مشكلات نفسية – إجتماعية معاصرة …. الدكتور أسعد الإمارة (3)
في البيت.اما اذا طلبت المرأة من زوجها ان يكون لها اباً فحسب فلن يرضيها مهما بذل لها لأن الواقع انه ليس اباها، فينشأ الغضب ويدب الشقاق،اما الرجل فإنه اذا رأى في زوجته اماً فحسب، فلن يستطيع ان يقوم معها بدوره كزوج، وقد يضطر عندئذ الى الفصل بين حياته العاطفية التي يخص بها زوجته وبين سائر حياته الغريزية التي يخص بها غيره.
نستطيع القول ان اللاعنف في مثل هذه الحالات ليس إلا دواء يطلب للشفاء من داء هو العنف،لذا فاللاعنف فلسفة دينامية متجددة بديلة للتعامل مع المرأة والطفل والآخر بدلا من العنف بكل اشكاله، فالتعامل بالاساليب الحضارية تصلح لكل ما هو انساني اولا، وكائنا حيا ثانياً،ففي العنف ضد المرأة والطفل يكون الدواء اسوأ من الداء ، في حين اللاعنف مع المرأة والطفل يكون دواء يطلب للشفاء ضد العنف.
العنف وعالمنا اليوم
من وجهة ا لنظر النفسية السائدة في عالمنا الحالي ، أن الخوف و القلق و الترقب و اليأ س
هو الشعور الغا لب الذي يستطيع اي منا ان يدركه لاول مشاهدة له لوسائل الاعلام والمحطات
الفضائيه ، وهو الشعورالسائد بين الناس وهم يتابعون بقلق أجواء التهديد وعرض القوة والتلويح بالحروب والدمار من جانب الاقوياء في مواجهة المنافسين حتى ولو كانوا من الضعفاء ، وهو ما يذكرنا منذ اقدم العصورالاولى للبشرية بقانون الغاب وسيادة الاقوى وفناء الاضعف.
ان عالمنا الراهن بكل ما انتج من وسائل ترفيه وتكنولوجيا واشباع للحاجات الفرديه للناس
وللشعوب، الا انه عُد من أقسى عصور الصراعات الانسانيه منذ عهد آدم ابي البشريه الاول ، فالحروب والقتل والدمار لم تكن في عصر من العصور بهذا الحجم في كل بقاع الارض مثل الذروة التي وصلت اليها في عصرنا الحديث … فالبشريه عاشت أزمان قاسيه لا مثيل لها تمثلت في الحربين الكونيتين الاولى والثانيه في القرن الماضي ، الا ان بشاعة ما يجري في العالم فاق كل التصورات في زمننا الحاضر، بعد ان تحول العالم الى بؤر ساخنه للصراع حاليا ومهيأة للاشتعال في اماكن اخرى من العالم بعد حين ، وكأن دوامة ا لعنف تنتعش بفعل السياسات الداعمة لها والمؤيدة من بني البشر … فمن اراد ان يتسلى بمشاهدة الواقع وليس الخيال السينمائي ، عليه ان يشاهد نشرات الاخبار ..
فمشاهد القتل وجثث الضحايا ، وطرق الفتك بالجنس البشري الجماعي او الفردي تجري امام نواظر ملايين البشر عبر شاشات التلفزيون او كما تحملها ثقافة الانترنيت الاكثر حرية في العقد الاخير ،فضلا عن أزيز المدافع والقذائف التي تفتك بالبشر وتسبب الدمار للمباني والممتلكات فأنها صارت معتادة ومتكررة لدرجة لم تعد تحرك الكثير من مشاعر الناس في انحاء عديدة من الارض … والفارق هنا ليس متباين بين شريعة وقانون الغاب وبين ما يقوم به الانسان نحو اخيه الانسان …
وهنا توجب المقارنه بين سفك دماء الحيوانات ، والغبن الواقع عليها من قبل الانسان وممارسة القتل ضدها بصورة محددة ، ولاهداف واضحه ، هي الحصول على الغذاء و التلذذ بأكل لحومها ، وبين الصورة الاخرى في قتل الانسان وسفك دماءه وسلب ممتلكاته والتمثيل بجسده بصور شتى ومسميات متناقضه يطلقها كل طرف ليمارس تحت تسميتها القتل والعنف والتدمير مثل “الارهاب” و”مكافحة الارهاب” و”الاحتلال والمقاومه “، وهي في النتيجة قتل اعظم مخلوق عرفته البشرية وهو الانسان بكل ما حمل من مشاعر واحاسيس ، يقتل هذا الانسان تحت انظار الساسة والعامة من الناس بأسم ” حرب التحرير” او من اجل استعادة الكرسي والمال والسلطة وشعارات أخرى تتصل بالمعتقد والدين وحقوق الانسان والعداله المطلقه والحريه الدائمه ، والفتح الجديد، وهي في النهايه محصلة لصراعات وعنف وقتل ودمار ومآسي أنسانية..
أين أذن الجانب الانساني في السياسة ؟ وأين أذن تبادل المنفعة؟
أين الوسائل الاخرى البديله ا لمتمثله في لاعنف الدين والانبياء والرسل وتقبل الاخر؟
نحن بحاجة اليوم الى وسيلة انجح من تلك الاساليب والوسائل القديمة التي لم تطرد الدكتاتور والظلم وتغير الشعوب نحو الديمقراطيه فقط ، بل انجب الدكتاتورية دكتاتوريات جديدة متعددة الاهداف والوجوه، تعمل تارة تحت ستار الدين وتارة تحت ستار الوطنية وتارة اخرى تحت ستار التحرير .
لم يعد السلوك العدواني بحاجة الى تفسير وخصوصا ،العدوان الناجم عن بعض المعتقدات المتطرفة دينيا، وهي الجماعات الاسلامية السياسية، وتساوي دوافع العنف في مثل هذه الحالات التي باتت متفشية بين جيل الشباب اكثر من الافراد الذين يعانون من الاضطرابات العقلية، حتى عد البعض ان هؤلاء الافراد في تطرفهم في سلوك العنف والعدوان يساوي تطرف مرضى العقل في سلوكهم العنيف،وعليه فان الدوافع وان اختلفت بين الجماعات الاسلامية ومرضى العقول ولكن نتائجها ظلت واحدة وهي القتل العمد وتشويه الضحية والتمثيل به، ما الفرق اذن بين المتطرف والمجنون ،لا سيما ان الذين يقاسون من امراض نفسية يمكن ان يصدر عنهم سلوك عدواني واساليب عنف غير متوقعة ، وقد يوقعون عدوانهم ويصبون اذاهم على الذين يقومون برعايتهم والعناية بهم، وهوالحال ذاته عند المتطرفين الاسلاميين في توجيه عدوانهم نحو من يؤدي فريضة الصلاة في مسجد او معبد او مكان مقدس مثل الكنيسة ، فالامر سيان .
هناك مجموعتين من الاسباب تقود الى السلوك العدواني حيث تشمل
المجموعة الاولى:
اسباب تعود الى طبيعة الاتصال الاجتماعي والتفاعل في سياق الحياة الاجتماعية ، فالعنف في هذا المستوى قد ينجم من قوة دافعية المعتقد المتطرف دينيا كان ام ثورياً.
المجموعة الثانية :
اسباب تعود الى خلفيات سيكولوجية تتصل بطبيعة الانسان وتكوينه واستعداده للفعل العنيف، سواء صدر من دوافع المعتقد او دوافع القتل بحد ذاته، فربما تكون فطرة او نزعة غريزية في الذات وجدت ضالتها في الدين او في عصابات السلب والنهب ، كما هو حال الشخصيات المثيرة للجدل في الازمات والحروب وما تتطلبه الظروف السياسية او التحولات الاقتصادية في المجتمع او الاحتياج الى عناصر تشبه تكويناتها بجماعات المافيا ، كما هو المثال في العراق اليوم بظاهرة المدعو احمد الخلايلة “ابو مصعب الزرقاوي”، الاردني المولد والمنشأ والتكوين والتربية، فهو كان تائها في شوارع الزرقاء وعمان يبحث عن اية جهة تستطيع استخراج طاقاته وشحناته المكبوتة وتستطيع ان توجهها بالاتجاه الذي تريده نحو العنف والسلوك العدواني ، فعمل بالفعل في مجال العنف المنظم تحت راية العصابات وقطاع الطرق فترة وجيزة من الزمن، ولكنه لم يجد فيها مبتغاه فتحول الى الاسلام المتطرف الذي يؤمن بالعنف كسلوك وطريق موصل لتحقيق الاهداف حتى وان كانت على رقاب الابرياء، فنجح في الانخراط في تلك المجموعات وتبوأ فيها مواقع متقدمة واصبح صاحب الخبرة العتيدة بالقتل وقاد مجموعات آمنت بالقتل والعنف فعلا فهو كان بحق الرجل المناسب في المكان المناسب وخدمه ذلك كثيرا السياق الاجتماعي ومستوى العلاقات بين هذه الجماعات المتطرفة ووسائل شحن الهمم وتوجيه الدوافع نحو القتل والعنف تحت مسمى اكثر تأثيراً على عواطف الناس وهو الدين. وازاء ذلك نقول ان العنف هو منظومة اجتماعية نفسية مكونة من مجموعة عناصر منوعة تحركها بالاتجاه الذي منه تلقى الدعم وتولد العنف حيث كبح الجانب المتعقل من الذات وتوجه مساره على النحو الذي تريده في نسق هذه القيم وفي بنية هذه الاتجاهات وفي عمق هذه المعتقدات المتطرفة .
العنف وسوء التوافق
مما لاشك فيه ان سلوك المسالمة واللاعنف هو بحد ذاته تأصيل للرحمة بين الناس ، وخلق اسس عريضة ثابتة بين هؤلاء البشر ومن ابرز سماتها المودة ، التقارب ، الالفة ، اما في السلوك الآخر والنقيض المتمثل في العنف والقسوة والاعتداء ، فنرى جميعنا نحن البشر النرجسية الواضحة عند الشخص العدواني مع وضوح تام لموت العلاقة الاجتماعية مع الناس الاخرين ، اي فناء الآخر على المستوى اللاشعوري ، رغم استمرار العلاقة بين الشخص العنيف والآخر بصيغتها الشكلية ، ليس إلا ، وهنا تكون سمات العنف الدائمة ، الكراهية ، البغض ، الحقد على الاخر ، الحنق ، الحسد ، النميمة ، الظن السيئ الدائم بالآخر مهما كان نوع الآخر او جنسه او دينه او مذهبه او فكره او انتماءه ، حتى تعتمل النزعات العدوانية داخل الشخص العنيف وتتراكم لحد التدمير ، ويصل الامر به في لحظات الغليان الى الرغبة في فناء الآخر حتى وان كان اخيه ، الذي سلك مسلكاً فكرياً او اعتنق اتجاهاً مخالف له..
في لغة العنف تسود لغة التدمير وفيه تتمثل غريزة الموت ، وهنا نتوقف قليلا لكي نرى سيكولوجياً اين هو التوافق ؟ التوافق مع الذات اولاً ، والتوافق مع الآخر ثانياً ؟
يطرح علماء النفس مفهوم التوافق النفسي على انه توافق الفرد مع ذاته ، وتوافقه مع الوسط المحيط به ، وكلا المستويين لا ينفصل عن الاخر وانما يؤثر فيه ويتأثربه ، فالفرد المتوافق ذاتياً هو المتوافق اجتماعياً ، ويضيف علماء النفس بقولهم : التوافق الذاتي هي قدرة الفرد على التوفيق بين دوافعه وبين ادواره الاجتماعية المتصارعة مع هذه الدوافع بحيث لايكون هناك صراع داخلي .
اما التوافق الاجتماعي او التوافق مع البيئة الاجتماعية او الوسط المحيط فيعني قدرة الفرد على التكيف مع البيئة الخارجية – المادية والاجتماعية – والمقصود بالبيئة المادية ، كل ما يحيط
بالفرد من عوامل وظروف طبيعية ومادية مثل الطقس ، الجبال ، الوديان ، الابنية ، وسائل المواصلات ، الاجهزة والالات ..الخ .
اما البيئة الاجتماعية فتشمل العلاقات بالاخرين في اطار التعامل الانساني ، الالفة ، الثقافة ، التبادل الفكري ، المعايير الاحتماعية ، القيم والعادات ، الشعائر والطقوس ، الاهداف العامة والمصالح الانسانية المشتركة.. الخ
هذه المتغيرات الفردية الشخصية والاجتماعية العامة تضطرب تماماً عند الشخص العدواني الذي يؤمن بالعنف والقسوة والخشونة كاسلوب للتعامل وحل النزاعات الفردية والجمعية ، ونقيضه التام الذي يتمثل في سلوك التسامح والمسالمة وهو الذي يؤمن بمبدأ اللاعنف كسبيل لاقامة اسمى العلاقات مع النفس اولاً ومع الاخرين ثانياً .
فالشخص العنيف فقد التوافق الذاتي الداخلي وآختلت لديه بنفس الوقت العلاقة مع الآخر ، حتى انفصمت تلك الجدلية بينه وبين ذاته ، وبينه وبين الآخر ، بينما اللاعنف هو قمة التوافق النفسي مع الذات ومع الاخر.
ان البيئة الاجتماعية ذات طبيعة متغيرة ، وهي تتطلب من الفرد ان يعدل سلوكه حتى يمكنه التكيف معها بسبل مشروعة تجعله راضياً عن نفسه ، بعيداً عن مراجعة العقل وتأنيب الضمير ينعكس هذا على مجتمعه الذي يتعامل معه وحينها يكون راضياً عنه ، سعيداً به ، ولكن لا يعني هذا اطلاقاً ان يستسلم المتسامح او المسالم او اللاعنف للبيئة الفاسدة تحت مسمى التكيف الاجتماعي وانما عليه ان يسعى لتعديلها بالاساليب والوسائل المقبولة بعيداً عن التعصب وضيق الافق واللجوء الى القسوة، بل الى الحوار وتعديل السلوك قدر المستطاع ، ومن مبادئ واليات اللاعنف الاجتماعية ، ان نجاح الفرد في التكيف الاجتماعي يعتمد على قدرته في تكوين علاقات اجتماعية صحية مرُضية له وللاخرين في وقت واحد ، تقوم اساساً على المحبة والتسامح والمودة وافتراض حسن النية في المقابل ، علاقة لا يشوبها الشك او العدوان او الاعتداء على الاخرين او عدم الاهتمام بمشاعرهم.
تطرح نظرية اللاعنف بعض اساليب التوافق النفسي – الاجتماعي من خلال سلوكيات معينة تتجسد في التآلف والتقارب واجتماع الكلمة وتمتين روابط المودة مع الاخر ، وانبات بذور الرحمة بين الناس ، ويعتقد معظم العقلاء من الناس ، انه جانب طبيعي واساس لنمو العلاقات بين الناس ، غرباء او اقرباء ، متزوجين او غير متزوجين ، رجال اونساء ، اطفال او مراهقين ، وعند اللجوء الى بعض هذه الاليات التي هي بحد ذاتها جزء صغير من الاسس العامة لتربية اللاعنف وتنشئة التكيف النفسي والاجتماعي القائم على المسالمة ، تهدف هذه الاليات الى تحقيق التوفيق والموائمة والانسجام بين البشر ، وتقوم على اسس التكيف والتحمل والتضحية ، حيث يضحي احياناً الطبيب من اجل انقاذ شخص لا يعرفه وربما لا تربطه صلة به ، او لا يتقارب معه في الدين او المذهب او الاتجاه او حتى الانتماء الوطني ، ولكن يتقبل ابداء المساعدة ، ويكون سبباً في حياة هذا الشخص .. انها صلة انسانية فحسب ، لاتحكمها المنفعة او الجاه الاجتماعي او المجد الذي يستحقه ..
ان من آليات اللاعنف .. ان يتنازل الانسان الواعي عن جزء من حريته للآخر او لصالح الطرف الاخر من اجل ان تستمر الحياة بدون عنف وتصفيات وتجنباً لكل المضاعفات اللاحقة والترسبات التي ربما تشعل حريقاً مدمراً بين الناس وتسمى هذه الالية ” طلب الاسناد الاجتماعي ” . ولكي تتحقق هذه الاليات بصورتها السهلة لابد من انها تقوم على اسس التوافق النفسي من منطلق نظرية اللعنف من خلال:
– الجودة في العلاقة
– القدرة في العلاقة
لا يخفى على الجميع ان الانسان المسالم المتسامح يتمتع بصحة نفسية عالية ولديه قدرة متفوقة في التقييم ويدرك مدى سلوكه وانعكاسه على الاخرين ، وبه من صفات التفاعل والاداء بحيث ترضي الاخرين من الناس حتى باتت سمة الجودة في اداء العلاقات هي السمة الثابتة نسبياً والغالبة على سلوكه، رغم انه يتعرض للكثير من الضغوط الخارجية لغرض الاثارة او محاولة ابعاده عن مساره الانساني في التعامل مع مشكلات الحياة بهدوء ، لكن مصادر الجذب والتأثير لا تأخذ مفعولها به اطلاقاً ، فلديه درجة عالية من الرضا عن اسلوب الحياة الذي يمارسه ، ولديه من الثقة بالنفس بحيث يدركها الاخرون دون عناء ، ولديه قناعة كاملة بالاكتفاء الذاتي النفسي وبدوره يكون هذا الاكتفاء منعكساً في العلاقة مع الاخرين.
اما القدرة العالية في العلاقات الاجتماعية فتنبع من فاعلية الاتصال مع الاخرين بحيث لا يوصف من قبل الاخرين ، كأنه مجامل او منافق او لا سمح الله بانه كاذب او متملق او مداح ، وانما يمتلك الاشباع النفسي الذاتي الشخصي الذي يمنحه احترام الاخرين دون مراءاة للاخرين . فهو يعرض المساندة للاخرين ويمنح القدرة العالية في تعزيز اداء الاخرين دون اشعارهم بالضعف او التفوق . ان سلوك المسالم ، المتسامح يعد بحد ذاته مكافئات نفسية اجتماعية ناتجة عن قناعة تامة بالقدرة على المنح والعطاء ، انه يستطيع الاندماج في علاقات وثيقة صادقة مع الاخرين حتى كادت هذه القدرة ان تصبح سمة ثابتة من الدرجات النفسية في الجودة والاستقرار .
العنف والارهاب ..
لم تكن يوما ما القسوة والعنف علاجاً ناجعاً لاية قضية فردية كانت ام جماعية ، فالانسان ولد محبا للسلام ودوداً في مشاعره مع بني البشر ، ايجابياً في التعامل ، ولكن البعض ممن تشبعت نفوسهم بالتطرف واعرضوا عن الوسطية في التعامل لجأوا الى العنف كطريق يحقق الاهداف فتعاملوا مع من على شاكلتهم فكونوا تحالفات متعددة قائمة على القتل والعدوان المتعمد والسلوك الاجرامي الجمعي ، ويقول عالم النفس “هول ” ان السلوك الاجرامي يؤدي الى الاضرار بالمصالح الفردية اوالاجتماعية او بهما معاً ، وهذا هو الركن المادي لفعل الارهاب ، فلا يكفي القصد او النية بمفرده.
ان الارهاب امتد في الفعل الى ان تحول الى سلوك اجرامي ، فالجريمة التي يرتكبها الانسان العاقل عن قصد ورغبة وتصميم تختلف عن تلك التي يكره الانسان عليها او التي يرتكبها الطفل او المراهق او المريض عقلياً . لذا فأن اعمال الارهاب هي اعمال منظمة بها من السلوك الاجرامي مما لا يرقى الى الشك او الريبة وهو ينطوي على احد اشكال السلوك العدواني العنيف ضد الناس الابرياء ويهدف الى ايذاء الاخرين ايذاءاً مجرماً بحكم القانون.
يعرف علماء النفس الاجتماعي الارهاب بانه العنف او التهديد الذي يهدف الى خلق خوف او تغيير سلوكي ، اما التعريف القانوني فهو : يعني عنفاً اجرامياً ينتهك القانون ويستلزم عقاب الدولة ، وعليه تعد اعمال الارهاب في اي بلد من بلدان العالم المتحضر او المتخلف ، العالم المؤمن بدين او اللاديني ، هي استجابة اتجاهية تنطوي على المشاعر العدائية والتقييمات السلبية لكل الناس والاشخاص بمختلف اتجاهاتهم ومذاهبهم واديانهم وانتماءاتهم الفكرية او اعراقهم ، فالارهاب لا يستثني من البشر احداً ، بل هو عدوان موجه ضد الجميع .
يسبق العدوان عادة العداوة التي تغلي بها النفس تجاه الاخرين حتى لو كانوا مسالمين او لا توجد لديهم مواقف عدوانية تجاه احد من البشر فيشملهم هذا التطرف في العداوة ، واثبتت الدراسات النفسية الاجتماعية في افعال الارهاب ما يلي :
* يهدف الارهاب الى العدوان وايذاء الناس الابرياء وغير الابرياء سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة ، صريحة او ضمنية .
· يؤدي الارهاب الى انتهاك حقوق الاخرين الجسدية والمادية والنفسية او غير ذلك ومهاجمتهم والنيل منهم .
· يبرز الارهاب مشاعر عدائية واتجاهات سلبية نحو جميع الناس بلا استثناء .
يقول علماء النفس ان السلوك الارهابي العدواني شعور يتولد عند الفرد ازاء شعوره بالعجز عن ان يكون افضل الجميع من حوله . لذا فان الارهاب مهما كان نوعه او شكله انما هو سلوك عدواني يستهدف الهجوم على الافراد او المنشأت او على البيئة الحياتية فيدمر الاخرين كما يدمر نفسه ويلازم الارهاب دائماً الاتجاهات التعصبية والتطرف ، وهذه كلها تحمل العنف في تعاملها وتصل في درجاتها العنيفة الى الاعتداءات الواسعة ولو استطاع الارهاب لفعل الابادات الجماعية او الانتهاكات بكل اشكالها.
مما يثير العجب في الارهاب انه يقترن لدى الجماعات العرقية او الجماعات الدينية او العنصرية او لدى طبقات معينة من المجتمع في جميع المجتمعات ولا يقتصر على جماعة بعينها ، فالعنف هو القاسم المشترك لكل هذه الجماعات الارهابية مهما اختلفت اهدافها واسبابها حتى اطلق بعض علماء النفس على هذا السلوك المشوب بالعنف بانه رخصة للهلاك ضد البرياء والعزل .
يعد سلوك الارهاب سلوكاً وحشياً في جميع المقاييس ضد جميع الناس ، شاركوا او لم يشاركوا في الانخراط بالمؤسسات المدنية او العلمية او التربوية او في البناء الاجتماعي ، فالارهاب الوحشي يستهدف الطالب في مدرسته وربة البيت اثناء تسوقها والممرضة وهي تداوي رجلا مسناً ، والام وهي تحتضن طفلها الرضيع لتمنحه العاطفة والامومة والحنان ، او موظف يقدم خدمة عامة في الشارع او في مكتبه ، لذا فهو عنف في الشارع وفي اماكن العمل والمستشفيات والمدارس والجامعات والاسواق ضد ابرياء لا يعرفون بعضهم البعض ولكن تجمعهم صفة واحدة هي انهم اهداف اجرامية للأرهابيين.
لم يعد الارهاب حالة فردية يسلك بها الفرد بصورة عنيفة لايذاء جهة حكومية او سلطة قضائية فاسدة ، بل صار يشكل سلوكاً جماعياً اختلطت اهدافه المعلنة مع الاهداف المبطنة واخذت الاستثارات والتعزيزات تأخذ منحنيات عديدة واهمها التبشير في الجنة الموعودة وهم ما زالوا في الحياة الدنيا حتى اصبح الارهاب يأخذ طابع العنف الجماعي ضد الابرياء الآمنين داخل المجتمع الواحد مهما كان توجهه مع او ضد الاسلام او المذاهب الاخرى او الانظمة الملكية او الجمهورية ، الدستورية او المطلقة ، الاسلامية او غير الاسلامية ، ويقول علماء النفس ان الارهاب يولد العنف المتبادل بين الجماعات الدينية او العرقية او العنصرية في المجتمع الواحد او ضد الدولة ومؤسساتها ، ولكن تجاوز كل ذلك وتحول الى استهداف الابرياء دون النظر الى انتماءاتهم او اصولهم او مواقفهم بمن فيهم الاطفال او طلاب المدارس او النساء او الشيوخ حتى وان كانوا ابرياء .
العنف والتعصب ..كسب وهمي ناقص
لعلنا لسنا في حاجة الى بيان المعنى الذي يجمع هذين المفهومين ، فكلاهما رديف للاخر، فالاول يكمل الآخر، والاخر يدفع الاول نحو السلوك المعادي للناس ولكل ما هو معتدل وخّير، فحينما نطرح موضوع سيكولوجية التعصب باعتباره مشكلة، انما هي مشكلة من مشاكل الصحة العقلية لدى الفرد المتعصب، او من يؤمن به كطريق لتحقيق الاهداف مهما كانت، دينية ام سياسية ام فكرية ام فلسفية ام فنية ام رياضية، وكذلك المسار الذي يتخذه التعصب في التطبيق والممارسة الواقعية، وهو العنف.
والتعصب اذا وصل في حدته الى درجة معينة يصبح عاملا من عوامل هدم وتفتيت اي مجتمع كان اسلامي او مسيحي، وثنياً او بلا دين او علمانياً، فهو يقوض وحدة المجتمع، ويخلق الاضطراب في ميزان الصحة النفسية والعقلية الاجتماعية، مما يفسد تماسك المجتمع ويهدد مجمل بنيانه وكيانه. انها ظاهرة جماعية تسود سلوك الناس في اي مجتمع متحضر او متخلف ويؤدي به الى صراع داخلي تعتل فيه شخصية ابناء المجتمع، ويختل فيه توازن كل المجتمع، ويصبح ان صح القول في عداد مرضى النفس والعقل .
اعتادت النظريات السياسية المعتدلة والفكرية والاديان والمذاهب السوية بطروحاتها الفكرية وممارستها اليومية الى دعوة مريديها واتباعها الى التقارب، وعدته عاملا قوياً في التنبؤ بمن سيصبحون اصدقاء او تتداخل الاسر فيما بينها وتتفاعل بوسائل الترابط الاجتماعي مثل الزواج او الاقتران حتى تذوب او تضمحل تلك الفروق الفكرية او السياسية او المذهبية او الدينية بين الناس مع الاحتفاظ لكل مجموعة او جماعة بهويتها العقائدية او السياسية دون المساس بالاخرى، ويقول علماء النفس ان القرب المكاني معناه ان الافراد الذين يعجب كل منهم بالآخر قد يتفاعلون باستمرار ومن ثم تتراكم لديهم مشاعر المحبة وتزداد لديهم الخبرات المشجعة التي تعزز الصداقة وتقوي الترابط وتمتن الاواصر حتى تصبح اواصر روحية كالعلاقات الزوجية وانجاب الاطفال ونشر روح التواد مع بعضهم البعض رغم الاختلافات المذهبية او الدينية او الفكرية او السياسية او حتى الانتماءات القبلية المتباعدة .. فالانسان اخو الانسان في التكوين والخلق،لذا فهو لايختلف معه في خلقه،وهو الاساس الذي بني عليه التكوين،فكيف يختلف معه بعد ذلك في المكتسب الفكري او الديني او المذهبي .
ان افكارنا العقائدية او المذهبية او الدينية او السياسية او الفلسفية،هي مكتسبة من الواقع الذي نعيشه، فيولد اي منا ولم تكن العصبية نزوعاً فيه، ولا العنف سلوكاً غريزياً لديه، وانما يكتسبها من خلال خلفية اهله والخلفية الاجتماعية والفكرية والدينية والمذهبية والسياسية في البيئة التي يعيش فيها ، فتصبح اتجاهات ثم قيم ومع التنشئة الوالدية تصبح معتقد، وازاء ذلك ربما تصبح متطرفة او متشددة فتنحو نحو التعصب الفكري والتطرف، فتنتج في احيان كثيرة السلوك العدواني تجاه الطرف الآخر المغاير في المذهب او الدين او الانتماء الفكري او السياسي، فيكون العنف هو نتيجة ذلك، بينما الاعتدال في الانتماء والاكتساب المذهبي والديني والسياسي والفلسفي، يجعل من الافراد اكثر اتزاناً في تعاملاتهم مع بعضهم البعض داخل الكيان الواحد،اي داخل الاسرة او الجماعة او المذهب، ومن ثم ينفتحون نحو الاخرين بعلاقات التصاهر والاقتران والزواج حتى تبدو ان العملية لا تنهج نهج العنف كاقصى ممارسة للتعصب وهي حالة السوية، اما السائد لدى البعض من دعاة التحجر في الفكر الديني خصوصاً هو الدعوة الى اللجوء للعنف لتوكيد قوة المعتقد وبسط نفوذه بالقوة واعتبار من لا يؤمن به يستحق القتل والتصفية وحتى الذبح كما هو شائع الان في توجه المتطرفين في الاسلام الحديث، وهو قمة التطرف والتحجر، وقول علماء التحليل النفسي ان التدين المفرط والزائد على اللزوم والتعصب للعقيدة، قد يكون رد فعل لميول عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين، وبصفة عامة على سلطان اياً كان نوعه.
ان ظاهرة انتشار التطرف والتعصب الممزوج بالعدوانية والعنف تجاه الاخر، هذا الانتشار بين اوساط الشباب في العقدين الماضيين وخصوصاً التعصب للعقيدة الدينية، انما هو انحراف في التفكير من جادة الاعتدال والسوية الى الحالة المرضية في اللاسواء، ولو ناقشنا هذه الفكرة وقلنا، لماذا يلجأ الانسان الى التعصب والتطرف في المعتقد الديني مثلا او السياسي او الفكري او الفني، لوجدنا انه يعيش حالة اضطراب نفسي داخلي مرده الى ظروف مر بها ولم يستطع حسمها، فنشأت لديه الافكار المتضاربة والمتلاطمة في داخله، ولم يحسمها، فلجأ الى ان يضع كل ما يملك هذا الصراع غير المحسوم على ضفاف المذهب الديني او المعتقد الديني المتطرف اوالسياسي او الفكري، وان افلس ولم يجد ما يقنعه، راح يتخبط في البحث عن التعصب الرياضي، وما نراه من سلوكيات لدى البعض من المشجعين لبعض الفرق وخصوصاً الانكليزية او الدوري الرياضي في بعض الدول العربية، فالتعصب والتطرف هو رد فعل لميول عنيفه نحو التمرد على سلطان : الدين، الاب، الدولة، المجتمع، القيم وما الى ذلك فكل يبحث عما ينقصه ليقض به مضجع مان يريد ..
فالمتطرف مذهبياً او دينياً يتجه بالعنف تعبيراً عن تعصبه الديني، والتطرف السياسي يتجه بالعنف تعبيراً عن تعصبه السياسي، والتطرف والتعصب الرياضي يتجه بتعصبه وباسلوب العنف نحو افراد المجتمع، وفي النتيجة يتفق كل المتعصبين في تطرفهم نحو الآخر المضاد لهم، وهكذا فان الاذعان لسلطان المذهب او الدين او الفكر السياسي او التعصب الاعمى في الرياضة يسير جنباً الى جنب مع الاذعان لسلطان الدين او السياسة او الرياضة او الفن نوعاً من الاسقاط للاذعان لسلطان الاب. (الاسقاط : ميكانزم ..آلية..حيلة ، دفاعية يقصد بها الصاق صفة ذاتية بشخص آخر تفادياً من رؤيتها في الذات ) .
ان كل تعصب يقود الى العنف، مهما كان نوعه او لونه او شكله، فالمتعصب يلبس رداء التحريض نحو العنف حتماً، سواء كان المتعصب ساكتاً او داعية متحدثاً، فهو يشترك مع امثاله المتعصبين في العقيدة الدينية او الانتماء المذهبي او السياسي، فالمتعصب يوجه النقد بعنف، وتكاد تكون صدى كلماته وما يواجهه من نقد، هو دعوة لعناصرالتمرد في نفسه وخلق مشاعر العنف تجاه الآخر، ويكاد ان ينفجر غضباً او غيظاً في حديثه وينتظر اللحظة التي يقحم فيها نفسه في دائرة العنف،حتى يتحول من سلوك الحوار الشديد الى المواجهة العنيفة، فالمتعصب يرى ان في بدء العنف،انما هو دفاع عن النفس، ودفاع عن العقيدة، ودفاع عن المذهب او الدين او الفكر السياسي، او الفلسفي، وهو ازاء ذلك يعني من الناحية السيكولوجية انه صدى العنف الكائن في النفس، وهو يراه نوع من المقاومة ضد الاخرين حتى وان كانوا على صح، وهو على خطأ.. ان المتعصب، هو شخصية نرجسية”النرجسية تعني حب النفس والذات”والشخص النرجسي، اناني، يؤمن بالخراب والدمار وهو يتخذ من العنف درعاً يتقي به شر الاعتدال والمسالمة والوسطية في التعامل، وعليه فأن اتخاذ التعصب وسيلة للدفاع عن النفس هو دفاعاً نرجسياً عن النفس، وهو وهم من اوهام القدرة المطلقة التي تبعث فيه الشعور بالامان وتزيده بالطمأنينة، لكنه لا يلبث ان يكتشف ثمة الكثير من العقائد والافكار المغايرة لعقيدته، ويزداد الشك مرة اخرى في الاخرين، وان ذلك يبعث لديه القلق ويحفز للدفاع عن النفس، ويستمر في سلوكه العدواني تجاه الآخر في العنف آملا الخلاص من الجميع وسيادة ما يؤمن به من معتقد ويرى فيه الكمال، وهو خطأ لا ريب فيه، التعصب اذن يؤدي وظيفة نفسية خاصة تتلخص في التنفيس عما يعتلج في النفس من كراهية وعدوان مكبوت، وهو بذلك يلجأ الى العنف لكي يفرغ شحناته الانفعالية المكبوتة .
المصادر
– قاموس علم النفس(ب ت) مكدونالد لادل،ترجمة يوسف ميخائيل اسعد،دار النهضة العربية،القاهرة
– موسوعة علم النفس والتحليل النفسي(1993)فرج عبد القادر طه وآخرون،دار سعاد الصباح،الكويت
– الموجز في التحليل النفسي(ب ت)سيجموند فرويد،ترجمة سامي محمود علي وعبد السلام القفاش،مطبعة دار المعارف،القاهرة
– دينامية المجال العدواني عند الانسان(1992) فاروق مجذوب ،مجلة الثقافة النفسية،العدد9المجلد3
– مبادئ علم النفس(2002)عبد الرحمن عدس&نايفه قطامي،دار الفكر للطباعة والنشر،عمان/الاردن
– في النفس(1986)مصطفى زيور،دار النهضة العربية،بيروت
– علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية(1982)ميشيل اراجيل،ترجمة عبد الستار ابراهيم،مكتبة مدبولي،القاهرة
– علم الصحة النفسية(ب ت)مصطفى خليل الشرقاوي،دار النهضة العربية،بيروت
– الموجز في الصحة النفسية(1977)عباس محمود عوض،دار المعارف ،القاهرة
– الخطو نحو اللاعنف(تحت الطبع)اسعد الامارة
– النفس(1988)علي كمال،دار واسط ،بغداد
التعصب والتطرف … آفة العصر
ان المتعصبين اكثر تصلبا من غيرهم في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية.
مدخل
يعرف(د.حامد زهران)التعصب بانه ذلك الاتجاه النفسي الجامد المشحون انفعالياً او ذلك الحكم المسبق الذي لا يقوم على سند منطقي،ويحاول صاحبه تبريره، ومن الصعب تعديله. انها رؤية الآخر باطار سلبي، مهما كان الآخر مسالماً او منفتحاُ او ودوداً او محباُ للاخرين، انه يرى الآخر بصورة سلبية طالما انه ليس هو، انه مجموعة من الصور والقيم المتناقضة في داخله، وهو ما ليس هو، فلابد انه مخالفاً لما يحمل من افكار او تصورات، فلابد له ان يكون النقيض التام له، انها اشكالية في التقييم، اشكالية في فهم الذات الصحيحة، وستكون حتماً اشكالية في النتائج وما انبنى عليها.
ان للاهل دور مهم واساس في تكوين صور معتدلة عن ما يدور في اذهان ابناءهم، هم من يكونّوا تلك الصور وهم الذين يدفعون الثمن غالياً بعد ذلك بقصد او دون قصد، فبمقدور الاهل ان يرسموا للابناء صورة عن ذاتهم وعلى ضوء ذلك الرسم سوف يتشكل اساس الشخصية المستقبلية. ان المرحلة الاولى من حياة الفرد هي مرحلة تكوين انماط متعددة من التصورات لا سيما ان كان التعزيز قوياً ووجد اثابة(تعزيز) بالاتجاه الذي يريده الاهل، فالاب يردد دائماً ان ابنه هذا فاشل لا يعرف شيئاً ابداً،وانه لا يحل ولا يربط وانه ابتلى به منذ ميلاده، هذه الكلمات يسمعها الابن كل يوم وتتردد بكثرة في وسط الاسرة صباحاً ومساءاً وليلاً، سوف يتقبلها الطفل وتكون جزءاً كبيراً من شخصيته، وكأنه بهذا الايحاء سوف يتشكل سلوكه ويصبح كما اراد الاب او الاهل .. او صورة اخرى لتلك الأم التي كثيراً ما تصف ابنتها بانها فاشلة كما تتوقع لها ان تكون مستقبلا وكما وصفتها امها،حتى وان كانت ليست كذلك ، فكثرة التعزيزات السلبية ستثبط عزيمة الابن – البنت وستجعل منه شخصية كما رسمها لها الاهل(الاب والأم) وهكذا فأن الطفل صورة ناصعة نستطيع ان نحافظ على نصاعتها وبياضها ونقائها او نلوثها بما نضع عليها من اوساخ، وهذه الاوساخ او النظافة هي الافكار التي ننسجها نحن من دواخلنا وما نعانيه، فنسقطه(اسقاط مشاعرنا المكبوتة- ميكانيزم دفاعي) على ابناءنا ، وهناك فروق فردية بين الافراد في التقبل سلباً او ايجابياً، تطرفا او اعتدالاً بكل الاوامر والنواهي والسلوكيات واحياناً نجد البعض الآخر من الاطفال يكون تقبله دون الحد الادنى فهو يفوت اكثر مما يخزن ويمسح اكثر مما ينقش في ذاكرته ومخزنه المعرفي ولكن حديثنا هنا عن التقبل الاعتيادي تحت ظل ظروف التنشئة الاسرية،ففي اتجاه التعصب يكون الامر كذلك حيث يجد الابن التعزيز الكافي لهذا التكوين الفكري والنفسي ويقول (د.جليل شكور)فأثارة الاهل لابناءهم منذ الصغر تؤثر في مستوى طموحهم عندما يشبون وفق ما يتلقون من اثارة محبطة او مشجعة ، فيزرعون فيهم وحسب هذه الاثارة مستوى من الطموح يوازي درجة هذه الاثارة ومن ثم ترسم لهم نمط الحياة ومسارها في المستقبل .
ان التعصب نوعاً من التحيز الاعمى لفرد او جماعة او لمذهب او دين او لسياسة او لفريق رياضي او لفن معين او لمدرسة فكرية وهو شعور مرضي يفتك بالمجتمع ويدّمر فيه روابط الآلفة والمحبة والتعايش ويدفع به الى الضياع والتمزق،والتعصب يأخذ اشكالا متعددة ويكتسبه الفرد من خلال التربية الاسرية داخل الاسرة اولا ومن ثم يجد التعزيزات الملائمة والاثابات(التعزيزات) المناسبة من خلال التنشئة الاجتماعية ، لذلك ينبغي ان يحذر الاهل من زرع هذا المرض في نفوس ابناءهم في بداية تكوين اسس نفسياتهم وشخصياتهم ، فالتعصب هو رؤية احادية للاشياء والافكار والناس تقوم على الانغلاق ، هذا الانغلاق يجعل من النفس الانسانية اكثر عرضة لرفض الآخر وعدم القدرة على التكيف مع الاجواء الاخرى مهما كانت سليمة وخالية من التلوث القائم على التعصب ،وعلى هذا الاساس فان المتعصب يجد في الاثابة العائلية لسلوكه المتطرف تعزيزاً له، اما خارج اسرته حينما يختلط مع الاخرين في المدرسة والجامعة والعمل واختيار الزوجة سيجد التناقض الواضح بما يحمله من افكار،وما هو موجود في الواقع،فالسوية هي ان يتقبل الآخر،والحالة المرضية هي ان يتقبل ممن يسانده في مذهبه او دينه او فكره السياسي حتى ولو كان مخطئاً او يتعارض مع المجموع ، ويقول علماء النفس ان اي اختلال في هذا التوازن وبخاصة بين ما يتعلمه الفرد من قيم ومثاليات وتربية في اسرته،وبين ما يراه معاشاً من انحدار وتدهور في القيم يؤدي به الى الضياع والاضطراب النفسي،والانسان حينما يجد ان ما تعلمه في اسرته وبين اهله من قيم مثل البغض والكره والعدوانية تجاه الآخر من المذهب او الدين او الفكر او الاتجاه السياسي،فانه سيعيش في مأزق نفسي وبخاصة اذا احس ان الفجوة تشمل القيم العالية والمثالية التي تعلمها في اسرته وبين الواقع المناقض لما يقال له ويتعلمه كل يوم من خلال اختلاطه بالاخرين.
ففي الاسرة التي اكتسب الطفل منها قيم بغض الآخر من المذهب المعاكس له او من الدين الاخر، ووجد عكس ما تعلمه ، فالاخر يرحب به ويتعاون معه ويتقبله لا كما زرعوا اهله في تفكيره وقيمه صورة الآخر المرعبة والسوداء، فأن قيمه سوف تختل وان صورته عن ذاته سوف تتدهور ويحاكي ذاته ،اين الصح الان؟الاهل وقيمهم ام الواقع؟ وهذا ينطبق تماماً على فكرة الامانة والاخلاص والخيانة ،فالاهل يزرعون صور متعددة عن الشجاعة والبطولة وضرورة اقدام الرجل على منافسة الآخر تحت اية ظروف مريحة او قاهرة ويجب عليه ان يسرق اللقمة من فم الآخر حتى ولو كان طفلا جائعا وهي كما تعلمها قمة الشجاعة والاقدام وعكسها هو الخضوع والجبن والانهزام وازاء ذلك حينما يمارس حياته يرى الاخرين سلوكه بانه سلوك متوحش قائم على المنافسة والمزاحمة وتحقيق المكاسب مهما كانت الاثمان التي تكلفه وربما حياته في بعض الاحيان، هذه الصورة وصورة الامانة والخيانة وتطبيقاتها في الحياة العملية وكيفية حسابها ،فتحقيق المكسب مهما كان تبريره ،حراما كان ام حلالا ، سرقة ام احتيال ،فهذا لايعني شيئاً ، كل شئ يزول والخالق هو الذي يفرز بين الحلال والحرام، هذه اشكالية جديدة لدى البعض ممن يؤمنون بقيم السماء ويعتقدون بالاديان، حتى زحفت هذه القيم التي وجدت تعزيزات مناسبة واثابات ملائمة في احيان كثيرة من الاسرة اولا ثم المدرسة والمجتمع ثانياً حتى بات الحصول على اي شئ من الآخر مكسب به من الاحقية بما لا يدانيه الشرع او الدين او القيم السماوية او الدنيوية .
تعد القيم مؤشراً به يستدل الانسان على الخطأ والصواب في سلوك الآخرين وبه يقيس قربه او بعده عن السواء فاذا تداخلت واختلت القيم لدى الفرد فأن المجتمع لابد ان يجد المعايير للتعامل بين الافراد، ولا يمكن ان يبقى المجتمع فترة طويلة بدون معايير ، فبعض البلدان التي تعرضت لفترات طويلة من الحكم الدكتاتوري افرزت سلوكيات متناقضة مع الواقع الانساني السوي حتى بات الفرد في هذه المجتمعات يقلب الموازين وتهتز لديه القيم ويتسرب الشك في داخله وربما تنهار ثقته بنفسه وبالمحيطين به وتتكون لديه مشاعر النقمة والعدوان ولاشك في ان مثل هذا التدهور في نظام القيم المعنوية والدينية والخلقية والوطنية والتعاملات بين افراد المجتمع يربك الانسان ويجعل سلوكه مضطرباً ويجعل منه شخصية هشه مفككة مضطربة وازاء ذلك تصبح الامانة في مثل هذه المجتمعات غنيمة،وتصبح قيم القتل لبني البشر شجاعة مهما كانت مسوغاتها ودوافعها وتصبح قيم الحصول على المكاسب مهما كانت نوعها غنائم ويصبح سلوك افراد المجتمع الافتراس والتوحش بدلا من سلوك التفاهم والتوافق مع الآخر ولدينا امثلة في عالمنا المعاصر منها شعوب الاتحاد السوفيتي السابق الذي تحول فيه سلوك المجتمع الى سلوك اقرب الى الحيوانية منه الى الانسانية حتى باتت الحاجة هي السائدة عبر حكم النظام الخاطئ للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق وتحول الناس الى جياع عبر اجيال وتوارثوا الحاجة الى ابسط الاشباعات النفسية والمادية وصارت الشجاعة هي ان يحصل الفرد على اعلى ما يستطيع في الكسب المشروع وغير المشروع وتمثل ذلك في صورة المافيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وكذلك الحال في تجربة افغانستان وتجربة الحكم الدكتاتوري في العراق عبر خمس وثلاثين سنة من التسلط وحكم حزب البعث، فاهتزاز القيم عند الشعب العراقي الذي عرف عنه الايمان الصادق وسيادة قيم السماء وانتشار الاديان فضلا عن توافر الخيرات والثروات العديدة ، ربما عد من اغنى بلدان العالم القديم والحديث، ألا انه تحول بسبب طول فترة الحرمان الى شحة في الغذاء والماء والقيم السماوية فنشأ لدى بعض الناس الذين تأثروا كثيرا في ظل هذه الظروف سلوكا مغايرا لما عرف عن اهل العراق من كرم وشجاعة واكرام الضيف ، في ظل هذا التفكك الاسري وتعزيز سلطة حزب البعث لقيم الجوع والحاجة والفاقة والحرمان .
برزت ظواهر خطيرة لم تكن مألوفة اساسا في هذه البلاد من قبل مثل قيم التوحش والافتراس والغدر والتعصب المذهبي والديني ورفض الاخر مهما كان على خلق قويم او سوية في التعامل، فنشأت الجماعات الارهابية المدعومة من بقايا النظام المهزوم السابق تريد تفتيت ما تبقى من قيم في هذا المجتمع حتى صار التعزيز والاثابة يقوم على ايقاع الاذى والقتل في اكبر عدد من الاطفال والشيوخ وطلبة الجامعات وهم يؤدون الامتحانات او هم على مقاعد الدراسة وبشكل عشوائي او اغتصاب النساء وهي احدى شيم قيم وسلوكيات رجال النظام الدكتاتوري المنهار والنظام السابق بكل فصائله واجهزته ، هؤلاء صنفوا الناس على اساس انهم عراقيون ولابد ان ينتقم رجال النظام السابق من كل عراقي مهما كان دينه او مذهبه ، فشحن نوازع التعصب الطائفي او القومي او الديني ضد الاقليات او الاديان او المذاهب هو السائد في فكر المجاهدين من المتعصبين في الدين او المذهب او القومية ،وهكذا هو الحال في المجتمعات الاخرى التي تعرضت للحكم الدكتاتوري بحسب الشدة والقوة وخصوصا بدول جوار العراق،فقد اختفت من قيم المجتمعات اشباع الحاجات الاساسية بشكلها السوي وظل الفرد يصارع من اجل الحصول على حقوقه وعلى لقمة عيشه، فاهتزت كل القيم الاجتماعية والوطنية وازاء ذلك فان التعزيز الدائم للسلبيات داخل الذات يجعل من الفرد آلة بلا مشاعر، يقتل ويسرق مال الآخر دون ادنى رقيب ذاتي والسبب يرجع لكثرة ما تعرض له من تعزيزواثابة وتشجيع لهذه الجوانب السلبية من القيم حتى بات سلوك التعصب معياراً للسوية لدى المتعصبين وبات سلوك الخيانة معياراً للشطارة والكسب مهما كان نوعه وسلوك القتل معياراً للايمان الديني للمتطرف الاسلامي وهو معبر للشجاعة والبسالة والجنة الموهومة،وسلوك السرقة معياراً للجرأة والاقدام وسلوك التنكيل والاذى معياراً للرحمة في عقول المتعصبين من المتدينين حتى برزت ظاهرة قطع الاعناق ورمي رؤوس الابرياء بلا مسوغ من شريعة او دين وهو فقه الجهاد الجديد لدى المتطرفين الاسلاميين حصراً .
التعصب والتطرف…التعريفات
التعريف والمفهوم