المدخل لدراسة حقوق الإنسان… الدكتور مازن ليلو راضي… الدكتور حيدر أدهم عبد الهادي (7) أ
وعلى هذا الأساس صدرت الدساتير والقوانين التي حمت هذه الحقوق ففي الولايات المتحدة الأمريكية صدرت تشريعات عادية تضمنت بعض الحقوق التي اشرنا إليها بعد الأزمة الاقتصادية التي حدثت سنة 1935 والتي أطلق عليها اسم (السياسة الجديدة)، أما في انكلترا فقد قررت بعض الحقوق ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية بموجب قوانين صدرت عن البرلمان الانكليزي ابتداءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذه التطورات إذ تضمن دستور 1946 في مقدمته تحديداً شاملاً لهذه الحقوق ومنها تضمين القوانين لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجالات كافة، وضمان حقوق العمال، بالتأكيد على حق العمل، وعدم جواز ان يضار إنسان من عمله بسبب الجنس أو الرأي أو العقيدة، والحق في ان ينضم أي إنسان إلى النقابة التي يمكن ان تدافع عن مصالحه، وأقر الحق في الاضراب ضمن حدود القانون الذي ينظمه، فضلاً عن ضمان التأمين الصحي والراحة، والحق في التمتع بأوقات الفراغ وتوفير الوسائل الضرورية لاستمرار حياة العاجزين عن العمل نتيجة الشيخوخة أو المرض(81).
وفي الدستور الفرنسي النافذ والصادر عام 1958 فقد نص على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنتها المبادئ السابقة ولكن بطريقة غير مباشرة إذ أُشير إلى تمسك الشعب الفرنسي بإعلان سنة 1789 ومقدمة دستور 1946.
وهنا يمكن الإشارة إلى حقيقة تتمثل في ان الديمقراطيات الغربية لم تعطِ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نفس القدر من الأهمية التي تعطيها للحقوق والحريات الفردية فمجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دساتير الدول الرأسمالية هي مجرد أهداف عامة يجب على الحكومات ان تحاول تحقيقها في حين ان الحريات التقليدية تتمتع بحماية تشريعية وقضائية تمنع الاعتداء عليها أو الحد من فعاليتها(82).
ومن المهم القول بان الدستور العراقي لعام 2005 قد اكد في المادة (22) منه على ان العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة ، كما نص على الحقوق الاخرى التي تساهم في كفالة هذا الحق من قبيل تأسيس النقابات والاتحادات المهنية وحرية الانضمام اليها .
وفي المادة (30) منه اورد ( تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة او المرض او العجز عن العمل او التشرد او اليتيم او البطالة ، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقه ,وتوفر لهم ,السكن والمناهج الخاصه لتاهيلهم والعنايه بهم , وينظم ذالك بقانون ) .
ومن جانبه اكد الدستور الاردني النافذ لعام 1952 في الماده (23) منه على حق العمل لجميع الاردنيين , كما اشار الى واجب الدوله في توفيره لهم باجور تتناسب مع كمية العمل وكيفيته , كما قرر تعويض خاص للعمال المعيلين , وفي احوال التسريح و المرض والعجز واصابات العمل .
الفرع الثاني- حق الملكية
يعد حق الملكية من الحقوق الأساسية والمهمة بالنسبة لكل فرد وربما كانت مشكلة الإنسان قد بدأت عندما وضع شخص ما قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي، وكتب لوك يقول (إن السلطة العليا يجب إلا تسلب الفرد جزء من ملكه دون ان تحصل على رضاه، وذلك لأن حماية الملكية هو الغرض الذي من أجله أُنشئت الحكومة، وكون الأفراد الجماعة)، ووجد هذا الكلام صداه في إعلان عام 1789 الذي أكد على ان (الملكية حق مقدس لا يمكن المساس به ولا يجوز ان تنزع الملكية الخاصة لشخص إلا إذا كان ذلك للمصلحة العامة وطبقاً للقانون على ان يكون ذلك في مقابل دفع تعويض سابق وعادل)(84).
والنص المتقدم يعبر عن النظرة التي سادت لهذا الحق في نهاية القرن الثامن عشر والنص الأول من القرن التاسع عشر حيث كان يعد من الحقوق الطبيعية للأفراد بعد الحرية وقبل الضمان ومقاومة الطغيان، وهذا يعني ان النص الذي جاء به إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 قد عبر عن إيمان الثورة الفرنسية بان الملكية الخاصة تمثل القلعة الحصينة للحريات الفردية فهي التي تعبر أصدق تعبير عن حرية الإنسان، وان شخصية كل إنسان لا يمكن ان تنمو إلا إذا نشأت بحرية لا تحت رحمة الغير، لذا فان مُكنة تملك الأموال هي خصيصة جوهرية وأساسية لجميع المكنات الفردية المكونة لحريات الفرد، وعبرت النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة عن مفهوم يربط بين الملكية والحرية حيث اعتبرت ان الفرد يستوفي مقومات استقلاله عن الدولة ويستطيع ان يستغني عن مساعدتها متى ما توافرت الملكية والحرية، وعلى هذا الأساس عدت الملكية مثل الحرية حق طبيعي يمكن الاحتجاج به أمام الكافة بما فيهم الدولة ذاتها، إلا ان المفهوم المتقدم للملكية باعتبارها حق مقدس وطبيعي وغير قابل للزوال تحت ضغط التطورات الاقتصادية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وربما قبل ذلك بفترة قصيرة حيث يمكن تحديد ثلاث اتجاهات فكرية عبرت عن موقفها من حق الملكية هي:
1- اتجاه يذهب إلى تضييق الملكيات الفردية وإحلال ملكية الدولة أو الملكيات الجماعية محلها.
2- اتجاه ثانٍ يذهب إلى تغير طبيعة النظرة إلى الملكية وذلك عن طريق اعتبارها تقوم بوظيفة اجتماعية (نظرية الملكية كوظيفة اجتماعية) ويراد بها تقيد حق الملكية بإخضاعه لمجموعة من الالتزامات التي تقود إلى تحقيق الحاجات الاجتماعية فالمالك عليه عندما يقوم باستخدام ملكية ان يراعي حاجات الجماعة قبل كل شيء.
3- اتجاه ثالث جمع العناصر الجيدة في الاتجاهين السابقين إذ يفضل هذا الاتجاه نقل الملكية من الفرد إلى الدولة أو إلى الجماعة إذا كان أداء المال لوظيفته الاجتماعية لا يتحقق إلا بنقله إلى الدولة أو الجماعة وهذا ما يتحقق عن طريق التأميم، ومن الأمثلة على التأميم كجزء نجده فيما قامت به الحكومة الفرنسية من تأميم لمصانع رينو للسيارات بعد الحرب العالمية الثانية بسبب النشاط المعادي لمالك هذه المصانع لفرنسا أثناء الاحتلال الألماني، والحالة الثانية تتمثل بتغيير طبيعة الحق بحيث يحل طابع نسبي للملكية محل الطابع المطلق لها وذلك عن طريق تحديد سلطات المالك على ملكه وهذا يعني الاعتراف بالملكية الخاصة لكن مع اعطاء السلطة السياسية القائمة بتفسير المصلحة الاجتماعية التي لا تستطيع فكرة الملكية الهروب منها(85).
من جانب آخر أكدت الاتفاقيات الدولية على حق الملكية وكذلك الاعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث نصت المادة 17 منه على حق كل فرد في التملك سواء بمفرده أو مع غيره وأضافت إلى ذلك عدم جواز تجريد شخص من ملكه تعسفاً، والمضمون ذاته أشارت إليه المادة (5) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري وإعلان القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 تشرين الثاني 1967 وكذلك الحال مع الإعلان الخاص بحقوق المعوقين(86).
الفرع الثالث- الحقوق الثقافية
من أهم الحقوق الثقافية الحق في التعليم والثقافة حيث تم الاعتراف في القوانين الداخلية للدول والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بالحق في الثقافة والتعليم بهدف توجيه الثقافة نحو بناء وتنمية الشخصية الإنسانية والإحساس بكرامتها والاشتراك بشكل مؤثر وفعال في نشاط المجتمع الحر، وهذا ما يتم تحقيقه عبر إتاحة فرصة التعليم الابتدائي وجعله إلزامياً ومجانياً للجميع، والعمل على جعل التعليم الثانوي والفني والمهني متاحاً وميسوراً وبكل الوسائل المناسبة وعلى وجه التحديد عن طريق جعل الثقافة مجانية للجميع، فضلاً عن جعل التعليم العالي ميسوراً للجميع على أساس كفاءة كل شخص والعمل على تطوير المناهج المدرسية واحترام حق الآباء وحريتهم في اختيار ما يرونه من مدارس لتعليم أبنائهم واحترام حرية البحث العلمي والانتفاع بالتقدم العلمي وتطبيقاته، وكذلك حرية الأفراد في تأسيس المعاهد التعليمية ضمن المبادئ التي تنسجم مع الحد الأدنى للمستويات التي تقررها الدولة.
ان حق الآباء في تعليم أبناءهم قد أشير إليه منذ القرن الثامن عشر على ان يكون ذلك تحت رقابة الدولة بالشكل الذي يمكنها من اختيار المدرسين واشرافها على برامج التعليم والنظريات والأفكار التي تلقن للطلاب(87).
فعلى سبيل المثال كان التعليم في انكلترا حتى نهاية القرن الثامن عشر محتكراً تقريباً من جانب الكنيسة الرسمية ونتيجة للثورة الصناعية والاقتصادية وأفكار الثورة الفرنسية طرحت آراء من قبل جوزيف لانكستر دعا فيها إلى ايجاد تعليم حر لا يلقن التلميذ فيها ديانة معينة بينما دعا أندروبيل إلى التمسك بالنظام القديم، وفي عام 1833 بدأ البرلمان الانكليزي يهتم بالتعليم فمنح إعانات للاتجاهين السابقين وفي عام 1870 صدر قانون التعليم الأولي حيث تدخلت الدولة طبقاً لنصوصه لتنظيم التعليم العام حيث اعتمد هذا التنظيم على إتاحة الفرصة لكل طفل في ان يتلقى تعليماً أولياً واتخذت إجراءات عملية لتحقيق هذا الهدف عن طريق إنشاء هيئة تدريسية في كل مقاطعة، فضلاً عن بناء المدارس ثم صدرت بعد ذلك قوانين أخرى نظمت العملية التعليمية في هذا البلد(88).
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان من الأمور المهمة بالنسبة للمجتمع الديمقراطي الصحيح طبقاً لتوجهات جيفرسون، ان تقوم فيه الثقافة الشعبية، فهذه هي التي تحرر عقل الإنسان وتعمل على اتساع أفقه ومداركه، وهو أمر يؤدي إلى خلق إنسان أكثر قدرة على تطوير المجتمع بنواحيه المتعددة(89).
ويلاحظ مما تقدم ان بداية تنظيم التعليم كان لأسباب دينية ولازال العامل الديني يثير بعض التحفظات على مستوى العملية التعليمية ككل، فموضوع التعليم من المواضيع المهمة بحيث يجب تطويعه لتحقيق الغايات الإنسانية النبيلة فلكل فرد حق في التعليم وحق في العمل يرتبط به ويمكن من خلال الحق في التعليم اعمال الحق في العمل حيث يستغل المتعلم ما لديه من معلومات وبدون تعليم وطني متاح للجميع تصبح المساواة في الحقوق تعبيراً بلا معنى.
المطلب الثالث- الجيل الثالث من الحقوق
تتسع مجالات حقوق الإنسان مع مرور الزمن وتتطور فأصبحت هناك مجموعة من الحقوق التي تحتاج إلى تعاون الجميع سواء على المستويين الداخلي أو الدولي لكون هذه الحقوق ذات بعد انساني عام كالحق في التنمية، والحق في السلام، والحق في التضامن، والحق في بيئة نظيفة، والحق في الثروة الموجودة في قاع البحار، والحق في الإغاثة عند الكوارث الكبرى.
الفرع الأول- الحق في التنمية
يوجد بعد انساني لمفهوم التنمية وإعطاء تعريف يشتمل على جانب واحد من هذا المصطلح ليس بالأمر الصحيح فالتنمية كمفهوم أعطيت لها تعاريف متعددة وقد تطورت هذه التعاريف بتطور الزمن حيث اقترنت بالنمو الاقتصادي ثم تطور مفهوم التنمية ليشتمل على البعد السياسي والاجتماعي والثقافي إلى جانب البعد الاقتصادي ومجموع المضامين المتقدمة يعبر عنها بالتنمية البشرية ويعرف اعلان الحق في التنمية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1986، عملية التنمية بأنها (عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها اعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية).
والهدف من وراء الحق في التنمية القضاء على الفقر والعمل على تدعيم كرامة الإنسان واعمال حقوقه، فضلاً عن إدارة المجتمع والدولة بصورة جيدة بتوفير فرص متساوية أمام كل الأفراد فهذه الإدارة الجيدة إذا ما تحققت يمكن تحقيق كل حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية(90).
أما تقرير التنمية البشرية فمنذ بداية صدوره عام 1990 عرفها بانها عملية توسيع لخيارات الناس بزيادة القدرات البشرية وطرق العمل وحدد هذه القدرات الأساسية الواجب توافرها لأعمال التنمية البشرية بثلاث هي:
أ- ان يعيش الناس حياة طويلة وصحية.
ب- ان يكونوا مزودين بالمعرفة.
ج- ان يكون بامكانهم الحصول على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائق.
وسبق ان صدر الإعلان العالمي للحق في التنمية عام 1986 حيث أكد على اعتبار التنمية حقاً من حقوق الإنسان وهو جعل الهدف من التنمية تمكين الإنسان من الحصول على حقوقه فحقوق الإنسان والتنمية سيدعم كل منهما الآخر فالتنمية البشرية بمعناها الواسع لن تتحقق إذا لم تتحقق المساواة بين الأفراد في المجتمع الواحد كما ان الجهود الرامية لتعزيز احترام حقوق الإنسان ستكون أكثر حظاً في النجاح إذا ما تم القضاء على الفقر ورفع مستوى المعيشة(91).
أما المسألة الثالثة فهي الربط بين الحق في التنمية والحق في المشاركة الشعبية والتوزيع العادل لفوائد التنمية وهذا ما يتحقق عن طريق تمكين الناس من أخذ القرار وبالشكل الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية عن طريق ايجاد مؤسسات دستورية تعمل على تعميق مشاركة الناس في الشأن العام كما تلعب المنظمات غير الحكومية دوراً مهماً بهذا الاتجاه لأنها تملك القدرة على الاتصال والتعامل مع الفئات المهمشة وخرق مركزية الدولة(92).
الفرع الثاني- الحق في بيئة نظيفة
وضع اعلان المؤتمر الخاص بالبيئة البشرية الذي دعت إليه الأمم المتحدة عام 1972 بهدف الهام الشعوب وارشادها للمحافظة على البيئة وتعزيزها ونصت الفقرة الأولى من الديباجة على (الإنسان هو، في الوقت نفسه، مخلوق بيئته ومحدد شكلها، فهي تؤمن له عناصر وجوده المادي وتتيح له فرصة النمو الفكري والاجتماعي والروحي، وخلال التطور الطويل والقاسي للجنس البشري على هذا الكوكب، تم الوصول الآن إلى مرحلة أكتسب فيها الإنسان، عبر التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، القدرة على تحويل بيئته بأساليب لا تحصى وعلى نطاق لم يسبق له مثيل، وكلا الجانبين من بيئة الإنسان، الطبيعي والذي من صنع الإنسان، ضروري لرفاهيته وللتمتع بحقوق الإنسان الأساسية، وحتى بالحق في الحياة).
وقد أكد المبدأ الأول من اعلان ستوكهولم على (للانسان حق أساسي في الحرية، والمساواة وظروف عيش مناسبة، في بيئة ذات نوعية تتيح حياة الكرامة والرفاه، وهو يتحمل مسؤولية جليلة في حماية بيئته وتحسينها للجيل الحاضر وللأجيال المقبلة …..)(93).
ان الاهتمام بالحق في بيئة نظيفة لا يعني الوصول إلى تحقيق بيئة مثالية لعيش الإنسان بل ان الغاية هو المحافظة على التكوين الطبيعي للمحيط الذي يعيش فيه الإنسان وحماية هذا المحيط من أي تدهور خطير وتطويره بالشكل الذي يؤدي إلى خدمة الإنسان وهناك نصوص دستورية في العديد من دساتير دول العالم نصت على حماية الحق في البيئة إذ نصت المادة 54 من الدستور الاسباني لعام 1978 على تمتع الإنسان ببيئة مناسبة تساهم في تطويره، بينما نصت المادة 123 من دستور بيرو لعام 1979 على (الحق بالعيش في بيئة سليمة وملائمة لتطوير الحياة والحفاظ على الريف والطبيعة)(94).
ولعل الدستور العراقي من الدساتير العربية القليله التي اهتمت بهذا الحق فقد اورد في المادة (33) منه (اولاً:- لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة .
ثانياً :- تكفل الدولة حماية البيئة والتنوع الاحيائي والحفاظ عليهما .)
وإذا كانت حقوق الإنسان على وجه العموم، تمثل التزاماً على الأفراد أو الدولة في الوقت نفسه التي تعد فيها حقوقاً لمصلحة الإنسان فقد حدد المبدأ رقم 23 من الميثاق العالمي للطبيعة 1982 بوضوح مضمون المشاركة الفردية حيث نص على (يجب اتاحة الفرصة لجميع الأشخاص وفقاً لتشريعهم الوطني للاسهام منفردين أو مشاركين مع غيرهم في صياغة القرارات ذات الصلة المباشرة ببيئتهم، واتاحة وسائل الانتصاف أمامهم إذا الحق بهم ضرر أو تدهور).
واعمالاً للاتجاه المتقدم نصت المادة 66 من الدستور البرتغالي على (1- للجميع الحق ببيئة بشرية سليمة ومتوازنة وعليهم واجب حمايتها. 2- تلتزم الدولة عن طريق مؤسساتها بالمناشدة وبمساندة المبادرات الجماهيرية في أ- منع التلوث والسيطرة على آثاره وأشكال التآكل المؤذية التي يسببها. ب- تنظيم مساحة اقليمية وذلك بغية اقامة مناطق مستقرة بايلوجياً. ج- خلق وتطوير المتنزهات الطبيعية. د- تشجيع الاستمتاع العقلاني بالموارد الطبيعية مع الحفاظ على مسؤوليتها واستقرارها البيئي)(95).
وعلى مستوى التطبيقات القضائية الوطنية يمكن الإشارة إلى قرار المحكمة الهندية العليا التي أكدت بان الالتزام بالمحافظة على التوازن الآيكولوجي لا يقتصر على الدول فحسب وإنما يمتد إلى الأفراد(96).
كذلك تعرضت المؤسسات القضائية الدولية للحق في البيئة فقد أكدت محكمة العدل الدولية في الفتوى الصادرة عنها عام 1996 بخصوص مشروعية استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها على الحق في بيئة نظيفة وأقرت بوجود القانون البيئي العرفي وذكرت (ان وجود التزام عام على الدول بضمان احترام الأنشطة الجارية في إطار ولايتها أو سيطرتها لبيئة الدول الأخرى أو المناطق الواقعة خارج السيطرة الوطنية، شكل الآن جزءاً من القانون الدولي المتصل بالبيئة)(97).
الفرع الثالث- الحق في التضامن
يقوم الحق في التضامن على أساس ما ورد في المادة 1 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أكدت على ان الناس جميعاً (قد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم ان يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء)، فضلاً عن كون التضامن واقع اجتماعي ويفترض ان يمتثل الفرد لإرادة الجماعة باعتبارها تعبيراً عن ذلك التضامن، ويبدو ان المعاني المتقدمة تحمل في طياتها جانباً أخلاقياً كبيراً إلا ان هذا البعد الأخلاقي المميز لا يعني انها غير متمتعة بوصف الالزام باعتبارها قواعد قانونية طالما تم النص عليها في اتفاقيات دولية أو في تشريعات داخلية.
وعلى اساس الحق في التضامن يقع التزام أخلاقي أولاً وقانوني ثانياً بضرورة تقديم المساعدة والعمل على نجدة الإنسان أو المجتمعات التي يمكن ان تتعرض لبعض النكبات أو المشاكل أو الاعتداءات في حالات الحروب والكوارث الطبيعية.
ان الحق في التضامن يجد له أساساً قانونياً وأخلاقياً متيناً في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على (…. ان نأخذ أنفسنا بالتسامح، وان نعيش معاً في سلام وحسن جوار….. ).
الفرع الرابع- الحق في السلام
يجد الحق في السلام الأساس له في نصوص ميثاق الأمم المتحدة التي تعمل على تحقيق مجموعة من الأهداف وعلى رأسها تحقيق السلم والأمن الدوليين وديباجة الميثاق تصدرتها الكلمات الآتية (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا ان ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف …).
وإعمالا لنص الميثاق اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 12 تشرين الثاني 1984 اعلاناً بشأن حق الشعوب في السلم أكدت فيه (ان الحياة دون حرب هي بمثابة الشرط الدولي الأساسي للرفاهية المادية للبلدان ولتنميتها وتقدمها وللتنفيذ التام لكافة الحقوق والحريات الأساسية التي تنادي بها الأمم المتحدة).
وأضافت الجمعية العامة في هذا الإعلان انها (…. تدرك ان اقامة سلم دائم على الأرض، في العصر النووي، يمثل الشرط الأولى للمحافظة على الحضارة الإنسانية وعلى بقاء الجنس البشري، وإذ تسلم بان ضمان حياة هادئة للشعوب هي الواجب المقدس لكل دولة 1- تعلن رسمياً ان شعوب كوكبنا لها حق مقدس في السلم….. وان المحافظة على حق الشعوب في السلم وتشجيع تنفيذ هذا الحق يشكلان التزاماً أساسياً على كل دولة …. وان ضمان ممارسة حق الشعوب في السلم يتطلب من الدول ان توجه سياساتها نحو القضاء على أخطار الحرب، وقبل أي شيء آخر الحرب النووية، ونبذ استخدام القوة في العلاقات الدولية، وتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية على أساس ميثاق الأمم المتحدة .. وناشدت الجمعية العامة جميع الدول والمنظمات الدولية ان تبذل كل ما في وسعها للمساعدة في ضمان تنفيذ حق الشعوب في السلم باتخاذ التدابير الملائمة على المستوى الوطني والدولي لتحقيق هذا الهدف(98).
هوامش الفصل الرابع
1. نعيم عطية، الدستور المصري وحقوق الإنسان، مجلة السياسة الدولية، العدد 39، السنة 1975، ص34.
2. شمس مرغني علي,القانون الدستوري,1978,عالم الكتب,ص665
3. عبد الغني بسيوني,النظم السياسيه,1984,ص351
4. منيب محمد ربيع,ضمانات الحريه في مواجهة سلطات الضبط الاداري,القاهره.1981 ص 115
5. محسن خليل,النظم السياسيه والقانون الدستوري,1981 ص104
6. عبد الغني بسيوني, المصدر السابق,ص384
7. ثروت بدوي ,النظم السياسيه,الجزء الاول,النظريه العامه للنظم السياسيه,1970,ص368
8. محسن العبودي,الحريات الاجتماعيه,دار النهضه العربيه ,1990,ص7
9. سعاد الشرقاوي,نسبية الحريات العامه وانعكاسها على التنظيم القانوني ,دار النهضه العربيه,1979,ص 71
10. حسان محمد شفيق، نحو تصنيف جديد للحريات العامة، المصدر السابق، ص53.
11. محمد فائق، حقوق الإنسان والتنمية، المستقبل العربي، العدد 251، السنة كانون الثاني 2000، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص101.
12. حسان محمد شفيق، المصدر السابق، ص54.
13. محمد فائق، المصدر السابق، 101.
14. حسان محمد شفيق، المصدر السابق، ص59-60.
15. محمد فائق,المصدر السابق, ص101
16. دور الدولة في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحريات الفردية، منشور صادر عن قسم الدراسات القانونية في مركز العراق للأبحاث، آب 2004.
17. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص170-171.
18. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص116-117.
19. فاتح سميح عزام، الحقوق المدنية والسياسية في الدساتير العربية، المستقبل العربي، العدد 277، آذار 2002، مركز دراسات الوحدة العربية، ص21-22.
20. أنظر نصوص هذا البروتوكول في، محمد شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الأول، الوثائق العالمية، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة، 2003، ص101-103.
21. تقرير الأمين العام، منشور، منع الجريمة والعدالة الجنائية، عقوبة الإعدام وتنفيذ الضمانات التي تكفل حماية حقوق اللذين يواجهون عقوبة الإعدام، الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الدورة الموضوعية لعام 2000، 5تموز – 1 آب 2000، ص21-22.
22. المصدر نفسه، ص19.
23. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص22.
24. المصدر نفسه، ص24.
25. المصدر نفسه، ص25.
26. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص118-119.
27. المصدر نفسه، ص120.
28. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص26.
29. محمود محمود مصطفى، حماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، مجلة المحامون السورية، العدد 12، السنة 1978، ص320.
30. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص136.
31. المصدر نفسه، ص141.
32. المصدر نفسه، ص142.
33. محمود محمود مصطفى، المصدر السابق، ص321.
34. تقرير المقرر الخاص عابد حسين، الحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك مسالة حرية التعبير (بريطانيا) المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، ص20.
35. حسن الهداوي، غالب الداودي، القانون الدولي الخاص، الجزء الأول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق، ص275.
36. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص151.
37. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص179.
38. عبد الحميد متولي، المصد رالسابق، ص464.
39. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص379-380.
40. المصدر نفسه، ص381.
41. عثمان خليل، المصدر السابق، ص139-140.
42. المصدر نفسه، ص141.
43. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص282.
44. عثمان خليل، المصدر السابق، ص141.
45. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص282.
46. المصدر نفسه، ص383.
47. المصدر نفسه، ص385.
48. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص26.
49. ايريكا- ايرين أ.دايسي، واجبات الفرد ازاء المجتمع والقيود المفروضة على حقوق الإنسان وحرياته بمقتضى المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، نيويورك، 1984، ص229.
50. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص395.
51. المصدر نفسه، ص395-396.
52. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص391-393.
53. المصدر نفسه، ص394-395.
54. المصدر نفسه، ص396.
55. المصدر نفسه، ص400-402.
56. المصدر نفسه، ص468.
57. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص23-24.
58. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص392.
59. عثمان خليل، المصدر السابق، ص147.
60. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، 416-417.
61. المصدر نفسه، ص418.
62. المصدر نفسه، ص466-467.
63. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص23.
64. تقرير عبيد حسين المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير (تقرير البعثة إلى تونس) المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، E/CN.4/2000/63/Add.4 ، ص5.
65. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص400.
66. المصدر نفسه، ص393-394.
67. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص463-465.
68. تقرير عبد الفتاح عمرو وفقاً لقرار لجنة حقوق الإنسان 1996/23 ، المجلس الاقتصادي والاجتماعي/ لجنة حقوق الإنسان، الدورة 54، E/CN.4/1998/6/Add.1، ص4.
69. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر نفسه، ص463-465.
70. المصدر نفسه، ص465-466.
71. عصام نعمة اسماعيل، حول حجاب المسلمات في فرنسا، يبقى القضاء ملاذاً نهائياً لحماية الحرية الدينية، المستقبل العربي، العدد 301، السنة 3/2004، ص13.
72. المصدر نفسه، ص18-19.
73. تقرير الأمين العام/ حقوق الإنسان والحرمان التعسفي من الجنسية/ المجلس الاقتصادي والاجتماعي- لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، E/CN.41/2000/56/Add.1. 28 January 2000 ، ص2.
74. أنظر بحث فؤاد عبد المنعم رياض، الجنسية كحق من حقوق الإنسان “دراسة مقارنة لبعض التشريعات العربية” المنشور في محمد شريف بسيوني، دراسات تطبيقية عن العالم العربي، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين، بيروت، 1989، ص456.
75. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص27-28.
76. عصام العطية، القانون الدولي العام، الطبعة الرابعة، 1987، ص222-223.
77. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص471.
78. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص175.
79. نعيم عطية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير الحديثة، مجلة مصر المعاصرة،، العدد 345، السنة 1971، ص113.
80. المصدر نفسه، ص114.
أيريكا – ايرين أ.دايسي، المصدر السابق، ص501.
81. المصدر نفسه، ص114-115.
82. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص175-176.
83. المصدر نفسه، ص177.
84. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص390-391.
85. نعيم عطية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير الحديثة، المصدر السابق، ص119-121.
86. عبد الكريم علوان، المصدر السابق، ص58.
87. عثمان خليل، المصدر السابق، ص147.
88. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص406.
89. المصدر نفسه، ص418.
90. محمد فائق، المصدر السابق، ص101.
91. المصدر نفسه، ص102.
92. المصدر نفسه، ص103.
أنظر كذلك عبد الكريم علوان، المصدر السابق، ص79.
93. المصدر نفسه، ص83.
94. صلاح الحديثي، النظام القانوني الدولي لحماية البيئة، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون/ جامعة بغداد ، 1997، ص10، هامش رقم 1.
95. المصدر نفسه، ص11 هامش رقم 1.
96. المصدر نفسه، ص 14 هامش رقم 4.
97. لويز دوسوالدبيك، القانون الدولي الإنساني وفتوى محكمة العدل الدولية بشأن مشروعية التهديد بالأسحلة النووية أو استخدامها، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 35، شباط 1997، ص50.
98. أنظر نص هذا الإعلان منشوراً في محمد شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، الوثائق العالمية، المجلد الأول، المصدر السابق، ص960.
الفصل الخامس
الحماية الداخلية لحقوق الانسان
ترتب على نضال الشعوب وثوراتها وانتصاراها في مواجهة قهر السلطة في كثير من مراحل التاريخ البشري ، ان انتقلت الحرية من مجرد افكار ورؤى يدعو اليها الكتاب والمفكرين وتتطلع اليها الشعوب الى حقوق معترف بها ويحميها القانون باعتبارها شرط من شروط استقرار الدول وحماية نظامها السياسي والاجتماعي .
وعلى ذلك يجب ان توفر السلطة ضمانات جدية تكفل احترام هذه الحقوق وتتعهد باحترامها وفي مقدمة هذه الضمانات ادراج الحقوق والحريات في صلب الوثيقة الدستورية فلا حرية بدون قانون يحميها من اعتداء الحكام او الافراد انفسهم.
وقد يسر ذلك انتشار الدساتير والوثائق القانونية واعلانات الحقوق التي اضحت ضمانات اكيدة في مواجهة الانظمة السياسية القائمة وخارجه عن مجال سيطرتها إلا إنها ضمانات غير كافية يجب تعزيزها على المستوى الداخلي من خلال وجود قضاء مستقل يملك ولاية الغاء قرارات السلطة التنفيذية الماسة بالحقوق والحريات ، اذا ما خالفت القانون او تعسفت باستخدام سلطاتها وتقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين وكفالة ديمقراطية التجاء الافراد الى القضاء لا لغاء القوانين غير الدستورية وايجاد نضم جديدة لتحقيق العدالة واحترام حقوق وحريات الافراد خارج النظام القضائي .
الى غير ذلك من وسائل اخرى تساهم على المستوى الوطني في تعزيز احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية . وهو موضوع هذا الجزء من الدراسة .
المبحث الاول
ادراج الحقوق والحريات في صلب الوثيقة الدستورية
من المبادئ المسلم بها في النظم الديمقراطية إن يمثل الدستور الوثيقة القانونية العليا واجبة الاحترام من السلطات الأساسية الثلاث في الدولة. بحكم إن الدستور يتضمن المبادئ القانونية التي تتعلق بشكل الدولة ونظام الحكم فيها وعلاقته بالمواطنين وينظم السلطات العامة في الدولة وحقوق وحريات الأفراد ويعد الدستور أعلى التشريعات في الدولة ويقع في قمة الهرم القانوني ويسمو على القواعد القانونية الأخرى جميعا. مما ينبغي إن تلتزم سلطات الدولة جميعها بالتقيد بأحكامه وإلا عدت تصرفاتها غير مشروعة. فالسلطة التنفيذية تلتزم بقواعد الدستور ولا يحق لها مخالفتها في أعمالها إذ إن ذلك يعرض أعمالها للإلغاء والتعويض عما تسببه من ضرر. كما إن السلطة التشريعية ممثلة بالبرلمان تتقيد هي الأخرى بأن تحترم تشريعاتها القواعد الدستورية وإلا كانت عرضه للإلغاء استنادا إلى مخالفتها لمبدأ المشروعية . ومن الجدير بالذكر في هذا المجال إن نؤكد انه ليس المهم إن يسجل الدستور المبادئ العامة التي تحكم السلطات الأساسية في الدولة. إنما يجب العمل على كفالة احترام الدستور وتقدير الضمانات التي إلى تعزيز هذا الاحترام وفي هذا الجزء من الدراسه نتناول الضمانات القانونية والواقعية لاحترام القواعد الدستورية.
المطلب الاول
مضمون القواعد الدستورية
يختلف محتوى الدستور من دولة إلى أخرى حسب التنظيمات الدستورية السائدة فيها لذلك ليس من السهولة التحديد الدقيق لما يحتويه الدستور غير إن الخطوط الرئيسية المجمع عليها من فقهاء القانون الدستوري تقوم على تقسيم القواعد الدستورية إلى جزئين: يتعلق الجزء الأول منها بدراسة القواعد المنظمة لممارسة السلطة. أما الجزء الثاني فيتعلق بدراسة الحقوق والحريات.
أولا : القواعد المنظمة لممارسة السلطة:
يتضمن الدستور القواعد التي تنظم ممارسة نشاط السلطات الحاكمة في الدولة والعلاقة بينها وحدود عمل كل سلطة حتى لا تطغي سلطة على الأخرى وفق مبدأين أساسيين هما فصل السلطات والتوازن بينهما.
فقد درج الفقهاء على تقسيم وظائف الدولة القانونية إلى ثلاث ( تشريعية ، تنفيذية ، قضائية) ويقوم التوازن بين السلطات بان لاتطغي السلطة التنفيذية على الشعب ممثلا بالبرلمان ولا يطغي البرلمان على السلطة التنفيذية وهذا الأمر يحتاج إلى ضابط حازم يؤدي إلى الحفاظ والثبات في النظام السياسي القائم.
وفي هذا المجال تثار مشكلة تتصل بتنظيم هذه السلطات والعلاقة بينها وهو ما يتكفل به الدستور باعتباره الوثيقة القانونية الأعلى في الدولة.
وقد كان لفكرة توزيع السلطات في الدولة قبولا لدى واضعي دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 ورجال الثورة الفرنسية فورد النص عليه في إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام1789 الملحق بدستور عام 1791 ، ويتفق معظم الدستوريون اليوم على إن هناك نموذجين أساسيين لتوزيع السلطات احدهما يتمثل بالنظام البرلماني والآخر بالنظام الرئاسي يأخذ الأول بالفصل المعتدل بين السلطات بينما يعتمد الثاني على الفصل شبه المطلق.
من جانب آخر تتضمن الوثيقة الدستورية القواعد التي يرجع إليها في أسلوب تقلد السلطة وانتقالها( الوراثة ، الانتخاب ) ، كما يتضمن شكل الدولة ما إذا كان بسيطا أم مركبا ، وإذا كان فدراليا فان الدستور يبين تقسيم السلطة بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات.
ثانيا:. القواعد المنظمة للحقوق والحريات.
يحدد الدستور في الجزء الثاني من أحكامه تلك القواعد المنظمة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
فقد حرصت الوثائق الدستورية المختلفة على أن تتضمن في جانب منها الحقوق والحريات التقليدية لاسيما تلك المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية. وفي جانب آخر الحقوق والحريات ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولم يقف المشرع الدستوري عند حد تسجيل هذه الحقوق والحريات بل عمل على كفالة احترامها وتقدير ضمانات ممارستها ووضع القيود التي تحد من تقييد السلطات العامة لها. بشرط إن تبقى في حدود عدم مساسها بحقوق وحريات الآخرين وعدم الأضرار بالمصالح الأخرى للمجتمع.
وهذا التقييد الضابط للحرية من الخطورة بحيث لايمكن تركه لتقدير الدولة ولا يمكن التعويل على نبل مقاصدها. ومن اجل إن لا تتجاوز السلطة على هذه الحقوق والحريات كان لا بد من وجود ضابط لتلك السلطة يتمثل في نص الدستور على احترام تلك الحقوق والحريات وان يتم إدراج المبادئ الرئيسية التي تنظم الحريات العامة في صلب الوثيقة الدستورية وان لا يترك للسلطة التنفيذية أن تنضمها عن طريق المراسيم فتتوغل في تلك الحريات وتجعل ممارستها استثناءا من المنع.
ولم يتبع المشرع الدستوري في اغلب الدول العربيه أسلوب تقرير الحقوق والحريات العامة في إعلانات الحقوق أو في ديباجة دساتيره ولعل في ذلك تجنب لما قد يثار بشأن القيمة القانونية لهذه الإعلانات.
كما لم يتبع ما نصت عليه بعض الدول من تقرير هذه الحقوق في قوانينها العادية كما هو الحال في انكلترا وما قد يؤدي إليه هذا الأمر من إمكانية المشرع العادي في تعديل هذه الحقوق بالزيادة أو النقصان.
فقد تبنت هذه الدساتير الأسلوب الذي اتبعه الدستور الأمريكي في تقرير الحقوق والحريات العامة في نصوص وردت في صلب الوثيقة الدستورية مما اسبغ عليها من القوة ما للنصوص الدستورية الأخرى.
المطلب الثاني
الضمانات القانونية لتطبيق القواعد الدستورية
ينتج عن مبدأ سمو الدستور على القواعد القانونية الأخرى بمختلف مراتبها – سواء كانت تشريعاً عادياً صادرا من السلطة التشريعية أو تشريعا فرعياً صادراً عن السلطة التنفيذية – إن تعلو أحكام الدستور على كل أعمال السلطات في الدولة ، اعتباره المعبر الوحيد عن الإرادة الشعبية وتكون هذه الأعمال لاغيه وباطلة إذا ما خلقته.
ولكن السؤال هو من الذي يقرر ما إذا كانت تلك الأعمال الصادرة من السلطة التشريعية أو من السلطة التنفيذية تتناقض مع الدستور وما هي الإجراءات الواجب مراعاتها لضمان تطبيق القواعد الدستورية.
الفرع الاول: ( الرقابة على دستورية القوانين ) .
الدستور يقيد المشرع العادي في الحدود التي رسمها له ومن ثم تمنع السلطة التشريعية عن إصدار التشريعات التي تتعارض مع نصوص الدستور وفق ما يسمى بمبدأ دستورية القوانين . ولضمان التزام السلطة التشريعية بتلك الحدود من الضروري فرض الرقابة عليها.
والملاحظ إن الدساتير مختلفة في إتباع الطريقة التي تحقق بها تلك الرقابة وسلكت في هذا المجال سبل مختلفة أهمها ما يلي:
اولاً :-الطعن في دستورية القوانين أمام لجنة أو مجلس دستوري.
تباشر الرقابة على دستورية القوانين في بعض الأحيان من قبل هيئة أو لجنة ذات صيغة سياسية غير قضائية.
وقد انفردت فرنسا منذ أواخر القرن الثامن عشر في الدعوة إلى إيجاد هيئة سياسية يكون من اختصاصها إلغاء جميع القوانين التي تسن مخالفة لأحكام الدستور. ولم تعهد بهذه المهمة إلى القضاء بسبب السمعة السيئة له في ذلك الوقت (1)
وقد أخذت العديد من الدول عن فرنسا هذا النوع من الرقابة مع اختلاف بين دستور وآخر. فاخذ الاتحاد السوفيتي السابق بهذا الأسلوب في دستور عام1977 وجعل الرقابة من اختصاص السلطة التشريعية كما اخذ به دستور ألمانيا الديمقراطية في دستورها لعام 1949 و بلغاريا في دستورها لعام1947 والصين في دستورها لعام1954.
وقد أناط الدستور الفرنسي الحالي الصادر عام 1958 مهمة الرقابة إلى هيئة اسماها المجلس الدستوري تتكون من نوعين من الأعضاء : تسعة أعضاء يتم تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ. كما يضم المجلس رؤساء الجمهورية السابقون للاستفادة من خبراتهم السياسية التي اكتسبوها من سني خدمتهم من ناحية أخرى. أما رئيس المجلس فيعين من بين أعضاء المجلس من قبل رئيس الجمهورية. (2)
ويتميز هذا النوع من انواع الرقابة على دستورية القوانين في انه يمارس رقابه وقائية على القوانين غير الدستورية وهي في مرحلة تشريعها قبل ان تصدر ، لكنه بالرغم من ذلك تعرض للانتقاد من حيث إن تحريكه يعود أما للسلطة التشريعية أو التنفيذية مما يقيم الرقابة على اعتبارات سياسية أكثر من إقامتها على اعتبارات قانونية وموضوعية(3) بحكم ان جهة الرقابة غالباً تتكون من هيئة يتم تعيينها أو اختيارها من إحدى هاتين السلطتين ولا شك إن الطابع السياسي يتدخل في هذا التعيين مما يفقدها الاستقلال والحياد الأمني في ممارسة دورها الرقابي.
ثانياً : الرقابة القضائية على دستورية القانون:
بموجب هذا النوع من الرقابة يمارس القضاء مهمة الفصل فيما إذا كان القانون دستوريا من عدمه ويتم ذلك في الغالب بإتباع طريقين هما:
1-رقابة الامتناع أو الدفع الفرعي:
ويتم ذلك بان يهمل القضاء القانون غير الدستوري ويمتنع عن تطبيقه في القضية المعروضة. وقد اتبعت هذه الطريقة من طرق الرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتم من خلال نزاع قضائي يدفع فيه احد الخصوم بان القانون المراد تطبيقه عليه غير دستوري فتنظر المحكمة في هذا الدفع فإذا ثبت لديها انه مخالف للدستور امتنعت عن تطبيقه وإذا ظهر العكس استمرت في نظر النزاع.
ومن الجدير بالذكر انه ليس في الدستور الأمريكي نص صريح يرجح أو يقر مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين. لكن نص المادة السادسة من الدستور قد أكد إن (( هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر طبقا له.. تكون هي القانون الأعلى للبلاد، ويكون القضاة في جميع الولايات ملزمين به،ولا يعتد بأي نص في الدستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفا ًلذلك)). (4)
وقد ذهب الرأي الراجح في الفقه الدستوري الأمريكي إلى القول بان الرقابة على دستورية القوانين هي بطبيعتها من اختصاص السلطة القضائية بحكم إنها تمتلك ميزة البعد عن التأثير السياسي فضلا عن الخبرة(5)
مع إن البعض قد ذهب إلى إن إسناد هذه السلطة للقضاء فيه اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية ويجعل منها سلطة سياسية أعلى من سلطة الأمة الممثلة ببرلمانها. (6)
ووفق هذا النوع من الرقابة وعندما تحكم إحدى المحاكم في دعوى أمامها بعدم دستورية قانون ما فإنها لا تلغي القانون وإنما تمتنع عن تطبيقه ويضل القانون سليما على الرغم من ذلك ويجوز لمحكمة أخرى إن تطبقه كما يصح إن تطبقه ذات المحكمة التي امتنعت عن تطبيقه في قضية أخرى إذ إن حجية الحكم بعدم الدستورية نسبية يقتصر أثرها على طرفي النزاع. ما لم يكن الحكم الصادر بعدم الدستورية صادرا من المحكمة الاتحادية العليا.
ويعد هذا الطريق الأسلوب الأكثر نجاحا في فرض الرقابة على دستورية القوانين في الدول التي تخلو دساتيرها من النص صراحة على حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين ، إذا ما دفع أمامه – أثناء نظر دعوى مرفوعة – بعدم دستورية قانون ما واجب التطبيق. ومن ذلك ما درج عليه القضاء المصري في ظل دستور عام 1956 ودستور عام 1958 رغم خلوهما من نصوص تنظيم الرقابة.(7)
2-الطعن في دستورية القوانين بطريق الدفع الأصلي أو رقابة الإلغاء.
يجيز هذا النوع من الرقابة لبعض المحاكم إلغاء القانون غير الدستوري وإنهاء العمل به وقد يكون هذا الحكم قبل صدور القانون فتسمى رقابة الإلغاء السابقة أو بعده فيسمى رقابة الإلغاء اللاحقة. وبسبب خطورة الأثر المترتب على هذا الحكم والمتمثل بإلغاء تشريعات البرلمان ، حرصت الدول على إن تمارسه محاكم دستورية عليا متخصصة أو أعلى درجات القضاء في الدولة ، كما لم تجز كثر منها للأفراد إن يطعنوا مباشرة في دستورية القوانين بينما أجاز بعضها ذلك بطريق غير مباشر بان يتقدموا بالطعن بعدم دستورية قانون ما أمام بعض المحاكم، فان اقتنعت هذه المحكمة بجدية الطعن تقدمت به إلى المحكمة الدستورية. (8)
ومن الدول التي أخذت بهذا الأسلوب من طرق الرقابة، العراق في ظل القانون الأساسي عام 1925 حيث أناط فحص دستورية القوانين بمحكمة عليا وجعل حق الطعن في دستورية القانون من اختصاص السلطة التنفيذية دون الأفراد.
وهذا الامر منتقد لأنه حرم المواطنين من ضمانة أساسية لكفالة احترام الدستور وما يتضمنه من حقوق وحريات.
كما اخذ الدستور الايطالي لعام 1947 بتشكيل محكمة دستورية من خمسة عشر قاضياً تمتلك سلطة إلغاء القانون غير الدستوري اعتباراً من تاريخ صدور الحكم.
واخذ به الدستور المصري الحالي الصادر في 11 سبتمبر 1971 بان جعل الرقابة على دستورية القوانين من اختصاص المحكمة الدستورية العليا بعد إن نبذ المشرع الدستوري نظام الرقابة السياسية على دستورية القوانين.
على انه بالرغم من مزايا الرقابة القضائية بطريق الدعوى المباشرة إلا إنها لم تسلم من النقد من جانب من الفقه باعتبار إنها تمثل خروجا على حدود مهمة القضاء وتؤدي إلى إقحامه في المجال التشريعي وإهداره لعمل السلطة التشريعية ، مما يعتبر مساسا بمبدأ الفصل بين السلطات. كما إن إعطاء المحكمة سلطة إلغاء القانون، يعطيها مركزا قويا ونفوذا كبيراً باتجاه سلطات الدولة الأخرى لاسيما السلطة التشريعية. (9)