كي لا تتكرر المأساة…!!! ملاحظات عن التربية والنعليم في العراق 2-3
د. حسن السوداني
التعليم الجامعي:
بسبب ازدياد أعداد الطلبة في الجامعات العراقية وبطريقة غير مدروسة فقد حدثت مشكلة عدم قدرة الدوائر الحكومية من استيعاب أعداد المتخرجين فضلا عن عدم وجود مشاريع اقتصادية يمكن أن تسهم في استيعاب الأعداد الهائلة من الخرجين الشباب وقد أدى ذلك إلى بلورة جديدة لصورة العمل, حيث تقدمت بعض المهن والأعمال سلم الدرجات المهنية, بينما تراجع البعض الآخر مما أدى إلى حدوث انفصال في بعض الأحيان, بين العمل المنتج, والحصول على الثروة بينما حدث العكس مع أشكال أخرى للعمل غير المنتج وغير الشريف وحدوث الصراع بين قيم العلم والثقافة والقيم المادية التي راحت تتفشى وتفرض نفسها لتحدد علاقة الفرد بالعمل, ولعل أهم ما أفرزته هذه النقاط هو الصورة السلبية للتعليم والمهن التعليمية التي تحتل الأماكن الأخيرة في سلم اهتمامات الشباب بسبب المردودات الاقتصادية الضعيفة التي يحصلون عليها فيما بعد ولم يقتصر ذلك على الطلبة الجدد الذين يدخلون الجامعات اليوم بل تعدته لأساتذة الجامعات الذين خرجوا زرافات زرافات إلى البلدان العربية للتدريس في جامعاتها بعد أن وجدوا أنفسهم أمام خيارات ترك المهنة التعليمية والعمل في مهن لا تناسب وضعهم الاجتماعي والأخلاقي, أو السفر والتغرب عن الوطن والأهل, وأول تلك البلدان كانت الأردن ومن بعدها اليمن ثم ليبيا التي يتعدى رقم العاملين فيها من خيرة العقول العراقية الأربعة آلاف عقل موزعين على جامعاتها ويزدادون سنويا فقد بلغ عددهم وفق إحدى الإحصائيات(41 ألف طبيب ومهندس وحملة شهادات عليا)(10) ومن دراسة أجرتها اليونسكو تبين أن العراق من ضمن سبعة بلدان عربية يهاجر منها كل عام 10000 من التخصصين كالمهندسين والأطباء والعلماء والخبراء(11), الأمر الذي أدى إلى شبه كارثة حلت في التعليم العراقي اليوم تتمثل في عدم قدرة الجامعات العراقية على سد النقص الحاصل في عدد التدريسيين كما فعلت قبلا في تعويض نقص المدارس الابتدائية والإعدادية فما كان منها إلا فتح باب القبول في الدراسات العليا أمام أكبر عدد من الخريجين الجدد وإذا كان هذا الفعل يساعد على التعويض رقميا فأنه لا يمكن على الإطلاق تعويض الخبرات الهائلة للتدريسيين العراقيين الذين قطعوا في مجال التدريس قرابة الربع قرن أو أكثر, وهو ما يؤكده وزير تربية سابق (حكمة البزاز) بالقول( ينبغي عدم التقليل من أهمية هجرة أساتذة الجامعات خاصة على المستويات العلمية العليا ذلك أن أغلب المهاجرين أو لنسمهم كمن اختاروا العمل خارج العراق ولو لوقت محدد هم من الأساتذة ذوي الشهادات العلمية العالية أو الدرجات العلمية التي تؤهلهم لإعداد الملاكات القيادية في الدراسات العليا)(12) وخير مثال على ذلك العلامة العراقي الشهير نوري جعفر الذي وافته المنية في ليبيا بعيدا عن أهلة ووطنه وقائمة الأسماء العلمية الكبيرة تطول وتثير في النفس الحزن على هذه الطاقات الجبارة التي غادرت مقاعدها العلمية دون أن يرف لها جفن الطغاة أو يهتز لهم ضمير. وأمام هذا الواقع المؤلم وفي غفلة من الزمن تسلقت أسماء معروفة في الأوساط الجامعية العراقية بانتماءاتها الأمنية والسياسية إلى مقاعد الأستاذية وأصبحت بين ليلة وضحاها تحمل لقب (البروفيسور) بعد أن أصبحت الترقية العلمية بيد المنظمة الحزبية ومسؤول الأمن في الجامعة ومن شروطها عدد الأنواط التي يحملها الأستاذ الجامعي وخاصة أنواط( أم المعارك, شارة الحزب, نوط الاستحقاق العالي…ألخ) كما لعبت الطائفية والمناطقية دورا بارزا في ترقية هذا الأستاذ من ذاك أو تولي المناصب الإدارية ومعظم العاملين في وزارة التربية يعرفون حقيقة المشكلة “الشهيرة” بين وزير التربية ( عبد الجبار توفيق) وأحد المدراء العامين فيها والشكوى التي تقدم بها إلى رئيسه المناضل ليسجن المدير العام(د.صائب الساعدي) لكونه من القلائل في هذه الوزارة ممن وصل عن طريق جده واجتهاده متهما إياه بالسرقة رغم فشل جميع اللجان التحقيقية الرئاسية في إثبات هذا الاتهام!! فما كان من “الرئيس المناضل” ألا ويأمر بسجن الدكتور الساعدي مدى الحياة إرضاء لوزيره وأمه التي كانت تعمل في بيت خاله خيرالله طلفاح!!. كما أصبحت رئاسة الجامعات العراقية الكبرى حكرا على البعض حتى لو تعدى وجودهم فيها أكثر من عشرين عام كالدكتور رياض الدباغ رئيس الجامعة المستنصرية والدكتور عبد الإله يوسف الخشاب رئيس جامعة بغداد, فضلا عن رئيس جامعة الموصل ووزير التربية السابق حكمت البزاز أو الوزير الذي أعقبه فهد الشكرة.
ولعل أهم ما يثير المهتم بشأن التعليم في العراق هو ما وصل أليه مستوى الدراسات العليا من مستوى متدني يمكن تأشير أهم أسبابه بالنقاط التالية:
1/ تغليب المهنية بصورتها السطحية على العمق الفلسفي للتعليم بعيد المدى والتفكير المادي البحت بعيدا عن توسيع المدارك الثقافية والفنية وهو ما أكد عيه عميد كلية اللغات( د. محمد الدعمي) بالقول: ( نجد أن هناك من يدرس شكسبير ويحفظ أبيات ملتون لأنه يريد أن يكون مترجما أو موظف تلكس أو قاطع تذاكر في إحدى مكاتب الخطوط الجوية! ويزداد المأزق تعقيدا عندما نستجوب بعض طلبة وطالبات الدراسات العليا(13).
2/ الضعف الكبير في استخدام التقنيات الحديثة وخاصة شبكة الانترنيت التي لم يسمح باستخدامها إلا مطلع العام الماضي وبمراكز محدودة جدا وتحت عين الرقابة الأمنية المشددة.
3/ عدم السماح لطلبة الدراسات العليا باختيار موضوعات علمية مكلفة ماديا وبحجة عدم تمكن الجامعات من الصرف على هذه الدراسات, ودفع الطلبة لاختيار موضوعات تقليدية ومكتبية تبتعد كثيرا عن آخر مستجدات البحوث العلمية.
4/ افتقار المكتبة العراقية للمصادر الحديثة لعدم تمكن الجامعات العراقية من استيراد الكتب ودفع أثمانها بسبب عدم توفر الميزانيات الكافية, فضلا عن استهلاك المصادر القديمة وفقدان معظمها مما يضطر الطالب الانتظار فترات طويلة للحصول على مصدر ما .
5/ عدم السماح باستخدام القنوات الفضائية عزل الطالب العراقي من معرفة أخر التطورات في مجال البحوث العلمية والتقنية وحرمان الجامعات العراقية من مصدر مهم ومجاني للتزود بالمعلومات الجديدة.
6/ افتقار طلبة الدراسات العليا للمشرفين المتخصصين لقلة عددهم وهجرة معظمهم خارج البلاد, مما أحدث إرباكا كبيرا في توجيه الطلبة إلى الوجهة الصحيحة بسبب قلة خبرة المشرفين الجدد.
7/ عدم تمكن طلبة الدراسات العليا من متابعة المصادر الأجنبية لقلتها أولا, ولافتقار معظمهم للغات الحية الأخرى وخاصة طلبة الفروع الإنسانية.
8/ المجاملات وعدم رفض الرسائل الضعيفة, هي السمة الغالبة في مناقشات الماجستير والدكتوراه, وتدخل الوساطة والحزبية والاخوانيات في منح بعض الطلبة للشهادة العليا.
9/ عدم تلقي الطلبة لأي دعم مادي أو معنوي من الجهات التي تشرف عليهم وضعف التعاون الذي تقدمه المؤسسات التي يراجعونها قد جعل الدراسة في غاية الصعوبة وأرهق الطلبة إلى درجة عالية جدا وأدى إلى تزايد حالات الرسوب في امتحانات الدراسات العليا فقد ذكرت مجلة ألف باء في 24/11/99 ,على سبيل المثال, أن خمسة طلاب التحقوا بدراسة الماجستير في كلية الآداب ـ قسم اللغة الإنكليزية ـ في جامعة البصرة تم ترقين قيد أربعة طلاب ونجحت طالبة واحدة. وفي كلية الاقتصاد تم ترقين قيد خمسة طلاب من أصل سبعة, وفي أقسام وكليات أخرى قبل عشرة طلاب رقن قيد تسعة منهم ونجح الأخير بطريقة غير مشروعة(14).
10/ أصبح طالب الدراسات العليا هدفا مهما جدا لبعض المشرفين الذين يمتلكون درجات حزبية عالية لسببين أساسين:
أ: لجني المخصصات البالغة 25 ألف دينارا عراقي على كل طالب شهريا طيلة فترة الأشراف.
ب: الإيحاء للطلبة بأن اختيارهم لهذا الأستاذ الحزبي سيسهل أمر نجاحهم دون معاناة تذكر بسبب المسؤوليات الحزبية التي يمتلكونها. مما ضيق الخناق على الأستاذ الجامعي النزيه ومحاصرته ومحاولة تشويه سمعته أو زجه بتشكيلات التدريب العسكري الصيفي أو جيش القدس أو ما شابه ذلك.
ومن النقاط المثيرة التي يمكن تأشيرها في سياق هذا الموضوع, أن الأستاذ الجامعي العراقي قد فرض عليه العمل أكثر من أثنتا عشرة ساعة في اليوم بسبب الدوام المسائي مما أدى إلى إرهاقه أولا وعدم استطاعته المتابعة العلمية لأخر التطورات في مجال اختصاصه, فضلا عن عزله عن الحياة الاجتماعية والثقافية وتربية أبنائه ومواصلة حياته الطبيعية وإيقاف روح البحث العلمي لديه والذي يشكل أهم أركانه المعرفية وتجديد معلوماته وبنائها بالطريقة الصحيحة. ومن المفارقات المضحكة أن الأستاذ الجامعي العراقي محظور عليه السفر نهائيا إلى الخارج إلا إذا حصل على كفالة من رئيس فرعه وقسمه وعميد الكلية ورئيس الجامعة والوزير!!, فضلا عن الموافقات الأمنية والحزبية, ولم تشهد الجامعات العربية بعد التسعينات مشاركة الأستاذ العراقي في مناسباتها العلمية إلا أولئك الذين غادروا تحت جنح الليالي بجوازات سفر مزورة ينشدون عالم الحرية الذي افتقدوه.
الهوامش:
10/ جريدة الشرق الأوسط ,31/3/2000.
11/ محمد رشيد الفيل, الهجرة, وهجرة الكفاءات العلمية العربية, عمان,2000, مراجعة هبة الله الغيلاني, مجلة النهج, العدد62, ربيع 2001, ص293.
12/ حكمة البزاز, تطوير المناهج واستقطاب الكفاءات المهاجرة, جريدة الثورة , العدد9181, 12/2/ 1997, ص3.
13/ د. محمد الدعمي, استرجاعات وتأملات,جريدة القادسية, العدد 6004, 2/11/ 1996, ص3.
14/ سامر سعيد, أحوال التعليم الجامعي, مصدر سابق, ص31.