المدخل لدراسة حقوق الإنسان… الدكتور مازن ليلو راضي… الدكتور حيدر أدهم عبد الهادي (1)
تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها الأولى وموقف المسيحية منها
إذا كانت القوانين والمدارس الفلسفية القديمة قد تعاملت بشكل أو بآخر مع أفكار المساواة والعدالة حيث كان للعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الدور في إظهار مواقف معينة لتلك التشريعات والمدارس فان أمر تقييم بعض هذه الجوانب أو الأفكار يمكن ان يساعد على فهم الحال بشكل أفضل كما أن التطرق لموقف المسيحية من هذه المسألة يساهم في إسدال الستار على مرحلة تاريخية مهمة حول الموقف من بعض الأصول الفكرية التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان.
المطلب الأول
تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى
إن الأسس العامة التي تبرر المجاهرة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا تخرج عن مفاهيم العدل والحرية والمساواة وإذا كنا قد تعرضنا لمفهوم حقوق الإنسان من خلال التشريعات ومواقف بعض الفلاسفة والمدارس الفكرية التي ظهرت في العصور الأولى فانه يحق لنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية للأفكار التي طرحناها، وهذا يستدعي منا تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى، وهي عملية تتطلب الإشارة إلى مجموعة العوامل المكونة للمجتمعات البشرية فالعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كلها عوامل مهمة في الوصول إلى تقييم متوازن لهذه الحقوق التي نسعى لمعرفتها وفهمها وتقييم مدى احترامها.
ان الإيمان بالإنسان والولاء أو الانتماء للإنسانية، هما اللذان يثيران في طبيعة الإنسان الخيرة أعمق الدوافع وأكثرها صدقاً باتجاه الارتقاء بمستوى الكائن البشري ولكي يكون المسخر لخدمة غيره إنساناً بشرياً نابهاً فهل عاملت الأمم والشعوب القديمة في الفترة التي أشرنا إليها بعضها البعض أو الطبقات الفقيرة والمستضعفة منها بشيء من الرحمة؟
ان الإجابة يمكن أن تكون واضحة من خلال الإقرار ان نظام الرق الذي كان قائماً في تلك الفترة ربما ظل أكبر الإهانات الموجهة للإنسان، هذا النظام الذي جعل من الإنسان موضوعاً ومحلاً للتصرفات القانونية وليس فقط طرفاً وشخصاً للقانون وكانت الحروب هي المسبب الأكبر لاستمراره بغية استمرار الحياة ونشاطها الاقتصادي الذي كان يعتمد عليها بشكل كبير، ومن ثم فان عدم المساواة بين طبقات أو فئات المجتمع ظل عاملاً من عوامل عدم احترام الأسس الضرورية لحق كل إنسان في العيش بشكل متساو مع غيره من بني البشر، وإذا كانت الآلات الحربية التي طورت بشكل مطرد على أيدي الأقوام القديمة وكانت تعد عاملاً من عوامل النجاح في الحروب من أجل تحقيق الأمن والاستقرار على الصعيدين الداخلي والخارجي فان التجارب التاريخية تؤكد أن تطبيق مفاهيم الحقوق الإنسانية من خلال قوانين الدولة تلعب دوراً مهماً في تحقيق الهدف المنشود فالتجربة الرومانية على سبيل المثال التي قدمت قوانينها أفكار الحرية والمساواة والديمقراطية بشكل أو بآخر ولكنها حصرت هذه المفاهيم في فئات معينة الأمر الذي أفقدها ولاء الأفراد. وبعد هزيمة الرومان على يد القبائل الغالية فقد اقتنع الرومان بتغيير تنظيم جيشهم الأرستقراطي وتطبيق مبدأ المساواة العامة بين الناس، ومن ثم فقد أصبح العامة مواطنون وكان عليهم الاشتراك في الجيش وقامت الدولة مقابل أعمال هذه الفكرة بتوزيع الأراضي على من لم يملك أرضاً وخول الدستور الجديد الجمعية الشعبية إجازة القوانين باتخاذ القرارات الخاصة بالحرب والسلم، ومع ذلك فان هذا لم ينفِ الصفة الإمبريالية لحروب الإمبراطورية الرومانية فالطبقة الأرستقراطية بقيت مسيطرة على المجالس الشعبية إذ كان العامة يدلون بأصواتهم لهذه المجموعات الأرستقراطية التي كانوا يشعرون معها بنوع من الأمن، أو لأنهم تعودوا الخضوع للسلطة أو لعلهم تعلموا التسلسل القيادي من خلال خدمتهم العسكرية ويصف أحد الكتاب عظمة القسوة التي وجدت في الإمبراطورية الرومانية حيث يقول (أن الفقراء الرومان المنبوذين، والأيامى والمنكوبات اللواتي تدوسهن الأقدام، وحتى الكثيرين من الرومان المتعلمين وأولاد الناس لاذوا بأعدائهم. لقد كانوا يبحثون عن الإنسانية الرومانية بين البرابرة (القبائل الجوالة) حتى لا يهلكو من قسوة البربرية بين الرومان… لقد انطلقوا ليعيشوا بين الهمج في جميع الأنحاء ولم يندموا على فعلتهم قط، وفضلوا أن يعيشوا أحراراً تحت مظهر العبودية على أن يعيشوا تحت قناع الحرية)(38).
ولم تكن معاملة العبيد على درجة واحدة عند الأمم فلدى الجماعات البدائية كانت معاملتهم حسنة، ولم تكن سلطة السادة مطلقة عليهم وكان يعتبر العبد فرداً من أفراد الأسرة، وتميزت روما عندما كانت مدينة صغيرة بمثل هذا النوع من المعاملة مع عبيدها، إلا ان الصورة تغيرت عندما أصبحت إمبراطورية، فقد أصبح العبيد عنصراً أساسياً في اقتصاد الدولة وبررت روما انحطاط العبد إلى درجة الحيوان لتقوم باستغلاله بالطريقة التي تناسبها، فكان للسيد الروماني كامل الحق في أن يتصرف بحياة عبيده ان شاء أحياهم وأن شاء قدمهم لمصارعة الأسود حتى الموت(39).
أما الرق لدى الشعوب الشرقية فقد كانت المعاملة التي يلقاها العبيد في الحضارات الشرقية أكثر رحمة من الغرب.
عليه فان ما يعرف بحقوق الإنسان من الناحية الواقعية لا يمكن أن يقال إنها كانت معروفة في تلك الحضارات القديمة بالشكل الذي يحفظ كرامة البشر بعيداً عن الجنس أو العرق أو اللون أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد.
أما القوانين أو التشريعات التي حاولت ان تؤكد على أفكار كالعدالة بوصفها هدف التشريع أو القانون فهي لم تخرج على وجه العموم من الإطار الاجتماعي القائم على وجود طبقات متعددة في المجتمع كما أنها لم تخرج عن الإطار الاقتصادي لتلك المجتمعات القائمة على الحرب بشكل أو بآخر، وهذا أمر لم تسلم منه حتى المدارس الفلسفية والأفكار التي دعت إليها.
المطلب الثاني
موقف المسيحية من فكرة حقوق الانسان
يمكن الإشارة إلى وجهتي نظر تتعلقان بموقف المسيحية من الأفكار العامة التي تقوم عليها فكرة حقوق الإنسان فيشير جانب إلى أن المسيحية قد ركزت على كرامة الإنسان وعلى المساواة بين جميع البشر على اعتبار أنهم أبناء الله، ووضعت حجر الأساس لتقييد السلطة إذ أن الأخيرة تقرر بالنتيجة من أجل خدمة الإنسان ويتوجب عليها بالتالي احترامه ولا يجوز للسلطة الزمنية أن تتجاوز اختصاصها فتتدخل في الأمور الدينية وإلا فانها في هذه الحالة ستخالف مبدأ (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وتصبح مقاومتها أمراً مشروعاً(40).
وإذا كانت المسيحية التي نادت بمبدأ أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله وما يمثله ذلك من فصل بين السلطة الدينية والدنيوية فضلاً عن فكرة العدالة وباتخاذ الأسرة والكنيسة والدولة وسائل لتحقيق السعادة للإنسان واعتبار الناس أخوة متساوين أمام الله في الحياة الأخرى، وفتحت أبواب الكنائس للعبيد ودافعت عن الفقراء والمستضعفين ضد الأغنياء فتطبيق هذه المبادئ كان من الممكن أن يؤدي إلى نجاح المسيحية في تقليص التفاوت الطبقي وإشاعة العدالة والمساواة في المجتمع إلا أن هذه المبادئ لم تطبق.
وإذا كان المجال قد فتح في عصر قسطنطين لحرية الاعتقاد إلا أن ذلك قد زال بعد أن أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للدولة وعوقب من يدين بغير دين الدولة بقسوة بالغة، وكان ذلك بداية الاستبداد الذي مارسته الكنيسة حيث عطلت إرادة الفرد وحرمته من أية مكانة له عندها(41).
ويؤكد أحد الكتاب على أن الأفكار ذات الطابع السياسي التي طرحها المسيحيون الأوائل لم تكن تعبر بأي شكل من الأشكال عن خصوصية محددة بهم اذ أنها في حقيقتها أفكار سبق أن طرحها غيرهم، فهم آمنوا شأنهم في ذلك شأن الرواقيين بالقانون الطبيعي ومبدأ المساواة بين البشر وبضرورة التزام الدولة بالعدالة فضلاً عن مبدأ مهم أضافوه أعتبر المحور الذي دارت بخصوصه المناقشات طيلة الفترة التي امتدت حتى القرن العاشر الميلادي وهو مبدأ إطاعة السلطة الشرعية واحترامها تطبيقاً لقول السيد المسيح (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) واطاعة لوصية القديس بولص القائلة (لتخضع كل نفس للسلاطين لأنه ليس هناك سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم الإدانة فان الحكام ليس أداة خوف للأعمال الصالحة بل للشريرة أفتريد ألا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فسيكون لك مدح فيه لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إذا فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله المنتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل، أيضاً لمن له الإكرام)(42).
وطبقاً لهذه الكلمات فإن إطاعة السلطان كانت تعد فضيلة مسيحية لم ينكرها أي من زعماء الكنيسة، فهي طاعة يأمر بها الله، وهذا القول يسبغ على التعاليم المسيحية طابعاً يغاير النظرية الدستورية الرومانية التي ترى أن سلطة الحاكم مستمدة من الشعب(43).
عليه فان هناك من يرى أن معاملة الرقيق على سبيل المثال كانت أفضل عند الشرقيين منها عند الغرب وخاصة الإمبراطورية الرومانية فشرائع الشرق وقوانينه كانت على العموم أكثر رحمة بالرقيق من قوانين الغرب، وأن المسيحية، وهي رسالة إنسانية، اضطرت بتأثير الظروف التي عاشت في ظلها في أوربا أن تتأثر بالفكر الغربي في النظرة إلى الرقيق(44).
واستمر الحال على هذا المنوال حتى في العصور الوسطى المسيحية التي اعتبرت الرق نظام الهي وأوصت العبيد بتحمل ما يلقوه من سوء معاملة أسيادهم إلا أنها في الوقت نفسه دعت السادة إلى أن يرأفوا بعبيدهم المسيحيين دون غيرهم إلا إذا تنصروا(45).
هوامش الفصل الأول
1. د. محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة مع الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، دار الكلم الطيب، الطبعة الثانية، دمشق-بيروت، 1997، ص9.
2. د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية، مؤسسة الثقافة الجامعية، الطبعة الثانية، 1981، ص438-440.
3. المصدر نفسه، ص450.
4. باسيل يوسف، دبلوماسية حقوق الإنسان، المرجعية القانونية والآليات، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص9.
5. د. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الفرنسية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، العدد الرابع، 1972، ص962.
6. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، الطبعة الأولى، مكتبة الكندي، أربد، 1988، ص11.
7. المصدر نفسه، ص18.
8. المصدر نفسه، ص23-24.
9. إبراهيم السامرائي، الحماية الدولية لحقوق الإنسان في ظل الأمم المتحدة، رسالة
دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون / جامعة بغداد، 1997، ص9.
10. د. توفيق حسن فرج، المصدر السابق، ص184-185.
11. المصدر نفسه، ص186.
12. إبراهيم السامرائي، المصدر السابق، ص29-30.
13. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، عمان، 1988، ص73.
14. المصدر نفسه، ص73.
15. المصدر نفسه، ص74-75.
16. حضارة العراق، الجزء الثاني، بغداد، 1985، ص63-71.
17. المصدر نفسه، ص72.
18. صلاح الدين الناهي، العدالة في تراث الرافدين وفي الفكرين اليوناني والعربي
الإسلامي، الطبعة الأولى، الدار العربية للموسوعات، بيروت-لبنان، 984، ص39.
19. المصدر نفسه، ص39-40.
20. المصدر نفسه، ص35-36.
21. د. عباس العبودي، ضمانات العدالة في حضارة وادي الرافدين، دراسات قانونية،
العدد الثاني، 2000، بيت الحكمة، بغداد، 2000، ص22-23.
22. المصدر نفسه، ص24-26.
23. المصدر نفسه، ص28-29.
24. المصدر نفسه، ص29-30.
25. د. محمد يوسف علوان، مذكرات في مقرر حقوق الإنسان، الكويت، ص3.
26. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص80.
27. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص3.
28. المصدر نفسه، ص4-5.
29. د. صلاح الدين الناهي، المصدر السابق، ص44-54.
30. د. غانم محمد صالح، الفكر السياسي القديم والوسيط، جامعة بغداد، 109-110.
31. المصدر نفسه، ص131-133.
32. ان الفقهاء الذين طوروا القوانين الرومانية كانوا من أصول شرقية فكايوس من الشمال السوري وبابنيان من حمص وبولس واولبيان من الساحل الفينيقي ومودستيان من صور، فقد أعتمد حبستنيان على هؤلاء الفقهاء ولقبوا بالعلماء العالمين ولفب بابنيان بأمير الفقهاء وكان يطلق على مدرسة بيروت اسم الأم المرضعة للحقوق ومدة الدراسة فيها خمس سنوات.
د. عباس العبودي، المصدر السابق، ص19-20.
33. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص86.
34. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص167.
35. المصدر نفسه، ص157-158.
36. المصدر نفسه، ص159-160.
37. المصدر نفسه، ص163.
38. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص95-97.
39. المصدر نفسه، ص99.
40. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص10.
41. أزهار عبد الكريم عبد الوهاب، الحقوق والحريات العامة في ظل الدساتير العراقية، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون والسياسة/ جامعة بغداد، 1983، ص3-4.
42. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص179.
43. المصدر نفسه، ص180.
44. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص100.
45. المصدر نفسه، ص99.
الفصل الثاني
حقوق الإنسان في الإسلام
سنتعرض في هذا الفصل الى المقصود بحقوق الانسان في الاسلام من حيث النظرية والتطبيق، وفي المراحل المختلفة التي مرت بها الدولة الاسلامية. فما هي الأسس التي تقوم عليها فكرة حقوق الانسان في الاسلام؟ وهل تتفق هذه الأسس مع الأسس العالمية التي ظهرت في العصر الحديث وهي تمثل بشكل أو بآخر هاجس الانسان الأول في تحقيق العدالة؟ فكيف حدد الاسلام حقوق الانسان كفرد وكعضو في الجماعة؟ وما هي المعادلة التي طرحها الاسلام لإخضاع الدولة للشريعة التي هي بمثابة القانون في الدولة الحديثة؟ ثم ما هي تفاصيل الحقوق الاساسية التي اعترف الاسلام بها للانسان؟
أن ما تقدم من تساؤلات يمكن البحث فيها والإجابة عنها من خلال دراسة الأسس الفكرية التي طرحها الاسلام لحقوق الانسان، والتطرق لمبدأ خضوع الدولة الاسلامية للقانون أو الشريعة، ثم البحث في تفاصيل الحقوق والحريات الاساسية التي أقر الاسلام بها للانسان.
المبحث الأول
المنطلقات الأساسية لحقوق الانسان في الاسلام
أن الكلام في هذا العصر كثير عن مبادئ حقوق الانسان وأن تعداد هذه الحقوق الاصلية والجزئية لا حصر لها، وإذا كان من الضروري فهم المقصود بحقوق الانسان في الاسلام بصورة صحيحة فإن البداية يجب أن تكون من المنطلقات الفكرية التي تمثل الجوهر أو الأساس لفكرة حقوق الانسان فهذه هي الخطوة الأولى باتجاه دراسة تفاصيل هذه الحقوق، وقبل ذلك معرفة موقف الدولة الاسلامية من هذه المسألة.
المطلب الأول
الأساس الإسلامي لحقوق الانسان
ترتكز مفاهيم حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية على طابع الضرورة المؤسس على العقيدة، وهو طابع يقوم على ضمان معنى الإنسانية، فالإسلام دين عالمي ولم يرسل النبي محمد (ص) للعرب فقط فدعوته جاءت للناس جميعاً، وقد انطلق الاسلام من قاعدة أساسية ثابتة فيما يتعلق بحقوق الانسان، وهي أن أصل الانسان واحد ومصيره واحد. قال تعالى(ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين)المؤمنون، 12.
وقد تبنى الاسلام في نظرته للأمور كافة فلسفة وسطية حيث الاعتدال أبرز ملامحها، بمعنى مجانبة الإفراط والشذوذ والتفكك والتفريط والمبالغة والتسيب بل يقوم على الاتزان. قال تعالى(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة،143 (1)، وينظر الاسلام الى الانسان باعتباره أغلى الكائنات وأعظمها طالما كان مخلصاً لله تعالى الذي سخر له الكون ليحقق له السعادة. قال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية13. والحقيقة ان تكريس الكون بما فيه للانسان إنما هو تكريم له من الله تعالى ومن تفضيل الله للانسان ان جعله خليفة في الأرض لما تمتع به من الطاقات والقدرة والاستعداد للقيام بمهام المسؤولية في الحكم. قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة،30 .
مما تقدم يبدو جلياً أن الأساس الاسلامي لحقوق الانسان إنما يقوم على التكريم الإلهي للانسان فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ومحور الرسالات السماوية وله سجدت الملائكة وفضل على سائر المخلوقات وسخر له ما في الكون، وقد شرع الاسلام الكثير من الأحكام وبيّن الحقوق والواجبات في جوانب الحياة المختلفة وإلزام المسلمين أداءها والوقوف عندها، والتقيد بها فقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها)، فالحدود هي الفواصل بين الحقوق والواجبات والأوامر والنواهي والحق والباطل، ومن ثم فإن الأساس في الاسلام لحقوق الانسان هو ما قرره الاسلام في تشريعاته وأحكامه وان هذه الحقوق هي منحة من الله تعالى ويمكن ان يعبر عن الأساس لحقوق الانسان في الاسلام بمبدأ (العبودية لله تعالى) فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالإسلام دين الفطرة وهو الحامي لها والمدافع عنها ومن مستلزمات هذا الحق أن يرعى كل فرد من الناس هذا الحق لأمثاله بمقدار ما يرعاه لنفسه ويكون هذا الحق الانساني المطلب الأساسي للناس جميعاً على مستوى الفرد والجماعات، ويرى آخرون أن حقوق الانسان في الاسلام تنبع من العقيدة وبشكل خاص من عقيدة التوحيد فالله الواحد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها، قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(2).
والحقيقة أن مدلول هذه العبارات واحد فحقوق الانسان في الاسلام تنبع من التكريم الإلهي له بالنصوص الصريحة وهو جزء من التصور الإسلامي لهذه المسألة القائمة في جانب مهم منها على العبودية لله تعالى وفطرة الانسان التي فطره الله عليها فكرامة الانسان هي الأساس لكل الحقوق الأساسية، فهي دليل إنسانية البشر وإذا كانت الكرامة الإنسانية هي المنبع لحقوق الانسان جميعاً فقد كانت هذه المسألة ولازالت غاية جميع القوانين والدساتير وعماد حياة الفرد الاجتماعية وهذا ما عبرت عنه المواثيق والإعلانات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 أن(الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)، أن ما تقدم يظهر أن حقوق الانسان مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالعقيدة الصحيحة وأن الإيمان بالله تعالى أولاً وبالشريعة المنزلة ثانياً هو مصدر الحقوق وأساسها(3).
أذن حقوق الانسان التي يقررها الاسلام هي في حقيقتها ليست منّةً من حاكم أو دولة أو اية جهة محددة وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الإلهية فرضاً كجزء لا يتجزأ من نعمة الله على الانسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويم فحقوق الانسان في الاسلام موضوعة ومقررة سلفاً، وهي تتناسب مع كونه انساناً متميزاً على سائر المخلوقات إذ أوكل له دورٌ في الحياة مما يعني إعطاءه مقومات الحياة الكريمة.
إن الأسس التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الانسان انما تجد اساسها في مفاهيم بنى عليها المسلمون حياتهم فمفاهيم العدل والحرية أساسية لتأسيس الافكار الخاصة بحقوق الانسان وقد جعل الاسلام من العدل اساساً للحكم. قال تعالى (ان الله يأمر بالعدل والإحسان) النحل،90، والعدل غاية في الاسلام الذي نادى بالحرية والمساواة ويختلف المفهومان عما هو عليه الحال بالنسبة للمدارس الغربية التي تنادي بالحرية الفردية على حساب المساواة أو المساواة على حساب الحرية الفردية، فالحرية والمساواة في الاسلام مقيدة وذلك بهدف تحقيق العدل العام المعبر عنه في الشريعة التي تنص على مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، والعدل ان يعطي الحاكم كل ذي حق حقه ويسمح الاسلام بدخول الافراد في سباق لتحقيق مصالحهم ولكنه يؤكد على ضرورة مساعدة الانسان لأخيه الانسان وعند عدم تحقيق هذه المساعدة تتدخل الدولة عندها، ومن ثم فان الشريعة تنص على تحريم القتل حفاظاً للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتحريم الزنا حفاظاً للنسل، وتحريم السرقة حفاظاً للأموال، وتحريم القذف حفاظاً للعرض، وتحريم الخمر حفاظاً للعقل، ومعاقبة المرتد حفاظاً للدين وهذه كلها ضروريات تحقق العدالة الاجتماعية في جوانب اساسية منها، كما تقرر أحكام الاسلام المساواة بين افراد المجتمع وجعل التفضيل في العمل الصالح. قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(4) .
فتتميز حقوق الانسان وحرياته الاساسية في الاسلام بأنها ذو بعد أخلاقي عميق وهي ذات خصائص ثلاث
1- هي أنها منح ربانية الهية وليست منة من دولة أو حاكم.
2- انها شاملة من حيث الموضوع لكل الحقوق والحريات وعامة لسائر الجنس البشري، وبذلك فإن الشريعة الاسلامية تكون قد أدانت التفرقة العنصرية والنظم التميزية الأخرى على المستوى الوطني والمستوى الدولي.
3- انها كاملة وغير قابلة للإلغاء أو الوقف لمجرد ضيق الدولة أو الحاكم بمباشرتها لأنها جزء من الشريعة الإسلامية(5).
المطلب الثاني
حقوق الإنسان والدولة الإسلامية
في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش قرونها الوسطى وقد سيطر على حياتها السلطان المطلق للحاكم والدولة بحيث تلاشت أية ملامح لفكرة الشرعية أو خضوع الدولة للقانون، نشأت في الجزيرة العربية أول دولة قانونية أقامها الرسول محمد(ص) بعد هجرته الى المدينة وقد وطد دعائمها الخلفاء الراشدون، وكانت دولة قانونية بالمعنى المعاصر، دستورها القرآن الكريم، وعرفت مبدأ التدرج في القيمة القانونية لقواعد القانون التي تنظم العلاقات بين سلطات الدولة بعضها مع البعض الآخر، وبين الأفراد وتم الإقرار بالحقوق والحريات الفردية ووضعت القواعد التي تكفل احترام الدولة وخضوعها للقانون مثل مبدأ الفصل بين السلطات وتنظيم الرقابة القضائية وتقرير السيادة الشعبية في قاعدة المبايعة أي اختيار الشعب للحاكم ومراقبته وعزله، وبذلك يكون القانون قد أرسى دعائم الدولة القانونية لأول مرة في تاريخ البشر، فالرسول (ص) اقام دولته في المدينة وباشر فيها اختصاصات الرئيس الأعلى للدولة بالمعنى المعاصر، من اعلان الحرب، وعقد الصلح، وإبرام المعاهدات، ورئاسة الجهاز التنفيذي والقضائي، والخلاصة أنه ما من مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية أو بالشؤون الداخلية إلا وكان النبي يلجأ فيها الى الشورى فيما لا وحي فيه(6).
والدولة الاسلامية قائمة على دستور ديني هو القرآن الكريم حيث الشريعة الاسلامية هي عماد الدولة والسيادة في الدولة الاسلامية ليست للحاكم أو للمحكوم. قال تعالى(انا نزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)النساء،105، وقد أكد بعض الفقهاء على أن دور الحاكم المسلم لا يزيد عن كونه يراقب تنفيذ أوامر الله وعندما يتحقق ذلك فقد وجب على المسلمين طاعة الله ورسوله وأولي الأمر، فضلاً عما تقدم فإن الشرع الاسلامي هو صاحب السيادة في سياسة الدولة الخارجية فالحرب والسلم والمعاهدات خاضعة للشريعة وأحكامها.
والشريعة الاسلامية عند فقهاء المسلمين نظام عند الله سابق لوجود الفرد والمجتمع والدولة وذهب بعضهم للتأكيد على أن الاسلام أعفى كل شريعة سابقة عليه وما الدولة إلا منفذة لأوامر المشرع الاسلامي وفي حالة عجزها عن القيام بهذه المهمة فإنها ستفقد مكانتها كدولة وفي كل الأحوال يظل المؤمن ملتزماً بالقوانين الدينية حتى في غياب الدولة(7).
وهدف الدولة الاسلامية إنما يتجسد من خلال إقامة العدل واستتباب الأمن والاستقرار لسكانها بصرف النظر عن أشكالهم وألوانهم وعقيدتهم وأعراقهم. قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنك شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة،8-9 . وليس للحاكم في الدولة الاسلامية سيادة على الشعب فهو لا يزيد عن كونه موظفاً يختاره أبناء الأمة وهو يستمد شرعيته من طاعته للقوانين الاسلامية التي يخضع لها الحاكم والمحكوم معاً(8).
ومن هنا فإن الدولة الاسلامية إنما تقوم طبقاً للفكر الاسلامي على أسس قانونية أو شرعية ويكفي أن نشير هنا إلى هذه الحقيقة التي عبر عنها أحد الحقوقيين بقوله (أول دولة قانونية في الأرض يخضع فيها الحاكم للقانون، ويمارس سلطاته وفقاً لقواعد عليا تقيده ولا يستطيع الخروج عليها بما للأفراد من حقوق وحريات نص عليها الاسلام، ونظمها، وقرر الضمانات التي تكفل حمايتها ضد اعتداء الحكام والمحكومين على السواء، فالإسلام عرف فكرة الحقوق الفردية المقدسة التي تكون حواجز منيعة أمام سلطات الحاكم، عشر قرون، قبل أن يظهر على السنة فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر، فمن الاسلام انتقلت فكرة الدولة القانونية الى مختلف النظم القانونية في العالم وهي الأفكار التي لولاها ما عرف العالم حقوق الانسان في أوربا في القرن السادس عشر بسبب المطالبة بحقوق الأفراد وحرياتهم نتيجة شيوع الأنظمة الاستبدادية الظالمة ونتيجة لها أصبحت السيادة تجد مصدرها في المجموع لا في فرد واحد، وهذه الفكرة بدورها ساهمت بالنتيجة في إبراز فكرة العقد الاجتماعي في نشوء الدولة، وهو العقد الذي انتقل بموجبه الأفراد من حياة الفطرة غير المنظمة الى العيش في مجتمع منظم غير أن الخلاف نشأ بين أنصار هذه النظرية بشأن تحديد مضمون هذا العقد الاجتماعي فمنهم من صوره باعتباره تنازل من الجماعة عن حقوقها السيادية لصالح الحاكم الذي اختارته وانتهوا الى المناداة بالسلطة المطلقة، في حين ذهب آخرون وبحق الى القول بأن السيادة غير قابلة للتصرف فيها، ومن ثم لا تملك الجماعة التنازل عنها للحاكم لكنها تفوضه ممارستها بالنيابة عنها وتحت مراقبتها وبشرط أن يكون الحق في مقاومته وإيقاع الجزاء عليه في حالة خرقه لنصوص العقد(9).
وفي الدولة الاسلامية ليس للحاكم سيادة على الشعب اذ أنه مجرد موظف يستمد سلطته من طاعته للشريعة الاسلامية وعلى الرعية مساعدته في الخضوع للشريعة فإذا تصرف الحاكم خلافها فالناس في حلٍ من ولائهم له ولعل في خطبة الخليفه أبي بكر تعبيراً واضحاً عن القضية حين قال (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن احسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني….. إلى قوله … أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)(10).
إن ما تقدم يعني أن ليس لرئيس الدولة الاسلامية أية قداسة شخصية يتميز بها عن أي مواطن عادي وسلوكه الشخصي كسلوكه الوظيفي عرضة للخطأ والصواب ويستوجب الحساب ولا خلاف بين المسلمين عموماً على أن رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته يمكن عزله، ويجب عزله اذا قدر على ذلك، ولكن الخلاف ظهر فيما اذا لم يقدر على عزله فهل يجب الخروج عليه وخلعه بالقوة؟
أخيراً في حالة قيام ثورة ضده فإن من يقودها يصبح الرئيس الشرعي إذا انتصر على الأول وهؤلاء الذين قالوا بجواز الخروج والثورة. أما الذين رفضوا الثورة أو الخروج على رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته لا حظوا في ذلك أمرين: الأول حرصهم على وحدة الأمة الاسلامية وتجنب الفتن إعمالاً للقاعدة الشرعية في تحمل الضرر الأدنى لتفادي الضرر الأكبر.
أما الأمر الثاني فهي السوابق التاريخية الثابتة ايام الصحابة والتابعين اذ امتنع الصحابة عن الخروج على سلطان الخلفاء الأمويين الذين فسقوا عن أمر ربهم وخالفوا الكتاب والسنة في كثير من أعمالهم.
والحقيقة أن الرأي الأخير ليس بالرأي الراجح في الفقه الاسلامي فضلاً عن أنه يعتمد على أساس مادي ويرتكز الى القوة المسلحة التي يتمتع بها الحاكم الجائر في الوقت الحاضر، وهو رأي ضعيف ويتجافى مع الأسس الدستورية في الاسلام التي انتهجها الخلفاء الراشدون(11).
مما تقدم يبدو لنا أن الإسلام قد قرر مجموعة من المبادئ العامة التي يعتبرها دعائم ضرورية يلتزم بها نظام الحكم في المجتمع الإسلامي وهذه المبادئ هي:-
1. الشورى: إذ ورد النص على الشورى في القرآن الكريم وفي أحاديث نبوية شريفة، كقوله تعالى(وشاورهم في الأمر) وقول رسول الله (ص) (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)، ويذهب الرأي الراجح من علماء المسلمين إلى القول بأن الشورى تعد فرضاً واجباً.
2. العدالة: فقد اشتهر الإسلام بأنه دين العدالة وهو لا يطلب العدالة من رجال القضاء فقط بل يطلبها من كل من يملك سلطة أيا كانت إعمالا لقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
3. المساواة: وهي من المبادئ الأساسية المقررة في القرآن والسنة. قال تعالى(إنما المؤمنون أخوة)، ويقول الرسول (ص) في خطبة الوداع (ليس لعربي على اعجمي ولا اعجمي على عربي ولا أحمر على ابيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى). فالقرآن والسنة يقرران مبدأ المساواة بوصفه وسيلة لتحقيق العدالة.
4. الحرية : تضمنت أحكام الإسلام منهجاً يحقق حرية الفرد ويحفظ كرامته وإنسانيته ولم يضع من القيوم التي تحد من هذه الحرية إلا ما يتطلبه الصالح العام، وقد كفل الحرية دينياً فضلاً عن كفالة الحقوق والحريات التقليدية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
5. مسؤولية الخليفة: فهذا مبدأ معمول به في اطار النصوص الشرعية التي وردت في القرآن والسنة والتي توجب الشورى كما إن الاقرار بهذا المبدأ أمر يفهم من نهج الخلفاء الراشدين واعترافهم بمسؤوليتهم عن أعمالهم، ويترتب على تقرير مسؤولية الخليفة ما ذهب إليه بعض العلماء من جواز عزل الخليفة إذا فقد صلاحيته للمنصب لأسباب جسدية أو خلقية(12).
إن المبادئ المذكورة أعلاه تجعل النظام السياسي في الإسلام أكثر النظم السياسية قرباً لمفهوم الديمقراطية الغربية والعكس اصح على اعتبار أن الإسلام رسالة سماوية أولاً وأن النظام الإسلامي كان اسبق في الظهور والتطبيق ثانياً، ومع ذلك فعلى الرغم من وجود هذا التقارب فإن الاختلاف في بعض الجوانب موجود كذلك فالديمقراطية هي دولة فقط بينما الإسلام هو دين ودولة معاً، ويترتب على هذا بروز بعض الفوارق بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام وبالشكل الآتي:
1. تقترن الديمقراطية بفكرة القومية فالفكرة الأخيرة لعبت دوراً في بروز الدولة القومية إذ يتحدد شعبها بأنه الشعب الذي يعيش في اقليم واحد يجمع بين أفراده روابط الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، بينما يتحدد شعب الدولة الإسلامية على أساس وحدة العقيدة.
2. تهدف الديمقراطية إلى تحقيق غايات دنيوية حيث تلعب الجوانب المادية دوراً مهماً بينما يهدف النظام الإسلامي إلى تحقيق اغراض روحية وأخرى مادية.
3. تقرر الديمقراطية سلطة مطلقة للشعب باعتباره صاحب السيادة، بينما الأمر ليس كذلك في الإسلام إذ أن سلطة الشعب مقيدة بالشريعة الإسلامية(13).
على مستوى العلاقات الخارجية يؤكد الاسلام على وحدة الجنس البشري، قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا)، النساء،1، ويحث الإسلام على ضرورة احترام حقوق الآخرين كحقهم في الحياة، والملكية طالما أن حقوقهم لا تضر بحقوق المسلمين.
وتقرر الشريعة الاسلامية بإمكانية الدفاع عن الدولة الاسلامية اذا اعتدى أحد عليها أو على أمنها واستقرارها كما أن هناك قوانين تلتزم الدولة الاسلامية بها في حالة الحرب، فالإسلام لا يسوغ اللجوء الى الحرب العدوانية ولا يجيز قتل الأبرياء أو حرق المنازل والأشجار ولا يقاتل الشيوخ والنساء والأطفال الذين لا يقاتلون ولا يجيز تعذيب سجناء الحرب أو إساءة معاملتهم(14).
المبحث الثاني
تصنيف حقوق الانسان في الإسلام
تتعدد حقوق الانسان بشكل لافت للنظر مع مرور الوقت إلا أن معالجة المسلمين للحقوق الأساسية بقي أمراً مطروحاً ومفهوماً في مصادر القاعدة الشرعية التي نستطيع من خلالها سواء عبر المصادر الأصلية أو المصادر التبعية أن نتلمس وجود العديد من هذه الحقوق التي بدأت الاتفاقيات الدولية ودساتير العالم تشير إليها بينما كان الاسلام قد تحدث عنها ونبه الى أهميتها قبل قرون عديدة، كما يمكن تصور وجود ضمانات قانونية وقضائية لحماية الحقوق التي أقرها الإسلام، ومن ثم سنبحث في تفاصيل بعض الحقوق الأساسية في الاسلام فضلاً عن الضمانات القانونية والقضائية.
المطلب الأول
صور من حقوق الإنسان في الإسلام
توجد العديد من الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان لكي يعيش بكرامة وأمن ويمكن ردها الى مجموعات محددة سنتعرض إلى بعض منها من خلال استعراض موقف الإسلام بالشكل الآتي:
الفرع الأول – الحقوق الشخصية
إن حقوق الانسان والنظرة إليها يجب أن تتم في اطار واحد وككل لا يتجزأ، ومع ذلك فإن بعضها أهم من البعض، والحقيقة هي أن الحقوق الأساسية أو ذات الطابع الشخصي هي التي تحافظ على المصالح الضرورية شرعاً وبشكل خاص في الدين والنفس ومنها:
أ- حق الحياة: هذا الحق هبة من الله تعالى الى الانسان، وقد اجمعت على هذه الشرائع والأديان، وهو مأخوذ من الحديث الشريف (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه) وهو ما جاء في خطبة الوداع (إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وينبني على هذا الحق مجموعة من الأحكام الشرعية المهمة هي:
1. تحريم قتل الانسان، لقوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، الانعام،151، وأن هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً بمجرد الحياة لا فرق بين شريف ووضيع وبين عالم وجاهل وبين عاقل ومجنون وبين بالغ وصبي وبين ذكر أو أنثى وبين مسلم وذمي.
2. تحريم الانتحار، فالحياة هبة الله والروح أمانة في يد صاحبها فلا يجوز له الاعتداء عليها بل ويعاقب من يحاول الانتحار، وقد روى الشافعي أن رسول الله (ص) قال ( من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذبَ به يوم القيامة).
ويلحق بالأمر المتقدم تحريم الاذن بالقتل حيث الله هو المحي والمميت فان اذن شخص لآخر بان يقتل الأول منهما الثاني فقد اختلف الفقهاء في العقوبة التي توقع على الجاني فاعتبر الحنفية ذلك شبهة تدرأ العقوبة، ولا يقتل الجاني، بل يلتزم بالعقوبة تعزيراً، وقال المالكية لا يعتبر الاذن شبهة لأنه باطل، ولا يبيح الفعل فالجاني يعد قاتلاً ويستحق القصاص.
3. وحرمت المبارزة، وهي الاقتتال بين شخصين بهدف إثبات حق أو لدفع عارٍ أو اهانة.
ولأجل المحافظة على حق الحياة لكل إنسان فقد اباح الشارع له بعض المحظورات للحفاظ عليها فأجاز له أكل المحرمات كالميتة والخنزير والخمر حفاظاً على حياته كما أجاز للمريض الفطر في رمضان حفاظاً على صحته ويتصل حق الحياة بالكرامة الانسانية وضرورة المحافظة عليها فالتكريم للانسان جاء من الله تعالى، وقد روي أن جنازة مرت بالنبي(ص) فقام، فقيل له إنها جنازة يهودي فقال أو ليس إنساناً؟)
كما يثبت حرمة أفناء النوع أو الجنس البشري تحت أي ظرف ولأي سبب ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا به في حدود ضيقة.
وحرم الاسلام انطلاقاً من الأفكار المتقدمة المثلة بالميت، والقتيل ولو كان من الاعداء المحاربين في المعركة وبهذا المعنى قال رسول الله (ص) (كَسْرُ عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم)، انطلاقاً من فكرة تكريم الإسلام للإنسان حياً وميتاً ثم حث الرسول (ص) على صيانة عرض الميت بقوله (اذكروا محاسن موتاكم) ومنع وطئ القبور والجلوس عليها حيث قال (لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحترق ثيابه فتخلص الى جلده، خير له من أن يجلس على قبر).
وقد نص الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في المادة (2) فقرة (4) على (يجب أن تصان جنازة الانسان وألا تنتهك، كما يحرم تشريحه إلا بمجوز شرعي، وعلى الدولة ضمان ذلك)(15).
وقد نصت المادة 33 من مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعته لجنة من العلماء في الشريعة على أن (تعذيب الأشخاص جريمة، ولا تسقط الجريمة أو العقوبة طول حياة من يرتكبها، ويلتزم فاعلها أو الشريك فيها بالمسؤولية عنها في ماله. فان كان بمساعدة موظف أو بموافقته أو بالسكوت عنها، فهو شريك في الجريمة جنائياً ومسؤول مدنياً، وتسأل معه الحكومة بالتضامن)(16).
فالإسلام انطلاقاً من احترامه للحق في الحياة يقرر تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملات غير الإنسانية.
ب- حق الحرية: يعتبر هذا الحق من أكثر الحقوق التصاقاً بحق الحياة فهو من الحقوق الاساسية للانسان ويعد حقاً عاماً شاملاً واصل لحقوق متعددة تدخل تحت عناوين مختلفة منها حرية الاعتقاد والتدين وحرية التفكير المرتبط بالعقل والبحث والاختيار لكشف الحقائق وحرية التعبير والدعوة الى الخير أعمالاً لقوله تعالى (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، آل عمران،3/104. وبقدر تعلق الأمر بالحرية الشخصية فهي محترمة في الاسلام بقيدين:
1. أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين.
2. ضرورة تقييد هذه الحرية بالأنظمة والأحكام.
والقوانين العادلة التي تراعي المصالح العامة وقد كفل الاسلام حق الحرية الشخصية فالناس متساوون في هذا الحق اذ أن الأصل هو الحرية حتى يعلم أنهم غير أحرار.
أما موقف الاسلام من الرق فيجب أولاً أن نعترف بحقيقة وهي أن الاسلام لم يستحدث نظام الرق، لكنه شجع على القضاء عليه كما أن الاديان السابقة للاسلام لم تحرمه ولما جاء الاسلام كان المجتمع العربي وحاله في ذلك حال بقية المجتمعات الأخرى يأخذ بالرق اذ كان النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والقانوني لا يجد في اقرار مبدأ الرق جانباً سيئاً، وليس في القرآن الكريم نص صريح يدل على فرض نظام الرق على أي فئة من البشر حتى ولو كان مشركاً يقاتل المسلمين على الرغم من وجود آيات أخرى فيها اشارة الى الرق لكنها جاءت لبيان بعض الأحكام كقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، المؤمنون،5/6، أو في الآيات التي تدعو الى تحرير الأرقاء كقوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة)، سورة المجادلة،3، وهناك آيات تدعو الى تحرير الرق كقوله تعالى (حتى اذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فأما مناً بعد، وأما فداء)، سورة محمد،4.
ولم يفرض القرآن الرق على أسرى الحروب وإنما اضطر المسلمون الى اللجوء لفرض الرق على أسرى الحروب من باب المعاملة بالمثل أما التعذيب أو التنكيل بأسرى الحروب بعد استرقاقهم فقد أدانه الاسلام بشدة.
وقد وسع الاسلام من أبواب العتق من باب اعتباره من الكفارات حيث كانت منافذ العتق قبل الاسلام ضيقة تنحصر أو هي تكاد أن تكون كذلك في أرادة السيد وقد اتبع الاسلام في توسيع منافذ العتق عدة اساليب منها:
1. الحث والترغيب دون أن يقيد ذلك بكفارة الذنب كقوله تعالى (فلا أقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فك رقبة)، سورة البدل.
2. الأخذ بنظام الكفارات بصدد الذنوب الكبيرة كالقتل الخطأ اعمالاً لقوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله)، سورة النساء، 92(17).
فضلاً عما تقدم فقد أقر الاسلام حق الاعتقاد أو الحق في التدين والتفكير والضمير اذ يأتي هذا الحق بعد الحق في الحياة من حيث الأهمية لأن الدين أحد الضروريات الخمس وقد أكد القرآن الكريم هذا المنهج في قوله تعالى (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، البقرة،2/256، وقال تعالى (ولو شاء ربك لأمَنَ من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، يونس،10/99، وقد أقر الاسلام حرية الاعتقاد الديني والتسامح بشكل لم يعرف له التاريخ مثيلاً، وتمثل هذا بمظاهر عديدة منها احترام بيوت العبادة والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش وفي المعاهدات التي تم ابرامها من جانب المسلمين ووقت الفتوحات مع غير المسلمين كالوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس فالأساس في التعامل مع غير المسلمين هو البر والقسط مع الناس جميعاً إلا اذا قاتلوا المسلمين فهذا يشرع الجهاد ضدهم.
وقد أنفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في مادته العاشرة بتثبيت حكم الردة وما قال به علماء المسلمون بهذا الخصوص اذ نصت على (لما كان على الانسان ان يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الاكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره، أو ضعفه، أو جهله لتغيير دينه الى دين آخر، أو الى الإلحاد).
فحرية العقيدة في الاسلام هي من جنس حرية الرأي مقيدة بعدم الردة، فالنظام الاسلامي الذي منح غير المسلمين حرية العقيدة وسمح لهم بالعيش في الدولة الاسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فهو لم يسمح لهم ولا لسواهم أن يدخل أحدهم في الاسلام متى شاء بنية الخروج منه متى شاء بدعوى