بعض اشكاليات المجتمع المدني والمجتمع السياسي والديمقراطية – د. صالح ياسر- (3)
اختياراتهم أو طموحاتهم بل على مجرد إعادة إنتاج هذه الوظائف التي تسمح بإعادة إنتاج السيطرة دون ” عوائق “. ونظراً لأن التوزيع الرئيسي يندرج تحت إعادة الإنتاج الرئيسية للمراكز التي تحتلها الطبقات الإجتماعية خلال مختلف مراحل تطور التشكيل الإجتماعي المحدد، فإن التوزيع الرئيسي هذا يعني لجهاز ما أو سلسلة أجهزة، الدور الخاص المنوط بها والذي ينبغي أن تلعبه في توزيع الوسطاء.
يتم الاستيلاء على سلطة الدولة ضمن حقل مكون من نوعين ثابتين من العلاقات. فالدولة بالرغم من مظاهر الأشياء، تمثل مجتمعاً طبقياً، وخصوصاً الطبقة السائدة، كما أن الدولة تتوسط في العلاقات الإجتماعية ما بين ” الحاكم والمحكوم “. تعني إعادة إنتاج سلطة الدولة لطبقة ما ( أو جزء منها أو تحالفاً معيناً )، إعادة إنتاج تمثيلها في قيادة الدولة والتوسط لفرض غلبتها على بقية الطبقات.
تتحكم مشكلات التمثيل والتوسط فيما يسمى بالاستقلال النسبي للدولة. إن معنى عبارة ( الاستقلال النسبي للدولة) هو أن سياستها تمثل محصلة الممارسة السياسية العملية، والتي يتعين عليها وباستمرار أن توفق بين مصالح جماعات مختلفة، والتي تكون شديدة التأثر بتاريخ طويل لمثل هذه التسويات والإيديولوجيات التي تقف ورائها، ولذلك فإن سياسة الدولة ليست بالضرورة عقلانية بأي معنى من المعاني البسيطة. غير أن أهمية الاستقلال النسبي للدولة يتجلى بوضوح شديد في حقبات تاريخية تصبح فيها التناقضات بين الطبقات الإجتماعية شديدة الى حد كبير ولا يسمح ميزان القوى القائم في اللحظة التاريخية لأي من الطبقات أن تفرض سلطتها بصورة مستدينة، مما يستدعي مجيء ” بيروقراطية الدولة ” وارتقائها فوق الطبقات، ناصبة نفسها قوة مستقلة وتقيم سلطتها الخاصة غير الخاضعة للرقابة. ويعبر النموذج البونابرتي عن هذه الأطروحة بأعمق الوضوح.
إن الاستقلال النسبي لنموذج الدولة البونابرتية حيال الطبقات أو الفئات المسيطرة يتمتع بأهمية خاصة ومتميزة لكونه حصيلة الأزمة السياسية وتوازن القوى، الذي ينتمي هذا الاستقلال اليهما معاً. وهو على أية حال استقلال نسبي ” ضروري ” لهذه الدولة من أجل إعادة تنظيم توازنات الكتل الموجودة في السلطة، ومن أجل إعادة تنظيم الهيمنة، وذلك ضمن إطار الأزمة السياسية، التي غالباً ما تبرز فيها ” الفئات الوسطى ” كقوى اجتماعية تتميز بثقل سياسي مؤثر وفعال.
لقد أدى توطد البيروقراطية والانفصال الظاهري للسياسة عن الإقتصاد الى سيادة الوهم القائل بتجرد الدولة ورئيسها وإدارتها عن الصراعات. غير أنه من المهم التذكير بأنه ليس لهذا الاستقلال وهذه ” الذاتية ” صفة الشمولية والثبات. فقد فوضّت الطبقة المسيطرة السلطة السياسية لبونابرت مؤقتاً غير أنها بقيت المهيمنة. يعني ذلك أن الطبقة المسيطرة سخرت الديكتاتورية البونابرتية لحل عقدة ” التوازن ” بينها وبين خصومها لصالحها. وعندما تم إنجاز هذه المهمة بنجاح، تم وبطريقة ” مهذبة ” إزاحة الدكتاتور وترحيله الى حيث مصيره المحتوم .
ومن جهة اخرى يشير بعض الباحثين اليوم الى مسألة تراجع مكانة الدولة في الحقبة الراهنة بالمقارنة مع موقعها من العملية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، في الحقبة الكلاسيكية لبناء الدولة الحديثة، وأول ما يشيرون إليه كمصدر لهذا التراجع هو العولمة. فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي معا تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة تجد فيها الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به، نعني الشركات العالمية العابرة للحدود والقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول والأوطان. ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يدق بين الدولة والمجتمع، وتعمل بالتالي على زيادة الصدع والتباعد بينهما.
والحال أن العولمة لا تزال وستبقى مفهوما واسعا ومشوشا لا يكفي لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني.
المبحث الخامس
الديمقراطية : بعض الاشكاليات العامة
شهدت السنوات الاخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين تصاعد ” حمى الديمقراطية “. نحن، إذن، شهود ظاهرة ملفتة للنظر تتجلى بالعودة الى أدبيات وفاهيم الفكر السياسي الليبرالي، بعد أن ظل الخطاب السياسي للعديد من القوى ولعقود طويلة ينتقد بلا هوادة ” الديمقراطية البرجوازية ” و ” الديمقراطية الشكلية ” و ” ديمقراطية النخب ” ….. الخ.
تنتعش، إذن، في الكتابة السياسية اليوم المفاهيم الليبرالية، وتتحول الديمقراطية الى محور يستقطب النظر السياسي، سلطة سائدة، ومعارضة، وهيئات وتنظيمات وأفراد. ويرافق ذلك تنشيط النقاشات والمساجلات حول ضرورة انبثاق وتطور مؤسسات المجتمع المدني كضمان لأن تصبح السيرورة الديمقراطية عملية لا رجعة فيها.
يتعين التأكيد على أن التركيز على دور مؤسسات المجتمع المدني قد لفت الانتباه الى جانب هام لاشكالية الديمقراطية وإن الديمقراطية لا تنحصر في بعض الممارسات السياسية مثل التعددية الحزبية، وتنظيم الحكم طبقا لمبادئ دستورية تضمن فصل السلطات عن بعضها البعض واختيار الحكام من خلال انتخابات غير مزيفة …. الخ. فالممارسة الديمقراطية الصحيحة في السياسة تفترض دمقرطة المجتمع. ودون هذه الصيغة لا تضرب الديمقراطية جذورا في أرضية المجتمع فتظل شكلية وسطحية دون أن تكتسب شرعية غير قابلة للانقلاب.
غير أن السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه وبحدة هو : ما هي الديمقراطية ؟. يتعين، إذن، أن نحدد في البدء مفهوم الديمقراطية. بداية لا بد من القول أن الديمقراطية كمفهوم هو بطبيعته اشكالي. انها مفهوم متعدد الدلالات. ولكن الديمقراطية، بتعريفها البسيط تعني سلطة الشعب. جوهر الديمقراطية، إذن، حكم الناس بالناس لصالح الناس. وقد بقي هذا الجوهر صحيحا منذ العهد الاغريقي القديم حتى يومنا هذا، بالرغم من ظهور الخلاف في المدينة اليونانية القديمة حول مفهوم الشعب. ولأن الديمقراطية حقيقة سياسية فإنها تعني مجموعة من المؤسسات والاليات لتنظيم الحكم، بما يضمن أن يكون هذا الحكم بواسطة الشعب ومن أجله.
ونستطيع، إذن، أن نطور هذه الاطروحة بالقول بأن الديمقراطية هي طريقة الحياة واسلوب الحكم الذي يقوم على أساس قيام السلطة على ارادة الشعب، وممارسة الشعب حريته، وحقه في اختيار السلطة التي تحكمه، بطريقة يقبلها، وضمان حقوقه الاساسية السياسية والاجتماعية في المساواة وحرية التعبير والتنظيم والعمل والمشاركة في صياغة الحياة السياسية والاجتماعية. إنها، إذن، سلطة الشعب. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه فورا هو : أي شكل من اشكال الحكم يمثل سلطة الشعب، كيف يقوم الشعب بحكم نفسه، ماهو الشعب …..الخ؟.
إذا عدنا الى التاريخ وتأملنا التجارب الملموسة سنجد اشكالا متنوعة ونماذج مختلفة لما نسميه الديمقراطية خاصيتها المشتركة هي أنها أشكال تجمع بين الديمقراطية والدكتاتورية. تتيح الفكرة السابقة استخلاص مجموعة من الاستنتاجات من بينها :
– لا توجد ولن توجد هناك ما نسميه ديمقراطية في ذاتها، ديمقراطية مطلقة. ليست الديمقراطية، إذن، عبارة محايدة تفيد شيئا معلوما، وهي كذلك ليست وصفة شكلية ولا مجرد اجراء روتيني اداري في مجال السياسة. انها محصلة صراع القوى الاجتماعية ونتيجة المساومات الكبرى بين تلك القوى.
– إن الديمقراطية ليست نظاما غربيا فقط، إنما هي نظام انساني ساهمت البشرية، عبر تاريخها الطويل، في تطوره باتجاه التوازن بين السلطة كضرورة والحرية كمطلب اساسي للناس. هذه الاطروحة لا تلغي حقيقة أن الديمقراطية البرجوازية هي بلا شك، أكثر اتساعا وعمقا من أي ممارسة ديمقراطية سابقة لها أو رافقتها في حقبة تاريخية محددة.
– لم يتطور النموذج الليبرالي كنتيجة لمقولات محض فكرية أو فلسفية بقدر ما تطور كمحصلة لصراع اجتماعي داخل البلدان التي تطور فيها. وقد أدى ذلك الصراع الى تطور النموذج الديمقراطي الحالي، من خلال مشاركة طبقات اجتماعية متعددة فيه وعبر عدد من المراحل التاريخية، كانت معمدة بالتضحيات وبالدم !. يتعين التأكيد على حقيقة أن انتصار مبدأ الديمقراطية البرلمانية لم يتحقق قط في أي بلد من البلدان الغربية أثر انتصار ثورته البرجوازية بل ان حق الاقتراع العام والشامل لم يطبق في الغالبية الساحقة من الدول الرأسمالية المتطورة إلا أثر هزائم في حروب خارجية أدت الى توسيع القاعدة الاجتماعية للانظمة المهزومة (المانيا، ايطاليا، اليابان)، أو أثر حروب خارجية تطلبت نوعا من الاجماع الوطني لمجابهة المخاطر (انكلترا، بلجيكا، فرنسا، النرويج – في صراعها مع السويد)، ولم تشذ عن هذه القاعدة الا سويسرا.
إن التجربة التاريخية لهذا النموذج (الليبرالي) أنتجت اليات محددة أخذت تترسخ بمرور الزمن. وتوجد العديد من الاليات، لكن هنالك اربع اليات اساسية يمكن اعتبارها تمثل مجموع الخبرة النظرية والتطبيقية للديمقراطية كعملية للحكم وكإطار مؤسسي وليس كفلسفة ونظام اجتماعي. وهذه الاليات هي :
الالية الاولى: التعدد التنظيمي المفتوح، أي حرية تشكيل الاحزاب والمنظمات والجمعيات السياسية دون قيود. وهذه هي الالية المتعلقة بالنظام الحزبي.
الالية الثانية: تداول السلطة السياسية من خلال انتخابات حرة تنافسية تتيح انتقال السلطة وفقاً لنتائجها. وهذه هي الالية المتعلقة بالنظام السياسي.
الالية الثالثة: وتشمل منظومة الحقوق والحريات العامة التي اصبح توافرها مقياسا لاحترام حقوق الانسان، وهذه هي الالية هي الالية المتعلقة بالنظام القانوني.
الالية الرابعة: وهي الية المؤسسة، غيابها يساوي غياب الديمقراطية. مضمونها النظري يعتمد على وجود قاعدة موضوعية تحدد اختصاصات كل جهاز من اجهزة الدولة التي هي مؤسسة المؤسسات. لماذا هي جوهرية ؟ باختصار شديد نجيب : لأنه قبل تبلورها كان بمقدور لويس الرابع عشر أن يقول ” أنا الدولة والدولة أنا “، وهو محق في ذلك لأنه كان يعبر عن حقيقة قانونية كانت قائمة بالفعل، حيث كانت ارادة الحاكم هي ارادة الدولة.
الديمقراطية الحديثة تفترض ” المواطن ” وهو مفهوم يختلف عن مفهوم ” الرعايا ” أو ” المؤمن ” في النظم السابقة للراسمالية. كما تفترض الديمقراطية ” العلمانية ” أي فصل السياق الديني عن السياق السياسي/ الدولة. ولاشك أن البعض يخشى أن تكون العلمنة ابتعادا عن التمسك بمبادئ الدين وهو لا يناسب ميول أغلبية الشعب، في حين أن العلمنة هي بالعكس الوسيلة الوحيدة لحفظ المبادئ الدينية بعيدة عن التزوير الذي تعاني منه نتيجة تدخل المصالح الاقتصادية الطبقية ومناورات السياسية.
هكذا نرى أن مجموع هذه السمات تعطي للديمقراطية معناها الحديث هو الاخر وتحول دون التشبيه بين هذه الظاهرة وظواهر مماثلة أخرى ” ظاهريا ” خاصة بالعصور القديمة.
وكذلك فإن مؤسسات ” المجتمع المدني ” هي خاصة بالرأسمالية إذ أنها مؤسسات مرتبطة بممارسة الديمقراطية. وبالتالي فإن وظائفها خاصة ومختلفة جوهريا عن الوظائف التي قامت بها المؤسسات ” الاهلية “الشبيهة ظاهريا في الماضي.
فعلى مستوى الوظائف الايديولوجية والثقافية مثلا قامت ” المدرسة ” القديمة بالاساس على العلوم ” النقلية ” بينما دور المدرسة الحديثة هو تطوير القدرة العلمية. فالايديولوجيات القديمة قامت، إذن، على ” الاجتهاد “، بينما الحديثة تعتمد أساسا على الابداع.
أما على مستوى الوظائف السياسية كانت مجموعة المؤسسات القديمة تنحصر في الاجتهاد وتأويل النصوص بغرض ضمان ” الاستمرارية التقليدية ” ، أما وظيفة المؤسسات الاهلية الحديثة فهي بالاساس تطوير المفاهيم والممارسات المجتمعية بحيث تتكيف مع التطور الاقتصادي القائم على التجديد. فالديمقراطية في هذا الاطار قائمة على الابداع ” الحر ” أي غير المقيد بأية نصوص.
في حين على مستوى الوظائف الاقتصادية كانت المؤسسة القديمة (مثل الطوائف المهنية) تستهدف الحؤول دون ” المنافسة “، بينما المؤسسات الحديثة تقوم بالدور العكسي وهو دفع ” المنافسة ” ولو شملت هذه الوظيفة أيضا ” إدارة ” هذه المنافسة وتأطيرها.
ونستطيع تلخيص ذلك بالقول بأن الجمع أو المماثلة بين مؤسسات الماضي ومؤسسات ” المجتمع المدني “الحديث يلغي التمييز الاساسي بين وظائفها ويسويها على أساس قاسم مشترك شكلي وفارغ من أي مضمون محدد. إن هذا النوع من المماثلات التي لا تقارب المفاهيم في حدودها الخاصة وشروطها التاريخية المواكبة لنشأتها وتطورها، تؤدي في النتيجة الى تعويم المفاهيم.
المبحث السادس
المجتمع المدني والدولة السياسية في العالم العربي – بعض التعميمات
ثمة حاجة ملحة للتمييز بين خصائص نشوء وتطور المجتمع المدني في البلدان المتطورة والبلدان النامية بشكل عام، وبلداننا العربية بشكل خاص.
بداية، لابد من التذكير واستنادا الى بعض عناصر التحليل السابق بأن نزعة الانكفاء عن الدولة كراع وحيد للتقدم والتحديث والتنظيم المدني للمجتمع تعبر عن ولادة ما أعتقد أنه موجة جديدة من الديمقراطية أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الجديدة أو المجددة. فقد تركزت الديمقراطية الكلاسيكية أو في المرحلة الأولى على إصلاح الدولة وأساليب ممارسة السلطة من قبل القائمين عليها، وكان أفضل تعبير عنها بناء الدولة الدستورية والقانونية وتثبيت مبدأ فصل السلطات، واستقلال المؤسسات الرئيسية بعضها عن البعض الآخر وتحديد مسؤوليات الحاكمين وإخضاعها للمراقبة الاجتماعية المستمرة. أما في المرحلة الجديدة فإن هناك نزعة قوية للنظر إلى الديمقراطية من داخل المجتمع أو لبناء أسس الديمقراطية الاجتماعية. فالمرحلة الأولى كانت مرحلة الدولة الديمقراطية، والمرحلة الثانية هي مرحلة المجتمع الديمقراطي. والمجتمع الديمقراطي لا يقوم على وجود دولة قانونية وديمقراطية فحسب ولكنه يتجاوز ذلك نحو توطين مباديء الديمقراطية في ممارسات الفرد والجماعة معا. وفي هذا الاطار يستعيد التفكير السياسي النظر في كل ما كان غائبا في الديمقراطية الكلاسيكية، نعني التركيز على السلطة أو السلطات الاجتماعية والسعي إلى تطويرها والعمل على تغذيتها بالمباديء والقيم التي حكمت دمقرطة السلطة السياسية العمومية. وهكذا فإن الاستثمار المادي والمعنوي يتجه أكثر فأكثر في الدول ذات الديمقراطية الناضجة من التركز على السلطة المركزية والدولة نحو السلطات الاجتماعية. وتزداد مراهنة الرأي العام على هذه السلطات في تحقيق الأهداف التي لم يعد من الممكن للدولة.
ومن هنا تعيش فكرة التعددية مرحلة تجديد في جميع أشكالها، وتضطر الدولة تلبية لذلك في جميع بلدان الديمقراطية الناجزة إلى أن تزيل احتكارها الذي بقي مفروضا خلال الفترة الطويلة السابقة على مجالات مختلفة. وبالمثل تكاثرت المنظمات غير الحكومية التي تهتم بالشؤون ذاتها الوطنية والدولية التي كانت من اختصاص الدول حتى وقت قريب. وأصبحت منظمات حقوق الانسان مثلا من أهم الهيئات التي تحظى بالشرعية العالمية للتصدي للحكومات المستبدة والقمعية. كما أصبحت منظمات المشاركة في التنمية ودعم الشعوب أو الجماعات الفقيرة أو التي تتعرض لكوارث طبيعية أو تهديدات خطيرة أكثر نشاطا من المنظمات الرسمية على صعيد الكرة الأرضية. وفي مواجهة سياسات العولمة الجديدة التي تطورها مجموعة الدول الصناعية الرئيسية، نمت ولا تزال تنمو منظمات أهلية عالمية تمثل أدوات ضغط متزايد على الدول الصناعية في ميدان ضمان الحقوق الاجتماعية أو توجيه السياسات الدولية وجهة إنسانية. وبالمثل تتكاثر الجمعيات المحلية التي تأخذ على عاتقها مهام تنظيم الحياة الأهلية للفئات أو للمجموعات القومية أو للنشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الشريحة أو تلك من السكان.
جاء الحديث المتزايد عن المجتمع المدني ومؤسساته في الدول الصناعية كدليل، إذن، على نضج الديمقراطية أو اكتمالها ونضج المجتمعات معا وارتفاع درجة التفاعل والتواصل بين الدولة والمجتمع. فالدولة، بغض النظر الى اهدافها الفعلية، هي التي شجعت المجتمع على المبادرة واحتلال مواقع بقيت تحتلها منذ فترة طويلة وسهلت قانونيا وتنظيميا نشوء مؤسسات مدنية وقدمت لها ولا تزال تقدم لها الدعم المالي والتنظيمي والقانوني لتقوم بالدور الجديد الملقى عليها.
وباختصار، نستطيع أن نقول إن ” المجتمع الديمقراطي ” في البلدان المتقدمة يأتي هنا مكملا وامتدادا للدولة التي كانت في أصل نشوئه، وهي لا تزال ترعاه حتى لو كانت تخاف من تجاوزاته على الصلاحيات الجديدة التي أخذت تحصر عملها فيها. فالدولة تدرك أيضا أن ما يقوم به المجتمع المدني، أي المؤسسات الخاصة غير الحكومية، لا تستطيع هي أن تقوم به، وأنه في مواجهة المنافسة الدولية المفتوحة والتي ستفتح أكثر فأكثر، من مصلحة الدولة عموما والمجتمع ككل أن تتطور وتتدعم المؤسسات المدنية وتزداد نشاطا في الداخل والخارج.
وبالعكس من ذلك يأتي الحديث المتزايد والمتضخم عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية كتعويض عن غياب هذا المجتمع تماما وكرد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلطة العمومية إلى سلطة أصحاب مصالح خاصة، وانهيار أي قاعدة قانونية ومؤسسية ثابتة وراسخة للدولة والمجتمع معا. ولذلك فهو يبقى هنا ويستمر يعمل في إطار الايديولوجية، مما يعني أيضا سهولة استعماله كأداة أو كوسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساعي متنوعة وأحيانا متناقضة، سياسية وعقائدية واقتصادية من دون أن يكون غاية في ذاته. فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني لبناء سلطة اجتماعية مستقلة بالفعل عن النزاعات السياسية وقادرة على المشاركة مباشرة في ايجاد الحلول من خارج المجال السياسي الرسمي للعديد من المشاكل والتحديات المجتمعية، وإنما لغيره، أي لأهداف تتعلق سواء بالسياسة بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أو بالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ما تزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي.
وبقدر ما تبدو الدولة في البلدان النامية بشكل عام بوصفها أكثر فأكثر تجسيدا لمجال المصالح الخاصة والجزئية وغياب القانون، ينمو نزوع قوي إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية في المجتمع المدني ذاته، أي خارج الدولة. فالمشكلة الحقيقية التي تحاول أن ترد عليها هنا إشكالية المجتمع المدني ليست تنظيم المصالح الخاصة، ولكن بالعكس تنظيم المصالح العامة. ومن هنا التخبط والصعوبة الهائلة في تحديد هذا المفهوم والتناقض الكبير الذي يفترضه استخدامه بينه وبين الدولة. فالاشكالية تبدو هنا مستحيلة، نعني محاولة بناء العام في قلب الخاص، مما يعني في الواقع إعادة ولادة الدولة من قلب المجتمع، مما يجعل النخبة المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة !!.
ومصدر كل هذا الاختلاط والتخبط هو إخفاق الدولة القومية، بمعنى الدولة/الأمة، دولة المواطنين، في هذه البلدان، مما يضعنا أمام مسار تاريخي مختلف تماما عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية، وأحيانا معاكسا له.
وهذا يعني في الواقع أنه كما أن تطور المجتمع المدني في البلدان الراسمالية المتطورة ليس منفصلا عن تطور الدولة الديمقراطية فإن غياب الدولة الديمقراطية في العالم النامي، والعالم العربي بشكل خاص، ليس منفصلا أيضا عن غياب المجتمع المدني أو تحييده وما يضمه من مؤسسات اجتماعية مستقلة فاعلة تقوم بتأدية مهام مرئية وثابتة في المجتمع وتكتسب نتيجة ذلك مواقع وصدقية وشرعية حقيقية.
فعلى سبيل المثال منذ الاستقلال السياسي الذي حصلت علية البلدان العربية، احتلت جهاز الدولة في العديد منها نخبة سياسية – إدارية من مختلف شرائح الفئات الوسطى، وعملت على تعبئة مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية بهدف تشكيل قاعدة اجتماعية وجماعة سياسية مساندة للدولة الجديدة – من حيث هي كيان سياسي قانوني -، وقطب تحقيق جماعي للذات – تبحث عن إضفاء الشرعية على تأسيسها، والتغلب على الازمات التي كانت تهددها في وحدتها ووجودها، في مختلف مراحل نموها، انطلاقاً من قوة المساندات هذه. ومع ذلك ظل تكوين هذه الدول الجديدة المنبثقة من الاستقلال السياسي هشاً، ويعاني من نقص بنيوي في إضفاء الشرعية، بسبب ممارسة هذه الدولة البعد الوصائي على المجتمع المدني الوليد .
إن النخبة السياسية الحاكمة التي قادت الكفاح الوطني في عهد الاستعمار في العديد من البلدان ، كانت تعبر عن الموقع المفصلي لايديولوجية النزعة القومية الكليانية في خصوصيتها المحلية، التي تتسم بها هذه الفئات الوسطى في ممارستها للصراع الوطني باسم الوطن، باعتباره كياناً قائماً بذاته. وكانت هذه الفئات الوسطى توظف هذه الايديولوجية القومية الكلية في خدمة قضية الاستقلال الوطني على الصعيد المحلي، وبناء الدولة القطرية. ويوضح الدكتور محمد عابد الجابري هذه المسألة حين يؤكد على توظيف فكرة ” الوحدة” في خدمة الدولة القطرية قائلاً: (لقد اتجه تاريخ الكفاح الوطني في الأقطار العربية بفكرة ” الوحدة ” إلى خدمة نقيضها : الدولة القطرية، بعثها وبلورتها وترسيمها. نعم كان هناك بعد ايديولوجي يطفو من حين لآخر على ساحة الخطاب النهضوي العربي ليعطي لمفهوم ” الوحدة” مضموناً مستمداً من وحدة التاريخ واللغة حيناً، ومن وحدة المصير والطموحات حيناً آخر. وكان هذا في المشرق خاصة. أما في المغرب العربي فقد كان مفهوم الوحدة قبل سنة 1956 يستقي مضمونه الايديولوجي من تأكيد الهوية العربية الاسلامية لشعوب شمال افريقيا، رداً على محاولات السياسة الاستعمارية فصل المغرب العربي عن المشرق العربي. وهكذا فبينما كان مفهوم ” الوحدة ” يستقي مضمونه الايديولوجي في المشرق من الاتجاه عمودياً إلى الماضي أوالمستقبل أو إليهما معاً، كان المفهوم نفسه في المغرب العربي يستقي مضمونه الايديولوجي من الاتجاه أفقياً إلى الارتباط بالمشرق تأكيداً للانفصال عن فرنسا) .
الملاحظ أيضاً أن هذه الفئات الوسطى الحاملة ايديولوجية القومية الكلية في البلدان التي كانت تحت السيطرة الكولونيالية، قد ولدت وتشكلت في إطار البنية الاجتماعية الكولونيالية في المجتمعات المجزأة بتعدد الانخراط في الرأسمالية الكولونيالية، وغير المتجانس، وذلك بتأثير علاقات الانتاج الكولونيالية، وهي تختلف كلياً عن ” الطبقة الوسطى ” في الغرب التي بسبب من تكونها التاريخي، في إطار علاقات الانتاج الاقطاعية عينها كانت تمثل فيه القوة الاجتماعية الرئيسية الثورية الحاملة في صيرورتها الطبقية نظام انتاج رأسمالي جديد قائم بذاته، يدفعها إلى نقض ثوري لبنية علاقات الانتاج هذه، في مرحلة التكون التاريخي لعلاقات الانتاج الرأسمالية، وإجراء التحولات الثورية فيها للافساح في المجال لتطور القوى المنتجة، بهدف فرض هيمنتها الطبقية على سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى، من خلال الاضطلاع بالدور المركزي والقيادي للثورة الديمقراطية البرجوازية، وانتزاع السلطة السياسية من الطبقة الاقطاعية القديمة .
وارتباطا بهذه المقاربة، فإن المضمون الايديولوجي لهذه الفئات الوسطى يختلف جذرياً عن مضمون الطبقة الوسطى الكلاسيكية في الغرب، ولا يوجد أي منطق تماثلي بنيوي بينهما. ولهذا عندما مارست هذه الفئات النضال الوطني، مارسته في إطار من المحافظة على البنية الاجتماعية الكولونيالية، لا على أساس التحويل الثوري لعلاقات الانتاج القائمة. ومن هنا كانت عقلانية هذه الفئات عقلانية” ثورة من الاعلى ” لأن الحركة الإصلاحية التي اضطلعت بها الدولة الجديدة بهدف إضفاء تجانس اجتماعي، وتحديث البنى والعقليات، قد قادت إلى أن يصبح للدولة ذاته جهاز للهيمنة خارج على المجتمع وصولاً إلى إلغائه، وهو ماكانت نتيجته تفاقم القطيعة بين الحاكمين والمحكومين.
وهذا التطور المفرط للجهاز كان يعني في الوقت نفسه غياب فضاء عام محدد بصورة متميزة، ومجهز بقواعده الخاصة وبممثليه. وبمقدار ما كانت الدولة غير مفصولة عن المجتمع، كانت لا تستطيع تمثيله. والدولة التي كانت تشكل وحدة تامة مع جهازها وبيروقراطيتها، كانت خارجة عن المحكومين. إن الصفة الخارجية والتداخل، وجدا التعبير عنهما في، في العديد من البلدان، في مجمع الدولة – الحزب ” .
إن ما يميز الدولة في العالم العربي بعد الاستقلال هو طغيانها الكلي على مجموع المجتمع المدني بواسطة أنظمة حكم شديد المركزية أو حزب سياسي ذي طبيعة شمولية، ولكنه اكتسب شرعيته السياسية والتاريخية بفضل النضال ضد الاستعمار أو بفضل ” الشرعية الثورية ” عن طريق الانقلابات العسكرية، وهيمنت عليه ايديولوجيا توفيقيه أو ايديولوجيا شمولية اقصائية .
ومن جهة اخرى فإن المشروع التحديثي الذي أطلقته دولة الوصاية (حسب تعبير د.المنصب وناس، المصدر السابق) على المجتمع المدني، قد تم في سياق خيار أيديولوجي هجين، ادى الى تعميق التبعية الثقافية للخارج وفاقم التناقضات الاجتماعية والطبقية في الداخل. ومن الواضح أن التوتر والصدام بين ” دولة الوصاية ” التي تجسد في أيديولوجيتها القومية الكلية، وفي خطابها السياسي والثقافي سياسات تهدف مخاطبة المجتمع المدني، بهدف تدويله و ” تنويره ” بأسلوب تلقيني ووصائي.
وفي لحظة تاريخية ” فريدة ” ، انكشفت الهشاشة التكوينية للدولة العربية الجديدة المنبثقة من عهد الاستقلال السياسي، وانكشف معها طابعها المركزي التسلطي بعد اجهاضها للحظة الليبرالية التي كانت تشكل المجال السياسي الوحيد للمعارضة السياسية. وهذا يقودنا إلى القول بأن سيرورة تشكل الدولة العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البرجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي من ناحية أخرى. وهذه الدولة الجديدة التي اضطلعت بتطبيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً والذي وسم المجتمع الكولونيالي بالتجزأ، والتذرر، والتباعد، والتنافر بين مختلف أطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة والاقتصاد، والمتغلغلة في بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة الحديثة التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه. وكانت هذه الدولة تمثل في الوقت ذاته العنصر التكويني الرئيسي للعلاقات الرأسمالية وكونها “العلاقات الرأسمالية” باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة، وكانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الإمبريالية الغربية بامتياز. لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولاً إلى تدويله، وإلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة التي امتلكت ناصية الاستبداد المحدث من “مصادر الاستبداد التقليدي بإحتكار الحكم مركز السلطة” من ناحية، ومن خلال “احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع “عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته”، و”بقرطة الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام وإما بإحكام السيطرة عليه بالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين”، من ناحية أخرى .
إن مشروع التحديث الذي تبنته الدولة الجديدة منظور إليه من زاوية انعكاساته على مستوى المجتمع المدني، وفي علاقة الدولة بالمجتمع المدني، قد قام على أساس تجربة الحزب الشمولي الواحد أو الحاكم الاوحد ملكا أم رئيسا، وشرعية الزعامة الفردية السياسية والتاريخية للرئيس أو الملك، التي تتحكم فيها عقلية التكيف والإندماج والتحول في المراحل التاريخية التي خاضتها. وتكمن خصوصية التحديث في البلدان التي قامت بذلك في انفصاله الكلي عن المسألة الديمقراطية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بطبيعة المؤسسات السياسية والدستورية التي تفرزها، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية، وتوجيه التنمية وفق اختيارات اقتصادية – اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة. وفي هذه المعادلة غير المنطقية التي تقيم جداراً صينياً بين مشروع التحديث ونمط الديمقراطية تكمن أزمة الفئات الوسطى الحاكمة في ديناميات بناء السلطة، وقضايا التحديث والتحرر، من حيث أنها نخبة مارست الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع، وأفرغت العملية السياسية من المعارضة حين ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، وإخضاعها المنظمات الاجتماعية والجماهيرية لهيمنة الحزب الحاكم، وتصفية أو تحجيم نشاط القوى السياسية الاخرى، وترييف المدن من خلال تهميش فئات الفلاحين وإبعادها عن كل تأثير سياسي، وإزدياد تدخلها في الاقتصاد، وخلقها مجالها السياسي الخاص بها. وأصبحت هذه البيروقراطية تعتبر نفسها هي المالكة الوحيدة لمعنى الدولة، مجسدة بذلك ظاهرة استبدادية محدثة من خلال احتكارها المطلق للدولة إلى الدرجة التي تقضي فيه بإطلاقية على كل مكونات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية الأخرى، وعبر سيطرة نزعة التماثل أو التماهي الشمولية السرمدية مع الدولة. وكما يقول الدكتور خلدون النقيب، في دراسة جادة، فإن هذه الدولة البيروقراطية التسلطية في ” العالم الثالث ” هي تشويه للدولة البيروقراطية الليبرالية الحديثة، من حيث إفتقارها إلى القيود والضوابط الدستورية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإن النظام الاقتصادي للدولة البيروقراطية التسلطية وهو رأسمالية الدولة التابعة (تابعة لدول المركز الإمبريالية) هو تشويه لنمط الانتاج الرأسمالي .
إن الدولة البيروقراطية الحديثة التي تعتبر نفسها هي الممثلة للمجتمع، قامت بإقصاء مختلف مؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب السياسية المعارضة، إلى النقابات المهنية والعمالية، مروراً بالمؤسسات الاجتماعية المختلفة، من مجالها السياسي، وبنت النخبة السياسية -الإدارية الحاكمة فيها نموذج الدولة التسلطية، التي تعاظم دورها في مختلف الميادين والنشاطات الاقتصادية تحت شعارات مختلفة. وقد اتجهت الدولة في العديد من البلدان نحو احتكار مصادر القوة والثروة في المجتمع عبر انتهاج طريق رأسمالية الدولة وخلق القطاع الحكومي وتقويته، في إطار نمط الاستيعاب من قبل النظام الرأسمالي العالمي، بما يجعل الاقتصاد الوطني تابعاً لمتطلبات السوق الرأسمالية العالمية. حيث يلاحظ ان هذه الفترة شهدت عملية تغلغل الاحتكارات الرأسمالية في الاقتصاد الوطني، وأسهمت في تعميق تبعية البنية الاقتصادية والمالية والسياسية، كنتيجة لذلك، وقدمت ميزات سياسية كبيرة جداً للدول الراسمالية المتطورة.
غير أن العواقب لهذه التجارب كانت صارخة، وتمثلت في إزدياد التفاوتات الاجتماعية والتمايزات الطبقية، واشتداد الاستغلال الرأسمالي، وهو ما أدى إلى احتدام التناحرات الطبقية سواء في الريف أو المدن مع ازدياد تسلط البيروقراطية، واحتكارها الأعمى للقرار السياسي والاقتصادي، وممارستها الطغيان والاستبداد على الجميع الفلاحين، وقمع القوى الوطنية والديمقراطية، وضرب النقابات.
إن هذه العوامل مجتمعة قادت إلى تعميق التعارض بين “مجتمعين”، المجتمع السياسي الذي تهيمن فيه البرجوازية البيروقراطية أو الكمبرادورية الحاكمة، والمجتمع المدني الذي لم ينتظر أي شيء من الدولة، خصوصاً في ظل تفاقم البطالة وتعاظم التهميش الاجتماعي لقطاعات واسعة من السكان، واستعمال جهاز الدولة المركزية التسلطية في عمليات التحول الديمقراطي حتى المحاولات الخجولة منها التي تم تدشينها في بعض البلدان.
وبفعل ضغوط اجتماعية داخلية وضغوطات خارجية جرت محاولات خجولة لبعض الاصلاحات الديمقراطية المحدودة. غير أن عملية ” التحول الديمقراطي ” اصطدمت بعقبات بنيوية حقيقية، لعل أهمها الاختراق الإمبريالي للاقتصاد والمجتمع، وعلاقات التبعية للنظام السياسي إزاء المراكز الرأسمالية الغربية التي وفرت له موارد مالية عن طريق القروض والتسهيلات الائتمانية للديون، والتي تكرس في الوقت عينه تسلط الطبقة البرجوازية الحاكمة المهيمنة، التي نجدها غير مستعدة لتقديم تنازلات لمصلحة الاصلاحات الديمقراطية. والملاحظة المثيرة للانتباه، وهي مفارقة ايضا، أن عملية الانتقال نحو التعددية التي جرت في بعض البلدان العربية تمت تحت قيادة جهاز الدولة البيروقراطية. لقد اصر هذا الجهاز على وضع نفسه وصياً على المجتمع المدني الامر الذي ادى إلى ضعف المجتمع المدني، وانسحاب تكويناته وقواه الحية من المجال السياسي، الذي ملأته الدولة التسلطية المستندة الى اقتصاد كومبرادوري ريع في معظم الاحيان.
من المجرد الى الملموس. المجتمع المدني في البلدان العربية
بعض السمات الاساسية
تستند صياغة هذه الملاحظات على التقرير السنوي الثاني الصادر عن ” الشبكة العربية للمنظمات الأهلية ” نشر مؤخرًا والذي يتناول تطورات القطاع الأهلي خلال عام 2002. يقع هذا التقرير في 270 صفحة، ويغطي 16 دولة عربية، هي: الأردن، والإمارات العربية، والبحرين، وتونس، والجزائر، والسودان، وفلسطين، وقطر، والكويت، ولبنان، وليبيا، ومصر، وسوريا، والمغرب، وموريتانيا، واليمن. كما شارك في إعداد هذا التقرير حوالي 20 باحثًا وخبيرًا من المختصين في شئون العمل الأهلي والمجتمع المدني العربي.
تسمح قراءة التقرير المذكور باستخلاص السمات التالية :
1. تركز مؤسسات المجتمع المدني في مجموعة محددة من البلدان. فقد بلغ عدد المنظمات الأهلية التي جرى إشهارها قانونيًا في 8 دول عربية من تلك التي غطاها التقرير عام 2002 وحده 8590 منظمة، منها 7000 جمعية ومنظمة تتركز في المملكة المغربية وحدها ( حوالي 81% من العدد الاجمالي)، تليها -بفارق كبير- مصر التي شهدت تسجيل وإشهار 700 جمعية ومنظمة أهلية جديدة، ثم اليمن (326)، ولبنان (219)، وتونس (157)، والسودان (112)، والبحرين (58)، وسوريا (18). إضافة إلى تسجيل وإشهار 5 مبرات خيرية في دولة الكويت. ومن جهة اخرى أشارت البيانات الخاصة ببقية البلدان التي غطاها التقرير إلى اتجاه المنظمات الأهلية نحو الزيادة المطردة، وإن لم تتوافر إحصاءات دقيقة بحجم هذه الزيادة.
2. وإلى جانب تلك الزيادة الكمية، لاحظ التقرير حصول تطور نوعي/ كيفي أيضًا في مجال اهتمامها؛ فأغلبها يتجه للعمل في قضايا التنمية البشرية، والحد من الفقر الذي تعاني منه قطاعات واسعة من السكان في البلدان موضوعة البحث، كما تتجه لإعطاء مزيد من الاهتمام بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية في تلك البلدان وفي غيرها من البلدان العربية.
3. ويرصد التقرير أيضًا توجهات جديدة للمنظمات نحو النشاط الدفاعي؛ وهو ما يعرف في بعض الدول العربية باسم النشاط “الحقوقي”. وهذا النشاط أكثر ظهورًا في الدول العربية التي اتخذت خطوات ملموسة على طريق التحول الديمقراطي. وتركز اهتمام الجمعيات والمنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق المرأة بصفة خاصة. ففي البحرين -مثلا- سجلت 3 جمعيات لحقوق الإنسان دفعة واحدة في سنة 2002، وفي مصر سجلت 9 جمعيات جديدة لحقوق الإنسان أيضًا خلال عام 2002 وحده، أما في المغرب فقد سجلت عشرات الجمعيات الحقوقية، وفي لبنان ظهرت 10 جمعيات نسائية جديدة.
4. استمرار جمود الأطر القانونية المنظمة للعمل الأهلي العربي، بالرغم من صعود موجة الاهتمام العالمي والإقليمي بهذا القطاع. وقد اقترن ذلك بتصاعد الجدل حول القوانين المنظمة للعمل الأهلي الذي كان -ولا يزال- مصدرًا من مصادر التوتر بين الدولة والمجتمع المدني في أغلبية البلدان العربية.
5. التفاوت في مواقف السلطات المسيطرة في البلدان العربية. واستنادا الى واقع التطورات التي رصدها التقرير بهذا الخصوص خلال عام 2002 فإنه يكمن التمييز بين ثلاث مجموعات من الدول العربية، تباينت مواقفها بين المرونة والتصلب فيما يتعلق بمسألة تغيير وتطوير قوانين العمل الأهلي على النحو الآتي :
أ- التغيير المحافظ: وقد حدث هذا النمط من التغيير بصدور تشريعات جديدة في كل من فلسطين واليمن والمغرب ومصر، على مدى السنوات: 2000، و2001، و2002. وبالرغم من نجاح ضغوط مؤسسات المجتمع المدني في تغيير الأطر القديمة واستصدار قوانين جديدة؛ فإن هذا التغيير جاء محملا بكثير من التحفظات -وفي بعض الأحيان القيود- التي من شأنها الحد من حرية عمل المنظمات غير الحكومية، واستمرار تعرضها للتدخلات الإدارية الحكومية في شئونها، وبخاصة فيما يتعلق بإجراءات التسجيل والإشهار، وحق الجهة الإدارية في حل الجمعيات، وممارسة رقابة صارمة على مصادر التمويل، وبخاصة المصادر الأجنبية بدوافع وتبريرات أمنية.
ب- الضغط من أجل التغيير: وهو ما شهدته بلدان مثل الأردن، والبحرين، والسودان، وموريتانيا، والكويت. ويتمثل الهدف الرئيسي للقوى المطالبة بالتغيير في ضرورة إعادة النظر في القوانين القديمة التي مضى على صدورها ما يقرب من 4 عقود، وإدخال التعديلات التي تتجاوب مع المستجدات التي شهدها المجتمع العربي في السنوات الأخيرة. ولم تصل هذه الضغوط إلى نتيجة محددة حتى نهاية عام 2002.
ج- السكون على الوضع القائم: وهذه الحالة هي التي شهدتها مجموعة أخرى من الدول التي تشهد بين الحين والآخر إجراء بعض التعديلات غير الجوهرية على القوانين القديمة، وتشمل هذه المجموعة دولا مثل: ليبيا (أدخلت عدة تعديلات كان آخرها سنة 2001)، وسوريا (لا يزال العمل فيها وفقًا لقانون 1958)، والإمارات (لا يزال العمل فيها وفقا لقانون 1974).
6. حصول بعض التطور النسبي في العلاقات بين السلطات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني على قاعدة العمل المشترك في مشروعات محددة. ويمكن تفسير هذا التحسن النسبي بأنه انعكاس لتفاقم تحديات التنمية التي تواجه مختلف المجتمعات العربية من جهة، ومحاولة للحد من الآثار السلبية لسياسات الخصخصة والإصلاح الاقتصادي من جهة أخرى؛ الأمر الذي أدركت معه الحكومات أنها بحاجة ماسة إلى حشد وتنسيق كافة الجهود الأهلية والحكومية للعمل من أجل مصلحة الدولة والمجتمع معًا.
7. ولكن مقابل ذلك يلاحظ حظْر العمل السياسي على المنظمات الأهلية، تحت صيغ مختلفة، هو واحد من أهم القواسم المشتركة بين الدول العربية في علاقتها بتلك المنظمات؛ حيث تنص أغلبية القوانين على هذا الحظر بنصوص صريحة وقاطعة. غير أن الواقع يشهد -في الوقت نفسه- انخراط نسبة لا بأس بها من الجمعيات والمنظمات الأهلية في نشاطات سياسية متنوعة؛ سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وهذه الحالة هي من مفارقات العمل الأهلي في علاقته بالدولة في المجتمع العربي منذ ما يقرب من نصف قرن مضى.
8. شهدت الفترة موضوعة البحث وجود تداخل بين العمل الأهلي والعمل السياسي، الامر الذي يعد من معطيات الحياة العامة في المجتمع العربي الذي يشهد قيودًا شديدة -في أغلب البلدان- على حرية التنظيم السياسي، وحق تكوين الأحزاب؛ الأمر الذي يجعل منظمات العمل الاجتماعي الأهلي حقلا خصبًا ومتنفسًا لممارسة مثل تلك النشاطات السياسية التي تصب في نهاية المطاف في صالح المجتمع المدني والتطور الديمقراطي.
المبحث السابع
دور منظمات المجتمع المدنى فى التحول نحو الديمقراطية في العراق
هناك صلة وثيقة بين المجتمع المدنى والتحول الديمقراطى، فالديمقراطية كما هو معروف مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التى تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع فى المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس الأساس المعيارى للمجتمع المدنى حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدنى من أهم قنوات المشاركة الشعبية. ورغم أنها لا تمارس نشاطا سياسيا مباشرًا وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية إلا أن أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعدادا للانخراط فى الأنشطة الديمقراطية السياسية، وبالإضافة لهذا فإن الادارة السلمية للصراع والمنافسة هى جوهر مفهوم المجتمع المدنى.
ويمر العراق حاليا حاليًا بعمليتين مترابطتين، ونعني بهما: بناء أسس المجتمع المدنى والتحول نحو الديمقراطية على الرغم من المخاطر والتحديات التي تواجه هاتين العمليتين. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففى الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدنى التى تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة فى الحكم.
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدنى فى تعزيز التطور الديمقراطى وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدنى وما تقوم به منظماته من دور ووظائف فى المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملى على الممارسة الديمقراطية.
ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية فى أى مجتمع مالم تصير منظمات المجتمع المدنى ديمقراطية بالفعل باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية فى المجتمع بما تضمه من احزاب ونقابات وتعاونيات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية.. الخ. حيث توفر هذه المؤسسات فى حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطيا ، وتدريبهم عمليا لاكتساب الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية فى المجتمع الأكبر بما تتيحه لعضويتها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية.
لحداثة التجربة يواجه العاملون في هذا الميدان الهام طائفة من العوائق. ومن اجل تجاوز ذلك وخلق ديناميكية للعمل . وهنا يجب التأكيد على:
– لابد ان يستعيد المجتمع وان تستعيد الجماهير شعورها بجدوى المشاركة وجدوى التضحيات، أي ببساطة ان تنعكس عليها ثمار عملها وجهدها رفاها وحرية سواء في الانتاج او في العمل النقابي او المدني او السياسي.
– ولابد من زعزعة الاسس الاقتصادية والسياسية لعملية الفساد كي يمكن اعادة الاعتبار للانتاج والمنتجين وللابداع والمبدعين في المجتمع.
– لابد من تكريس جملة الممارسات الحقوقية والتنفيذية التي تمنع كل اشكال التعدي على حقوق المواطنين الفردية والجمعية. ولابد هنا من ايلاء اهتمام استثنائي لضحايا النظام الدكتاتوري المقبور ممن تعرضوا للاذى والتهميش والتجاوزات على حقوقهم.
– لابد من المزيد من تكريس الحقائق الديمقراطية في الحياة السياسية سواء عن طريق تشجيع منظمات المجتمع المدني او عن طريق المزيد من المبادرات الديمقراطية وتكريس دور المؤسسات الدستورية.
– ضرورة الحذر من تسطيح فكرة المجتمع المدني وتخفيضها واختزالها إلى جمعيات غير حكومية تهتم بقضايا جزئية، وتسعى إلى الحصول على التمويل والتدريب والتشبيك مع الجمعيات المشابهة، مما يجعل مركز الحركة الاجتماعية خارج المجتمع، ويوجه النشاط الاجتماعي خارج الحقل السياسي الوطني، وينتج تصوراً قطاعياً للإصلاح الديمقراطي المطلوب، ويفضي إلى جعل القوى المحلية استطالات لقوى خارجية تتك