يستوحي قواعد القانون الطبيعي ومبادئ العدالة ).
وتتمتع الحلول التي يبتدعها القضاء باهمية كبيرة في مجال القانون بوصفه قانونا غير متقن وقليل النصوص كما تؤلف هذه الحلول قواعد ومبادى جديدة تضاف الى المصادر المشروعية الاخرى التي تلتزم بها الادارة في تصرفاتها وان تجاوزها يعرض عملها الى حالة من حالات اللامشروعية ومن ثم تعرضها للجزاءات القضائية.
كما وتتمتع الاحكام القضائية بما يطلق عليه بـ( قوة الحقيقة القانونية) سواء في مواجهة اطراف النزاع او في مواجهة الكافة فما هو مصدر هذه القوة؟ وكيف يمكن الاحتجاج بالحكم القضائي في مواجهة الادارة؟
وللاجابة عن هذا فان قرار الحكم الذي اكتسب درجة القطعية يتمتع من حيث المبدا بصفة مميزة وهو ما يطلق عليه بحجية الشئ المقضى به.
(AUTORITEDE. CHOSE JUGEE) ويتضمن هذا المصطلح معنيين:
1ـ المعنى الشكلي : وهو ان قرار الحكم يجسد القوة الحقيقة القانونية او انه على راي الدكتور محمود محمد حافظـ ـ عنوان الحقيقة القانونية . وهذا يعني ان موضوع النزاع الذي صدر به الحكم لا يمكن ان يكون محلا لاي منازعة في المستقبل.
2ـ المعنى المادي : ويتعلق بتنفيذ قرار الحكم فاذا صعب تنفيذه تلقائيا، وجب تنفيذه من قبل السلطة العامة بقوة الوسائل التي تتمتع بها وذلك من اجل ايصال الشئ المضى به للمنتفعين من القرار.
اما من حيث الاحتجاج بالشئ المقضي به في مواجهة الادارة فان قرارالحكم ملزم لهذه الاخيرة من الناحيتين الشكلية والمادية، فمن الناحية الشكلية تعد الادارة ملزمة بالقرار القضائي سواء كانت طرفا في الخصومة ام لم تكن كذلك. وهذا في حالة ما اذا كان القرار ما يحتج به على الكافة. غير ان الادارة لا تلتزم بالشئ المقضى اكثر من التزام الافراد انفسهم بذلك اما من الناحية المادية فانه على الادارة ان تسعى بما تمتلكه من وسائل تنفيذ قرار الحكم الذي تستوجبه صيغة التنفيذ.
اذا كان الاصل ان تكون الادارة متوافقة بتصرفها مع قواعد المشروعية خاضعة لها فانه ولاسباب متعددة قد يخفف ضغط هذه القواعد على رجل الادارة فيستطيع التصرف خارج اطارها ضمن ما يتمتع به من سلطة تقديرية. وقد يتعطل العمل بشكل تام بقواعد المشروعية حيث تلجأ الادارة الى قواعد اخرى تمنحها سلطات واسعة، وهو ما يحدث في الظروف الا ستثنائية. واخيرا قد تتصرف الادارة خلافا لقواعد المشروعية دون الابطال وهو مانره عند اعمال نظرية أعمال الحكومة (السيادة).
وبناءا على هذا فاننا سنتناول في هذا الفصل نظرية السلطة التقديرية ونظرية الظروف الاستثنائية ونظرية اعمال السيادة مخصصين مبحث لكل منهم.
المبحث الاول
السلطة التقديرية للادارة
تبين قواعد المشروعية السبل التي على الادارة اتباعها عند ممارستها لانشطتها المختلفة، فان حادث تعرض تصرفها للمساءلة من قبل اجهزة الرقابة وعلى وجه الخصوص اجهزة الرقابة الادارية.
غير ان ملاحظة المشروعية من قبل الادارة وهي تمارس نشاطها قد يشكل مصدر ازعاج لها بسبب ما يتصف به هذا النشاط بصفة التغيير والتطور على وفق تغيير الظروف الامر الذي يجعل مسألة تنظيم هذا النشاط لجميع جزئياته سلفا من قبل المشرع ، امرا متعذرا ولهذا من اجل ان لا تتحول الادارة الى مجرد تنظيم يتحرك بصورة الية فتنعدم روح الابتكار ومواكبة التطور ، كان لابد من منح الادارة مجالا تتحرك فيه بشئ من الحرية بقدر ما تتطلب ذلك طبيعة النشاط وعلى وفق ما تتطلبه الظروف وكل ذلك من اجل تحقيق نشاطها بشكل سليم من اجل المصلحة العامة التي تسعى الى تحقيقها.
وبناء على ذلك، فانه لا يجب تحقيق الادارة بصورة مطلقة لضمان فعالية العمل الاداري، هذه الفعالية التي تتأثر الى حد كبير اذا ما حددت القواعد الموضوعة سلفا وبشكل تام جميع اوجه نشاط رجل الادارة .
ان تبني هذه الحقيقة من قبل المشرع، يؤشر اول تحديد لمدى انطباق مبدا المشروعية حيث تتمتع الادارة بمجال من الحرية في ممارسة نشاطها. وهذا ما يصطلح عليه بـ( السلطة التقديرية للادارة) .
مفهوم السلطة التقديرية:
لابد من الاشارة ابتداء إلى أن السلطة التقديرية التي تتمتع بها الادارة خروجا او استثناء على مبدا المشروعية ذلك ان تمتعها بمبدا الاختيار انما تمارس في المجالات التي تركها المشرع بإرادته وادارته التقديرية من دون ان يحددها في هذا المجال بقواعد مقيدة لتصرفها وهو أي المشرع ما فعل ذلك الا لتفهمه المساحة الملاءمة لتحقيق الاهداف التي تتوخاها الادارة من المصالح العامة. وبناء على هذا فالسلطة التقديرية، هي اعمال الادارة لحريتها في ممارسة نشاطها، عندما لا يكون هذا النشاط قد حدد مسبقا من قبل القانون بينما تكون سلطتها مقيدة عندما تفقد حرية الاختيار في حالة ما اذا كان تصرفها محددا سلفا من قبل القانون.
وفي الحقيقة فسلطة الادارة سواء كانت تقديرية ام مقيدة انما ترتبط بتقدير ملاءمة الاجراءات التي تتخذها فمن ناحية، نجد ان لرجل الا دارة حرية اختيار الحل الذي يراه ملائما حيث يعد في هذا ( قاضي الملاءمة ) بينما من ناحية ثانية محددا بالمعنى الذي حدد له مسبقا مهما كان رأيه الشخصي في مسألة الملاءمة.
قد يوحي ما بيناه آنفا، ان تصرفات الادارة اما ان تكون مقيدة بشكل كامل او تقديرية بشكل كامل، وليس هذا صحيحا على الاطلاق، ذلك ان الحالات التي يحدد فيها القانون اختصاص الادارة بالشكل الكامل او الحالات التي تترك فيها حرية الاختيار الكاملة للادارة انما تعد من الحالات المتطرفة وهي قليلة الحدوث في النشاط الاداري. ذلك ان القسم الغالب من تصرفات الادارة وقراراتها تتضمن في جانب منها اختصاصا مقيدا وفي الجانب الاخر سلطة تقديرية. فجانب التقدير في القرار الاداري انما ينصب في الحقيقة على بعض اركانه او واحد منها من دون بقية الاركان، والتي تبقى سلطتها فيها مقيدة .
اذن فالادارة لن تكون وبشكل مطلق في موضع سلطة تقديرية او مطلقة. ويمكننا القول بانه لا توجد سلطة مقيدة خالصة، اذ انه حتى في الحالات التي تكون فيها الادارة مجبرة على اتخاذ القرار فانها تملك بشكل او باخر ما يطلق عليه العلامة ( HAURIOU ) أي اختيار اللحظة المناسبة .
ومن الملائم ذكره ان اختيار وقت التنفيذ من قبل الادارة باختلاف القرارات فقد منح اشهر كاملة من اجل اخراج نظام يتعلق بتنفيذ قانون ما اذا كان الموضوع يتصف بالتعقيد . وقد لاتمنح اكثر من يومين في مسالة منح ايصال مؤقت. واذا كان الامر هكذا بالنسبة للسلطة المقيدة، فانه وبالمقابل لا توجد مطلقا سلطة تقديرية مئة بالمئة. فقد اختفت بين احكام القضاء منذ زمن طويل فكرة القرار التقديري الذي لا يخضع لرقابة المشروعية.
لقد خضع مفهوم السلطة التقديرية للادارة لمناقشات فقهية واسعة بصدد حدودها ورقابة القضاء لها . فوفقا للصيغة القديمة فان قاضي الالغاء انما هو قاضي مشروعية لا قاضي ملاءمة . كما يعبر عن هذه الصيغة الاستاذ (G.VEDEL) بان القاضي الاداري يراقب مشروعية التصرف دون ما يتمتع به من سلطة تقديرية. وهذا يعني ان القاضي الاداري يختص بمراقبة مدى تطابق الادارة مع قواعد المشروعية. دون التعرض ابحث ما اذا كان هذا التصرف ملائما. ذلك ان تقدير ملاءمة التصرف من حيث الظروف والملابسات المحيطة به امر متروك للادارة وحدها، غير ان هذا لا يعني من جانب اخر تحديد سلطة قاضي الالغاء برقابة المشروعية. لكون الملائمة انما ترتبط بسلطة الادارة التقديرية. فقد تخرج مسالة تقدير التصرف من سلطة الادارة التقديرية وتصبح عنصرا من عناصر المشروعية الامر الذي يوسع سلطة القاضي الاداري فيصبح قاضيا للملاءمة دون ان يخرج عن كونه قاضيا للمشروعية بوصف الملائمة قد تشكل عنصرا من عناصر لمشروعية كما في حالة تدخل سلطات الضبط الاداري عندما يرافق التدخل تقييد الحريات العامة.
وتشير احكام مجلس الدولة الكثيرة الى ان القاضي الاول لم يكتف بادعاء الادارة بان قرارها بالتدخل كان ضروريا لحماية النظام العام، وانما يتحقق بنفسه من صحة هذا الادعاء بالتدخل وتحديد مدى ملاءمته لتحقيق الغرض واذا تأكد عدم صحة الاسباب التي ادعتها الادارة او عدم تناسبها لان تكون باعثا للتدخل قضىبابطال قرار الادارة بعدم مشروعيته.
ان تعرض القاضي الاول للملاءمة عندما ترتبط بجوهر القرار الاداري وتشكل عنصرا من عناصر صحته يوسع بالنتيجة مجال السلطة المقيدة على حساب السلطة التقديرية. ان هذا التدخل من قبل القاضي الاداري دفع بعضهم الى القول ما اذا كان مجلس الدولة بتدخله هذا يتصرف كجهة ادارية عليا علما ان تأكيد هذا القول ينفي ان تكون هناك سلطة تقديرية للادارة.
وفي الحقيقة فان توسع سلطة قضاء الالغاء لا تنهي مفهوم السلطة التقديرية لما لهذه السلطة من اهمية بالغة في طبيعة التصرف الاداري وما يخضع لها من قواعد امرة تبين اوجه هذا التصرف من ناحية، وما تفرضه عليه ظروف الحالات التي يتعامل معها من ناحية ثانية، فضلا عن رقابة القاضي الاداري لملاءمة القرار الاداري تنحصر في الحالة التي تشكل فيها هذه الملاءمة عنصرا جوهريا في عناصر صحة القرار، اي انها لا تتجاوز حد( الملاءمة ) التي تركها المشرع لتقدير الادارة حيث تتجلى سلطتها التقديرية.
ولما كانت صحة او مشروعية القرار الاداري تستنتج من مشروعية اركانه المكونة له؛ نرى لزاما علينا التعرف إلى هذه الاركان من ناحية ما تتمتع ازاءها الادارة من سلطة مقيدة كانت ام تقديرية .
تكييف سلطة الادارة من خلال قرارها:
يكون القرار الاداري صحيحا بقيامه على مجموعة من الاركان؛ منها ما يتعلق بمظهره الخارجي ومنها ما يتعلق بمحتواه الداخلي
أـ الاركان الخارجية:
يشكل ركن الاختصاص وركن الشكل مظهر القرار الخارجي وهما يتعلقان بكيفية ممارسة السلطة ولا يتصرفها (يمارسها) الا جوهريا. كما انهما وكما يقول الدكتور عصام عبد الوهاب البرزنجي لا يمكن ان تكون لهما اي علاقة بفكرتي السلطة التقديرية والسلة المقيدة، ففيما يتعلق بركن الاختصاص فهو محدد بموجب القواعد القانونية المنظمة للنشاط الاداري، سواء اكتفت هذه القواعد بتحديد الشخص الاداري دون تحديد الشروط المتعلقة ببقية الاركان او تحدد فضلا عن الشخص الاداري المختص بعض اركان القرار الذي يتخذه . وفي الحالتين لا نكون امام سلطة تقديرية او مقيدة.. ذلك ان صدور القرار من غير الشخص الذي حددته القواعد القانونية يشكل انتهاكا لقاعدة الاختصاص.
ولا يختلف الامر بالنسبة لركن الشكل ذلك انه لا يعدو ان يكون المظهر الخارجي لادارة السلطة الادارية بغض النظرعن موضوع هذه الادارة سواء كانت هذه الادارة تقديرية او مقيدة واذا ما تسامح القضاء الاداري بان تخرج الادارة احيانا عن قواعد الشكل فان ذلك لن يكون اعترافا منه للادارة باي مجال للتقدير بالنسبة لعنصر الشكل في القرار الاداري . ولكن لاسباب اخرى كالتمييز بين الاشكال الجوهرية وغير الجوهرية والتمييز بين ان تكون قواعد الشكل مقررة لمصلحة الادارة او لمصلحة الادارة والافراد.
ب ـ الاركان الداخلية:
يكون السبب والمحل والغرض اركان القرار الداخلية وهي جوهر القرار ومضمونه: والسبب في القرار يتمثل بمجموعة العوامل القانونية او الواقعية او كليهما الأمر الذي يعتمد في ذهن رجل الادارة وتدفعه الى اتخاذ القرار فهي الباعث على اتخاذ القرار ذلك انه لابد لرجل الادارة ان يقيم قراره اما على واقعة عملية او قاعدة قانونية كانت هي السبب الذي حثه على اتخاذ قراره.
اما المحل فهو مادة القرار وجوهره والاثر المباشر له ذلك ان القرار يتجه مباشرة الى احداث مركز قانوني . فهو اما ان ينشئ مركزا قانونيا جديدا او يعدل او يلغي مركزا قانونيا قائما . ومن البديهي فان هذا الاثر هو ما اقره القانون والا كان القرار باطلا.
واخيرا فالغرض هو النتيجة النهائية من القرار ولما كانت الادارة تسعى في جميع تصرفاتها الى تحقيق المصلحة العامة فلابد ان يكون الغرض من القرار تحقيق هذه المصلحة . في هذه الاركان تتجلى حقيقة ما اذا كانت الادارة تتمتع بسلطة تقديرية او انها مقيدة الاختصاص.
فبالنسبة لركن السبب تكون الادارة مقيدة اذا ما حدد القانون بواعث اتخاذ القرار بشكل لا يترك فيه للادارة أي حرية التقدير. وتكون تقديرية في حالة ما اذا ترك لها حرية اختيار السبب الذي تقيم قرارها عليه وفي الحقيقة فانه يجب التمييز بين عناصر السبب القانونية والواقعية. وذلك لانه من الصعب ان نتصور وجود سلطة التقدير في عناصر السبب القانونية فهي اما ان تكون موجودة فيلتزم بها رجل الادارة واما غير موجودة اصلا فتنتفي امكانية اقامة القرار استنادا اليها، اما بالنسبة للعناصر الواقعية فقد يترك المشرع حرية تقديرها لرجل الادارة وهي لا تخضع من حيث الاصل لرقابة القضاء سواء فيما يتعلق بالتحقيق من صحة وجودها.
اما موضع سلطة الادارة في المحل فهي مقيدة اذا ما حددت القواعد القانونية والمركز القانوني الذي يجب ان يستهدف تحقيقه القرار حيث لا يوجد في هذه الحالة مجال للتقدير. ويعد قرارها مشوبا بعيب مخالفة القانون اذ لم يتطابق محله مع القواعد القانونية اما اذا ترك المشرع للادارة حرية اختيار المركز القانوني الذي ينصب عليه قرارها فانها اذن تتمتع بسلطة تقديرية تستطيع بموجبها اختيار المحل المناسب بتخويل من القانون. والجدير بالملاحظة ان موضوع السلطة مقيدة كانت ام تقديرية تتجلى بشكل واضح عندما تتعلق بركني السبب والمحل معا. فقد يتولى القانون تحديد بواعث اتخاذ القرار ومحله كما في حالة ما اذا توافرت شروط مقيدة ينتج عنها قانوني معين ومثال ذلك منح رخصة الصيد في فرنسا، فهي تمنح لطالبها متى توافرت الشروط المطلوبة لهذا المنح. ومن الطبيعي فان سلطة الادارة في هذه الحالة سلطة مقيدة كما يحدث ان يترك القانون للادارة حرية اعمال في اختيار سبب القرار ومحله ففي حالة تدخل سلطات الضبط الاداري لحفظ النظام مثلا قد يترك المشرع لهذه السلطات حرية تقدير اهمية الوقائع التي تبرر التدخل ويترك لها حرية اختيار الوسائل الكفيلة باعادة النظام العام الى نصابه ولا ريب ان الادارة في هذه الحالة تتمتع بسلطة تقديرية واسعة.
واخيرا وبالنسبة لركن الغرض والذي يعد الغاية النهائية التي يسعى القرار الاداري لتحقيقها فالادارة وكما هو ثابت تسعى في جميع اعمالها الى تحقيق هدف واحد، وهو المصلحة العامة. فهي اذن بما تتمتع به من سلطات محددة بتحقيق هذا الهدف بمعنى اخر، تمثل المصلحة العامةالمصب الذي يجب ان تنتهي اليه كل قنوات التصرف الاداري. ومن اهمها بطبيعة الحال القرار الاداري فاذا ما حادت عن هذه الغاية الى غاية اخرى لاتعد من المصلحة العامة، تكون قد انحرفت بالسلطة. ان قيد عدم الانحراف بالسلطة عن هدف المصلحة العامة يعطي القضاء قوة رقابية تستطيع معها الحد مما تتمتع به الادارة من سلطة تقديرية. وفي ذلك تقول المحكمة الادارية العليا في جمهورية مصر العربية ان الرقابة القضائية ليست حقيقة على قدر واحد بالنسبة لجميع التصرفات الادارية بحسب المجال الذي تتصرف فيه ومدى ما تتمتع به من حرية وتقدير في التصرف. وهي تضييق حقيقة في مجال السلطة التقديرية حيث لا يلزم القانون الادارة بنص يحد من سلطتها او تقييد من حريتها في وسيلة التصرف والتقدير. الا ان الرقابة القضائية موجودة دائما على جميع التصرفات الادارية لا تختلف في طبيعتها وان تفاوتت فقط في مداها وهي تتمثل في هذا المجال التقديري في التحقق من ان التصرف محل الطعن يستند الى سبب موجود ماديا وصحيح قانونيا وان يصدر مستهدفا الصالح العام.
قد يبدو ان قيد عدم الانحراف عن هدف تحقيق الصالح العام يجعل من سلطة الادارة فيما يتعلق بركن الغرض سلطة مقيدة. غير ان الامر ليس كذلك حيث يتعين عدم الخلط بين فكرة الاختصاص المقيد وبين ضرورة تقييد الادارة بفكرة المصلحة العامة كهدف لقراراتها. فاذا ما حدد القانون هدفا معينا من اهداف المصلحة العامة تفقد الادارة سلطتها بالاختيار وتكون مقيدة بالهدف الذي حدده القانون وماعدا ذلك فللادارة حرية اختيارالهدف الذي ترتأيه من الاطار العام للمصلحة العامة وهي بذلك تمللك سلطة تقديرية في هذا المجال.
المبحث الثاني
نظرية الظروف الاستثنائية
اعمالا بمبدا الشروعية فانه يتعين على الادارة الالتزام بالقانون في اي وقت وايا كانت الظروف.. بيد ان هذا المفهوم ان كان صالحا في ظل ظروف وازمة اعتيادية فانه لا يصلح للتطبيق في ظل ظروف ازمة غير اعتيادية وقد يترتب على الاصرار على تطبيقه استفحال الازمة بما يؤدي الى انهيار الدولة او على الاقل تعريض سلامتها لمخاطر شديدة.
فقد يتعرض اي مجتمع من المجتمعات في بعض الاحيان حالات طارئة غير اعتيادية كالحرب وكوارث طبيعية وانتشار اوبئة….. الخ تهدد كيان المجتمع وتعرض تنظيمه السياسي لاخطار كبيرة . في مثل هذه الظروف الاستثنائية لابد وان توسع الادارة من اختصاصات عملها حتى وان خرجت هذه الاختصاصات الجديدة عن الضوابط المقررة في القوانين القائمة لان هذه القوانين لن تسعف الادارة في مواجهة تلك الظروف التي تقتضي سرعة التصرف حفاظا على سلامة البلاد ودرءا للاخطار عنها .
لذلك كان لابد من ان يتوسع مبدا المشروعية ليشمل هذا الجانب الاستثنائي وبالشكل الذي يمكن الادارة من التصرف بقدر من الحرية ومنحها بعض السلطات الخاصة على النحو الذي قد يتعارض مع قواعد المشروعية العادية الاستثنائية ولكنه لا يحيد عن كون مبدأ سلامة الشعب هي القانون الاعلى الذي يجب ان يسمو على القوانين الوضعية.
ومن اجل الحفاظ على مفهوم الدولة القانونية الذي كان حصيلته مبدا المشروعية، جاهد الفقه من اجل تشييد نظرية عامة تحتوي فكرة المشروعية الاستثنائية او مايطلق عليها مشروعية الازمات وذلك لكي يكون اساسا قانونيا لكل خروج عن الحدود التي تضعها القوانين الوضعية القائمة. وقد كان للقضاء الاداري في فرنسا على وجه الخصوص دور بارز في تشييد هذه النظرية في نطاق القانون العام وذلك بوضع الضوابط الدقيقة التي تنظم وتحدد هذا الخروج” الخروج على القوانين” من جانب الادارة وتكفل في الوقت نفسه رقابة فعالة قادرة على حصر هذا الخروج داخل هذه الضوابط وتلك الحدود، كل ذلك في اطار موازنة دقيقة بين اعتبارات المحافظة على حقوق الافراد وحرياتهم وبين سلامة الدولة ودرء ما يهددها من مخاطر.
لقد تبنى المشرع في عدة دول بعض تطبيقات هذه النظرية ونظمها في قواعد محددة سلفا تمكن الجهات المعينة من مواجهة الظروف الاستثنائية او بعضها بالطرق والاساليب وفي الحدود التي ينص عليها اما بالقواعد القانونية او في النصوص الدستورية.
ان هذه النصوص الدستورية او التشريعية تخول الادارة سلطات عدة مميزة، اهمها اصدار انظمة الضرورة وهي قرارات ادارية لها قوة معينة علاوة على بعض الاختصاصات الاخرى التي تحمل اساسا الطابع الفردي او التنفيذي.
ولا شك ان دراسة نظرية الظروف الاستثنائية تفترض بالاساس قيام دولة قانونية، ولذلك فان سلطة اتخاذ القرارات التنظيمية او الفردية لمعالجة الظروف الاستثنائية لا تعد حقا خالصا للادارة، بل ان اختصاصها في ذلك مقيد بوجوب تحقيق شروط معينة فهي اذن لا تستطيع ممارسة هذه الاختصاصات الا حين توافر هذه الشروط التي تسوغ هذه الممارسة وهذا يعني خضوع تصرفات الادارة في ظل الظروف الاستثنائية للرقابة. ذلك ان نظرية الظروف الاستثنائية قد تعرض حقوق وحريات الافراد الى مخاطر جسيمة ولذا لا يعقل ان يترك للادارة تقدير قيام شروط الظروف الاستثنائية بادارتها ومتى ماشاءت ذلك كما ان القضاء يلعب دورا كبيرا في مراقبة الشروط وفي نتائج تطبيق النظرية.
شروط تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية:
نظرا لخطورة السلطات الواسعة التي تتمتع بها الادارة في الظروف الاستثنائية لابد من تحديد هذه السلطات واخضاعها لشروط معينة ولعل ما قضى به مجلسا الدولة في فرنسا وفي مصر يبين ان ماهية الشروط التي وضعت من قبل هذين القضائين والتي يمكن ايجازها بما يلي:
1ـ ضرورة قيام الظروف الاستثنائية من اجل تقرير السلطات للادارة أي انه لابد من ارتباط تمتع الادارة بالسلطات الواسعة بالظروف الاستثنائية اذ ان هذه الظروف وما تعنيه هنا بالظرف الاستثنائي هو وجود تهديد بخطر جسيم يعرض امن او سلامة او وجود الدولة على الرغم من صعوبة تحديد معيار دقيق لجسامة الخطر، فانه على الاقل يجب ان يخرج من اطار المخاطر المتوقعة او المعتادة في حياة الدولة فهو خطر غير مألوف من حيث النوع وكبير من حيث المدى.
وما نعنيه ان يكون الخطر حالّ واقع حاضرا فهو ان لا يكون خطرا محتملا مستقبلا والا يكون قد وقع وانتهى فالخطر الحال اذن هو الذي يكون بدا فعلا او هو وشيك الوقوع دون ان يكون قد انتهى بعد، وبحيث لا تجد الادارة أي فرصة للجوء الى وسيلة اخرى لمواجهتها.
2ـ لابد وان تكون الاجراءات التي تتخذها الادارة في الظروف الاستثنائية هي ما تستدعيها وتقتضيها الضرورة القصوى وفي حدود هذه الضرورة أي ان مواجهة هذه الظروف تكون مستلة بالطرق العادية. وهذا يعني انه اذا وجدت وسيلة قانونية او دستورية تستطيع الادارة اتخاذها في مواجهة المخاطر لابد لها من الرجوع الى هذه الوسيلة اما اذا كانت هذه الوسائل عاجزة عن مواجهة المخاطر فان الرجوع الى نظرية الظروف الاستثنائية يصبح امرا لا غنى عنه.
3ـ يجب ان يكون التصرف الصادرمن الادارة بمثابة الاجابة على التزام مشروع واساس مفروض عليها لمواجهة الظرف الاستثنائي . مثال على ذلك التزام الادارة العامة بضمان تقييد القوانين والتزامها بالمحافظة على النظام العام… ونظرا لاهمية هذه الالتزامات ولضمان تنفيذها يسمح للادارة بالخروج عن مبدا المشروعية.
4ـ واخيرا لابد من انهاء العمل بنظرية الظروف الاستثنائية بمجرد زوال هذه الظروف التي دعت الى تطبيقها.
النتائج المترتبة على قيام الظروف الاستثنائية:
ان قيام الظروف الا ستثنائية يسمح باتساع سلطات الادارة اتساعا يمكن ان يعد في الظروف العادية غير مشروع، هذا الاتساع يأخذ الاشكال الآتية:
1ـ اتساع اختصاص السلطات الادارية في ميدان البوليس الاداري:
يورد القضاء الفرنسي بهذا الصدد حكم الدولة الصادر في 28 شباط 1919 في القضية المعروفة(dol et laurent) وفحوى هذه القضية ان الحاكم البحري لمدينة (تولون) قد اصدر قرارا منع بمقتضاه كل امراة من ادارة محل بيع الخمور او العمل في مثل هذه المحلات او حتى التردد عليها. فاقامت كل من(dol, lerent) دعوى امام مجلس الدولة الفرنسي بحجة اتخاذها هذا القرار ليس من اختصاص هذا الحاكم . الا ان مجلس الدولة رفض دعوى السيدتين المذكورتين مقررا ان حدود سلطات البوليس الاداري في الظروف العاديةهي ذاتها في ظروف الحرب. وفي حكم اخر له قرر المجلس انه يمكن ان للسلطة الادارية ان تعهد ببعض وظائفها الى هيئة ادارية اخرى على الرغم من عدم وجود نص قانوني يسمح لها بذلك كل هذا أكده [بشرط وجود الظرف الاستثنائي] مجلس الدولة الفرنسي بالحكم الصادر في 26 حزيران 1946 مع الإشارة إلى ان مثل هذا التصرف من قبل الادارة يعد غير مشروع اذا صدر في ظروف اعتيادية.
2ـ تزويد الادارة باختصاصات جديدة:
ان الظروف الاستثنائية قد تبرر منح اختصاصات جديدة دونما اساس قانوني مشروع . كأن تسمح للوزير بانشاء مركز اداري جديد للضباط نص عليه بنصوص تشريعية(مجلس الدولة الفرنسي في 5 اذار 1948) كما قد تسمح الظروف الاستثنائية للادارة بان توقف العمل بالقانون النافذ (قضية heyries مجلس الدولة الفرنسي في 28 حزيران 1918 ).
3ـ تحرر الادارة من قواعد الشكل :
ان الظروف الاستثنائية يمكن ان تسمح للادارة بالتحرر من قواعد الشكل ، ومثال ذلك ان انعدام الاتفاق الودي لايمكن ان يعيب مشروعية اجراء الاستيلاء المتخذ بقصد ايواء السجناء والمبعدين ( قرار مجلس الدولة في 28 اذار قضية crespin ) .
4ـ تحرر الادارة من بعض قواعد الموضوع:
ان تشريع الحرب يسمح للمحافظ ان يقرر اعتقال الاشخاص الخطرين لحماية الدفاع الوطني، هذا الاعتقال لابد وان يكون في مراكز خاصة وليس في سجون عادية، غير ان مجس الدولة الفرنسي ذهب في حكمه الصادر في 10 كانون الاول 1945 قضية Andreant et desfont لما يلي: ونظرا للظروف الاستثنائية يمكن للمحافظ ان يفرض حبس المعترض في سجن ويعد عملية مشروعة اذا لم يوجد بالقرب من المنطقة مركزا اخر للاعتقال.
موقف القضاء من النظرية:
يمكن القول ان القضاء الاداري في مصر وفي فرنسا اعتنق نظرية الظروف الاستثنائية بشروطها التي حددها الفقه أي انه يشترط ان تمارس الادارة اعمالها في ظل هذه النظرية بقدر ما تقتضيه الضرورة بدون أي زيادة على ذلك ( الضرورة تقدر بقدرها) كما ان القضاء الفرنسي والمصري وباحكام لهما كثيرة قد اشترطا بان يكون عمل الظروف الاستثنائية هو الوسيلةالوحيدة لدفع الخطر الذي يواجهه وان لا تتجاوز مدة تطبيقه فترة الظرف الاستثنائي كما انه لابد وان يكون الهدف الوحيد لهذه الاعمال هو مواجهة الظرف الاستثنائي بحيث هناك علاقة مباشرة بين الاعمال وبين الهدف.
ويترتب على مشروعية اعمال الضرورة رغم مخالفتها للقانون ان يتغير اساس المسؤولية الادارية بشانها لانه متى ما كان القرار مشروعا فلا يمكن الغاؤها كما لا يجوز ان تقام المسؤولية عنه على اساس الخطا وان كان ذلك لايمنع اقامة المسؤولية على اساس اخر ( المخاطر وتحمل التبعية ).
واذا كان من شأن نظرية الظروف الاستثنائية ان تؤدي الى تغييير كبير في قواعد المشروعية العادية الا ان ذلك يعني في درجة وفعالية الرقابة القضائيةعلى مشروعية الادارة من مبدا الالتزام بالمشروعية العادية الى القضاء.
نظرية الظروف الاستثنائية في التشريع العراقي:
غالبا ما تتدارك الدولة وقوع ظروف استثنائية كحالات الحرب او التهديد بها او معالجة اثارها وكالاضطرابات الداخلية الخطيرة او كوارث الطبيعة فتضع مقدما للقوانين اللازمة لتلافي اخطار هذه الظروف وكذلك فعل المشرع العراقي.
لقد وردت نظرية الظروف الاستثنائية في التشريع العراقي لاول مرة في المادتين 26 فقرة 9 و 120 من القانون الاساسي الملغى الصادر سنة 1925 فقد جاء في الفقرة 9 مايلي: للملك القيادة العامة لجميع القوات المسلحة وهو يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الوزراء وله ان يعقد معاهدات الصلح…….وله ان يعلن الاحكام العرفية او حالة الطوارئ وفقا لاحكام هذا القانون.
اما المادة 120 فقرة 1 فقد جاء فيها مايلي” في حالة حدوث قلاقل او مايدل على حدوث شئ من هذا القبيل في أي جهة من جهات العراق للملك السلطة بعد موافقة مجلس الوزراء على اعلان الاحكام العرفية بصور مؤقتة في أنحاء العراق التي يمسها خطر القلاقل او الغارات ويجوز توقيف تطبيق القوانين او الانظمة المرعية بالبيان الذي تتعلق فيه الاحكام العرفية . على ان يكون القائمون بتنفيذ هذا البيان معرضين للتبعية القانونية التي تترتب على اعمالهم الى ان يصدر من مجلس الامة قانون مخصص بأعفائهم من ذلك اما كيفية ادارة الاماكن التي تطبق فيها الاحكام العرفية فتعين بموجب ارادة ملكية.
وتنص الفقرة الثانية من هذه المادة” عند حدوث خطر او عصيان يخل بالسلام في اي جهة من جهات العراق للملك بموافقة مجلس الوزراء ان يعلن حالة الطوارئ في جميع انحاء العراق او في اي منطقة منه . وتدار المناطق التي يشملها الاعلان وفقا لقانون خاص ينص على محاكمة الاشخاص عن جرائم معينة امام محاكم خاصة وينص على الاجراءات الادارية التي تتخذها السلطات المعنية . بعد هذا القانون صدرت عدة مراسيم الغيت جميعها ليحل محلها قانون السلامة الوطنية رقم 4 لسنة 1965. وقد اصبح هذا القانون منذ ذاك التأريخ وحتى الان بتعديلاته الكثيرة هو المنظم لحالات الطوارئ الجزئية والكلية ولم يعد هناك في التشريع العراقي مايسمى بالاحكام العرفية وجاء في الاسباب الموجبة لقانون السلامة الوطنية انه (ايمانا بالعدل الذي هو حق مقدس لكل مواطن وتدعيمأ لسيادة واستقلال القضاء اللذين هما الضمانه الاساسية للحرية والاستقرار ورغبة في صيانة حرية المواطن من ان تهدر وحماية له من التعسف من اي جهة كانت….فقد شرع هذا القانون).
وبموجب قانون السلامة الوطنية تنشآ محاكم من الدولة لتحل محل المجالس العرفية العسكرية السابقة بموجب مرسوم الادارة العرفية الملغى , وتختص بالفصل في الجرائم المنصوص في الاوامر والبلاغات والبيانات والقرارات التى تصدر من رئيس الوزراء او من يخوله اثناء فترة اعلان حالة الطوارئ, كذلك تختص بالنظر في الجرائم الماسة بامن الدولة الداخلي والخارجي اثناء هذه الفترة.
ونص القانون ايضآ على اجراءات المحاكمة وطرق الطعن في الاحكام كما نص على عدم تنفيذ احكام الاعدام الا بعد تصديق رئيس الجمهورية , كما ان لرئيس الجمهورية بموجب القانون تخفيف العقوبة او ابدالها بعقوبة اخف وله ايضآ ان يلغي العقوبات الاصلية والتبعية وان يوقف تنفيذها كلآ اوجزءا.
وخولت المادة 4 من القانون رئيس الوزراء صلاحيات واسعة جدا في مختلف المجالات لمجابهة حالة الطوارئ بعد اعلان قيامها واصبح رئيس الجمهورية هو الذي يمارسها بموجب قرار مجلس قيادة الثورة 24 – 12 -1969 كما يستطيع ان يخول غيره لممارسة كل او بعض هذه الصلاحيات في جميع مناطق العراق او في مناطق معينة. هذا والاصل ان تكوين الاجراءات المتخذة في ظل حالة الطوارئ قابلة للطعن فيها امام القضاء غير قانون السلامة الوطنية استثنى هذه الاجراءات من امكان الطعن فيها امام القضاء .
هذا ومن الجدير بالذكر ان قانون السلامة الوطنية لم يستوعب كل حالات الظروف الاستثنائية وابعادها لذلك نجد ان المشرع عمد الى اصدار قوانين اخرى لتنظيم كل متطلبات الظروف الاستثنائية وحالاتها.
واخيرا فان الدستور الصادر في 19 تموز 1970 قد اورد في مادته 62 فقره(ز) : اعلان حالة الطوارئ الكلية والجزئية وانهائها وفقأ للقانون مانحأ هذا الاختصاص لمجلس الوزراء.
المبحث الثالث
نظرية اعمال الحكومة
اعمال الحكومة هي تلك الطائفة من اعمال السلطات الادارية والتي لا يمكن ان تكون محلا للطعن بها امام المحاكم الادارية والعادلة ويبدو من هذا التعريف ان نظرية اعمال الحكومة تختلف جذريا عن نظريتي السلطة التقديرية والظروف الاستثنائية ذلك لانها تمنح قرارات حصانة اتجاه رقابة القضاء بينما لاتعمل نظريتا السلطة التقديرية والظروف الاستثنائية سوى توسع في سلطات الادارة.
واذا كان جانب من الفقه في هذه النظرية خروجا صريحا عن مبدا المشروعية او استثناءا عليها بسبب تحصينها لقسم من قرارات السلطة الادارية ازاء أي طعن قضائي مما يجرد الافراد من اهم ضمانة تلتزم الادارة عند حدودها التي رسمها لها القانون والمتمثلة برقابة القضاء فانها ووفق راي القسم الاغلب ونحن معهم في هذا لاتعد كذلك فهي تبقى تجسد حقيقة قانوننية اراد لها المشرع ان تكون في مامن من الرقابة القضائية.
مصدر النظرية:
نظرية اعمال الحكومة نظرية من خلق القضاء ، حيث يعود الفضل للقضاء الاداري الفرنسي في تحديد القررات التي تعد من اعمال الحكومة ولا تخضع من ثم لرقابة القضاء سواء كانت هذه الرقابة رقابة الغاء او رقابة مسؤولية.
وفي الحقيقة فان ظهور هذه النظرية يرتبط بنشأة وتطور مجلس الدولة في فرنسا ومن البديهي فانه من غير الممكن ظهور اعمال الحكومة في مرحلة الاختصاص المحجوز الذي مر بها المجلس وذلك لان قرارات المجلس كانت في هذه المرحلة خاضعة لرئيس الدولة الذي يملك اقرارها واعطائها صفتها التنفيذية النهائية او طرحها جانبا وانطلاقا من ذلك فانه من الصعب تصور حالة السلطة التنفيذية لان يقرر مجلس الدولة حماية بعض اعمالها وهي التي تمتلك الكلمة الاخيرة في موضوع قراراته.
لقد بدأت هذه النظرية في الظهور بعد سقوط (نابليون) وعودة الملكية ثانية حيث خشى مجلس الدولة من ان تحله الملكية بوصفه ثمرة من ثمرات غريمها الامبراطور السابق ، فكان ان عمل على تحسين قسم من اعمال السلطة التنفيذية من مراقبة القضاء لمشروعيتها حفاظا على وجوده وبقائه.
ونتيجة لما حظي به المجلس في ظل الامبراطور الثاني من ثقة الحكومة ودعمها حيث قرر له المشرع سلطة القضاء المفوض بموجب قانون 24 مايس 1872 التي اصبح بموجبها يملك القانون سلطة البت النهائي وبان قراراته تتمتع بقوه تنفيذية ذاتية كان طبيعيأ ان يقابل هذه الثقة والدعم بمثلها فعمل على استمرار العمل باقرار نظرية السيادة من اجل حصانة جانب من اعمال السلطه التنفيذيه.
الى جانب مايوْكد مصدر نظرية اعمال الحكومة نجد نصآ تشريعيأ يمكن عده مصدرأ لها او على الاقل تآكيدا لوجودها , ذلك هو نص الماده(26)من قانون 24 مايس 1872 ووفقأ له انه يحق للوزراء الطلب الى محكمة التنازع جعل القضايا التي تخرج عن اختصاص المحاكم الاداريه في مسؤوليتها.
1. معيار تمييز اعمال الحكومة:
وبموجب هذا المعيار يعد عملا من اعمال الحكومة متى ما كان الباعث لهذا العمل سياسيا ، ذلك ان هناك من القرارات ما تتعلق بالسياسة العليا للدولة وهي لهذا السبب لن تكون محلا للطعن بالالغاء او التعويض امام القضاء وهذا ما أكده مجلس الدولة الفرنسي برفضه النظر في طعون ضد قرارات صادرة عن السلطة التنفيذية بحجة ان وراء هذه القرارات باعثا سياسيا.
ولاشك ان اعتماد هذا المعيار في تمييز اعمال الحكومة عن غيرها من الاعمال يوسع من نطاق دائرة القرارات التي لا تخضع لرقابة القضاء وهو بهذا يؤدي الى تضييق سلطة القضاء في رقابته على اعمال السلطة التنفيذية وفقا لما يقتضيه مبدأ المشروعية . ذلك انه يكفي السلطة التنفيذية التذرع بأن الباعث لاتخاذ قرارها سياسيا كي تحصنه من اي طعن قضائي . وبهذا التذرع يمكن ان يكون أي قرار اداري عملا من اعمال الحكومة.
ونظرا لخطورة هذا المعيار بما يتضمنه من تحديد السلطة القضائية في رقابته بمشروعية قرارات السلطات الادارية الامر الذي يحرم الافراد الضمانة الاساسية والتي بواسطتها يستطيعون الدفاع عن نظرياتهم وحقوقهم اذا ما تضررت جراء قرارات ادارية تخلي مجلس الدولة الفرنسي عن معيار الباعث السياسي وقد تأكد هذا في نهاية القرن التاسع عشر من خلال أحكامه وبالذات حكمه بقضية الامير نابليون (نابليون في 19 شباط 1875)
وكما ان محكمة التنازع وفي قرار عام 1880 قد اكدت عدم الاعتداء بمعيار الباعث السياسي غير كاف لابعاد القرارات الادارية عن رقابة القضاء.
2ـ معيار تطبيق طبيعة العمل الموضوعية:
بعد ان تخلى مجلس الدولة عن اعتماد معيار الباعث السياسي لجا الى معيار الشكل كما يرى الاستاذVEDEL خروجا غير مالوف للقضاء في مسألة رقابة الاعمال الادارية وكذلك الامر بالنسبة لمحكمة التنازع فمجلس الدولة يعلن مثلا بالنسبة الى قرار لا يقبل اللبس بانه اداري” لايمكن ان يكون بسبب من طبيعته محلا لاي طعن قضائي” وان قرارا اداريا يكون في منأى عن أي رقابة قضائية بسبب طبيعته.
ان هذا الاتجاه يؤشر الى ان القضاء لم يعد يعول على الهدف الذي يسعى القرار الى تحقيقه وانما على طبيعة العمل الصادر عن السلطة التنفيذية وما اذا كان هذا بطبيعته حكوميا ام اداريا.
اذن فان معيار طبيعة العمل يلتصق بموضوع القرار الذي تتخذه السلطة التنفيذية فهو مجرد قرار اداري خاضع لرقابة القضاء في حالة ما اذا اصدرته بوصفها سلطة ادارية وهو عمل من اعمال الحكومة واذا اتصفت عند اصداره بانها حكومة.
ولما كان كلا القرارين الحكومي او الاداري انما يصدران عن السلطة نفسها الا وهي السلطة التنفيذية فانه ينبغي معرفة الضوابط التي من خلالها نستطيع ان نتبين ما اذا كنا امام قرار حكومي ومن ثم يخرج عن رقابة قضائية او امام قرار اداري اعتيادي يخضع ـ اعمالا بمبدأ المشروعية ـ لرقابة القضاء خاصة وان السلطة التنفيذية وهي تتخذ عملا من اعمالها ولا تعلن مقدما انها بصدد اداء وظيفتها الحكومية او انها بصدد اداء وظيفتها الادارية في محاولة تمييز العمل الحكومي من العمل الاداري اورد الفقه ضوابط متعددة منها ماذهب اليه(LAFERRIERE) بان وظيفة الادارة تنحصر في التطبيق اليومي للقوانين وتنظيم علاقات الافراد بالادارة المركزية او المحلية وعلاقات الهيئات الادارية بعضها بالبعض الاخر اما الوظيفة الحكومية فيقصد بها المحافظة على كيان الجماعة، السير على احترام دستورها وتنظيم سير سلطاتها العامة والاشراف على علاقاتها مع الدول الاجنبية وعلى امنها الداخلي . بينما يرى(HOURIOU) بان المهمة الحكومية تنحصر في وضع الحلول للامور الاستثنائية والسهر على تحقيق مصالح الدولة الرئيسة اما الوظيفة الادارية فتتركز في تسيير المصالح الخارجية للجمهور.
ويبدو ان القضاء الاداري لم ياخذ بهذا المعيار سوى فترة قصيرة بسبب جملة من الانتقادات التي وجهت اليه. منها انه غامض وغير محدد كما انه يؤدي الى العودة لفكرة الباعث السياسي واخيرا فانه من الصعب التمييز بين العمل الحكومي والعمل الاداري . فكلاهما يصدران عن سلطة واحدة وأحيانا عن شرف واحد.
3ـ معيار العمل المختلط:
نتيجة لفشل طبيعة العمل الموضوعية في التمييز ما يعد عملا حكوميا او اداريا، اتجه الفقه للبحث عن معيار اخر للتمييز بين هذه الاعمال.
ويقوم هذا المعيار الذي اقامه مفوض الدولة(سيلييهCELIER) على ان (اعمال الحكومة) هي تلك الاعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية بخصوص علاقتها بسلطة اخرى، كالسلطة التشريعية او سلطة دولة أخرى.
فالاعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية في دائرة علاقتها بالسلطة التشريعية كدعوة البرلمان للانعقاد او قرار وقف اعمال المجلس او حله. وكذلك القرارات المتعلقة بتقسيم المناطق الانتخابية والدعوة الى اجراء انتخابات تعد اعمالا مختلفة. وكذلك الامر فيما يتعلق بالاعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية بشأن سلطة اجنبية كاعلان الحرب او عقد صلح، او الاعتراف بدولة….الخ.
اما سبب اعتبار هذه الاعمال المختلفة(اعمال الحكومة) ومن ثم تخرج عن رقابة القضاء فتعود الى صفة القاضي. فالقاضي الاداري هو قاضي السلطة التنفيذية ولما كانت السلطة التشريعية لا تخضع بحسب الاصل الى رقابته لذلك فان اي قرار صادر عن السلطة التنفيذية ويمتد اثره الى سلطة التشريع هو ايضا عن رقابة القضاء. كذلك يتصف القاضي الاداري بانه قاضي وطني لا دولي وانه من غير المعقول ان تمتد رقابته لتشمل سلطة الدولة . وعلى هذا فان القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية بصدد علاقاتها مع سلطة اجنبية لا تكون هي الاخرى محلا للطعن امام القضاء.
واذا كان هذا المعيار قد حظي بتأييد جانب من الفقه فهو قد ظل حسب راي جانب اخر قاصرا عن الاحاطة بكافة اعمال السيادة كما انه يصلح لتبرير إخراج بعض اعمال الحكومة عن رقابة القضاء لها دون بعضها الاخر.
لقد حاول الفقه نتيجة لعدم صمود المعايير السابقة وفشلها في تحديد اعمال الحكومة الى ايجاد صيغة لتحديد هذه الاعمال انطلاقا من مفهوم تجريبي خالص ويظهر ان القضاء الاداري في الوقت الحاضر قد تبين هذه الصيغة ومن هذه الصيغة لا تعد عملا من اعمال الحكومة سوى تلك التي يقررها قضاء مجلس الدولة محكمة التنازع واذن فان القرارات التي تخرج عن رقابة القضاء هي” تلك القرارات الواردة في قاعة توضع بالاعتماد على قضاء مجلس الدولة ومحكمة التنازع”.
4ـ القائمة القضائية لاعمال الحكومة:
لاشك ان ورود اعمال الحكومة ضمن قاعدة يخفف الى حد كبير من مهمة القاضي وهو بصدد ممارسة رقابته لاعمال السلطة التنفيذية . كما ان استقراء الفقهاء للاحكام القضائية وبخاصة احكام مجلس الدولة ومحكمة التنازع وادراجها ضمن قائمة، خفف عنهم مهمتهم في البحث عن معيار اعمال الحكومة. ان ما تتميز به القائمة القضائية لاعمال الحكومة وهو ان تحديد مفرداتها يتم من قبل القضاء نفسه” بحسب مايراه من الاعتبارات والظروف المحيطة به. فهذا يسمح له بتطوير قضائه في هذا الشأن ” وان كان في هذا برأي البعض ما يشكل عيبا باعتبار ان ترك مهمة تحديد ما يعد من اعمال الحكومة ومن ثم تحصينه من الرقابة القضائية للقضاء نفسه سيؤدي الى تحكم هذا الاخير في مسالة تحصين أي عمل او قرار اداري من رقابته غير ان الامر ليس على هذا الشكل، اذا ماعلمنا من مفردات القائمة القضائية في فرنسا مثلا سائرة نحو ان تضيق شيئا فشيئا. ونجد القائمة القضائية في الوقت الحاضر مجالين واسعين للتطبيق في المجال الاول نجد قرارات السلطة التنفيذية في علاقاتها مع السلطة التشريعية بينما نجد في المجال الثاني قرارات السلطة التنفيذية المتعلقة بعلاقاتها الدولية.
1 المجال الاول: الاعمال المتعلقة بالسلطة التشريعية:
من هذه الاعمال القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية والخاصة بتشكيل البرلمان وتلك التي تتعلق بدعوة الناخبين…. الخ اخره من هذه القرارات المتصلة بالسلطة التشريعية . وقد أكدت احكام كثيرة لمجلس الدولة على عدم إخضاع هذه القرارات لرقابته باعتبارها من اعمال الحكومة. ومن هذه الاحكام حكمة المتعلقة بالقرارات الصادرة عن الحكومة في مسالة مشاركتها البرلمان في مهمة اعداد مشاريع القوانين او اقتراحها وأحكامه المتعلقة بقرار حذف اعتماد مالي للبرلمان . واخيرا أحكامه المتعلقة بموضوع قرارات تصديق القوانين .
2ـ المجال الثاني: الاعمال المتعلقة بالعلاقات الخارجية:
يبدو ان هذا المجال من اهم مجالات تطبيق فكرة اعمال الحكومة كما ان اكثرها تعقيدا لما يثيره من مشاكل دقيقة وخاصة تلك التعلقة باحراءات تنفيذ الحكومة لتعهداتها الدولية.
ويحتوي هذا المجال على القرارات التالية:
أـ القرارات المتعلقة باجراءات إعداد او نقض المعاهدات الدولية بشكل عام كافة القرارات التي تضمن موضوع علاقة مباشرة دولة بدولة.
ب ـ قرارات ممثلي الدولة في ممارستهم لمهماتهم الدبلوماسية.
ج ـ القرارات المتعلقة بالدعاوي ا