المدخل لدراسة حقوق الإنسان… الدكتور مازن ليلو راضي… الدكتور حيدر أدهم عبد الهادي (2و3)
حرية العقيدة أو الرأي فالإسلام وضع هذا القيد حماية لمصلحة الجماعة ودرأً للمفسدة وبيان ذلك أن الردة عن الاسلام وإعلانها على وجه الخصوص انما هي مفسدة للجماعة وإضراراً بها مع سبق الاصرار لأن المرتد ما كنا نعرفه لولا اعلانه لردته المتعمدة بهدف التشكيك بعقائد الناس التي اتخذت الاسلام اساساً في قيامها وبقائها والدليل على أن المرتد المعلن ردته يقصد فعلاً هذا الاضرار بمصالح جماعة المسلمين قوله تعالى (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، آل عمران،73، وهنا لابد من الاشارة الى أن الرسول (ص) قد أكد على حرية العقيدة في أول اعلان دستوري لحقوق الانسان عندما أسس دولته في المدينة اذ أكد هذا الاعلان على أن (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)(18).
أخيراً من المفيد ان نسجل شهادة المستشرق البريطاني الكبير السير آرنولد بهذا الصدد حيث يؤكد على (إننا اذا نظرنا الى التسامح الذي أمتد الى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الاسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس الى الاسلام بعيدة عن التصديق(19).
الفرع الثاني – الحقوق السياسية
والمراد بها الحقوق التي تنظم علاقة الانسان بالدولة والمجتمع وإذا كان اقامة الدولة من الضرورات فإنها لا تقوم إلا بالأنظمة والقوانين ومنها ما ينظم علاقة الأفراد بالدولة وقد تتعارض هذه الأنظمة والقوانين مع حقوق الانسان ذات الطابع الشخصي، ومن هنا تنشأ الحقوق السياسية للأفراد في الدولة.
إن ميدان الحقوق السياسية ميدان واسع وسوف يقتصر حديثنا هنا على ما تمنحه الدولة للأفراد من حقوق ذات صلة شخصية بهم ضمن مفهوم وحدود المصلحة العامة كحرية الرأي والتعبير والحق في الاشتراك في شؤون الحكم (الشورى).
أ- حرية الرأي والتعبير وحق الشورى
ان الاسلام يعتبر الحكم مشاركة بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم انما يقوم وجوده على أساس تحقيق مصالح الناس ومن هذا المنطلق وضع الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول (تصرفات الأمام منوطة بالمصلحة).
ومن ثم فإن حرية الرأي والتعبير تتمثل في قدرة الانسان في ابداء وجهة نظره بوسائل مختلفة ومن بين المسائل التي يمكن أن يعبروا عن وجهة نظرهم بخصوصها المسائل المتعلقة بسياسة الحكم، وقد كان الخلفاء يطلبون نصيحة الناس وآرائهم في المسائل المختلفة.
أن الضمان لحرية التعبير انه يعد واجب من واجبات الأمة وهو واجب ديني كما أنه من جهة ثانية لا يعتمد على إذن من سلطان طالما أن القصد منه رضا الله تعالى والتذكير بطريق العدل والحق، كما أن لحرية التعبير حدوداً لا يجب أن يتم تجاوزها ومن ذلك أن تتقيد بالحق والحجة والبرهان كما ينبغي أن لا تؤدي الى حرمان الآخرين من إبداء رأيهم كما يجب أن يكون الرأي المعبر عنه بعيداً عن الظن والوهم وسوء النية. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، الحجرات، 49،6.
ويرتبط بالحق في حرية الرأي والتعبير ما يعرف بحق الشورى الذي يعني ضرورة التشاور بين المسلمين من الرعية والحكام، اذ أن أساس الشورى طبقاً للرأي الراجح في الفقه الاسلامي إنما يوجد في آيات قرآنية، قال تعالى (وشاورهم في الأمر) كما أن سيرة الرسول (ص) تؤكد هذا المنهج.
والحقيقة أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلفاء الراشدين، فما يذكر أن الأمام علي بن أبي طالب حين خرج عليه الخوارج وكانوا نحو ثمانية آلاف بعد قبوله تحكيم الحكمين في النزاع الذي قام مع معاوية اذ لم يعمد الأمام علي الى استعمال القوة معهم بصورة تلقائية بل بعث اليهم الصحابي الجليل أبن عباس ليناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فبعث الى الآخرين أن ارجعوا فأبوا فأرسل اليهم (كونوا حيث شئتم بيننا وبينكم ألا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً فإن فعلتم نبذت الحرب معكم) كما قال لهم (لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فساداً) وهذه الحادثة تظهر أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلافة الراشدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن الادعاء أن هذه الحرية كانت مكفولة في الغالبية العظمى مما تلا هذا العهد من تاريخ المسلمين، ولقد كان الخليفة منذ عهد الخلافة الأموية يطلب الى الناس قبل وفاته مبايعة ولي عهده وهذه المبايعة لم تكن في حقيقة الأمر تتم في حرية تامة إنما كان ( الاكراه فيها أكثر وأغلب) على حد تعبير أبن خلدون، وفي العهد العباسي قل من الوزراء من لم يلق حتفه على يد أحد الخلفاء ومع ذلك فقد عرف في بعض العهود بعض العلماء الذين تكلموا بشؤون الحكم وانتقدوا تصرفات الخلفاء والأمراء دون أن يصيبهم أذى كالحسن البصري في عهد الأمويين إلا أن هذه الحالة تمثل الاستثناء عن القاعدة(20).
ب- موقف مشروع الدستور الاسلامي من الحقوق السياسية
أن تقييم أية تجربة لابد أن يتم من خلال فهم النظرية أو الأسس الفكرية التي جاءت بها ومقارنتها مع الأسس العملية أو الجانب التطبيقي وبهذا الخصوص يمكن بحث ذلك من خلال مشروع الدستور الاسلامي الذي لم تعتمده بعد أية دولة اسلامية اذ يحتوي هذا الدستور على رؤية متكاملة في هذا المجال.
فالمادة الرابعة منه تنص على قيام الشعب بمراقبة الأمام ومساعديه ومحاسبتهم كما أن الشعب مصدر السلطات حيث تقر المادة 29 منه بحريات سياسية مهمة كحرية الفكر وإبداء الرأي وإنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام اليها وحرية الانتقال والاجتماع، كما تقر المادة 41 منه حرية الصحافة وتمنع الدولة من محاربة وقتل خصومها السياسيين اقتصادياً اذ تنص المادة 17 منه على (حق العمل والكسب والتملك مكفول لا يجوز المساس به …) وفي المادة 42 على أن (للمواطنين حق تكوين الجمعيات والنقابات) وفي المادة 49 التي نصت على (لا جناح على من أبدى رأيه ضد البيعة للإمام قبل تمامها) كما لا يقر الاسلام بالحصانة المطلقة لرئيس الدولة إذ نصت المادة 45 على (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا للإمام في أمر مقطوع بمخالفته للشريعة) والنص في المادة 51 على (يخضع الأمام للقضاء وله الحضور بوكيل عنه) أما المادة 94 فقد أكدت على عدم جواز منع القضاء من سماع الدعوى ضد الامام والحاكم. كما يقر الاسلام ومشروع الدستور الاسلامي الحق في الشورى والرقابة على دستورية القوانين في المواد 61، 71، 83، 84(21).
فضلاً عما تقدم تمنع نصوص مشروع الدستور الاسلامي الحاكم من وضع يده على الأموال العامة أو قبول الهدايا، كما لا تجيز الشريعة، ومشروع الدستور الاسلامي العبث بالسلطة القضائية بهدف التنكيل سياسياً بالأفراد أو حقوقهم السياسية المكفولة لهم شرعاً كما لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية(22).
الفرع الثالث – حقوق الأسرة
تعد الأسرة النواة الحقيقية التي أقر الاسلام من خلالها منظمة الزواج والإنجاب وقرر فيها المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، قال تعالى(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ولكن هذه المساواة ليست مطلقة في الجزئيات بل يفضل كل منهما الآخر في جانب، وقد جاء الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان فنظم جانباً من الاحكام المتعلقة بالأسرة والزواج بشكل موجز في مادته الخامسة وفي فقرتين هما:
(1. الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية. 2. على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها).
ويتفرع من حقوق الأسرة في الأمومة والأبوة اذ جاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان مذكراً بما تقدم في فقرته الثالثة من المادة السابعة منه التي نصت على (للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم، وفقاً لأحكام الشريعة).
وهذا النص يحيل على الشريعة وقد انفرد بالإشارة الى الأقارب بينما ثبتت الفقرة الثانية من المادة السابعة الحق للأب باختيار نوع التربية لأولاده وهو ما انفرد به الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان حيث نصت هذه الفقرة على (للآباء ومن بحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم، ومستقبلهم، في ضوء القيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية).
أما حق الطفولة فقد ثبت للأولاد في الشريعة الاسلامية اذ يجب على الوالدين رعاية الصغير منذ الصغر وتربيته وتوجيهه وتعريفه بالحلال والحرام وتعليمه ممارسة العبادات وإقامة الصلات الاجتماعية القوية وتحفيظه القرآن والتسوية بين الأولاد والحقيقة أن حقوق الأبناء المقررة شرعاً هي حق التربية وحق النسب وحق الرضاعة وحق الحضانة.
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان هذه الحقوق في الفقرة الأولى من المادة السابعة التي نصت على أن (لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين، والمجتمع، والدولة في الحضانة، والتربية، والرعاية المادية، والعلمية، والأدبية، كما تجب حماية الجنين، والأم وأعطاءهما عناية خاصة)(23).
الفرع الرابع – الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أكدت الشريعة الاسلامية على ضرورة ضمان مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويمكن الاشارة الى بعض منها بصورة موجزة وهي:
أ- حق العمل
أمر الله تعالى الانسان بالعمل، قال تعالى (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي حثت على العمل اذ قال الرسول (ص) (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) وقال (ص) (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وضرب الرسول (ص) المثل بنفسه فكان يرعى الغنم قبل البعثة ويقول (ما من نبي إلا رعى الغنم)(24).
ولا تتقيد حرية الحق في العمل إلا بموجب القيود العامة في الحلال والحرام وضمن الاحكام الشرعية وألا يؤدي العمل الى الإضرار والضرر بالغير لقوله (ص) (لا ضرر ولا إضرار)(25).
وقد أفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان مادتين لتأكيد حق العمل إذ نصت المادة 13 على أن العمل حق تكفله الدولة والمجتمع وللإنسان حرية اختياره، وحق العامل في الأمن والسلامة، وحق كل فرد بأجر متساوٍ للعمل، دون أي تمييز بين ذكر أو أنثى، والحق بالأجر العادل والمرضي الذي يكفل العيشة اللائقة للعامل وأسرته مع طلب الإخلاص والإتقان في العمل، ووجوب تدخل الدولة لفض النزاع ورفع الظلم، كما نصت المادة 14 على حق الانسان بالكسب المشروع دون احتكار أو غش(26).
ب- حق الضمان الاجتماعي
عرف هذا الحق في الفكر الاسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الاسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الاسلام).
وأعلن رسول الله (ص) حق التكافل الاجتماعي لعمال الدولة على وجه الخصوص فقال (من ولي لنا عملاً، وليس له منزل، فليتخذ له منزلاً – أي من بيت المال – أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة). وفي حديث آخر لرسول الله (ص) قال (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع الى جنبه، وهو يعلم)(27).
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على الحق في الضمان الاجتماعي في المادة 17 التي نصت على (1. لكل انسان الحق أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنوياً، وعلى المجتمع والدولة أن يوفر له هذا الحق. 2. لكل انسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج اليها في حدود الإمكانيات المتاحة. 3. تكفل الدولة لكل انسان حقه في عيش كريم، ويحقق له تمام كفايته، وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية)(28).
ج- حق التملك
يراد بحق التملك الاعتراف بحق الملكية الفردية للانسان وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه واستغلاله، والأصل في الملكية أن تكون للأفراد وهي الملكية الفردية وأقر الاسلام كذلك الملكية العامة للدولة في الأموال التي تعد أساسية لتلبية حاجات الأمة والتي تعد مصدر الثروة، وقد نصت المادة 15 من الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على هذا الحق بالشكل الآتي: (1. لكل انسان الحق في التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة، ومقابل تعويض فوري وعادل. 2. تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي).
كما أكدت المادة 16 في الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على اقرار حقوق الملكية الفكرية اذ نصت على (لكل انسان الحق في الانتفاع بثمرة إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه على أن يكون هذا الانتاج غير منافٍ لأحكام الشريعة(29).
ان ما تم ذكره من تفاصيل لبعض الحقوق التي أقرت من جانب الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال انها جميع الحقوق التي يتمتع بها الانسان في ظل آخر الرسالات السماوية.
المطلب الثاني
ضمانات حقوق الإنسان في الإسلام
لم يقم الإسلام بتأكيد حقوق الانسان المختلفة أو بيانها فهي ليست مجرد شعارات تطرح في مناسبات معينة، ومن هنا قرر الاسلام أنه لا فائدة من منح الحقوق أو النص عليها اذا لم تتوافر الضمانات القضائية اللازمة لحمايتها ووضعها موضع التطبيق وسواء تم ذلك عبر الايمان والقناعة أو من خلال الرهبة والقوة فلا ينفع التكلم بالحق اذا لم يكن هناك نفاذ له والدين بغير قوة تحميه فلسفة محضة.
ومن هنا فإن القضاء يعد وبحق من أهم الضمانات التي يمكن أن تحمي حقوق الانسان وتقيم الشرع وتطبق الأحكام العامة ولذلك فقد اعتبر الاسلام القضاء من أركان الدولة وهو من وظائف الأنبياء، قال تعالى (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله …)، الصف 83/26).
والإسلام مفتوح الأبواب لجميع الناس لا يدفع أحد المتنازعين أية رسوم مقابل الخدمة القضائية فالدولة تتحمل نفقاته اذ أنه لا يقل أهمية عن الأمن والتعليم والصحة العامة التي تتكفل الدولة بها، وقد رغب الرسول (ص) في القضاء العادل حيث قال (ليوم واحد من أمام عادل أفضل أو خير من عبادة ستين سنة) وقال (ص) كذلك (أن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه)(30).
وفي مقدمة الضمانات المقررة في الاسلام لحماية حقوق الانسان هي حق التقاضي المكفول في الشريعة لكل مواطن في الدولة الاسلامية مسلماً كان أم غير مسلم، وهنا روى وكيع عن شريح، قال (لما رجع علي من قتال معاوية وجد درعاً له افتقده بيد يهودي يبيعها، فقال علي: درعي، لم أبع، ولم أهب فقال اليهودي: درعي، وفي يدي، فاختصما الى شريح، فقال له شريح حين أدعى: هل لك بينة، قال نعم، قنبر(مولاه) والحسن أبني، فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال (علي): سبحان الله رجل من أهل الجنة(31).
والحقيقة أن المساواة بين الخصوم وإقامة العدالة بينهم مهما تفاوتت مكانتهم الاجتماعية والدينية، سبباً مباشراً لكثير من الناس في اعتناق الاسلام والانضواء مع المسلمين في العقيدة.
ومن الضمانات الأخرى لحقوق الانسان هي المساواة بين المتقاضين بغض النظر عن الغني أو الفقير أوالمكانة الاجتماعية أو اختلاف الدين والمذهب والجنسية والحاكم والمحكوم إعمالا لقوله (ص) (من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده)(32).
كذلك فالأصل براءة الذمة حيث لا يقام حد أو قصاص على أحد اذا اثبت ذلك أمام القاضي بالأدلة أما اذا لم يتحقق ذلك فلا مجال لفرض العقوبة عليه كما لا يجوز اللجوء الى ضرب أو تعذيب المتهم لانتزاع الاقرار منه وشملت ضمانات التقاضي فيما يتصل بحقوق الانسان جميع المشاركين في العمل القضائي ومنهم الشهود، قال تعالى(ولا يُضار كاتب ولا شهيد)، البقرة،2/282.
كما أقرت مبادئ الشريعة جوانب مهمة من حقوق الانسان عند تنفيذ الأحكام القضائية وبهذا يقول الرسول (ص) (أن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
أخيراً لابد من الاشارة الى حقيقة مضمونها أن قضية حقوق الانسان في الاسلام اذا ما كان هناك خلل فيها فان هذا الخلل كان مرده الدولة الاسلامية ابتداءاً من بدايات الحكم الأموي وهو بدوره ناتج عن المشاكل السياسية التي تولدت عن قضية الخلافة والحكم الأمر الذي انعكس بشكل أو بآخر على المسائل الانسانية الأخرى الخاصة بحقوق الانسان، أما الاسلام فالواقع أنه كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي قد وضع الخطوط العريضة للعدالة داخل المجتمعات الاسلامية على المستوى النظري بهدف تحويل العالم الى مجتمع اسلامي موحد.
هوامش الفصل الثاني
1. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص132.
2. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص131-132.
3. المصدر نفسه، ص133-134.
4. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص188.
5. د. عبد العزيز محمد سرحان، المدخل لدراسة حقوق الإنسان في القانون الدولي، الطبعة الأولى، 1988، ص56-57.
6. المصدر نفسه، ص54.
7. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص138.
8. المصدر نفسه، ص140-141.
9. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص55-56.
10. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص141-142.
11. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص58-59.
12. د. أنور أحمد رسلان، الحقوق والحريات العامة في عالم متغير، دار النهضة العربية، القاهرة – 1993، ص31-32.
13. المصدر نفسه، ص33.
14. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص142-143.
15. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص141-150.
16. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص122.
17. المصدر نفسه، ص132-133.
18. المصدر نفسه، ص163-164، الهامش رقم(100).
19. د. عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، منشأة المعارف، الإسكندرية،
ص389.
20. المصدر نفسه، ص284-285.
21. أنظر في مسؤولية الخليفة، المصدر نفسه، ص467-470.
22. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص176-177.
23. أنظر في حقوق الأسرة في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، المصدر السابق،
ص206-276.
24. المصدر نفسه، ص282-283.
25. المصدر نفسه، ص286.
26. المصدر نفسه، ص294.
27. المصدر نفسه، ص297-298.
28. المصدر نفسه، ص302-303.
29. المصدر نفسه، ص318.
30. المصدر نفسه، ص274-376.
31. المصدر نفسه، ص377.
32. المصدر نفسه، ص380.
الفصل الثالث
تطور الحقوق والحريات
لم تكن الحقوق والحريات التي حصل عليها الإنسان وليدة زمن واحد أو مكان واحد إذ ان تطور الحقوق والحريات عملية تمت في أماكن عديدة من العالم تبعاً لتطور تاريخ الأمم والشعوب وما مر عليها من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وسوف نحاول في هذا الفصل ان نتتبع مراحل التطور التي مرت بها هذه الحقوق والحريات من خلال متابعة الاعلانات التي ظهرت نتيجة الثورات والأحداث السياسية، فضلاً عن المدارس والمذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية.
المبحث الأول
المذاهب والمدارس والنظريات الفلسفية والفكرية
ساهمت المذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية التي ظهرت منذ نهايات العصور الوسطى الأوربية في بلورة اتجاه يخدم بشكل أو بآخر بعض مفاهيم حقوق الإنسان أو الأسس التي قامت عليها هذه الأفكار في العهود اللاحقة.
ومن ثم فان التعرض لبعض التيارات أو الأفكار التي شهدتها هذه الفترة أمر يساعد في فهم جانب من الأصول الفكرية لتطور الحقوق والحريات.
المطلب الأول
العصور الوسطى
يقصد بالعصور الوسطى تلك الفترة التي تمتد من الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة فترات أساسية:
الفترة الأولى تمتد حتى القرن العاشر للميلاد شهدت أوربا خلالها غزو الجرمان من الشمال والفتوحات العربية في الجنوب، وفي هذه الفترة شهدت الكنيسة تأكيداً لمركزها في إطار الإمبراطورية، وكان هناك إصرار على ضرورة الطاعة للكنيسة والولاء لها كما تم تقبل أية سلطة حتى لو كانت ظالمة وترفض مقاومتها حتى لو جاءت من غير مؤمن، فضلاً عما تقدم فقد سعت الكنيسة إلى اكتساب امتيازات قبل السلطة الزمنية ومما ساعد الكنيسة في تركيز هيمنتها خلال هذه الفترة سيطرة الإقطاع.
الفترة الثانية هي التي تلت القرن العاشر والتي تمتد حتى القرن الثالث عشر للميلاد وخلالها تنامت واشتدت قوة الكنيسة حيث شهدنا صراعاً بينها وبين رجال الدولة بحيث أصبحت نظرية السيفين التي وصفها جلاسيوس الأول والتي تقرر نوعاً من المساواة بين السلطتين الدينية والدنيوية موضوعاً منتهياً.
الفترة الثالثة امتدت من بداية القرن الرابع عشر وخلالها نشهد المراحل الأولى لانهيار السلطة البابوية، وقيام النظام الاستبدادي مع دعوات لإقامة مجتمع عالمي وحكومة الهية واحدة في مقابل دعوات أخرى أساسها إقامة الدولة القومية(1) واعتبارها نظام مقدس، وان الملوك هم ظل الله فهم لا يخضعون لسلطة الكنيسة ولا يسألون أمام بابواتها، وقد أدى هذا الصراع بين الدولة والكنيسة إلى ظهور أفكار جديدة ذات طابع سياسي على يد بعض المفكرين.
فنحن نجد في كل مجتمع عقيدة سياسية وصياغة قانونية للأفكار السياسية المتبناة إذ تميل هذه الصياغة إلى جانب المحكومين في الدول الحرة بينما هي تنـزع نزعة عكسية في الدول الاستبدادية أو الشمولية، والعقيدة السياسية في الدول الحرة تعد مصدراً أساسياً من مصادر ضمانات الأفراد إذ انها تؤكد قيام النظام السياسي بأسره على احترام الشخصية الإنسانية الحرة لما تتميز به. ومن ثم يجب ان تتمتع بأوفر قسط ممكن من الحرية.(2)
والحقيقة ان العقيدة السياسية التي قامت عليها النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة انما ترجع إلى أصول تاريخية تمتد إلى القرون الوسطى الأوربية على الرغم من انها لم تتبلور بشكل كامل إلا في أواخر القرن الثامن عشر فالوضع العام في العالم القديم كان يعارض فكرة قيام حقوق للأفراد في مواجهة السلطة العامة وكان في مكنة الجماعة ان تأتي ما تشاء طالما كان ذلك إجراءاً عاماً، وقد نبتت بذور العقيدة الحرة الأولى خلال العصر الوسيط الذي تميز بطبيعته السياسية الخاصة من ناحية وبالحركة الفكرية التي نشطت فيه من ناحية أخرى(3) وبقدر تعلق الأمر بالحركة الفكرية يمكن الإشارة إلى أهم المفكرين الذين ظهروا خلال هذه المرحلة فضلاً عن التطرق لأهم الأحداث التي ساهمت في حصول الشعوب على حقوقها.
الفرع الأول- جريجوري
كان جريجوري من أقوى البابوات، وقد نُصب عام 573 عمدة على روما غير انه اعتزل هذا المنصب ليتفرغ كلية للدين، وفي عام 590 تولى منصب البابوية، وتضمنت كتاباته أقوى الحجج المؤيدة لواجب احترام السلطة الزمنية، فهو الوحيد من بين الشخصيات البارزة في الكنيسة الذي تكلم عن قداسة الحاكم السياسي بلغة تدعو إلى الطاعة السلبية وتتلخص وجهة نظره في ان للحاكم السيئ الحق ليس في الطاعة وحدها، وانما في ضرورة كون هذه الطاعة صامته وسلبية، والرعايا يجب عليهم ان يطيعوا كما يجب عليهم الامتناع عن محاولة الحكم على حياة حكامهم أو نقدها أو مناقشتهم فيما يقومون به، وكان جريجوري يحتج على أوامر الإمبراطور إذ كان يعتقد انها تناقض القانون، لكنه مع ذلك يطبقها، ويبدو ان نظريته تتلخص في اعتبار الإمبراطور يمتلك السلطة اللازمة لإصدار الأوامر التي يراها حتى ان كانت هذه الأوامر غير قانونية ما دام يتحمل مسؤولية ذلك وإذا قادت هذه المسؤولية إلى تعرضه للعنة روحية، فليست سلطة الحاكم مستمدة من الله فقط، لكنها أعظم سلطة على الأرض باستثناء سلطة الله(4).
الفرع الثاني- توماس الاكويني
هو من أعظم فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي، وتقوم فلسفته على التوفيق بين العقل والإيمان، وقد انصبت معالجات هذا المفكر على توضيح جوانب متعلقة بالدولة والمجتمع ونظم الحكم وعلاقة الدولة بالكنيسة وغيرها من المواضيع، وهو يرى ان السلطة السياسية حق من الحقوق الإنسانية، وان هذه الحقوق الإنسانية تعتبر جزءاً من الحقوق الطبيعية الصادرة عن الذات الالهية، كما ان الله لا يمكن ان يعد مسؤولاً عن أي شكل من أشكال الحكومات، لأنه لم يكون بفعل إرادي هذا الشكل أو ذاك، كما ان الله لم يقرر أفضلية أحد الأشكال على غيره من أشكال الحكومات، أي انه يرى ان السلطة السياسية تقوم على الحقوق الإنسانية، رغم ان الله هو مصدر السلطة(5)، ويعتقد بان فكرة الدولة وأصولها تتصل بشكل أساسي، بنزعة الاندفاع الاجتماعي للإنسان، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش خارج اطار الجماعة وهذا يعني ان الدولة عبارة عن حدث طبيعي تقتضيه طبيعة الحياة الإنسانية، وتتمثل في كونها تنظيم ارتضاه الأفراد بحريتهم لتحقيق هدف الأفراد للحصول على السعادة.
ويقول الاكويني أيضاً ان السيادة هي سلطة عمل القوانين، وهي مركزة في جميع أفراد المجتمع السياسي أو فيمن يمثلونهم، وان الملك أو الأمير انما يستمد سلطته العليا من سلطة المجموع ويزاولها باسمهم، والحكومة الصالحة في نظر الاكويني هي الحكومة التي تشرك أصحاب السلطة وهم أفراد المجتمع في مظاهر الحكم، ويؤكد ان أفضل أشكال الحكومات هي الحكومة المختلطة التي تختلط فيها عناصر النظام الملكي والنظام الارستقراطي والنظام الديمقراطي(6).
ان الفكرة المتقدمة تتحقق من خلال أعمال مبدأ انتخاب الحاكم، فالملكية التي يريدها الاكويني تكون انتخابية على ان يعاون الملك مجلس ارستقراطي منتخب من قبل الشعب، فهناك ملك يعاونه مجلس ارستقراطي منتخب، والنظام المذكور هو ملكية معدلة بأرستقراطية وديمقراطية، كما يظهر الاكويني معارضته للحكم الاستبدادي، ويمنح الشعب الحق في مقاومة الحاكم المستبد الذي يتجاوز حدود سلطته بشرطين أساسيين هما: إلا تمارس هذا الحق طائفة معينة من الشعب بل يجب ان يمارسه مجموع الشعب، كما يجب ان يأخذ القائمون بالمقاومة على مسؤوليتهم الا ينتج عن حركتهم تلك مساوئ تفوق مساوئ الحاكم المستبد أو تعادلها وهو يقول (ان للشعب حق قانوني في ارغام الحاكم- الذي يستمد سلطته من الشعب- على التزام الشروط التي بموجبها تنازل له عن السلطة).(7)
الفرع الثالث- مارسليو بادوا
دوّن هذا الايطالي أفكاره في كتاب أصدره عام 1324 عنوانه (المدافع عن السلام) وكان هدفه هو هدم السيطرة البابوية، وصولاً إلى تحديد دقيق وفعال لما تدعيه السلطة الروحية من حق في السيطرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أعمال الحكومة الزمنية حيث ذهب الى وضع الكنيسة تحت سيطرة الدولة وبهذا يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة في دفاعه عن السلطة الزمنية(8)، وينسب إليه بعض الكتاب انه أول من نادى في العصور الوسطى بمبدأ حق الشعوب في السيادة، إذ ميز بين الأمة وهي مصدر السلطة، وبين الحكومة وهي الأداة المنفذة لإرادة الأمة، وقرر بادوا حق الشعب في السلطة التشريعية وسيادة هذه السلطة على السلطة التنفيذية، إذ انه طبقاً لآرائه يختار الشعب السلطة التنفيذية ويكون له حق الإشراف عليها وتكون هي مسؤولة أمامه، كما نادى بحق الشعب في معاقبة الحكام إذا انتهكوا القوانين التي سنها الشعب، ومن حق الشعوب خلع حكامها وإبعادهم عن السلطة(9).
ان نظرة بادوا إلى القانون باعتباره من الضروري ان يصدر عن هيأة دستورية (المواطنين) فالأفراد أو جميع المواطنين أو غالبيتهم هم الذين يقررون بإرادتهم، في جمعية عامة، وفي لغة معبرة لا لبس فيها ما هو المباح للناس وما هو المحرم من الأعمال المدنية مع تعرض المخالف للعقوبة، فالقانون البشري ينشأ نتيجة اشتراك الجماعة في تشريعه وصياغته، والحقيقة ان هذا المفهوم يقدم لنا فكرة عن سيادة الارادة العامة تذكرنا بروسو فنحن مع بادوا في عالم مختلف عن عالم القديس توماس الاكويني حيث لا نجد في أفكار بادوا أثر لفكرة الاكويني الخاصة بان الدولة تخضع لنظام أبدي مطلق من القيم يعبر عنه القانون الالهي والقانون الطبيعي، فالدولة هي مصدر القانون، وقانونها يجب طاعته ليس لأنه يقترن بالإكراه المادي لكنه في ذاته تعبير عن العدالة(10).
الفرع الرابع- وليم أوكام
ولد هذا الفيلسوف عام 1290 في مقاطعة أوكام التابعة لولاية بوركشارير وتوفي عام 1349 وقد عكست كتاباته عدم رضا جانب كبير من المسيحيين عن سيطرة البابا التي شاع الاعتقاد انها شر على الكنيسة وأوربا معاً ومن ثم فقد حاول أوكام ان يحدد مجال اختصاص كل من السلطتين الزمنية ممثلة بالإمبراطور أو الملك والسلطة الدينية ممثلة بالبابا إلا انه في كل الأحوال لم يكن يفكر في إلغاء أو تذويب سلطة الكنسية في الدولة وإنما أراد إصلاح الأوضاع القائمة عبر فصل مجال اختصاص كل من السلطتين الدينية والزمنية(11).
ان فلسفة أوكام السياسية عكست حالة الفكر السياسي الذي كان قائماً في القرن الرابع عشر بصورة واضحة، وهي لم تكن تخرج في جوهرها عن مناقشة طبيعة العلاقة بين السلطتين الدينية والدنيوية على الرغم من ان السلطة الفعلية لبابوات روما على الملوك كانت قد تلاشت تقريباً إلا ان الجديد في فلسفة أوكام انها طرحت في المناقشات السياسية العلاقة بين الملك ورعاياه، وكذلك حق هؤلاء الرعايا في مقاومته إذا ما أتخذ قراراً يمس ضمائرهم حول ما يعتقدون انه يمثل حقيقة العقيدة المسيحية(12).
أخيراً يمكن القول ان العصور الوسطى قد تميزت بأفكار طرحت من جانب مفكرين وفلاسفة ورجال دين عبرت عن وجود انواع مختلفة من الثنائية، فهناك رجال الدين وسلطاتهم في مواجهة السلطة الزمنية أو العلمانيين أو ما يمكن ان يعبر عنه بثنائية البابا إزاء الإمبراطور، الحقيقة ان نهايات العصور الوسطى خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدت تحولات عميقة ومهمة إذ عصفت الأزمات الاقتصادية بالقارة الأوربية فضلاً عن انتشار الأوبئة التي قضت على ثلث سكان فرنسا وبريطانيا كما ان بذخ الكنيسة كلها عوامل قادت الى التفكير بأساليب مختلفة والقبول بآراء جديدة ساعدت على بروز الدولة القومية مع بدايات عصر النهضة التي وضعت الأسس الفكرية الأولى للنظام السياسي والاقتصادي لأوربا وما صاحب ذلك من صراع طويل للشعوب في سبيل الحصول على حقوقها لكن هذا الصراع تحول إلى صراع مباشر بين الملوك من جهة والشعوب من جهة أخرى بدل الصراع الذي كان قائماً بين البابا والإمبراطور.
وإذا كانت الأفكار المتقدمة هي التي مثلت أو عكست جانباً من الصراع الفكري في العصور الوسيطة فان سواد الشعب كان محكوماً بسيادة نظام الاقطاع الذي انشأ إلى جانب سلطات الدولة سلطات رؤساء الاقطاع، ولا غرابة ألا يزدهر سلطان الدولة في ظل النظام الاقطاعي كما انه ليس من الغريب ان لا يتم ترجيح الصالح العام في مواجهة مصالح الإقطاعيين إذ ان من شان سلطان زعماء الاقطاع ان يضعف من سلطات الدولة وان يقلل من سيادتها، والحقيقة اننا نجد في النظام الإقطاعي رؤساء يملكون الأراضي والمقاطعات ويتمتعون بسلطان واسع وحقوق متعددة، هذه الحقوق وذلك السلطان لا ترد عليهما قيود إلا تلك التي يقررها العرف أو تنشأ عن العقد المبرم بين رئيس الاقطاع والملك، وهذا هو الذي يحدد حقوق كل طرف تجاه الآخر، فإذا دفعوا ضريبة، فالأساس القانوني لدفعها هو العقد السالف الذكر وليس حق الدولة في فرض الضرائب على الأفراد الذين يعيشون في إقليمها كما ان رؤساء الإقطاع لم يخضعوا لقضاء الدولة، فإذا وجبت مسؤوليتهم فإنهم يحاكمون أمام قضاة من نفس درجتهم الاجتماعية، ومع ذلك فان هؤلاء أي رؤساء الإقطاع لم يكونوا ملزمين بالمثول أمام محكمة مكونة بهذه الطريقة لأنهم كانوا يملكون اعلان الحرب، ومن ثم فقد كان رئيس الإقطاع يفضل ان يصفي منازعاته عن طريق الحرب على ان يسويها عن طريق اللجوء الى المحاكم، ومن ثم فانه لن يعتبر أمراً مستغرباً ألا يكون هناك مجال للكلام عن حقوق الأفراد تجاه الدولة، لان رابطة الإقطاع القائمة على وجود إقطاعي متنفذ لم تترك مجالاً لتنظيم علاقة حقيقية واضحة بينهم وبين السلطة المركزية، كما انه ليس غريباً ألا تسود فكرة الصالح العام(13).
المطلب الثاني
الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة والعصور الحديثة
إذا كانت العصور الوسطى في القارة الأوربية قد تميزت بالصراع الذي نشب بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء، والذي انتهى بانتصار الملوك والأمراء وفصل الكنيسة عن الدولة مما قاد إلى ان يصبح الملوك أو الأمراء الممثلين للسلطة الزمنية أصحاب النفوذ والسلطان بدون منازع وبشكل خاص بعد القضاء على نظام الإقطاع وقيام الطبقة الوسطى التي يمثلها التجار والصناع والحرفيون.
ومما ساعد في الوصول إلى هذه النتيجة حركة الاستكشافات الجغرافية التي دفعت مع عوامل أخرى إلى قيام الطبقة الرأسمالية التجارية فهي التي قامت بمقاومة النظام الإقطاعي القائم على الملكيات الكبيرة واقتصاد المدن المستقلة وقد نجحت هذه الطبقة في سعيها عندما حققت وحدة السلطة المتمثلة بالملك الذي تم دعم سلطاته في المراحل الأولى من جانب عدد لا بأس به من المفكرين.
ولهذا فقد شهد عصر النهضة ولادة النظام الملكي المطلق الذي ساد في القارة الأوربية وتركزت السلطات الثلاث بيد الملك، فقد مارس السلطة التشريعية بواسطة الأوامر التي كان يصدرها، كما استحوذ على السلطة التنفيذية بشكل كامل ودون شريك.
ولكي يمنع كبار النبلاء والأشراف من الاحتجاج والثورة فقد قام باختيار وزرائه من صغار النبلاء، كما ثبتت له ولاية القضاء بحيث كانت الأحكام تصدر باسمه وله حق التدخل في الدعاوى وفي أي وقت فضلاً عن صلاحيات أخرى أفقدت القضاء كل استقلال(14).
أما الأفراد فقد كانوا في هذه المرحلة محرومين من كل الحريات الفردية وكانت أقوى وسيلة لردع هؤلاء خطابات الملك المغلقة، وهي عبارة عن رسائل مختومة بختم الملك الشخصي وبموجبها توقع العقوبة دون حكم قضائي إلا ان هذا الحال لم يقدر له ان يستمر على المستوى الفكري إذ ظهرت حركات فكرية ناوئت الاستبداد الملكي وأخذت تبحث عن مصدر للسلطة في غير النظريات الثيوقراطية ذات الطابع الديني، ومن ثم فإننا سنحاول تتبع أكثر المفكرين والفلاسفة تأثيراً في هذا المجال سواء في عصر النهضة أو في العصور أو القرون التي أعقبت هذا العصر وبداياته.
الفرع الأول- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة
مع فجر عصر النهضة وبدايات العصور الحديثة حدث تقدم في مجالات مختلفة شهدتها القارة الأوربية وعلى وجه الخصوص في مجال الأفكار والنظريات السياسية الأمر الذي أثرى الجدل الفكري المتعلق بمفهوم الحقوق والحريات العامة ومن أبرز مفكري هذه المرحلة ميكافيلي وبودان وهوكر:-
1. نيقولا ميكافيلي
ولد المفكر الإيطالي ميكافيلي في مدينة فلورنسا سنة 1469 في وقت كانت قد قامت فيه الدولة القومية المستقلة في كل من انجلترا وفرنسا بينما ظلت ايطاليا تعاني من الانقسام مما أثر على وضعها المستقبلي في القارة الأوربية، وهو ما اثر بدوره على الفلسفة السياسية لهذا المفكر فنادى بسبب ذلك بإتباع سياسة واقعية مؤسسة على القوة والحذر وهما الصفتان اللتان اعتبرهما ضروريتان للحاكم(15).
آمن ميكافيلي ان (الأنبياء المسلحين هم الذين كانت لهم الغلبة والسلطة، بينما فشل غيرهم غير المسلحين) وهم الذين لم يمتلكوا القوة، وقد أسند الضعف الذي عانت منه ايطاليا في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر إلى الكنيسة الكاثوليكية ورجال دينها الذين صنعوا كما قال (الايطالي اللاديني الشرير) كما ان الكنيسة كانت السبب الأساسي في تقسيم ايطاليا إلى دويلات وإمارات مجزئة متقاتلة معاً والحل في نظره يكمن في ايجاد أمير قوي قادر على توحيد هذه الإمارات المتنازعة، ومن ثم فقد كانت دعوة هذا المفكر صريحة لحاكم فلورنسا الأمير مديسي لتحرير ايطاليا من الفرنسيين والأسبان وتوحيد هذا البلد بكامله وكانت نصيحته للأمير المذكور ان يكون ماكراً كالثعلب لا طيباً وان يكون قوياً كالأسد ولا يثق بأحد كما أشار عليه ان يكون مخادعاً ومدعٍ للتدين وحب الدين، أي ان الغاية تبرر الوسيلة وكل ذلك من أجل بناء دولة آمنة قوية ومستقرة يحكمها دستور يحفظ حقوق الأمير والنبلاء وبقية أفراد الشعب بنسب تتفق مع ما يتمتعون به من مراكز قوة(16).
يفضل ميكافيلي النظام الجمهوري بالمقارنة مع النظام الملكي فالأول هو نظام حر حسب رأيه تتحقق فيه الحرية والمساواة وإذا كان هذا المفكر من انصار الحكم المطلق في مؤلفه الأمير إلا انه وفي مؤلفيه الآخرين وهما المحاضرات أو الخطب ودستور فلورنسا دافع عن الحرية وأكد ان الحرية تتطلب المساواة إذ لا حرية دون مساواة وقال ان أعداء المساواة هم الأشراف الذين يعيشون مما تنتجه مزارعهم وممتلكاتهم دون ان يكون لهم عمل حقيقي فهم أي النبلاء سبب كل فساد على حد قوله ولا يمكن قيام نظام جمهوري إلا بالقضاء عليهم، ويعترف ميكافيلي للشعوب بالحق في استعمال القوة للحصول على حقوقها في الحرية والمساواة، فقد نادى كما ذكرنا في مؤلفه المحاضرات أو الخطب بالسلطة الجمهورية المعتدلة وعدل في هذا المؤلف عن فكرة الحكم المطلق(17).
وعند تقييم آراء ميكافيلي فمن الضروري الإشارة إلى وجود رأيين الأول يقول انه كان يدعو إلى الحكم المطلق عند انشاء الدولة، لكنه يؤيد الحكم الجمهوري للمحافظة على النظام وتأكيد دعائمه.
بينما ذهب رأي آخر إلى القول ان هذا الرجل كان وطنياً وهذا ما يبرر دعوته للحكم المطلق بهدف توحيد ايطاليا، ومن ثم فان ميكافيلي طبقاً لهذا الرأي من انصار الحكم المطلق الذي يعد وسيلته لتوحيد ايطاليا ومن انصار النظام الجمهوري الذي يحقق الحرية ويكفل المساواة بالنسبة للدول الأخرى(18).
2. جان بودان
ولد هذا الفقيه عام 1530 وتوفي عام 1596، في الفترة التي تميزت بانشقاق الكنيسة بعد ان ظهر المذهب البروتستانتي المنادي بحرية العقيدة وضرورة تخليص المسيحية من الشوائب والادعاءات التي علقت بها نتيجة الصراع بين الكنيسة والأمراء واستخدام بعض رجال الدين الأمير كوسيلة للتمتع بالثروة والسلطة وقد انتقل هذا الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت إلى فرنسا وبلغ ذروته بمذبحة سانت بارتليمي سنة 1572 وفي خضم هذا الصراع الدموي نشأ حزب سياسي أكد على ضرورة التعايش والاعتراف بحرية العقيدة لكل طرف من الأطراف المتنازعة وكان جان بودان فقيه هذا الحزب والمنظر الفكري لآرائه.
ألف بودان كتابه الشهير (الجمهورية) في ستة أجزاء عام 1576 وكان من انصار نظرية التطور العائلي في أصل نشوء الدولة، وبموجبها فان الأسرة هي أصل نشوء الدولة إذ ان الدولة تتألف من مجموعة من الأسر المرتبطة مع بعضها بمصالح مشتركة وتخضع لسلطة عليا واحدة، ويعتبر بودان من انصار النظام الملكي الذي يفضله على النظام الشعبي والنظام الارستقراطي فالملكية هي النظام الطبيعي المتفق مع الطبيعة، فالعالم يحكمه اله واحد والسماء لا توجد فيها إلا شمس واحدة والأسرة لها رئيس واحد، ومن ثم فان الدولة يجب ان يكون لها رئيس واحد كذلك يعترف الجميع به ويخضعون له(19).
والحقيقة ان بودان لم ينادِ بملكية مطلقة استبدادية بصورة كاملة فسيادة الملوك يجب ان تقيد بالقانون الطبيعي، ولا يمكن للملك ان يخرج على أحكام هذا القانون في أي أمر يأمر به أو أي قانون يسنه، والقانون الطبيعي الذي على الملك ان يتقيد به من صنع الإله، ومن ثم فانه يجب على الملك ان يحترم العقود ذات السبب الشرعي ويجب عليه ان يحترم الملكية الخاصة(20).
إذن الملكية التي نادى بها بودان هي ليست نظاماً يتنكر فيه الملك للقوانين الطبيعية والإلهية، ولعل أبراز بودان لفكرة السيادة يعد المساهمة المميزة له في المجال القانوني والسياسي فهي العنصر الذي يميز الدولة عن التجمعات البشرية الأخرى ويعرفها (بأنها السلطة المطلقة الدائمة في الدولة، وهي الخاصية الرئيسية التي تظهر الدولة على غيرها من التجمعات والتنظيمات البشرية الأخرى) فالسيادة هي سلطة عمل القوانين لكل أفراد الشعب وتتصف بأمرين الأول انها سلطة دائمة فعنصر الدوام هو الذي يربط السيادة بالدولة والأمر الثاني ان السيادة سلطة مطلقة نسبياً إذ لا تتقيد سلطة صاحب السيادة إلا بالقوانين الالهية والطبيعية، وقد لعبت فكرة السيادة دوراً في تحرر الشعوب(21).
3. ريتشارد هوكر
ولد ريتشارد هوكر عام 1544 وتوفي عام 1600 وهو يفترض وجود حالة الطبيعة الأصلية التي يخضع فيها الناس إلى القوانين الطبيعية فقط وقد أدرك الأفراد ضرورة إزالة الآثار الضارة الناتجة عن العلاقات فيما بينهم وهذا ما لم يكن من السهل إتمامه دون وجود اتفاق بينهم لتنظيم نوع من الحكومة العامة وإخضاع أنفسهم لها، وهو يشير بكلامه هذا إلى وجود شكل من أشكال العقد الاجتماعي(22).
الفرع الثاني- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في القرنين السابع عشر والثامن عشر
في نهايات عصر النهضة الأوربية وبدايات العصور الحديثة كان هناك أساس لتقييد صاحب السيادة ببعض القيود التي أشرنا إليها كالقانون الطبيعي وأوامر الله والقوانين الأساسية للدولة، والحقيقة ان هذه القيود لم تكن حديثة النشأة وعلى وجه التحديد القيود المستمدة من القانون الطبيعي، بل هي تمتد في جذورها التاريخية الأولى إلى عهد الإغريق والرومان إلا انها عادت للظهور مرة أخرى لمقاومة الطغيان والاستبداد والحكم المطلق على يد الفقيهين جروشيوس وبفندورف إذ ظهر على يد الأول ما بات يعرف بمذهب الحقوق الطبيعية حيث نشر جروشيوس سنة 1625 كتابه الشهير (حقوق الحرب والسلم) أما الثاني فقد نشر سنة 1673 كتابه (حقوق الطبيعة والبشر) ثم توالت المؤلفات التي تتحدث عن الحقوق الطبيعية للبشر إذ نشر فولف سنة 1748 كتاباً في أصول الحقوق الطبيعية وفاتل الذي وضع كتابه المسمى (حقوق البشر أو مبادئ السنة الطبيعية) في الموضوع ذاته(23).
عليه فان القرن السابع عشر قد شهد انبعاث الحديث عن نظرية الحقوق الطبيعية التي ترجع الى قرون قديمة فهي من نتاج الفلسفة اليونانية إلا ان مفهوماً محدداً لم يتبلور إلا في هذين القرنين وتعرف هذه الحقوق كونها القواعد التي أملاها العقل والتي يجب ان تسود علاقات الأفراد وهم في الحالة الطبيعية، ففي حالة الطبيعة هذه كان الأفراد يتمتعون بكامل حقوقهم وحرياتهم التي يكفلها لهم القانون الطبيعي الذي يقف مانعاً أمام أي اعتداء عليها، وهذه الحقوق والحريات سبقت وجود الدولة، وان دخول الفرد أو الإنسان في الجماعة أو الشعب المكون للدولة لا يعني مطلقاً انه تنازل عن هذه الحقوق مما لا يعطي للدولة الحق بالاعتداء عليها(24).
عليه يمكن الإشارة إلى أبرز فلاسفة ومفكري هذين القرنين ممن كان لهم مساهمة متميزة في بلورة مفاهيم وأفكار تخص حقوق وحريات الأفراد أثرت في مسيرة الشعوب على المستوى السياسي والقانوني.