بعض اشكاليات المجتمع المدني والمجتمع السياسي والديمقراطية – د. صالح ياسر- (1)
المقدمة
شهدت السنوات الاخيرة، وما تزال، نقاشا صاخبا، ثريا متنوعاً، حول موضوع ” المجتمع المدني ” والاشكاليات المرتبطة به. ومثله مثل مفهوم العولمة فقد اصبحت الاشارة الى هذا الموضوع (أي المجتمع المدني) لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية. وتزداد أهمية مفهوم ” المجتمع المدني ” نتيجة تلك النزاعات التي ارتسمت في الفترة الاخيرة والمتعلقة بتطور الدولة وكذلك العلاقات الناشئة بينها وبين المجتمع، حيث تجري بلورة العلاقات الضرورية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وتبذل جهود فكرية لتأصيل نظري لتلك العلاقات. ونظراً لأن النقاش الدائر حول ” المجتمع المدني ” لم يظل اكاديميا صرفا، بل اتخذ طبيعة السياسة العملية الملموسة، فإنه يمكن القول، إذن، أن مصطلح ” المجتمع المدني ” يصبح شعارا تعبويا لمختلف القوى والفئات الاجتماعية الساعية الى اجراء تحويلات عميقة في مختلف مستويات التشكيل الاجتماعي في العديد من البلدان. ولكن بالرغم من أهمية هذه الاشكالية فقد ظل النقاش حولها، في العديد من المجالات، نقاشا مجردا وعموميا، وظلت بعض القضايا المرتبطة بمفهوم المجتمع المدني غامضة وتتطلب معالجة متأنية وحصيفة في أن.
تسعى هذه الدراسة لتوضيح ثلاث قضايا، تبدو وكأنها مسلمات لا تحتاج الى تحليل، ولكن الواقع يتبت عكس ذلك. إن هذه القضايا هي المجتمع المدني، المجتمع السياسي ، الديمقراطية. إن هذه الاشكاليات لا تبدو منفصلة عن بعضها البعض، بل على العكس من ذلك، إنها شديدة الارتباط، بالرغم من مظاهر الاشياء!.
إن توضيح ذلك الترابط يستلزم أولا تحديد مضمون كل اشكالية، أي تحديد مضمون المجتمع المدني ومضمون الدولة. إن تحديد مضمون كلا الاشكاليتين سيسمح لنا بالكشف عن طبيعة العلاقة الناشئة بين المجتمع المدني والدولة والتغيير الدائم فيها، فهي ليست علاقة ثابتة، بل على العكس تتغير وتكتسي بأشكال ومضامين متنوعة بفعل عوامل متعددة ستتبين لنا لاحقا.
إن تحقيق استقلال المجتمع المدني عن الدولة ووضع هذه الاخيرة في موقعها الصحيح، في السيرورة الاجتماعية يرتبط شديد الارتباط باشكالية بالغة الاهمية والتعقيد في أن، واعني بها دمقرطة المجتمع بمختلف بناه السياسية والاقتصادية. ولهذا فإن الاستيعاب لمحتوى هذه العملية يرتبط بضرورة تحديد مضمون الديمقراطية كسيرورة وكممارسة تسمح باقامة علاقة سليمة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة).
وبهدف ضبط هذه الاشكالية وفك ” الغاز ” مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالمجتمع السياسي والديمقراطية، تم تقسيم هذا العمل الى سبعة مباحث، اضافة الى مقدمة وخاتمة.
يظهر المبحث الاول تحت عنوان: مفهوم المجتمع المدني : محاولة تعريف، وفيه يجري العمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل المفهوم عبر اعادة صياغته وتحديد مدلولاته النظرية، ورصد مكوناته المعرفية. واستنادا الى هذه المقاربة يتم عرض العديد من التعاريف ووجهات النظر المختلفة بهدف التوصل الى ابرز العلائم المميزة لهذا المفهوم. كما يتم الحديث في هذا المبحث عن دور المجتمع المدني ووظائفه ومكوناته.
أما المبحث الثاني الموسوم: حول المجتمع المدني – تاريخية المفهوم والاشكاليات العامة، فيتناول العودة الى الفضاء الزماني الذي شهد ولادة مفهوم المجتمع المدني، ورسم الملامح العامة للتطورات والتمايزات التي طرأت على المفهوم تاريخيا، ضمن المناظرات الكبرى التي جرت حوله. يكرس هذا المبحث، إذن، لمحاولة تحقيب سيرورة التطور التي شهدها هذا المفهوم واستخداماته منذ نشوئه حتى اليوم، فقد مرّ بعدة مراحل من أجل بلورته وصياغته بشكل أدق واكثر وضوحاً.
في حين ظهر المبحث الثالث تحت عنوان: مفهوم المجتمع المدني العالمي، حيث يتم هنا التركيز على مقاربة هذا المفهوم الذي بدأ في الظهور في السنوات الاخيرة. لقد برز هذا المفهوم مثله مثل تعبير “المجتمع المدني” ذاته- مجددا في سياق طائفة من الاوضاع والتحولات العالمية على الصعيدين السياسي والفكري ضمن مرحلة جديدة شهدت بروز معلمين اساسيين هما انهيار نظام القطبية الثنائية وبروز ظاهرة العولمة وما طرحته وتطرحه من تحديات واستحقاقات تطول الجميع. يتم في هذا المبحث التطرق الى العوامل الكامنة وراء نشوء المجتمع المدني العالمي، اضافة الى عرض العديد من المحاولات التي سعت لشرح وتفسير نشوءه، ضمن اطار السياق العريض للعلاقات السياسية والاجتماعية على المستوى العالمي.
ومن جهته يظهر المبحث الرابع تحت عنوان : الدولة – المجتمع السياسي/ بعض الاشكاليات المرتبطة بمضمون الدولة، وفيه محاولة لاعادة التفكير بطبيعة الدولة والسعي لوضعها في مكانها الطبيعي ضمن التطور التاريخي الملموس، أي مقاربتها تاريخيا. ويتعين الاشارة الى ان هذه المحاولة تأتي ضمن مسعى الرد على الاطروحة السائدة حول حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. فحسب هذه الاطروحة تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا ” لابسة ثوب حيادها المبجل “. ولهذا فإن المطلوب انزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها، وبما يمكننا من فك الاشتباك بين مفهوم المجتمع المدني ومفهوم المجتمع السياسي.
أما المبحث الخامس الموسوم: الديمقراطية : بعض الاشكاليات العامة، فهو محاولة للامساك بالخيط الرابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، حيث تتصاعد ” حمى الديمقراطية ” التي شهدتها السنوات الاخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين. تنتعش، إذن، في الكتابة السياسية اليوم العديد من المفاهيم ، وتتحول الديمقراطية الى محور يستقطب النظر السياسي، سلطة سائدة، ومعارضة، وهيئات وتنظيمات وأفراد. ويرافق ذلك تنشيط النقاشات والمساجلات حول ضرورة انبثاق وتطور مؤسسات المجتمع المدني كضمان لأن تصبح السيرورة الديمقراطية عملية لا رجعة فيها.
يسعى هذا المبحث للتأكيد على دور مؤسسات المجتمع المدني في العملية الديمقراطية ولفت الانتباه الى جانب هام لاشكالية الديمقراطية التي يجب أن لا تنحصر فقط في بعض الممارسات السياسية مثل التعددية الحزبية، وتنظيم الحكم طبقا لمبادئ دستورية تضمن فصل السلطات عن بعضها البعض واختيار الحكام من خلال انتخابات غير مزيفة …. الخ، على أهمية ذلك. ورغم الاقرار بأن الديمقراطية كمفهوم هو بطبيعته اشكالي، متعدد الدلالات، ولكن الديمقراطية، بتعريفها البسيط تعني سلطة الشعب. فالممارسة الديمقراطية الصحيحة في السياسة تفترض دمقرطة المجتمع. ودون هذه الصيغة لا تضرب الديمقراطية جذورا في أرضية المجتمع فتظل شكلية وسطحية دون أن تكتسب شرعية غير قابلة للانقلاب.
ومن جهته فإن المبحث السادس الموسوم: المجتمع المدني والدولة السياسية في العالم العربي – بعض التعميمات، يسعى لتقديم خلاصات مكثفة للتطور التاريخي للدولة في العالم العربي والمسارات التاريخية الفعلية التي اتخذتها في محاولة الاجابة على السؤال عن الاسباب الفعلية التي احبطت أية محاولة لنشوء المجتمع المدني، بابعاده المعروفة عالميا، في هذه البلدان، وفك الاشتباك بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. كما يعرض المبحث السمات الاساسية والخصائص المشتركة للمجتمع المدني في البلدان العربية.
أما المبحث السابع والاخير فيظهر تحت عنوان: دور منظمات المجتمع المدنى فى التحول نحو الديمقراطية، ويكرس للحديث عن دور هذه المنظمات في ظروف العراق الملموسة، أي لحظة تحوله نحو الديمقراطية في ظل عملية سياسية بالغة التعقيد.
فكما معروف، يمر العراق حاليا حاليًا بعمليتين مترابطتين، ونعني بهما: بناء المجتمع المدنى والتحول نحو الديمقراطية على الرغم من المخاطر والتحديات التي تواجه هاتين العمليتين. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففي الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدنى التى تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة فى الحكم.
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدنى ومؤسساته فى تعزيز التطور الديمقراطى وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدنى وما تقوم به منظماته من دور ووظائف فى المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع، وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملى على الممارسة الديمقراطية. ولكن هذه العملية لا تتم بسهوله ويسر، بل تعترضها العديد من المعوقات، التي يعرض هذا المبحث أهمها.
وينتهي العمل بخاتمة هي محاولة تركيب للاشكاليات التي تمت معالجتها عبر مختلف المباحث. ومن بين العديد من الاشكاليات الكبرى التي تستحق التاكيد، استنادا الى تجارب التاريخ الكثيرة، على ضرورة فك الاشتباك بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وتحرير هذا الاخير من هيمنة الدولة. ومن المؤكد أن تحقيق ذلك سيساهم في وضع مشروع دمقرطة المجتمع موضع التطبيق، وبالتالي المساهمة في بناء عراق ديمقراطي موحد، تلعب فيه مؤسسات المجتمع المدني، على تنوعها، دورا مهما وبناءً.
المبحث الاول
مفهوم المجتمع المدني : محاولة تعريف
بداية، يتعين الاشارة الى أنه ليس هناك مفهوم ثابت وجامد وناجز وقابل للاستخدام في كل زمان ومكان، حتى تلك المفاهيم التي تبدو لنا كذلك. فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، كما هو مرتبط بالاشكاليات النظرية التي رافقت هذه المشكلات أي بنوعية المناظرة الفكرية التي دارت حول المشاكل المطروحة والطريقة التي حاول بها المثقفون مواجهها. فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا. ثم إن المفاهيم لا تولد في النظرية فقط وعبر التفكير أي لا يستل واحدها من الآخر بصورة منطقية ورياضية، ولكن ظهورها وتطورها يرتبطان بالصراع الاجتماعي، أي بنوع من الاستخدام الاستراتيجي. ويبدو أنه ليس هناك من مفهوم تنطبق عليه هذه العوامل الثلاث التي تجعل منه مفهوما ديناميكيا جدا ومتحولا وملتبسا في الوقت نفسه أكثر من مفهوم المجتمع المدني.
يتعين علينا، إذن، ونحن نسعى لضبط اشكالياتنا، أن نقوم نضبط المفهوم أولاً. وينطرح هنا سؤال : ماهو المجتمع المدني ؟
في البدء يمكن القول أننا حيث نتحدث عن ” المجتمع المدني ” يتبادر الى الذهن ذلك المجتمع غير الخاضع للمؤسسة الدينية، أي مجتمع علماني، ومن جهة ثانية مجتمع غير خاضع للسلطة العسكرية (المجتمع العسكري)، وثالثا مجتمع مستقل عن المؤسسة السياسية وعن أجهزة الدولة الدائمة.
ونستطيع، إذن، أن نستنتج من الاطروحة اعلاه، وهي اطروحة خام، لا يمكن الارتكان اليها كتعريف جامع، بأن عبارة ” المجتمع المدني ” تعني ذلك المجتمع الذي ينشأ كيانه الذاتي ويحافظ على قوانينه ويصوغ مبادئ تنظيمه واشتغاله، ويقيم قانونه أو عقده الاجتماعي الخاص به والمميز له. إن هذا التصور، المتطابق مع مواقف طليعي القرن الثامن عشر، يتفق وأفكار معينة من قبيل التحضر والاحترام وكذا فكرة القانون المدني. وبحسب هذا الافق المعرفي فإن المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.
ينبه التداول الواسع لمفهوم المجتمع المدني في الخطاب المعاصر، وخصوصا في الخطاب الثقافي العربي، الى ضرورة العمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل المفهوم عبر«اعادة صياغة المفهوم وتحديد مدلولاته النظرية والعملية، مما يستدعي رصد مكوناته المعرفية، والعودة الى الفضاء الزماني الذي شهد ولادته، ورسم الملامح العامة للتطورات والتمايزات التي طرأت عليه في سياق صعود اوروبا البرجوازية الصناعية باقتصادها وفلسفتها والحركات والثورات الاجتماعية التي ساهمت في تكريس قطعية متعددة الوجوه مع عالم العصور الوسطى….. التقاط الجوهري والدال في مسيرة تمتد ثلاثة قرون…. حيث تكون المفهوم في اطار الفلسفة الليبرالية ومفرداتها: الميثاق او العقد الاجتماعي، مقابل نظرية الحق الالهي للملوك ـ التعددية السياسية مقابل الحكم المطلق ـ الحريات العامة في الحياة والملكية والعمل والرأي والمعتقد، مقابل حرية الأقلية الارستقراطية…. حق المواطنة تجاوزاً للانتماء الضيق: ديني، مذهبي، اثني، عرقي السيادة للشعب فصل السلطات.. الخ» .
قبل التعرف على مفهوم المجتمع المدني في اطار تاريخيته والتحولات التي شهدها فلسفيا وسياسيا كما تجلى وتم تداوله في الخطاب المعاصر، لابد من الانطلاق من تعريف اجرائي يهدف الى توضيح وضبط الاسس التي يقوم عليها، خصوصا وإن شيوع استخدامه قد زاد تشوشه واضطرابه وحجب ضرورات التفكير في تأصيله النظري، وغيّب الى حد كبير امكانية تناوله النقدي.
جج
وهناك من يعرّف المجتمع المدني على نحو اجرائي بأنه جملة ” المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لأغرض متعددة منها :
أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الاحزاب السياسية، ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح اعضائها، ومنها اغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف الى نشر الوعي وفقا لاتجاهات اعضاء كل جمعية، ومنها اغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي، يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الاحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية ” .
وإذا حللنا التعريف السابق الى مكوناته أمكننا أن نستنتج بأن جوهر المجتمع المدني، بحسب وجهة النظر هذه، ينطوي على أربعة عناصر رئيسية :
– العنصر الاول يتمثل بفكرة ” الطوعية “، أو على الاصح المشاركة الطوعية التي تميز تكوينات وبنى المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة تحت أي اعتبار؛
– أما العنصر الثاني فيشير الى فكرة ” المؤسسية ” التي تطال مجمل الحياة الحضارية تقريبا، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل ما يميز مجتمعاتنا الحضور الطاغي للمؤسسات، وغياب المؤسساتية بوصفها علاقات تعاقدية حرة في ظل القانون؛
– في حين يتعلق العنصر الثالث بـ ” الغاية ” و ” الدور ” الذي تقوم به هذه التنظيمات، والاهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة وهيمنة الدولة، من حيث هي تنظيمات اجتماعية تعمل في سياق وروابط تشير الى علاقات التضامن والتماسك أو الصراع والتنافس الاجتماعيين؛
– وأخر هذه العناصر يكمن في ضرورة النظر الى مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزأً من منظومة مفاهيمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل ” الفردية، المواطنة، حقوق الانسان، المشاركة السياسية، الشرعية الدستورية …. الخ .
أما عبد الغفار شكر فيعرف المجتمع المدني بأنه ” مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة عن الدولة …….، أي بين مؤسسات القرابة (الاسرة والقبيلة والعشيرة) ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختبار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية تنشأ لتحقيق مصالح اعضائها كالجمعيات الاهلية والحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية، كما تنشأ لتقديم مساعدات أو خدمات إجتماعية للمواطنيين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وهي تلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والادارة السلمية للتنوع والاختلاف ” .
دور المجتمع المدني ووظائفه
يستنتج من التعريف السابق أن جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من افقارهم، وما تقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، وجذبهم الى ساحة الفعل التاريخي، والمساهمة الفعالة في تحقيق التحولات الكبرى حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.
وارتباطا بهذا الدور يبلور الباحث خمس وظائف تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني هي :
1. وظيفة تجميع المصالح،
2. وظيفة حسم وحل الصراعات،
3. زيادة الثروة وتحسين الاوضاع،
4. افراز القيادات الجديدة،
5. إشاعة ثقافة ديمقراطية.
مكونات المجتمع المدني
أما مكونات المجتمع المدني بالنسبة للسيد شكر فهي أي كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة التطوعية في قطاعات عامة أو مهنية أو اجتماعية ولا تستند فيه العضوية على عوامل الوراثة وروابط الدم والولاءات الاولية مثل الاسرة أو العشيرة والطائفية والقبيلة، وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني، حسب هذا الكاتب، هي :
النقابات المهنية، النقابات العمالية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية الزراعية والحرفية والاستهلاكية والاسكانية، الجمعيات الاهلية، نوادي هيئات التدريس بالجامعات، النوادي الرياضية والاجتماعية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الاعمال، المنظمات غير الحكومية المسجلة كشركات مدينة مثل مركز حقوق الانسان والمنظمات الدفاعية الاخرى للمرأة والبيئة …. الخ، الصحافة المستقلة وأجهزة الاعلام والنشر غير الحكومية، مراكز الابحاث والدراسات والجمعيات الثقافية.
في ضوء ما سبق يمكن تصور النموذج الاساسي لمجتمع مدني متطور كالتالي :
1. إن المجتمع المدني يضم مجموعة مؤسسات (وليس مجرد منظمات) تستطيع أن تلعب دور الفاعل في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، وكلما تطور دورها في عملية التغيير، وكلما اتسمت بمرونة اكبر في استجابتها للبنية الاجتماعية.
2. إن المجتمع المدني المتطور القائم على فعل الطوعية والمبادرة والنزوع للعمل الطوعي – في إطار مشاركة منظمة – هو ركن أساسي في ثقافة بناء المؤسسات.
3. إن مؤسسات مجتمع مدني متطور تعني أن يتوافر لها وعي ورؤية، أو ما يمكن أن نطلق عليه موقف نقدي فهي تمتلك تصورا واضحا لخريطة المجتمع ومصادر القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر الضعف، وهي مؤسسات لديها تصور واضح للتغيير الاجتماعي، وتتبنى مواقف الدفاع والمناصرة لمساندة فئات أو قطاعات أو جماعات، سواء على مستوى الحقوق المدنية أو الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
4. انها مؤسسات لا تتبنى فقط ما يعرف ” بالدور الالحاقي ” أي معالجة المشكلات بعد حدوثها وإنما تتجاوزه الى ” دور توازني “يسعى الى تحقيق توازن المجتمع والاسهام في عملية التحول الاجتماعي.
5. أن يأخذ بالنظرة الكلية، بمعنى أن مشكلات المجتمع المحلي والمشكلات الوطنية تقع في كل مترابط مع المشكلات الاقليمية والدولية، ومؤسسات المجتمع المدني لها دور في كل من هذه المستويات.
تسمح التعاريف السابقة بالتأكيد على أن هناك ثلاثة مصطلحات تشكل اركان مثلث فكري لا يمكن فصلها عن بعضها عن بعض لأي مجتمع ينشد التطور الحضاري في زماننا وهي : المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية.
فالمجتمع المدني هو مجتمع المؤسسات الاهلية المرادفة للمؤسسات الرسمية، وتشمل الميادين السياسية والمهنية والثقافية والاجتماعية.
وحقوق الانسان هي : الحقوق الاساسية للانسان في التمتع بالعيش الكريم وضمان حريته وصيانة كرامته وتوفر العدالة في حصوله على حقوقه، وإن توفر هذه الحقوق من سمات المجتمعات المحضرة.
أما الديمقراطية فهي : المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وقبول التعددية.
المبحث الثاني
حول المجتمع المدني – تاريخية المفهوم والاشكاليات العامة
منعا لأي التباس يمكن القول أن مشروع ” المجتمع المدني ” وليس المفهوم ذاته قادم الينا من فترات تاريخية سابقة مرتبطة بنشوء وتطور الرأسمالية، وما ارتبط بها من صراعات فكرية. ونعثر على ذلك المشروع عند سانت سيمون، وفي بيانات الثورة الفرنسية، في كتابات الموسوعيين (الانسكلوبيدين) التي تمحورت حول المعرفة واستخداماتها التقنية وحول نقد الدين المسيحي والكنيسة. كما نعثر على هذا المشروع في اشكالية العقد الاجتماعي الذي صاغه جان جاك روسو.
انطلاقا من ذلك، نستطيع القول أن التعريف (المجتمع المدني) خضع منذ ظهوره الى الحدود التاريخية لوعي المفكرين والى الشكل الذي رأوا من خلاله علاقة السلطة السياسية بالأفراد. يكفي على سبيل المقارنة رؤية (هوبز) للمجتمع المدني كمخلوق اصطناعي للدولة (القرن 17) برؤية (لوك) له في القرن 18 باعتباره يشمل دائرة الملكية وعلاقات التجارة والتبادل على الضد من الدولة والمجتمع السياسي التي تضمن حماية المصالح الجماعية.
وفي محاولة لتقريب الموضوع من الأذهان يمكن تحقيب سيرورة التطور التي شهدها مفهوم المجتمع المدني واستخداماته منذ نشوئه حتى اليوم، فقد مرّ هذا المفهوم بعدة مراحل من أجل بلورته وصياغته بشكل أدق واكثر وضوحاً. ويمكن تعقب تطور هذا المفهوم عبر المراحل التالية :
المرحلة الاولى (القرنين السابع عشر والثامن عشر) وفيها يظهر مفهوم المجتمع المدني كنقيض لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو بالنسبة للبعض المجتمع الحيواني أو المجتمع الأبوي أو المجتمع التقليدي أو مجتمع الحرية الأولى. ونستطيع، إذن، أن نستنتج من الاطروحة اعلاه، وهي اطروحة خام، لا يمكن الارتكان اليها كتعريف جامع، بأن عبارة ” المجتمع المدني ” تعني ذلك المجتمع الذي ينشأ كيانه الذاتي ويحافظ على قوانينه ويصوغ مبادئ تنظيمه واشتغاله، ويقيم قانونه أو عقده الاجتماعي الخاص به والمميز له .
لقد تم ارساء الأسس والمكونات المعرفية والنظرية للمجتمع المدني في عصر النهضة الأوروبية وفلسفة الأنوار. ذلك أن تاريخ مفهوم المجتمع المدني يعود إلى تطور الفكر السياسي الليبرالي على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، المرتبط بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، والذي بلور النظرية السياسية الليبراليه الكلاسيكية الغربية، منذ بداية انهيار “النظام القديم”، أي عهد انهيار الحكم المطلق وسلطان البابا الديني والدنيوي المتحكم في ملوك أوروبا باسم سلطة الكنيسة المسيحية، وبداية الهجوم الكاسح عبر الثورات على حكم الملوك، الذين يحكمون بمقتضى الحق الإلهي، الذي يبيح لهم بأن لا يحاسبوا عن سياستهم إلا أمام الله، وإلى بداية سلطان القانون الطبيعي، الذي يقر بحرية الفرد الإنسان باسم العقل والمنطق. فإلى سيادة الشعب، والسيادة القومية، وحقوق الإنسان، التي فجرتها الثورة البرجوازية الانكليزية، وتدعمت بشكل جذري قوى مع اندلاع الثورة البرجوازية الفرنسية، التي أصبحت منذ ذلك ثورة عالمية بالمعنى التاريخي والإنساني، تفصل بين العالم القديم والعالم الحديث والعصري، ودشنت عهداً جديداً في تاريخ الإنسانية جمعاء، بحكم ما أعلنته من حريات ومساواة قانونية وسياسية للإنسان الفرد .
وقد نشأ استخدام هذا المفهوم في هذه المرحلة ضمن سياق تحلل النمط التقليدي للمجتمع الاقطاعي أو الدولة ما بعد الاقطاعية القائمة على البديهة الدينية أو العرفية ونمو الشعور بأن السياسة صناعة أي نشاطا عقليا وتابعا لعمل الانسان والمجتمع، ومن خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة. وكانت الحاجة ضرورية لمفهوم جديد يعكس النزوع المتزايد لاكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنية، أي السياسة التي تعبر عن حقيقة الانسان وخصوصيته مقابل ما كان سائدا في الحقبة الوسيطة من انعدام السياسة كمجال عام ومشترك ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالإرث الارستقراطي أو بالاثنين معا. فبنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسية من الوجهة السياسية، رجال الدين والكنيسة، طبقة النبلاء أو ملاكين الأرض والإقطاعيين، ثم عامة الشعب. ولم يكن لعامة الشعب أي اعتبار في أي موضوع يخص ما نسميه اليوم موضوعات سياسية.
إن هذا التصور، المتطابق مع مواقف طليعي القرن الثامن عشر، يتفق وأفكار معينة من قبيل التحضر والاحترام وكذا فكرة القانون المدني. وبحسب هذا الافق المعرفي فإن المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.
لقد كانت المشكلة الرئيسية المطروحة على مثقفي القرن السابع عشر والثامن عشر الذين رافقوا تحلل هذا النظام الاجتماعي التقليدي وتطور البرجوازية كطبقة جديدة تطمح إلى إعادة بنائه من منظورات مختلفة تلغي المراتبية الجامدة وتفتح المجال أمام هيمنة سياسية حديثة، هي إعادة بناء السياسة على أسس غير دينية وغير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي ولا بإرث عائلي، ولكن بالمجتمع نفسه، تنبع منه وتصب فيه. ومن هذه النقطة سوف ننتقل تدريجيا من نظرية لا سلطة ممكنة إلا إلهية أو ملكية وراثية، إلى النظرية المناقضة تماما وهي لا سلطة شرعية إلا تلك التي تعبر عن السيادة الشعبية والإرادة الجمعية. وهذا هو أصل الانتقال نحو الحداثة السياسية.
ومن الواضح أن مفهوم المجتمع المدني خلال هذه المرحلة لا يعني هنا شيئا آخر سوى مفهوم الرابطة الاجتماعية العادية كأساس للاجتماع مقابل الرابطة الدينية أو الارستقراطية التي يمكن ربطها بالعرف والتقليد واعتبارها طبيعية. ولذلك سيرتبط مفهوم المجتمع المدني منذ ذلك الوقت بمفهوم القانون والعقد الاجتماعي كتعبير عن هذا القانون المختلف عن العرف، وبالسيادة الشعبية. إنه يجسد مفهوم السياسة الحديثة بوصفها سياسة نابعة من المجتمع البشري كما هو، وليست مسقطة عليه من قبل عالم آخر. ولذلك فإن كلمتي دولة ومجتمع مدني تتطابقان تماما هنا ولا وجود لأي فصل بينهما.
ويمكن تلخيص هذه الاشكالية بجملة واحدة : السياسة الحديثة هي سياسة مدنية. ومن هذه السياسة المدنية سوف تتطور جميع المفاهيم الحديثة الأخرى مثل المواطنية والديمقراطية ودولة القانون. وهنا تصب اسهامات الكتاب الكلاسيكيين الكبار للقرنين المذكورين مثل هوبز، لوك، توكفيل، مونتسكيو، روسو وسبينوزا. وأفضل تجسيد لهذا الاستخدام الخاص للمفهوم الذي يشير أكثر من أي شيء آخر إلى السياسة الجديدة وليس إلى تناقض بين المجتمع المدني والدولة كما نستخدمه اليوم هو كتاب جون لوك الشهير ” رسالة في الحكم المدني”. ويمكن أن نترجمها اليوم برسالة في ماهية السياسة الحديثة في تعارضها مع الحكم الذي يعتمد مصادر دينية أو عرفية ارستقراطية.
أما المرحلة الثانية لاستخدام مفهوم المجتمع المدني فتشمل القرن التاسع عشر بشكل خاص. الجديد هنا هو أن البرجوازية كانت قد حققت ثورتها ونقلت السياسة فعلا من ميدان الديني والعرفي إلى ميدان الاجتماعي، أي جعلتها حقيقية إنسانية تعاقدية. ولم تعد المشكلة المطروحة هي تحرير السياسة عن الدين والعرف الارستقراطي ولكن إعادة بناء مفهوم السياسة الحديثة ذاته والتمييز فيه بين مستوياته المختلفة. فالسياسة الحديثة التي ألغت المراتب الطبقية التقليدية جعلت من الشعب كلية واحدة أي افترضت وحدته في الوقت الذي هو كثرة وأفراد عديديون. والثورة الصناعية التي نقلت المجتمع من نمط العلاقات الحرفية والاقطاعية حيث كانت العلاقات السائدة التي تربط بين الأفراد علاقات عائلية، داخل المشغل الحرفي، أو أبوية داخل الاقطاعة بين سيد وأتباعه، طرحت أيضا مسائل جديدة على المجتمع من حيث هو عدد كبير من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض ويعتمدون بعضهم على بعض، وهو معنى المجتمع المدني بالضبط. فقد أدت تصفية الحرفة ونشوء الاقتصاد السلعي وتحلل الملكيات الاقطاعية وتراجع الارستقراطية إلى انخلاع الأفراد عن رحم علاقاتهم القديمة، مما طرح بقوة مشكلة إعادة بناء هذه العلاقات، أي إعادة بناء المجتمع المدني وفهم حقيقته الجديدة في مواجهة وبموازاة الدولة الحديثة معا. وعلى هذه المشاكل والاشكاليات النظرية سوف يرد فلاسفة القرن التاسع عشر الكبار، وفي مقدمهم هيجل وماركس الذين سيسيطرون عمليا على فكر القرن التالي السياسي.
رؤية هيغل للمجتمع المدني. وسيط بين العائلة والدولة
في هذه الفترة شهد مفهوم ” المجتمع المدني ” تبلوره في المحاولة التي قام بها الفيلسوف الالماني هيغل، الذي يرى فيه مجتمعا يوحد ويضم عناصر متنوعة ومتعارضة : العائلة، المهن، الطبقات الاجتماعية…… الخ. إن المجتمع المدني، حسب هيغل، هو الوسيط بين العائلة والدولة. انه نظام الحاجات أو مكان التبادل والانتاج الخاص الذي لا يمكن أن يولد أو يتطور الا في، وبواسطة الدولة المجسدة للمصلحة العامة، حسب تعبيره. ومن هنا كانت العلاقة بين الاثنين علاقة تكامل وتعارض في الوقت ذاته.
وبقدر تعلق الامر بهيغل لابد من الاشارة هنا الى أمرين أساسيين في فهمه للمجتمع المدني :
يماثل هيغل بين مدني وبرجوازي وهو يستعرض المفهوم على محورين :
الاول تاريخي (عمودي) عبر الانتقال من الاسلوب الاقطاعي للملكية الخاصة وعلاقاتها، الى الاسلوب الرأسمالي للملكية الخاصة، حيث يشير الى الانتقال من الجماعة الطبيعية (العائلة والاسرة) الى الجماعة السياسية (الاقتصادية الاجتماعية وتنظيمها في الدولة الحديثة). يرافق هذا التحول تحول في الدساتير والقوانين فيظهر القانون المدني (البرجوازي) لحماية هذا الحق، حق الملكية الخاصة للافراد.
المحور الثاني في تناول هيغل للمجتمع المدني هو المحور البنيوي (الافقي)، أي دراسة المجتمع المدني من حيث هو المسافة الاجتماعية – الاقتصادية بين الفرد والدولة، التي هي سلطة سياسية ولحظة اكراه. وعلى هذا فالمجتمع المدني عند هيغل يشتمل على علاقات الانتاج الاجتماعية-الاقتصادية والنقابات الحرفية والمنظمات الدينية والاهلية والنقابات العمالية والاحزاب السياسية، ويشمل الاجهزة الايديولوجية والتربوية للدولة الحديثة (المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية الاخرى) باستثناء القضاء والبرلمان والحكومة التي تشكل كأجهزة إكراه بأشكال مختلفة اللحظات الثلاث للسلطة السياسية من حيث هي سلطة.
وارتباطا بما جاء اعلاه فإنه بالنسبة لهيغل ليس المجتمع المدني – باعتباره مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تنظم علاقات الناس الأفراد فيما بينهم وتضمن تعاونهم واعتمادهم بعضهم على البعض الآخر – سوى لحظة في صيرورة أكبر تجد تجسيدها في الدولة ذاتها، وهي في الواقع الدولة القومية. فالمجتمع المدني، بوصفه كما ذكرنا سابقا مجموع هذه الروابط، يمثل تقدما نوعيا بالمقارنة مع الطبيعة الخام، لكنه لا يجد مضمونه الحقيقي إلا في الدولة التي تجسد ما هو مطلق، أي الحرية والقانون والغاية التاريخية في أجلى تجلياتها. فالمجتمع يظل على مستوى المجتمع المدني مجتمع المصالح الفردية والمشاريع الخصوصية، أي مجتمع الانقسام والتملك الفردي والصراع، ولا يجد خلاصه إلا في الدولة. ومن هذه النزعة الهيجلية إلى رفع الدولة إلى مستوى الحل والمفتاح معا للمجتمع سوف تتغذى الحركات والفلسفات القومية التي تضع الدولة فوق المجتمع والتي قادت إلى إضفاء صفة سلبية على مفهوم المجتمع المدني أيضا لصالح تقديس متزايد لمفهوم الدولة كما سوف نرى.
يمكن تلخيص اطروحات هيغل حول المجتمع المدني على النحو التالي: – يعتبر هيغل الأسرة، والمجتمع المدني، ميداني فهم للدولة، وميداني نهائيتها. أولاً، الأسرة، باعتبارها كلاً جوهرياً، هي التي يتعلق بها قبل أي شيء، التبصر من أجل الفرد في هذا الوجه الخاص، سواء من وجهة نظر الوسائل والقابليات الضرورية، لينال نصيبه من الثروة الجماعية، أم من جهة نظر معاشه ونفقته، في حال حدوث العجز . وتمثل الأسرة الكلي. أما المجتمع المدني، فهو يقطع هذه الرابطة ويبعد أعضاء الأسرة بعضهم عن بعض ويعترف بهم بوصفهم أشخاصاً مستقلين (…) وعلى هذا النحو، يصبح الفرد في المجتمع المدني، الذي بإمكانه أن يطالب به، بيد أن الفرد تكون له أيضاً حقوق عليه” . – يمثل المجتمع المدني لحظة الجزئية. أما الدولة فهي ضرورة خارجية وقوة أسمى، من جهة مقابل دوائر الحس الخاص والمصلحة الخاصة للأسرة والمجتمع المدني، فبطبيعتها تلحق قوانينها ومصالحهما التي تتعلق بها. ولكنها من جهة أخرى، غايتهما المتضمنة فيهما وقوتها في وحدة غايتها النهائية الكلية ومصالح الأفراد الخاصة، وهي وحدة تعبر عن نفسها في حقيقة أن لهؤلاء، الأفراد واجبات حيالها، ضمن الحد الذي لهم فيه حقوق في الوقت ذاته” .
والخلاصة التي يمكن التوصل اليها من خلال العرض المكثف السابق هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن الشروط التاريخية التي تشكل فيها، يقوم على ما يلي: أولاً: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على انفصال واستقلال الإنسان الديني، عن مواطن الدولة المدنية، باعتبار هذا التمييز، أو هذا الاستقلال هو البذرة العقلية للتحرر السياسي بالذات. ولكن علينا أن نؤكد أن تحرر الدولة السياسي من الدين، لا يعني بأي حال تحرر الإنسان الفعلي من الدين، فالدولة تستطيع أن تتحرر تماماً من الدين، حتى حين لا تزال أغلبية الشعب أو الأمة متدينة، علماً أن بقاء هذه الأغلبية دينية لا يعدو أن يكون بقاءا دينياً خاصاً. إن عملية الانتقال هذه، هي التي كانت أساس ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.ثانيا : ينجم عن الملاحظة السابقة أن التحرر السياسي، قلما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد. ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها إلا في درجة جذرية من انفصال السياق الديني عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز به الدرجة المعنية من تطور الروح البشري للإنسان، حيث أن التحرر السياسي، هو التعبير عنها، لكي تبني نفهسا به في شكل دنيوي. وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، وفي ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث أن كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً، متعصباً لدينه وأصولياً أم غير ذلك، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً إنسانياً نوعياً سائداً.
ثالثاً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، “ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في انتفاع بملكه والتصرف به على هواه (a som gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية” . رابعا: إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط، كما يروج له بعض الكتاب. ومع أن هذا المجتمع المدني قد اكتمل تطورهفي المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا الغربية، وباحتوائه كل الحياة التجارية والصناعية، في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة والنقابية، في الحياة السياسية، وبتخطيه جدلياً حدود الدولة القومية والأمة، ليعتنق رحاب العالمية، إلا أن الايديولوجية البرجوازية الليبرالية تحاول تقزيمه بإبرازه خارجياً في صورة القومية، وداخلياً في صورة الدولة. خامساً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية. سادساً: وعندما نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي.
ماركس والتخطي الجدلي للتناقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية
في البدء لابد من الإشار الى أنه ليس ثمة نظرية تبدو للوهلة الأولى أنها على تناقض جذري صارم مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن المبادىء الأساسية المتعلقة بامكانية خلق مجتمع مدني متجانس قائم على أسس واقعية للديمقراطية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الانسان، والالتحام بين الحرية والمساواة، هي مبادىء مشتركة بين الاثنتين .
ومع أن الليبرالية والماركسية تتناقضان بشكل حاد بخصوص الغايات والأساليب، والدور التاريخي الذي قدّر للبروليتاريا أن تلعبه، إلا أن على حدودهما كان يتم تداخل الواحدة منها بالأخرى، باعتبار أن الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري، مستفيدة، ومنقذة، ومحافظة في الوقت عينه، في سيرورة تطويرها للنواة العقلانية الحقة لجدل هيغل، ومنتقدة إياه من مواقع نظرية نوعية. فإذا كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، قد شكلت المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية، فإنه والحق يقال تمثل النظرية الماركسية الوريث الشرعي للمنجزات الجدلية المثالية، من القرن السادس عشر إلى منجزات هيغل الجدلية، التي طرحت مسألة تطابق الجدل من المنطلق ونظرية المعرفة، والتي كانت في الوقت عينه، نقطة انطلاق لأسس الماركسية، والتجاوز الجدلي الخلاق والمبدع للنظرية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية عامة.
يستخدم ماركس مصطلح المجتمع المدني بطريقتين، الاولى وردت في ” المسألة اليهودية” حيث المجتمع المدني، هنا، كحياة مادية خاصة مقابلة للحياة العامة والمجردة للدولة الحديثة، حيث يتم التحديد، هنا، بالتقابل (التعريف بالنقيض)، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البرجوازي. أما في ” الايديولوجيا الالمانية ” فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الانتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق) والعلاقات الاجتماعية، أي علاقات الملكية الخاصة.
وفي المؤلفات اللاحقة وخاصة في ” رأس المال “، يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية – الاقتصادية كمسرح للتاريخ. أي على اعتبار أن التاريخ اساسا هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل جديد. هذا التخلي عن المفهوم جاء على أرضية الارهاصات الثورية لمنتصف القرن التاسع عشر (ثورات 1848 الديمقراطية)، وعلى أساس التحضير النظري لقلب السلطة البرجوازية وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب – مجتمعها المدني.
وكما معلوم فإن الماركسية درست، وحللّت، واستخلصت الدروس، التي قدمتها الثورات البرجوازية الأوروبية في الماضي، فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني وعلاقته ببناء الديمقراطية، وبخاصة الثورة الانكليزية خلال أعوام 1640- 1649، والثورة الفرنسية الكبرى خلال أعوام 1789- 1794، وربيع ثورات 1848، التي اجتاحت أوروبا، وهدّمت عروش الملكية المطلقة، وقضت على الاقطاعية، ونجحت في مرحلة صعودها في إحداث تطورات تاريخية عظيمة لا تتزعزع في مجال بناء مجتمع مدني منعتق سياسياً، يسود فيه مبدأ الحق البرجوازي، حيث تشكل الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة، الضمانة الحقيقية لنظام الدولة السياسية البرجوازي.
ترتبط مفاهيم ” المجتمع المدني ” و ” الديمقراطية ” بسياق محدد وهو الذي يسمح ببروز مفهوم ” المواطن ” أو ” الفرد “. هذا السياق هو الذي ” يختزل الانسان الى عضو في المجتمع البرجوازي ” والى الفرد الاناني المستقل من جهة، والمواطن، الشخص المعنوي من جهة اخرى، على حد تعبير ماركس. وليس هذا السياق التاريخي غير العصر الذي يصبح فيه الفرد متساويا من الناحية الحقوقية على الاقل) مع كل فرد وأخر، فينزل الى حلبة الحياة مجردا من انتمائه الى العشيرة أو الطائفة، أو الملة.
ولاحقا، مع التطورات الحاصلة في التشكيل الاجتماعي الرأسمالي والتطورات الحاصلة في العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني وكذا تطور الممارسة الديمقراطية وبروز ظواهر جديدة تستهدف معالجات جديدة، أعاد المفكر الايطالي المعروف غرامشي اكتشاف وبلورة هذا المفهوم واستخدامه ومنحه مضامين جديدة.
إن مفهوم المجتمع المدني عند ماركس ينطلق من السياسة كتجريد، حيث يمثل ” نقد فلسفة الحق لهيغل 1843 “، و ” المسألة اليهودية “، النقد الأكثر جذرية، التي كان موضوعه الحق والدولة الدستورية التمثيلية الحديثتين، وذلك باسم الديمقراطية الجذرية. لقد بقيّ هذا النقد أدنى بكثير من الناحية النظرية من نقد الرأسمال، ولكنه شكل مرحلة انتقالية، المحرك لايصال نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي، أي إلى نقد رأس المال، باعتباره يدخل في سياق عميق التحليل النظري لنمط الانتاج الرأسمالي، وللعلاقات الانتاجية الرأسمالية الجديدة. كتب ماركس في مقدمة كتاب: ” مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي “، يقول”… وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمى هيغل، مجموعها “بالمجتمع المدني” على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني” .
ويظهر أول نقد علمي للاقتصاد السياسي، الدولة السياسية البرجوازية، كامتداد، تعبر عن علاقات الانتاج الرأسمالية، التي تتمفصل عليها، وإن استقلاليتها مرتبطة، بتبعيتها لبنية التبادل من أجل الانتاج، أي بتشكل المجتمع المدني في طبقات متناقضة.وهكذا، فالمجتمع المدني، يختزله ماركس إلى مواجهة ذريه للمصالح الخاصة واعتباره مجتمع غير سياسي، تحدده تناقضات المصالح فيه، الدولة السياسية البحتة و”شكلياتها وبيروقراطيتها كتوسط مجرد وعاجز لمصالحه”.
ومن الطبيعي التأكيد على أنه لا يمكننا أن نفهم هذا الموقف السلبي من الدولة، ووضع ” المجتمع المدني ” مقابلاً لها إلا إذا نزّلنا المفهوم الماركسي في الظرفية التاريخية للنضال الفكري السياسي، والاقتصادي الاجتماعي الذي عرفه النصف الثاني من القرن التاسع عشر….. وهكذا يمكن القول : إن المفهوم قد اكتسب في الرؤية الماركسية معنى مادي نأى به عن المفهوم المعرفي البحت، ومعنى ثوريا ليتحول في العمل اليومي الى سل