مشكلات نفسية – إجتماعية معاصرة …. الدكتور أسعد الإمارة (5)
التداعيات النفسية والاجتماعية لظاهرة التعصب (التطرف)
المقدمة
العلاقة التي تربط الإنسان بالمجتمع علاقة ضرورة وليست علاقة سلبية أو علاقة تعارض متضادة، ومن أبرز معالمها أنها ديناميكية، ملؤها التفاعل والتبادل المستمر.. فبتفاعل الفرد مع المجتمع يتكون التماسك والتداخل والتشابك الاجتماعي بأشكاله الثقافية والاقتصادية والسياسية والروحية، وبتأثير هذا التبادل والتفاعل للأدوار الاجتماعية، يحصل التكامل النفسي للفرد والتكامل الاجتماعي للمجتمع ككل.. فالفرد يحقق ذاته من خلال الجماعة، والجماعة تحقق وجودها من خلال مجموع الجماعات والشعوب في وحدتها الكلية لتشكل ديناميكية ارتقائية تنشد الرقي وليس نقيضه.إن موضوع اتجاهات التعصب (التطرف) بكل أشكالها وأنواعها تشمل الإنسان بما هو إنسان.. في شقائه أو راحته.. فهذا الشقاء هو شقاء النفس في صراعها مع الداخل أولاً، ومع المجتمع ثانياً. أو في راحتها مع النفس أولاً ومع المجتمع ثانياً، لذا فإن الحياة لا تستقيم مع الصراع غير المحسوم سواء أكان ذلك داخلياً يهزّ الكيان النفسي للإنسان ويحرم عليه راحة البال في وجوده الإنساني، أو كان خارجياً يهزّ صلته بالوجود الخارجي وبحضوره أمام الآخرين كإنسان خلقه الله وجعل فيه عقلاً مدبراً، ولكن فقد هذه القدرة التي منحها الله له.لاشك أن مفهومي الاتجاهات والتعصب (التطرف) يحتلان مكان الصدارة في الدراسات النفسية الاجتماعية المتخصصة جداً، لا من حيث المنهج الأكاديمي فحسب، وإنما بسبب صلتهما المباشرة والدقيقة بحياة الإنسان والمجتمع، وآثارهما المتوقعة في النتائج، لما يحملانه من عواقب إذا ما فشلت الجهود في البناء والتربية والتنشئة الاجتماعية الأولى، فالاتجاه يعرّف بأنه نزعة (نحو) أو (ضد) بعض العوامل البيئية، تصبح قيمة إيجابية أو سلبية(1)، أما التعصب فهو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية(2). مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة لذا فإن مناقشة موضوع التعصب أو التطرف بكل أشكاله السياسية أو الأدبية أو العنصرية أو الدينية، إنما هو سبر أغوار النفس الإنسانية بنشأتها وتكوينها، وهي محاولة لا يألوا الإنسان فيها جهداً لمصارعة ذاته بذاته، فإما أن ينتصر عليها ويخضعها لسلطان العقل أو أن تفلت من عقال العقل وتنحدر نحو الحيوانية بعد أن خلقها الله بأحسن تقويم. ويقول الرسول الأكرم (ص): (ما عبد الله بمثل العقل وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال (..) وأما العاشرة لا يرى أحدا إلا وقال هو خير مني وأتقى، فإذا التقى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له، وإذا التقى الذي هو شرٌ منه وأدنى، قال عسى أن يكون خير هذا باطناً وشره ظاهراً فإذا فعل علا مجده وساد أهل زمانه).
التفسير النفسي للتعصب
إن إدراك أية مشكلة ومدى خطورتها، هو الوعي في محاولة إيجاد حل لتلك المشكلة، ويعد البداية الأولى لمعرفتها.. فمشكلة التعصب لدى الإنسان، هي مشكلة جوهر وجود الكيان الإنساني السوي، فإذا ما آمن الفرد بهذا النمط من السلوك في التعامل مع فرد ما بعينه أو مجموعة ما بعينها، فهو يعد اضطراباً في معيار الصحة النفسية أو العقلية.. وهو صراع داخلي يحدث للفرد وينم عن اختلال التوازن.. وبذلك فإننا نسلّم جدلاً بأن الفرد المتعصب هو بحكم المريض عقلياً ونفسياً، لما يتميز به من جمود وتصلب في الرأي.ومن المعروف لدى الجميع وخاصة المشتغلين في علوم النفس، أن النفس الإنسانية تكره الكشف عما يدور في ثناياها وما تخبئه، حتى قيل أن التحديق في ذواتنا الداخلية أمر محبط، ومواجهتها بصدق وإخلاص من أصعب الأشياء وأعقدها، وذلك بسبب ما تحمله من نزعات تنطوي على الكثير من الأخطاء ومن الخوف من مواجهتها بتلك الحقائق، لذا فإن مواجهة النفس من أصعب المواجهات وأعقدها. ويرى مصطفى زيور عالم النفس المصري أن التعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية، وهي تنشأ أولاً وقبل كل شيء من بواعث نفسية لا علاقة لها في الأصل بالعقيدة الدينية(3)، وإن اتجاهات التعصب تفسر على النحو التالي: إن العدوان طاقة انفعالية لابد مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة لها من منفس، ويتخذ لذلك موضوعاً معيناً تفرغ فيه الشحنة الزائدة، وإذا لم يتمكن العدوان من أن يصل إلى مصدر، فإنه يلتمس مصدراً آخر يصبح كبش الفداء، ومثال على ذلك الموظف الذي يوجه له رئيسه التوبيخ والإهانة، ثم لا يستطيع أن يرد على رئيسه، فإنه عندما يعود لمنزله يصب غضبه على زوجته وأبنائه(4)، ويحتمل أن يتحول العدوان لدى الإنسان من موضوع إلى موضوع آخر، أو يستبدل هدفاً بهدف لغرض التفريغ والتخلص من الشحنات المكبوتة، وإذا ما منع هذا التحول أو الاستبدال، ارتدّ نحو الذات، وبذلك تفتك النفس بنفسها.إذن تتركز مشكلة التعصب ومظاهرها في العدوان، وكيفية تصريفه، وتحويل هذا العنف المدفون داخل النفس الإنسانية إلى موضوعات أخرى في المجتمع، ولكن التساؤل المطروح إزاء هذا الموضوع (تصريف العدوان)، هو:ما الذي يدفع إلى تحديد هدف ما ينتقل صوبه العدوان دون غيره؟ بمعنى آخر: ما هو نوع الموضوع الذي تتوفر فيه الصفات لكي يصبح كبش الفداء؟.إن الدافع الأساس لتبرير التعصب وإسقاط هذه المشاعر نحو شخص ما ليصبح كبش الفداء ينبع أساساً من غريزة حفظ البقاء والتي تسمى بالعامل النرجسي أي (حب الذات – الأنانية)، لذا فإن الصدى الداخلي الكامن لدى المتعصب في هذا السلوك هو الدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس يعني من الناحية السيكولوجية بقاء الوضع الشخصي النفسي الراهن كما هو، حتى وإن كان كله أعوجاً وغير صحيح، مهما كلف الأمر، ومهما صاحبه من معاناة وشقاء ومتاعب نفسية. لذا فإن الشخص الذي يتخذ من التعصب درعاً له، إنما يتقي به شر الآخرين، ويسقط ما بداخله من مشاعر أليمة من العدوان، وهو غير قادر على التخلص منها. فالتعصب إذن وسيلة للدفاع عن النفس، وهو أوهام تبعث للشعور بالأمان وتزويده بالطمأنينة.. واعتقاداً بوجود خطر خارجي، فبدلاً من انتظاره ومواجهته، يعجل بالهجوم عليه وإنهائه.. في حين لا أساس في الواقع لهذا الخطر، ولا داعي لهذا التوثب والتحفز الدائم للدفاع عن النفس، فهي مجرد تخيلات لدى الفرد المتعصب، يصنعها من خياله ويعتقد بها ويبدأ في ممارستها عملياً.وخلاصة القول أن التعصب يؤدي وظيفة نفسية خاصة تتلخص في التنفيس عما يعتلج في النفس من كراهية وعدوان مكبوت، وذلك عن طريق عملية نقل ذلك العدوان واستبداله بموضوع آخر دفاعاً عن الذات. فالمتعصب إذن يجني من موقفه كسباً، غير أن هذا الكسب لا يختلف عما يجنيه مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة المريض نفسياً من سلوكه الشاذ، أي أنه كسب وهمي ناقص(5).ويصدق قول الإمام علي بن أبي طالب (ع): (ليكن آثر (أفضل) الناس عندك من أهدى إليك عيبك وأعانك على نفسك).
الشخصية والتعصب
تشترك عدة عوامل في تكوين الشخصية، فالعامل المعرفي له السبق في هذا التكوين، ويشتمل على العمليات: الذاكرة، الانتباه، التفكير، الإدراك، الجوانب العاطفية الوجدانية (الحب والكراهية)، وهو الذي يحدد السلوك للإنسان، كيف يسلك سلوكاً ما، هل هو سلوك عدواني، أم مسالم، متسامح، أم متشدد، متعصب أم مرن، سلوك قبول الآخر أم العزلة والوحدة بالابتعاد عن الآخرين.أما العامل الذي يساهم في تكوين الشخصية، فهو العامل الوراثي، فهو يركز على انتقال الأثر الوراثي بواسطة الجينات الناقلة من الأب (الحيامن) ومن الأم (البويضة) وانتقال الصفات وراثياً، ومع أنها تعد أساساً في انتقال الكثير من الصفات من الآباء إلى الأبناء، إلا أنه لا يمكن اعتبارها العامل الوحيد والمؤثر في الشخصية أو في السلوك، لوجود عوامل أخرى ذات تأثيرات مساهمة أيضا. ومنها العامل البيئي، الذي يتضمن كل العادات المكتسبة والقيم من خلال عمليات تكوين الذات والتنشئة الاجتماعية وثقافة المجتمع، وهي كلها تكتسب بالتعلم أو الملاحظة بالنموذج.إن من الصعب الحكم على الشخصية بمحددات معينة تكونها، فالشخصية لها أبعاد معقدة، وتركيبات صعبة، مما يعني استحالة الوصول إلى رسم واضح لمعالم الشخصية الإنسانية، رغم أن الباحثين في هذا المجال استطاعوا أن يضعوا معايير لتقييم الشخصية وفك بعض رموزها، وتصنيفها ووضع أنماط لتلك التصنيفات، حتى باتت تعرف بأبعاد الشخصية أو سيكولوجية الشخصية، وأول هذه التصنيفات هو التصنيف المرضي للشخصية، والتصنيف الطبي للشخصية، والتصنيف الاجتماعي لها، وكل واحد من تلك التصنيفات يعتمد محكاً خاصاً بالحكم والتصنيف أو التشخيص. وتبقى الشخصية ذات فريدة كما يطلق عليها (علي كمال) بقوله: (إن شخصية الفرد لابد أن تعني شخصاً بالذات). وهذا التحديد يعطي كياناً خاصاً بالفرد، يعرف به ويضفي مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة عليه صفات فردية وفريدة يختص بها وتميزه عن غيره من بني الإنسان، في أي زمان أو مكان، ومثل هذا التحديد لا يقصد منه إعطاء قيمة معنوية خاصة لكل فرد بقدر ما هو تأكيد للواقع والذي تدلل عليه الملاحظة في التعامل الحياتي. وفي النتيجة إن شخصية أي فرد لا تتساوى أبداً مع شخصية أي فرد آخر مهما بدا في الظاهر تشابههما في المظهر والسلوك(6).ولكن يبقى التساؤل الذي يجمع كل مكونات الشخصية وأنماطها بعد مراحل النمو أو اكتمال التكوين في المراحل اللاحقة، ألا وهو إلى أي مدى يستطيع الإنسان ككائن بشري يهذب من سلوكه في عمليات التطبيع الاجتماعي؟، لا سيما أنه عرف عن الإنسان أنه مدني بالطبع، قابل للتعلم، يتكيف مع المجتمع ويتناغم مع الآخر بلغة حوار لا منتهي، يأخذ صور التفاعل والتآلف، ويرى (ماتسون) أن المشاكل والاضطرابات الشخصية تنبع أساساً من الفشل في تأسيس علاقة بين الذات والآخر، خاصة في غياب الفهم المتبادل(7). ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بهذا الصدد حديث، جاء فيه: (إن أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم).
تكوين التعصب
إن المجتمعات الإنسانية تختلف من حيث درجة التفاوت والتباين، وبعض الأحيان يحصل اختلاف في مدى اكتساب قيم ما بعينها، أو إهمال قيم أخرى، أو التشدد في تعليم أبنائها قيماً لابد من اكتسابها.. فعند هيمنة هذه القيم في مجتمع ما، تعكس حينئذٍ طبيعة القيم الاجتماعية، والمعتقدات السائدة، والثقافة التي تمنح الأفراد مكونات شخصياتهم مستقبلاً، فالمجتمع الأمريكي يغرس في نفوس الأطفال منذ سن الثالثة من العمر اتجاهات محددة عن الناس من الأجناس المختلفة، ويغرس البعض منهم التعصب في الصغار عمداً، وهذه الاتجاهات تثبت بسهولة نتيجة الخبرات اليومية، وخاصة عندما يتحدث الآباء عن (السود – الزنوج) داخل أسرهم، فيكون التعلم بالملاحظة، ومن المحتمل أن يتم تعلم التعصب عملياً من توجيهات المعلمين والآباء وجماعات الأقران(8). مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة وقد أرجعت الدراسات النظرية أسباب التعصب إلى عوامل منها الجنس (الأجناس – Race) أو النواحي التاريخية أو المكانة الاجتماعية والطبقة، أو المستوى الاقتصادي. وقد أجريت دراسة عملية لقياس مستوى تكوين اتجاهات التعصب لدى البيض تجاه السود (الزنوج)؛ وتلخصت بما يلي:تكونت عينة الدراسة من أطفال صغار يمثلون مستويات اجتماعية واقتصادية مختلفة، بلغوا عدة مئات من مدينة نيويورك ومن مدارس جميع طلابها من البيض، كما أنهم كانوا من مرحلة دراسية واحدة، ومن مدارس مختلفة. وبعد تطبيق اختبارات خاصة تقيس مستوى التعصب لدى أفراد العينة، ومن خلال تحليل البيانات الإحصائية لنتائج تلك الاختبارات لغرض التوصل إلى تحقيق أهداف البحث الخاصة وهي إلقاء الضوء على عملية تكوين التعصب العنصري لدى هؤلاء الطلاب، حيث استخدمت في الدراسة ثلاثة اختبارات تضمنت صور الأطفال وكان القائمون على التطبيق يقومون بتسجيل الاستجابات للموقف على أفراد عينة الدراسة، وأظهرت النتائج ما يلي:1- الكشف عن كيفية تكوين الاتجاهات الاجتماعية لدى الأطفال، والتي وجد أن عملية التنشئة الاجتماعية خاصة، يتم فيها توجيه الأطفال داخل الأسرة نحو قضية التعصب.2- إن درجة التعصب لدى الأولاد البيض لا تختلف لدى أمثالهم في المدارس الأخرى.3- إن تكوين الاتجاهات نحو التعصب عملية مستمرة لا تتوقف، وموجهة نحو السود – الزنوج.4- أما فيما يتعلق بالعمر الذي تبدأ به عملية التعصب، فإن البيانات الموجودة غير مؤكدة، إلا أنه اتضح أن تلك العملية الموجهة ضد الزنوج تبدأ مبكراً جداً في حياة الطفل، فمعظم الصغار بمدارس رياض الأطفال، أظهروا تفضيلاً للأطفال البيض على الأطفال الملونين.5- إن الاتجاهات المتعصبة غير المرغوبة تلقى دعماً اجتماعياً من المجتمع(9).أما اتجاهات التعصب الديني فهي أيضا تأخذ منحى مشابه لاتجاهات التعصب العنصري أو العرقي أو السياسي، فقد وجد أن:1- التعصب الديني والعنصري يحدث في فترات مبكرة من الحياة فيما بين الخامسة والرابعة عشرة. مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة 2- تأثير الوالدين، فتأثيرهما يعتبر العامل الأساس في تشكيل الاتجاهات لدى الطفل بالمحاكاة (التقليد) والاستماع المستمر لآرائهم.3- طرق التنشئة؛ فلا يقتصر تأثير الوالدين على استماع الأطفال لآرائهم المتعصبة فقط، لكنهم يساعدون أيضا على خلق نمط الشخصية المستهدفة للتعصب(10).وفي النتيجة يكون سلوك التعصب أو التطرف قد انتقل من الأسرة (المحيط العائلي) إلى الأبناء بواسطة آليات نفسية محددة هي (التعلم بالنموذج)، حيث الأم والأب يدعوان إلى التعصب في المواقف المتعددة مثل الدينية، السياسية، العشائرية، القبلية، الأدبية والفنية. فمشاهدة سلوك التعصب لدى الأبوين والتركيز عليه داخل الأسرة، لا يثير لدى الطفل سلوكاً غير مرغوب فيه فقط، بل يغرس التعصب في ذاته. فسلوك التعصب عند الطفل لابد وأن يثير مشاعر معينة، يتآلف معها، حتى تصبح هذه المشاعر سلوكاً مقبولاً، ويعدو التعصب أو التطرف هو السلوك السوي. مثال ذلك (التربية والتنشئة الأسرية التي نلاحظها في المجتمعات الإسرائيلية والأسر الإسرائيلية من خلال غرس تداعيات التعصب وأنواعه، الدينية، السياسية، العرقية لدى الأبناء ضد العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً).وهكذا فإن الطفل يتصرف تصرفاً متعصباً ويرقب سلوك الآخرين، ويبدي التبرير المناسب لسلوكه التعصبي أو المتشدد تجاه الموضوعات والثوابت التي تعلمها ونشأ عليها.فالأطفال الذين يشاهدون سلوكيات عدوانية بحجم كبير، في مقدورهم خزن هذه السلوكيات ومن ثم استعادتها وتنفيذها وذلك حالما تظهر المؤثرات الملائمة لإظهار هذه الاستجابات السلوكية العدوانية(11). وما ينطبق على العدوان ينطبق تماماً على التعصب.
التعصب وهم
إن من صفات الأشخاص الذين يتميزون بالتعصب للرأي أو المعتقد أو الاتجاه السياسي أو الأدبي أو العشائري – القبلي، هي استجابتهم العنيفة تجاه المواقف الحياتية التي لا تتفق مع طروحاتهم أو آرائهم، وليس من شك في أن الإنسان منذ أول الخليقة، وجد ليتفاعل مع أبناء جنسه، وسعى لإقامة المجتمعات من خلال جوهر وجوده الإنساني، فقد خصّه الله بجملة خصال منها ما في مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13).وقوله أيضا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل: 125).لقد كانت لغة الحوار هي السبيل إلى التواصل في الوجود الإنساني مع الآخر حتى وإن كان يحمل رأياً مناقضاً أو فكراً معارضاً، أو مذهباً يبتعد في تكوينه عن الآخرين، فطالماً أن الإنسان هو من خلق الله، فإن اكتسابه لتلك القيم أو المعتقدات جاءت وفقاً لتكوين المجتمعات وامتدادها على وجه الأرض، وباتت العلوم المختلفة في مناهجها كفيلة بتعديل هذا التكوين الفكري، وصارت الدعوات الإسلامية المتعددة ملزمة بتنوير هذه العقول لإعادتها إلى الرشد.. والمناهج العلمية جميعاً مهما اختلفت وتعددت وتباينت صورها ومجالاتها، لا تعدو أن تكون في النهاية استقراءً لوقائع حدثت وتنبؤات بوقائع سوف تحدث، ولا تعني وحدة الخط العام الذي يتخذه الإنسان في سبيل وصوله إلى المعرفة واستفادته منها، إهداراً للتمايز بين مختلف العلوم، فالعلوم تختلف من حيث مجالات تلك المعرفة المتخصصة التي تستهدفها لدراسة الجماعات أو الظواهر الصادرة من الجماعات، لا سيما أن مهمة علم النفس هي محاولة الوصول إلى القوانين العامة التي تحكم سلوك الأفراد بهدف التنبؤ بمستقبل أو بمسار ذلك السلوك(12).ولما كانت العلوم الاجتماعية والنفسية تعنى بدراسة الإنسان في اكتسابه للمعارف والعلوم والقوانين والشرائع ومعرفة تاريخ المجتمعات، فهي أيضا تعنى بدراسة الظواهر التي عدت ضارة أكثر مما هي نافعة كظاهرة التعصب أو التطرف أو التشدد أو الغلو أو مظاهر السلوك العدواني وانعكاسه على المجتمع وموجات العنف في حل مشكلات الحياة ودراسة الأزمات النفسية والاجتماعية والسياسية، وربما أدى ذلك في بعض الأحيان إلى الفشل في وضع حلول لتلك الأزمات أو المشكلات أو الظواهر، مما أدى إلى ارتدادها نحو الذات وسببت فناء النفس، وهلاكها.إن التعصب، هو استبداد بالرأي، ورفض للرأي الآخر، وبما أن الرفض هو عدم الاعتراف بحق الآخر بالوجود ، وبرأيه ، فالتعصب دكتاتورية واضحة، والدكتاتورية تتصف بالتسلط وتتصف مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة التسلطية بالعدوان، فمعظم الأشخاص الذين يتصفون بالسلوك التسلطي، كانوا في طفولتهم خائفين من والديهم، وغاضبين منهم وعلى ذلك يفترض أنهم يظلون غير آمنين ويتمسكون بالعدوان ككبار، وقد أثبت (أدورنو) بالدليل العلمي العملي أن الاتجاه التسلطي يرتبط بالتعصب(13).إننا إزاء ظاهرة ترفضها المجتمعات، وينفر منها الأفراد، وضعناها على طاولة التشريح السيكولوجي (النفسي) والاجتماعي، بمدارسه المتعددة واتجاهاته المختلفة، ولكن يظل التساؤل المهم.. هو:إن الأديان هي من أقدم المؤسسات الفكرية الاجتماعية عبر التاريخ الإنساني على الكرة الأرضية، وهي التي دعت أتباعها إلى التمسك بقيمها وتعاليمها ومناهجها.فإلى أي مدى تكون المرونة أساساً للتعايش بين المجتمعات المختلفة؟، لاسيما أن الدين الإسلامي، هو دين العقلانية والبحث والاقتناع بالحقيقة، وهو دين يدعو إلى المعرفة والحقيقة منذ فجره الأول، ودعا أيضا إلى الحوار والانفتاح(14)، وهو دين للعالم جميعاً لا يختص بفئة منعزلة متعصبة(15)، وقول الرسول العظيم (ص): (من تعصب أو تُعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) . وقوله أيضا (ص): (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)(16).فالدين الإسلامي يدعو الإنسان المسلم إلى الاعتدال، وهو صوت داخلي يوجه سلوك الفرد، كذلك الرسالات السماوية كلها لها هدف واحد: هو إصلاح النفس البشرية التي بصلاحها يتحقق تهذيب السلوك الإنساني(17)، ولكن يبقى التدين الوسواسي والتعصب للعقيدة هو رد فعل لميول عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين، وبصفة عامة على السلطان أياً كان نوعه(18).وخلاصة القول أن كافة أشكال التعصب أو التطرف تتوقف أساساً على استعداد الفرد أو الجماعة لقبول هذه الظاهرة أو المفهوم أو السلوك الذي يقترن مع نجاحه في حل المشكلة الاجتماعية وبالتالي تتشكل وتبرز أساليب للتعامل مع قضايا الحياة المتعددة، ويكون الخطأ حينها صحيحاً، ويسير عليه الناس…
المصادر :
1 – دراسات في علم النفس الاجتماعي: عبد الرحمن عيسوي، دار النهضة العربية، بيروت – لبنان، 1974، ص195.2 – موسوعة علم النفس والتحليل النفسي: فرح عبد القادر طه وآخرون، دار سعاد الصباح، الكويت، ط1، 1993، ص215.3 – في النفس: مصطفى زيور، دار النهضة العربية، بيروت – لبنان، 1986، ص199.4 – علم النفس الاجتماعي: ج1، محمود السيد أبو النيل، دار النهضة العربية، بيروت – لبنان، 1985، ص470.5 – مصطفى زيور، مصدر سابق.6 – النفس، ج1، علي كمال، دار واسط، بغداد – العراق، 1988، ص74.7 – Matson Flod – W. the broken image . Cardan city and New York: Anchor Book. 1994. (ص) 277.8 – أفلام العنف والسلوك العدواني: محمد حمدي حجار، مجلة الثقافة النفسية، العدد38، المجلد10 شباط/ فبراير 1999، بيروت.9 – محمود السيد أبو النيل، مصدر سابق.10 – ن.م.ص مشكلات نفسية – اجتماعية معاصرة 11 – محمد حمدي حجار، مصدر سابق، ص.12 – الإسرائيليون من هم: قدري حفني، مكتبة مدبولي، القاهرة – مصر، 1988، ص105.13 – مدخل علم النفس ليندا، ل، دافيدوف. ترجمة سيد الطواب وآخرون، دار ماكجروهيل، القاهرة – مصر، 1983، ص782.14 – نقلاً عن: نحن والآخر، الانفتاح أو التعصب، مصطفى السادة، مجلة النبأ، العدد48، السنة (6)، آب2000، ص.15 – التواصل مع الآخر.. تأصيل لمنهجية التعايش، مرتضى معاش، مجلة النبأ، العدد 47، السنة 6، تموز 2000، بيروت، ص.16 – مصطفى السادة، مصدر سابق، ص.17 – القرآن وعلم النفس، عبد العلي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، 1997.18 – مصطفى زيور، مصدر سابق، ص.
الـديـن .. والتدين السياسي
الدين ..عامل حسم ام صراع في النفس!!
مقدمة
من الواضح تماماً اننا نحن البشر تتفاوت تجاربنا النفسية والحياتية وقوة ايماننا بمعتقداتنا وكذلك اراؤنا وتصوراتنا وتمسكنا بها من فرد لاخر ، ليس في فهم هذه التجارب او الاراء او التصورات او قوة التمسك بها فحسب ، بل في تشعب نواحيها واختلاف الموجبات الداعية لمصادرها ، وربما تتفاوت ايضا مقدرتنا الذاتية على التحسس بتلك المتغيرات وفي ادراك قيمتها الفعالة في حياتنا النفسية ، والاعظم من ذلك اننا نختلف نحن البشر في مقدرتنا على التعبير عن تلك المعتقدات او الاراء او التجارب من حيث عمقها في التأثير فينا وفي طبيعة تفاعلها مع عوامل الشخصية الاخرى ذات المساس بنا ، ولهذا فأن المحبة عامل نسبي فينا يختلف من فرد لآخر ، والكره هو الآخر عامل نسبي ايضاً والكرم والبخل هما ايضاً عوامل نسبية في دواخلنا ، تارة تقف عند الطرف المتطرف وتارة اخرى تأخذ طرف الاعتدال ، وكذلك التسامح والمسالمة والتقارب او التباعد ، ويبقى متغير الدين هو الشاغل الاعظم في نفوس البشر جميعها سواء ممن امنوا به كمعتقد سماوي ام افكار متناثرة شكلت قيم ومعتقدات كما هو الحال عند البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية في قارة اسيا .. انها صعوبة ليست في التسمية فحسب ، وانما في عمق التأثير في النفس او سطحيتها ، فأن اخذت طابع العمق ( Deep) سيكون لها حتماً قوة التاثير في النفس وتغيير العادات السلوكية عند الانسان وفي تعاملاته ، واحيانا نقرأ كل تلك في سلوك الفرد المتدين ، ايأ كان دينه ، سماوياً ام افكار دنيوية متآلفة حتى شكلت معتقداً . اذا ما اخذت طابع السطحية فان علماء النفس يسميها ( Shallow ) السطحية في تعاملات الدماغ مع متغيرات الواقع ومنها الدين الذي يعد احد العوامل المهمة التي يدركها الفرد ثم يفكر بما ادركه ، ثم يتذكر بخبراته السابقة قوة التاثيرات على تكوينه النفسي او شخصيته او سلوكه ، حتى يتكون ما يسمى بالمثلث المعرفي داخل الدماغ البشري وهو يشكل ثلاثة اعمدة هي:
[ الادراك – التفكير – التذكر ] يبدأ بمعالجة اية معلومة في منظومة الدماغ ، فالدين احد العوامل المؤثرة في ذات الانسان ، اذا احسن ادراكه استقامت حياته التالية ، وان نفرّ من تعاليمه واعتبرها من القساوة بما لاطاقة له به ، تعامل معه بسطحية ، فلم يتجاوز تعامله الادراك السطحي له ، ثم يختفي من قوة التاثير على السلوك او في التعاملات الحياتية ، ولم يعد حينئذ موجها ايجابياً نحو الافعال السامية بل عكسها تماما فيأخذ طابع الاعذار الملتوية في التعامل .
ان العقل البشري يدرك الافعال او الافكار ويخزن ما يدركه ثم يفكر بما ادركه بعد ذلك ويستعيد من خبراته المتراكمة التي تم تشفيرها Incoding في ملفات داخل الدماغ وخزنها بآلية لم تصنع اعظم تكنولوجيا متقدمة لحد الان شبيها لها وربما حتى في القرون القريبة القادمة آلية شبيهة لآلية عمل الد ماغ البشري وكيفية خزن وتشفير المفهوم والمعلومة او الفكرة داخل هذا الدماغ البشري ثم استدعاؤها بحيث تصبح موقفاً جديداً يختلف عما خزنه من معلومات في المرة الاولى او حين تم خزنه ، فحين تتراكم المخزونات وتتسع المدركات وتكثر المعالجة داخل الدماغ وبقدرة فائقة بالتفكير ، ستتكون منظومة معقدة من النتائج منها العادات السيئة او الحسنة ، التطرف اوالاعتدال ، القدرة على الادراك السريع او البطء ” الذكاء وما يتصل به ” ، المرونة مقابل التصلب والجمود ، المعالجة الناجحة والمعالجة الفاشلة لقضايا الفرد اليومية ، تكوين نمط الشخصية وانواعها ، الهادئة ، المتفجرة ، العدوانية ، التابعة ، القلقة ، الهستيرية ، الانطوائية .. الخ وهنا تدخل منظومة قيم الدين كعامل مؤثر في النفس الانسانية ايضاً ..و تساؤلنا:
– هل تم خزن افكار الدين السامية ومفاهيمه ومفرداته سطحياً ام بعمق داخل الدماغ ؟
– هل أخذ طابع المرونة ام التصلب والجمود داخل النفس ؟
– هل اخذ منحى التطرف ام الاعتدال داخل النفس حتى كان تأثيره واضحاً على الشخصية ؟
لابد هنا من وقفة نسجل فيها وقائع تبين لنا مقدار اثر الدين كعامل حسم او عامل صراع في النفس اذا ما اختلت التوازنات في ادراك مفاهيمه وفي تعاملاته داخل النفس وفي تأثيراته على الشخصية من التطرف الى الاعتدال .
علينا ان نقرر الان ان الافكار الدينية هي احساسات وانفعالات بالدرجة الاولى وهي بنفس الوقت كما عبر عنها “كارل يونغ ” بقوله ان الافكار الدينية ما هي الا تعبيرات عن استبصارات عميقة ، ونحن نقول ان الميول الدينية عوامل مهمة تنبت وتنمو تحت غشاء الشعور ، ويضيف ” زيعور ” بقوله القرآن كتاب ذو تأثير يومي في حياة الفرد يوجه سلوكه وآدابه وفكره وحياته ليكون الى حد بعيد جداً الشخصية الفردية ولاشعورها الجماعي ، ويقود اللاشعور الفردي في شتى النشاطات الاجتماعية والذاتية ، والمفاهيم القرآنية تغطي اذن الذات في علاقتها مع الأنت ومع النحن وهي تلف يوم الانسان وغده ونظرته للكون وللظواهر والخلود ، انها ركيزة اولى في الثقافة وفي الحضارة وفي التاريخ وفي الواقع الراهن ورسم صورة المستقبل ويضيف ” بركات ” بقوله يلعب الدين الاسلامي دوراً اساسياً في صياغة سلوك الافراد والجماعات في العالم العربي سواء اكان ديناً رسمياً او شعبياً ، وتبرز في الدين الرسمي الكلمة والسنة فيما تبرز في الدين الشعبي الشخص والوجدان ، ويطرح بعض علماء النفس مقاربات بين النص السيكولوجي والنص القرآني مثلا ، بين :” ولا اقسم بالنفس اللوامة ” وبين الضمير الخلقي عند فرويد كما اورده (عيسوي) ويعبر التعبير القرآني ” يخادعون الله .. وبما كانوا يكذبون ” عن وسائل وآليات الدفاع عن النفس ، ” مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤولاء” بانها تعبير عن الصراع النفسي .
ان الصراع النفسي ينشأ حينما يتنافس هدفان او حاجتان او نوعان من انواع المواقف ولهما نفس قوة التأثير تقريباً ، ويسببان لدى الانسان شعوراً بالانجذاب نحو مهمتين مختلفتين مما يترتب عليه شعور بعدم الارتياح ، وبما ان اختيار احد البديلين في موقف الصراع يحجب اختيار البديل الآخر او على الاقل وقتياً ، فأن الصراعات تعد احياناً احباطات ، وتصنف في علم النفس الصراعات الى حد كبير على انها صراعات داخلية واخرى خارجية طبقاً للاختيارات الداخلة فيها ، ويقول علماء النفس في الصراع الداخلي تكمن الاهداف داخل الفرد الذي يعاني من الصراع ، فالفرد الذي نشأ وتربى في حضن ابوين متدينين اتقياء يشعر بالتمزق بين الرغبات المحرمة والممنوعة الجارفة باعتبارها مصدراً للذة والسرور وبين القيم الخلقية التي اكتسبها حتى انها شكلت لصرامتها الماً مقبولا لديه وتعايش معها ، انها دوامة بين ان ينساق نحو اللذة وينظر الى الاحساسات الدينية وانفعالاتها بألم غير محسوم ، فالدين في هذا الدور خلق الصراع ولحد الان لم يحسمه ، بين لسان الحال الذي يقول :
– اريد ان افعل ما اشاء
– يجب ان افعل ما اشاء
– اشاء ان افعل ما يجب
هذه الجدلية تستمر ولم تحسم ويقول علماء النفس ان هناك عوامل عديدة تؤثر في عملية ترجيح القرار في موقف الصراع ، فقوة الحوافز التي تثيرها البدائل مهمة جداً ، فالاهداف التي تثيرها الحوافز القوية تؤدي الى عملية جذب اكثر من تلك التي تثيرها الحوافز الضعيفة . ففي حالة الانسان المتدين الذي لا يستطيع ان يقرر ما اذا كان يجب ان يشارك بالعنف بأسم الدين ام يظل مسالماً ويدعو الى التقوى وعبادة الخالق بطرق اكثر مرونة وشفافية بدون عنف او قسوة ، حتى تتصارع لديه دوافع الميل الى القتل بأسم مسميات مثل الجهاد او نصرة جيش الحق او نصرة جيش الرب او اسناد الصليب او القتل المقدس لاجل احياء الدين الى ما لانهاية له من تسميات وعلى العكس من ذلك المتمثل بمنهج المسالمة الذي يعده العقلاء الطريق الاوفر لكسب قلوب الناس من المسلمين وغير المسلمين ، وهذا الامر لا يقتصر على الدين الاسلامي فحسب ، فالامر سيان لدى المسيحية بشقيها المعتدلة والمتطرفة ، والديانة اليهودية بشقيها المتعصبة والمعتدلة وحتى لدى الاديان غير السماوية مثل الهندوسية في تطرفها المميت والقاتل تجاه الاديان الاخرى واعتدالها المسالم او البوذية في نزعاتها نحو الفرض او الترهيب والمسالمة .
لا ننسى هنا ان البعد الزماني والبعد المكاني الذين يشكلان القوة في بعديهما ولهما قوة التاثير في النفس سواءاً في تأجيج الصراع او حسمه ، ويقول علماء النفس ان الاختيار يعد مؤثراً قوياً في القبول او الرفض ، فالميل الى احدهما يعني تجنب الآخر ، وهي عودة مرة اخرى الى بزوغ العقل من جديد وقوة تأثير الدين المعمق في الشخصية وليس السطحي في المعالجة النفسية ، فالدين المعمق ” العميق ” العميق في معالجة النصوص الدينية ” ربما يقود الى سعة الوعي وادراك الجوانب الواسعة في الرؤية وهو يخلق تفاعلات ذاتية في النفس بين متغيرات عديدة اهمها الدين السوي – المسالم ، القائم على النظر الى الدنيا باعتبارها دار مؤقتة وضرورة التكيف السوي معها “اعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ” ونظرة بعيدة الى دار الاخرة باعتبارها دار الحق الابدية ، هنا نستذكر تساؤلاتنا بين التطرف والاعتدال ، وبين المرونة والتصلب – الجمود في تفاعلات النفس حتى تنتج فروق واضحة في التعاملات مع هذه المتغيرات ذات الاثار المتشابكة على الشخصية والتكوين السلوكي والخلقي حتى يمتد لنجد في مواضع اخرى داخل النفس ان معالجة القيم والمعتقدات الدينية العميقة لا تتحسن فحسب او تتأثر بالضرورة مع هبوب الرياح الصادرة من مختلف الاتجاهات المتعصبة او المتطرفة او التي تأخذ سمات التصلب والجمود ، بل انها ثابتة في توازن مع قوة المعتقد .. ويبقى التساؤل قائماً في جدلية الدين الازلية نحو الاكتساب السطحي والاكتساب العميق للمعالجة داخل النفس ونحن نستند في ذلك الى قول الله سبحانه وتعالى : وفي نفوسهم مرضاً وزادهم الله مرضا !!
الدين .. مدخل علمي سيكولوجي لقراءته
اعتدنا ان نكتب في الموضوعات النفسية افكارا ونحاول جاهدين ان نحل الاستفهامات التي تتبادر في اذهان الناس عن النفس الانسانية ، ولكننا في هذا الموضوع نحاول ان نتحدث عن موضوع ربما به من الحساسية ترقى الى مستوى العداء الشخصي للكاتب او المفكر الذي يتعارض مع المتشددين من المتدينيين ، ولنا امثلة سبقتنا في هذا المضمار امثلة كثر لا حصر لها لا بسبب الدين فحسب ،بل بسبب من آمن بالفكر الديني بعوج لا ريب فيه ،لانه انطلق من عوج في الشخصية وجنوح في التكوين فرأى ما يريد ان يراه وليس ما يراه الدين الصحيح بكل اعتداله ،فهو يرى ما يراه لانه يريد ان يراه وليس الذي يجب ان يراه. كما ورد في الاديان السماوية بدون تحريف او تزوير او استنادا الى حكمة النبي محمد”ص” اياكم والغلو في الدين”. نحن معشر السيكولوجيين نتميز بالتوغل في محطات عميقة داخل النفس مسترشدين بما منحه لنا تخصصنا النفسي المنهجي من ادوات تتيح لنا الغور في اعماق النفس ونبحث في الظلمة داخل النفس رغم ان ادوات علم النفس في الكشف عما يدور في النفس ، هي ادوات وضعية ليست سماوية وتتغير تبعا لتطور الفكر الانساني وتقدمه وهي سمة العلم الحديث بجدليته وقدرته على النمو ومواكبة التطور،وهذا يوضح ان معنى وجود الانسان مرتبط بالظروف البيئية الموضوعية المتفاعلة فضلا عن التكوين النفسي الشخصي الذي يتميز به كل فرد عن الفرد الآخر حتى وان توأما متشابها.
يقول عالم النفس “سيريل بيرت” ان عالم النفس يدرس الدين لا ليكشف كونه حقا او باطلا،بل لمجرد انه معني برفاقه من البشر وبأعمال عقولهم.والباحث السيكولوجي قد يكون له -بصفة كونه انسانا او فيلسوفا- دينه او فلسفته الخاصة،ولكن ذلك لا ينبغي ان يكدر عليه نزاهته وموضوعيته الحيادية في دراسة شعائر الفرق والمذاهب والاديان الاخرى. او عقائد الاجناس الاخرى،ولهذا يستوي عنده ضلال الوثني الذي يركع امام اله من الطين او الخشب والاحجار او امام البقرة المقدسة ، او عند مرثية جدار حائط المبكى او الدوران والطواف عند الكعبة او لطم الخدود والصدر في ايام عاشوراء او الرقص حول النار المقدسة . ان الناس احرار بما تعتقد وبما تعبد اكانوا زمرا او اقواما او اقليات، فالمسلم والمسيحي واليهودي عابدين الها واحدا ولكن اختلفت العقائد والشعائر وكذلك الحال لدى الاديان والمعتقدات غير السماوية والتي كونتها فلسفات انسانية آمنت بموجود في الارض او في المخيلة واعتنقته على مر العصور حتى اصبح رمزا مقدسا والاعتداء عليه او المساس به “تابو” لا يمكن ان تدانيه غير اللعنة الالهية التي تدعو الى حرقه او فناءه.
نشأت الاديان جميعا ونزلت لهداية الانسان، عندما كان الانسان في بداية الخليقة يواجه من المثيرات ما يضطرب به سلوكه في حياته ويختل به توازن الحياة الطبيعية من حوله. كان يلجأ الى تلك الطبيعة سائلا ومتضرعاً ان تخفف من وطأتها عليه حتى يعود الاطمئنان نفسه وتسير حياته سيرتها المتوازنة التي يتقبلها ويرضاها. ولما كانت الطبيعة لها احوالها بحكم ما ينتظمها من قوانين،حيث تثور تارة وتهدا تارة اخرى،ويشعر الانسان بانها تمنح مرة وتمنع مرة ،تقسو وترحم،تحمي وتضر،تزهر وتقفر، اتخذ الانسان من عبادة هذه الظواهر وعدها الهة له وأنشأ لنفسه ديانات ووضع طقوسه الخاصة التي يتقرب عن طريقها الى آلهته،وهو في كل الاحوال يأمل في ان يستقر سلوكه وتهدأ نفسه. وكذلك الحال فيما يتعلق بالاديان السماوية حيث آمن الانسان بوجود قوة عظيمة تحرك الكون وتنظم الحياة واعتقد بوجود هذه القوة ومن هنا نشأة لديه فكرة الوحدانية والتوحيد في قدرة خالق عظيم،هذه الافكار لا شك انها تهدي الانسان الى عبادة الخالق لدى المفكر والمبدع والانسان البسيط ،ولكن المشكلة الكبرى هي: كيف يتحول هذا الايمان الى قيد يفرض على الجميع دون احترام لافكار ومعتقدات الاخرين ، وتطلب مصادرة المعتقدات الاخرى او تغييرها بالقوة او بالجهاد والفتوحات .
عندما جاءت المسيحية ابرزت ما للتعاليم والوحي السماوي من شأن في الحكم على قيم الاشياء والاعمال، فتكبر بشعور ما يترتب عليها من ثواب، وقد اكثر الاسلام في هذا وابرزه في صورة واضحة ، وبين ما يربط الحياة الدنيا بالحياة الاخرى، ولهذا الارتباط شأنه في تقويم الاشياء والاعمال والحكم عليها، وخطاب الله هو الفيصل في الحكم على الحسن والقبيح، وعلى المباح والمحرم، والحسن ما وافق الشرع، واستوجب الثواب، والقبيح ما خالف الشرع، ويترتب عليه العقاب في الآخرة.
فأعمال الدنيا مقومة حسب نتيجتها في الآخرة، وقيمة الاشياء من حيث ما تحصله للانسان من حسن الافعال او قبحها. وعليه فأن اجبار الآخر للرضوخ الى ما اؤمن يعد بحد ذاته كسر لشخصية الآخر الذي يعيش ويتعايش معي في هذه الحياة، ويقول”دوركايم”ان المعتقدات والممارسات الخاصة بالحياة الدينية ، وجدها المؤمن عند ولادته،اذا كانت موجودة من قبله ، فذلك يعني انها موجودة خارج عنه.
ولما كانت الشخصية في الرؤية الدينية الاسلامية تنمو بابعادها الثلاث :النفس اللوامة والنفس المطمئنة والنفس الامارة بالسوء من خلال مراحل التنشئة الاجتماعية التي يصادفها الطفل، فأن لا غبار على ذلك بالحدود المعتدلة ،ولكن يصبح الامر خطيرا عندما يتجه سلوك الطفل نحو التعصب الديني لا سيما انه وديعة بين ايدي اوليائه الى حين ينضج عقلياً. وهم المسؤلون عن امداده في تلك المرحلة بالتعاليم والحقائق الخاصة بكل محتويات جوانب النفس بصورة تتفق مع نموه العقلي الاجتماعي ومداركه حتى يسهل عليه تعلم الصحيح من الخطأ. لذا يبقى الاباء اشخاص مقدسون لديه، ويقول “مصطفى زيور” ان الاشخاص المقدسين الذي يتعلق بهم الوسواسي في هذه الحالة رمزيون،وان الوسواسي يشك في وجودهم شكاً عميقاً، بالرغم من كل ما ينسب اليهم من واقع، ومن خوفه من القصاص على اي اذى يلحقه بهم إذا كان مزعزع الايمان. فالرمز احدى الحيل الاساسية التي تسيطر على نشوء الوسواس:فالوسواس باعتباره علاقة منقولة او على مبعدة، يمكن ان تعتبر حيلة دفاعية اولية.
لذا فأن التدين الوسواسي والتعصب للعقيدة قد يكون رد فعل لميول عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين،وبصفة عامة على السلطان اياً كان نوعه. ولما كان البعض من المتشددين الدينيين يتخذون من الدين ستارا قويا لتطبيق ما يرونه حتى وان كان معارضا للواقع مستندين بذلك ان زمن الرسالة الاولى لم تعرف هذه الاشياء والمعارف ، فما عليهم الا رفضها ومنعها باعتبارها بدع يجب مقاتلتها انما يقومون بذلك دفاعا عن النفس وهو يعني من الناحية السيكولوجية الاحتفاظ بالبناء الراهن للشخصية مهما كان فيه من عوج، ومهما كلف ذلك من الشقاء،حتى لنجد بعض الافراد المتزمتين والمتشددين تحصنوا في نوع من القلاع التي لا نفاذ اليها.
ويقول مصطفى زيور لابد ان نتبين السبب الذي يدعو الى اتخاذ التعصب وسيلة للدفاع عن النفس وهنا يجب ان نذكر ان الطفل عندما يقلع عن اوهام القدرة المطلقة التي تبعث فيه الشعور بالامان وتزوده بالطمأنينة،لا يلبث ان يتوحد(يتقمص) بأبويه،وفي مرحلة تالية يتوحد بالطائفة ا