النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 3
الفصل الثاني: (مستويات تحليل النص)
النص الأدبي مؤسسة معرفية قوامها بنيتان:خارجية شكلية وداخلية مضمونية وتتوسل هذه المؤسسة إلى المتلقي بصياغات جمالية توسع الضيق وتضيق الوسيع وتمجّز الواقع وتوقّع المجاز لجعل (التماثل في اللاتماثل) في مشغل الخيال المنطلق وفق حسابات الموهبة والخبرة والتجربتين العقلية والعاطفية . وعلم تحليل النص سبيل القارئ المختص إلى إدراك مزايا النص الكامنة في حقوله المؤتلفة والمختلفة؛ والعلاقات الواضحة والمغيبة استناداً إلى مستوى ممنهج يصلح قناة محكمة بين المنتج والنص والمستهلك والشفرة، وسنقدم بين يدي هذا الفصل باقة منتقاة من مستويات تحليل النص، تلك التي تعين المتلقي: الاعتيادي والمتخصص في كشف الغامض وتقعيد المنفلت وتأثيث الفوضى وسبر أعماق المتخيل وصولاً إلى إعادة إنتاج النص وتمثل تجاربه ومآزقه الفعلية والمتخيلة:
1-المستوى التركيبي: يحيل هذا المستوى المحلل (كسر اللام الأولى المشددة) إلى الابتداء بدراسة الوحدات الصغيرة في النص. ثم ملاحظة أوجه الاختلاف والائتلاف بين الوحدات بغية تبويبها واستنباط العلاقات الفاعلة بينها، ودراسة الوحدات الصغيرة يثمر معرفة الوحدة الكبيرة (النص)؛ فالقصيدة مثلاً متألفة من أسطر وجمل وكلمات وإيقاع وصياغة ولا يمكن معرفة القصيدة بشكل كلي إذا لم تكن المعرفة الجزئية سبيلنا إلى ذلك والكتاب بوصفه نصاً لا يمكن تكوين فكرة متكاملة عن برنامجه الكلي مالم نصل إلى ذلك من خلال قراءتنا الكلمات فالجمل فالصفحات فالفصول.
2-المستوى التفكيكي (الجشتالتي): وتحليل النص وفق جشتالت يبدأ من الكل إلى الجزء، فلابد إذن من تحليل النص إلى وحدات صغيرة ومن ثم تشريحها بمنظور كلي وصولاً (بالاستقراء) إلى استنباط قوانينه الظاهرة والغاطسة، والفكرة التي يستند إليها أتباع هذا المستوى أن طبيعة النظرة الإنسانية تبدأ من الكل ثم تصل إلى الجزء لاحقاً..
3-المستوى الفني الجمالي: ويسعى هذا المستوى إلى تأشير مواطن الجمال والقبح في النص وتعليل الإشارات وفق قناعة مسبقة تقوم على أن النص الفائق هو النص الذي يبهج الروح ويشرك المتلقي في مشاغله الفنية الجميلة، ومحلل النص غالباً ما يعتمد على ذوقه ومرجعيته الشخصيين. أما القواعد والأصول التي يعتمدها فهي مقتبسة من النصوص المتميزة عبر العصور، وقلما يستعين الناقد بعلم من العلوم في تقويم النص .
4-المستوى البنيوي: اتجاه نقدي استند في بداياته على دراسات العالم السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913) وقد سعى إلى دراسة النص من حيث هو كائن لا من حيث ينبغي أن يكون! وربما جاءت البنيوية بوصفيتها ثورة على الاتجاه المعياري؛ فكان أن جعلت وكدها في المعمار اللغوي للنص وسبيلها إلى تفكيكه هو البحث عن البنية بوصفها علاقة بين الذات والآخر؛ لكن البنيويين اليساريين هاجموا البنيوية اللغوية وطرحوا البنيوية التوليدية بديلاً منها .
5- المستوى اللغوي: اتجاه في نقد النص عرفه العلماء العرب في القرنين الهجريين: الأول والثاني، وتميز فيه عمرو بن عبيد ت114هـ وأبو عمرو بن العلاء ت154 وحماد الراوية ت155 والمفضل الضبي ت168 وخلف الأحمر ت182هـ، ويعتمد هذا المستوى في تحليل النص على اختبار صياغة المبدع للعبارة وتشريح بنيات الإسم والفعل والحرف، تقديماً أو تأخيراً!! وقد استنبط الجاحظ ت255هـ فيما بعد نظرية النظم من آراء اللغويين والبلاغيين الذين سبقوه، ومازالت نظرية النظم وسيلة مهمة من وسائل المستوى اللغوي في تحليل النص .
6-المستوى النفسي: ضرب قديم من ضروب النقد الأدبي، أشار إليه أرسطو ت322ق.م والشاعر الروماني هوراس 8ق.م ولم يغب المستوى النفسي عن الذهنية النقدية قبل الإسلام ، وولع الشعراء بمناجاة النفس!! قارن أوس بن حجر (جاهلي):
إن الذي تحذرين قد وقعا أيتها النفس اجملي جزعا
وأبو ذؤيب الهذلي:
وإذا ترد إلى قليل تقنع والنفس راغبة إذا رغّبتها
وعنتــــرة:
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
واهتم النقاد العرب في القرون الهجرية الأربعة الأولى بالعاطفة وأثرها وقد استجد نوع جديد من الأدب بسبب الفتوحات الإسلامية هو أدب الفتوح الذي ينضح مشاعر الغربة والشكوى من الدهر.. فإذا جاء العصر الحديث برز سيجموند فرويد (1856-1936) بنظرية الدافع الجنسي ومقولات العقل الباطن المتألف من (هو) ذي الدوافع اللاواعية و(أنا الأعلى) الرقيب الذي يكبت! وقد انحاز كثير من أدباء العالم إلى الفرويدية مثل جيمس جويس ولورنس ومارسيل بروست وأندريه جيد !! ، والاعتراض على هذا المستوى هو انه يفترض العصابية والاكتئاب والعقد النفسية لدى المبدعين فكأن المحلل طبيب والمبدع مريض والنص عينة تحلل داخل المختبر .
7-المستوى الاجتماعي الواقعي: تفرد عدد من النقاد ذوي الميول اليسارية في هذا الميدان! فالأدب عندهم تنقيب في الواقع عن الواقع وتأشير الشروخ التي تحيق بقضيتي الحرية وتوزيع الثروة، ومحلل النص يحمل منتجه أعباء رسالة مؤداها أن الأديب مطالب بأن يسهم في رقي مجتمعه من خلال كشف عيوبه وتناقضاته والنأي عن روح التفاؤل التي تهوّن الخطب وتصور الواقع بصورة الحلم! وشعرنا العربي منذ وهلته الأولى نتاج واقعه الاجتماعي، والشاعر الجاهلي أسهم في تعرية الظلم والعسف اللذين يسمان العلاقة بين الزعيم وأفراد قبيلته، ولنا أن نستذكر الشعراء من الصعاليك والغربان والذؤبان؛ فإذا أشرق الإسلام التزم شعراؤه بمبادئه وسلطوا الأضواء الكاشفة على هموم الناس ومشاكلهم! وما يقال عن ذلك العصر يمكن أن يقال عن العصر الحديث فقد ظهر الكثير من المبدعين والنقاد الذين نادوا بارتباط الأدب العربي بالواقع والتعبير عن همومه . أما في الغرب فقد تبلورت الواقعية غب الثورة الفرنسية عام 1830م ثم تبلور اتجاهها عام 1880م لكن ثورة اكتوبر في روسيا 1917 وجهت الواقعية نحو خصوصية جديدة إذ اتجه المبدعون ومحللو النص نحو الواقعية الاشتراكية التي هوّنت من شأن الأسلوب والمجازات واعتدتهما ترفاً امبريالياً- وفي أحسن الأحوال- ترفاً برجوازياً! وقد احتج الشاعر مايكسوفسكي وكان أحد دعاة الواقعية على الغوغاء التي سادت الحياة الأدبية وتدخل السلطة بذرائع حماية الطبقات الفقيرة، فانتحر وأحدث انتحاره شرخاً كبيراً في معمار الواقعية، وتطرف الأدباء العرب المتمثلون لأطروحة الواقعية ففضل الكثير منهم هوية النص على ماهيته، وانتماء المنتج على فنيته، حتى أن بعض نقاد هذا المستوى أشاد بأعمال هابطة فنياً وتجنب تحليل نصوص إبداعية عالية القيمة بسبب الأهواء الحزبية والعصبيات الفكرية!!
8-المستوى التاريخي: طالب النقاد الجاهليون الأدباء بأن يوفروا في نصوصهم إشارات لماحة عن حياة الناس وحروبهم حتى شاعت مقولة (الشعر ديوان العرب) وحين أضاء الإسلام بنوره آفاق الحياة العربية عبّر الأدباء المسلمون عن مفردات الحياة الجديدة خير تعبير حتى عدّ أدب المغازي والفتوح فناً جديداً، ولا ضير في ذلك لأن الشعر تعبير عن الضمير الجمعي للأمة كما يقول يونغ! أما الأدب الغربي فقد شهد تبلور المستوى التاريخي في أعمال سانت بيف وتلميذه تين وتحددت ثلاثة عناصر لتشكيل هذا المستوى وهي: الجنس والعصر والبيئة وهذه العناصر مؤثرة في النص! وقد دعا سانت بيف إلى دراسة المبدع وفق حياته العائلية مع ملاحظة رغباته ورهباته وصلاته مع أصدقائه وطبق آراءه المستقاة من آليات التحليل التاريخي على فكتور هوجو! وعيب هذا المستوى من التحليل أنه يدرس شيئاً ويغفل آخر أو أنه يعمم الجزء على الكل كما فعل طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) حين وسم العصر العباسي بالمجون ظاناً أن عدداً محدوداً من النصوص الماجنة كافٍ لوسم عصر كامل يمتد من 132هـ -إلى- 656.
9-المستوى الصوري (الصوفني): يستثمر هذا المستوى جماليات الصورة الفنية بوصفها معياراً فنياً قادراً على معرفة قيمة النص، وقد مرّ بنا ولع النقاد العرب الجاهليين بمعيار الصورة! وإذ استمر هذا الولع مع احتراز ديني من إيماءات الصورة في البعد الجاهلي الوثني، اضطر الناقد إلى أن يسمي الصورة وصفاً مرة ورسماً أخرى ومشهداً ثالثة ثم تفرّد الجاحظ فنص في كتابه الحيوان 1/144 أن (الشعر جنس من التصوير). ومازال قسم مهم من محللي النص مهتم بمعطيات الصورة ، حتى أولئك الذين زعموا أن الصورة تضلل المحلل وتلهيه عن قيم النص المركزية! وكان ازراباوند قد أولى المستوى الصوري قدراً مهماً من اهتمامه، حتى أطلق على نفسه وتابعيه: جماعة الصورة، وهؤلاء يعرفون الصورة على أنها لحظة تشابك بين عشرات الصور الجزئية المتخيلة والواقعية، وقد ظهرت منذ الخمسينات وحتى شهر ديسمبر 1999 عشرات الكتب العربية والمترجمة التي تعزز هذا المستوى. أما شعراء الصورة فقد تأثروا بجماليات قصيدة الهايكو اليابانية (قصيدة الصورة)
10-المستوى الفطري: ذائقة المحلل هي المعوّل عليها في معرفة النص وتقويمه دون حاجة إلى إقحام الآليات العلمية في التحليل؛ وغالباً ما تكون أحكام الناقد ذاتية تتجاوز المنطق الموضوعي وربما النص نفسه فتسبغ عليه ماليس فيه أو تغفل فيه العناصر الأسلوبية المهمة، ويمكننا القول أن عقدة محللي النص المحدثين هي نفي تهمة أتباع الذائقة الذاتية عنهم، فهم يغلفون أحكامهم الذاتية بلبوس ثقيلة من الادعاء العلمي! وقد شاع هذا الضرب من الهرف في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ولكنه خرج إلى الناس -كما ألمعنا- متجلبباً بالعلم والموضوعية فنال علم تحليل النص حيف كبير كما نال النص مثل ذلك وزيادة! إذ تسلّط عليهما (النص/تحليل النص) أقلام ركبت الموجة ولم تتخل عن معامل الرغبة والرهبة! وقد أطلق عليه د.كمال نشأت (المستوى الفني) وما نراه هو أن المستوى الفطري لا يمت إلى المستوى الفني بأية صلة مقنعة مع أننا نقر أن النقاد العرب (منذ أبي تمام ت232 وحتى ابن معصوم المدني ت1120) كانوا ميالين إلى استعمال ذائقتهم الذاتية في معرفة النص وآية ذلك أننا أحصينا مواقف خمسة وعشرين ناقداً من نص ابن الطثرية ت126 المشهور فوجدناها ثلاثة مواقف: مع النص/ ضد النص/ لا معه ولا عليه، ومع اختلاف المواقف فإنها تمتلك قاسماً مشتركاً مهما بينها وهو الذائقة الذاتية.. أما النص فهو:
وتبعد حتى ابيض مني المسائحإليه وحتى نصف رأسي واضحظباء سرى منها سنيح وبارحطلبت وريعان الصبا بي جامحومسّح بالأركان من هو ماسحولم ينظر الغادي الذي هو رائحوسالت بأعناق المطي الأباطحبهن الصحارى والصفاح الصحاصحبذاك صدورٌ منضجاتٌ قرائح وما زلت أرجو نفع سلمى وودهاوحتى رأيت الشخص يزداد مثلهعلا حاجبيَّ الشيبُ حتى كأنهوهزّة أظعان عليهن بهجةفلما قضينا من منى كل حاجةوشدت على حدب المهاري رحالهاأخذنا بأطراف الأحاديث بينناقفلنا على الخوص المراسيل وارتمتنفعنا قلوباً بالأحاديث واشتفت
11-المستوى التكاملي: ويسمى أيضاً : التوفيقي أو التلفيقي و مؤداه إن نجاح محلل النص في كشف أسرار النص كامن في عرض النص على مستويات التحليل كافة من تركيبي وتفكيكي وفني وبنيوي ولغوي ونفسي واجتماعي وتاريخي..گب‘گب‘ذ ”Pl”ّب‘°ب‘@°ب‘اريخي بعد أن ألحقت فردانية المنهج وسطوته أذىً كبيراً بالحقائق التاريخية فتعين على ذلك خضوع نفر كبير لسطوة الوهم واستعدادهم لإيذاء أي جماعة تؤول التاريخ على نحو مختلف! فجاءت التعددية في التحليل والتأويل والترميم منقذاً من الضلال التاريخي ومنقذاً لدراسة التاريخ العلمية؛ ولكن الأمر مختلف مع النص الأدبي وكثرة مستويات تحليله تبدد شحناته وتشتت امتيازه ويكون هاجس المحلل استعراض ثقافاته ومواهبه والتنطع أمام القراء قبل هاجس خدمة النص (سيد العملية)، ونحن في عصر العلم ومن أول مبادئ العلم الاختصاص، بينا يتطلب المستوى التكاملي تعزيز آليات التحليل بخبرات كل المستويات والاختصاصات وذلك مالم يتيسر لواحد من البشر العقلاء!! وقد أطلق ستانلي هايمن على هذا المستوى (مدرسة النقد المتكامل) وتحمس له ودعا مريديه إلى تكريسه في تحليلاتهم للنصوص الأدبية،. ويمكن النظر إلى سيد قطب على أنه من أكثر النقاد العرب تأثراً بآراء هايمن ودعوته التكاملية وما كتاب السيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) إلا أطروحة عربية قائمة على هذا المنهج وقد حبذ الدكتور كمال نشأت معطى هذا المستوى ورأى أن (باستطاعة الناقد الواسع الثقافة العظيم الخبرة المدرب الذوق أن يضع النص الأدبي في ضوء المدارس النقدية المختلفة ويستعين بوجهات نظرها المتباينة في تفسيره وتحليله وتقييمه على قدر ثقافته وجهده وبذلك تتحقق وجهة نظر نقدية متكاملة في دراسة النص الأدبي) .
12-مستوى منهج اللامنهج: ربما جاءت الدعوة إليه بسبب الأصولية المنهجية والأصولية النصية اللتين مارستا إرهاباً على محللي النص، والأصوليتان تجهّلان أي ناقد إذا حاول الخروج عليهما وتشككان بنواياه وقيمة منجزه التحليلي، ويرى د.عبدالعزيز المقالح أن الناقد هو الذي ينجح في تحليل النص فلا يعتسفه أو يحوّل وجهته عن مسارها الطبيعي. وهانحن ننقل رأي د.عبدالعزيز المقالح بالناقد د.عبدالملك مرتاض (إنه ليس بنيوياً ولا أسلوبياً؛ ولا هو من أتباع أي منهج من المناهج الاجتماعية أو اللغوية أو الفنية، إنه ناقد مفتوح القلب والوعي، وهو صاحب رؤية نقدية ليس لآفاقها حدود؛ وهي بالضرورة رؤية شمولية ترفض أن تدرس النص الأدبي دراسة جزئية. كما ترفض أن تعالج جانباً واحداً منه أو حتى عدة جوانب. وهذه الرؤية هي التي أطلق عليها الكاتب اسم أو وصف العطائية نسبة إلى ما يمكن أن يعطيه إيانا نص أدبي ما من خلال البحث في مكامنه وزواياه -العطائية- فإن أمرها يتلخص في السطر التالي من كتاب النص الأدبي من أين وإلى أين، والسطر هو وبعبارة صغيرة ولكنها جامعة؛ (إن اللامنهج في تشريح النص الأدبي هو المنهج)؛ العطائية إذن هي منهج اللامنهج في دراسة النص الأدبي الذي يتحدد وينبعث من خلال كل قراءة يقوم بها قارئ .
عملية توصيل النص:
تعد عملية إيصال النص الأدبي من منتجه (الشاعر أو الناثر) إلى مستهلكه (القارئ أو السامع أو المشاهد) من أعقد عمليات الإدراك لأنها لا تكتفي بإبلاغ المدرك (فتح الراء) إلى المدرك (كسر الراء) حسب، وإنما تتدخل في ماهية المدرك (فتح الراء) ووظيفته؛ ووجه الصعوبة باد في إيصال جماليات النص وأفكاره إلى المتلقي بمستوى مقارب لصنعة المبدع ورغبته من جهة ومقارب لطبيعة المتلقي وحاجاته إلى النص الممتع المدهش وميزة النص الأدبي هي التعامل مع الخيال بوصفه واقعاً فنياً وهنا تكمن الإشكالية .
والنص:مساحة من المعنى الأفقي أو العمودي تسعى إلى المتلقي بوسائل شتى تتصل بإدراكيه: الحسي أو الذهني، فيصل بالقراءة أو السماع أو المشاهدة أو الإشارة! وينبغي توخي عدد من العناصر في النص لكي تتأثل فيه (الأدبية) التي تسوّغ انتماءه للأدب، وتتكفل الصياغة بتفصيل تلك العناصر، قارن: الصياغة=المعنى+المبنى(ألفاظ/إيقاع)+العاطفة+الخيال+الجمال+التفرد.
التفرّد الجمال الخيال العاطفة المبنى المعنى
المرسل النص المستقبل
1-المعنى: المعنى الأدبي عنصر مناور؛ لايقول دخائله بطريقة مباشرة، فهو معرض عن القارئ الملول أو الكسول أو الساذج أو العجل!! مقبل على القارئ الحيوي الحاذق الصبور المتهيئ. وثمة
أربعة معان: (1)المعنى الظاهر (2)المعنى الباطن (3)المعنى الكلي (4)المعنى الجزئي. وقد اصطنع ابن قتيبة ت 276هـ جدلاً بين شعرية المعنى وشعرية اللفظ وحدد ذلك الجدل بأربعة أضرب:
(1)ضرب جاد معناه وجاد لفظه. (2)ضرب جاد معناه وساء لفظه. (3)ضرب ساء معناه وجاد لفظه. (4)ضرب ساء معناه وساء لفظه.
وقد درس الجاحظ المعنى على أنه مرتبة أقل من مرتبة اللفظ، والسبب هو أن المعاني مبذولة للقاصي والداني!! بينا درس ابن رشيق القيرواني المعنى من خلال السرقات الشعرية، وأجاز كثيراً من سرقات المعاني شريطة أن يجري الشاعر السارق بعض التعديلات!! أما عبد القاهر الجرجاني فقد اقترب من ماهية المعنى ووظيفته وحدد المعنى الظاهر على أنه غير المقصود في الشعر غالباً ثم توقف عند المعنى الباطن ودرسه ضمن معنى المعنى (تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة؛ وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر) ثم تحدث الرازي والقرطاجني عن المعنى ووجدا (أن التفاوت لا يقع في المعاني الأُول وإنما في المعاني الثواني أو في معنى المعنى) . قارن خطاب تاريخي للشاعر أحمد مطر (عراقي مغترب):
رأيت جرذاً يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله يصفق الذباب
وقارئ هذا النص يستظرف المعنى السوريالي في قصيدة أحمد مطر، فثمة جرذ يخطب!! وذباب يصفق، لكن القارئ غير معني بالمعنى الأول الذي رسم لنا مشهداً فنياً كوميدياً قوامه جرذ يخطب مهدداً الأوساخ، وذباب يطرب لخطابه ويصفق.. فالمعنى الثاني هو الغاطس تحت هذا المشهد.. وماكان لنا أن نصل إليه بسوى المعنى الأول (المشهد)، وقصارى ما أوصله إلينا المعنى الثاني: أن الزمن العربي الرديء قلب الموازين ورموز هذا الزمن مسؤولة عن القتل والسرقة والكذب والهزائم.. هذه الرموز تخطب فينا عن النظافة والحرية والأمانة، وحين تشل أيدينا عن التصفيق والتصديق، ينبري الاتباع وهم الأدوات التي تنفذ فينا حكم السادة، ينبري أولئك ليصفقوا عنا.
ثم قارن هذا النص المنسوب للمجنون:
بليلى العامريةِ أو يراحتعالجه وقد علق الجناحفعشّهما تصفّقه الرياح كأن القلب ليلةَ قيلَ يُغدىقطاة غرها شرك فباتتلها فرخان قد تركا بوكر
فهل كان هاجس الشاعر تشبيه قلبه -حين سفر حبيبته- بقطاة جرّح الشرك جناحيها، والحديث عن فرخيها اللذين سيواجهان مصيراً أسود بعد غياب أمهما؟!؟ أم أن الهاجس وصف اللوعة والتفنن في إخفائها وإظهارها؟ إن القطاة وفرخيها ليس مما يهم الشاعر إلا بمقدار استعمالهم مشبهاً به لقلب الشاعر. فالمعنى استناداً إلى هذه أبعد من الوصف والتصوير.
وقد شغف الغربيون بتشريح المعنى، فريتشاردز درس المعنى الظاهر ثم توقف كثيراً عند المعنى الباطن وأطلق عليه Meaning of Meaning معنى المعنى كما درس اليوت المعنى وتوصل إلى (أن هدف المبدع لا يرتكز على التعبير عن الفكر من حيث هو فكر أو على العاطفة من حيث هي عاطفة؛ بل يرتكز على إيجاد المعادل الموضوعي الذي يتأثر إلى حد كبير بدرجة ذكاء الشاعر؛ فكلما كان الشاعر أكثر غنى في معرفته أصبح أكثر قدرة في صنعته) .
2-المبنى: ويقصد به عادةً شكل القصيدة القائم على ألفاظها والمستند إلى إيقاعها.. وثمة من يسميه البنية الخارجية بما يحيلنا إلى أن المعنى هو البنية الداخلية.. و الشكل أو الألفاظ!! وقد أنكر البنيويون فكرة تقسيم النص إلى معنى ومبنى! ونحن مع فكرة أن النص وحدة لا تقبل التقسيم، ولكن طبيعة الدرس التحليلي قائم على التشريح الذي يفترض حدوداً بين عناصر الشيء الواحد، وربما اتفق النقاد العرب والغربيون على أن أهم مافي النص شكله لأنه الوثيقة الأكيدة الوحيدة بين يدي وعيني محلل النص، فالمعنى هو نضح الشكل.. وإنما يقع التمايز بين مبدع وآخر. في حقول الشكل.. فالمعاني تدور في رؤوس الجميع ويستطيعها الجميع أما الشكل فلا يقدر عليه إلا الصفوة من المبدعين. وإذا اتفقنا على أن الشكل هو المولد الوحيد للمعاني فإن علينا عندها تأشير الإيقاع بوصفه الملمح الأقوى لشكلية النص . قارن (شكل الأمومة) للشاعر محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل):
أمرُّ من كل حتفٍ بعضُ ما أجدوالواردون أحبائي ولا أردبالجمر من نفحات الجمر يبتردفأسعفَ الدّمعُ لكن خانني الجَلَدلا السيفُ ردّ الأذى عني ولا الزَّردُوتمسحُ الدمعَ من نزف الجراح يد ما للمنية أدعوها وتبتعدُظمآن أشهدُ وِرْدَ الموتِ عن كثبٍعللت بالصبر أحزاني فيا لأسىًدعوت خِدني مِن دمع ومن جلدٍأصبحت أعزل والهيجاءُ دائرةٌأردّ رشقَ الظُبى عن مهجتي بيد
هذه المقطوعة التي تتفجّر لوعة وأسى؛ هي مرثية غنّاها الشاعر في غياب صديق أحبه وقد تشكلت من عنصري: المعنى والمبنى! أما المعنى فهو يتمحور حول حزن الشاعر الفادح، وأما المبنى فيمكن ملاحظته من خلال:
(1)صياغة العبارة الشعرية ابتداءً بالجملة القصيرة وانتهاءً بالمشهد الذي يتأثل من جمل عديدة.. وقد جمّع الشاعر الأسماء والأفعال والحروف لتنهض عمارتها الباذخة على علاقات حميمة بين الكلمات.
(2)انتقى الشاعر مفرداته بعناية فائقة من معجمه الشعري.
(3)اختار موسيقى البحر البسيط لجمالها وعذوبتها من جهة ومناسبتها للوعة الغياب من الجهة الأخرى.. فضلاً عن أنه صرّع البيت الأول فناغم بين العَروض (تبتعد) والضرب (ما أجد) فأكسب الاستهلال أثراً جمالياً تأنس إليه الأذن.. أما القافية فقد انتقى لها الدال المنفتحة على الضم الممدود، فكأن القارئ ينفث آهة حرى نهاية كل بيت. أجدو..وو..أردو..وو..
(4)الموسيفى الخارجية تنصرف غالباً إلى ذبذبات البحر والقافية معاً.
ماللمنيـ – ية أد – عوها وتبـ – تعدو – أمرر من – كللحتـ – فن بعضما – أجدو
/ه /ه//ه – ///ه – /ه/ه//ه – ///ه – //ه//ه – /ه//ه – /ه/ه//ه – ///ه
أما الموسيقى الداخلية فتنصرف إلى ذبذبات الحروف بوصفها وحدات موسيقية صغرى تسهم في البنية النغمية للموسيقى الداخلية، والذبذبات يمكن ملاحظتها بصورة الحرف السمعية ومخرجه والعائلة التي ينتمي إليها (الانفجار – التفشي – الغنة – الحلق…الخ) فضلاً عن علاقات الانسجام أو التنافر مع الحروف الأخرى والتكرار والصعود! والصعود والهبوط الصوتيين والقوافي الداخلية.
3-العاطفة: الأدب يكتب المبدع قبل أن يكتبه، ويقرأ القارئ قبل أن يقرأه فلماذا لا تستثيرنا عشية الفلكي وتستثيرنا عشية الشاعر؟ لماذا نصغي إلى وصف العالِم دون أن تصغي معنا عواطفنا، ونصغي إلى وصف الشاعر فتصغي معنا عواطفنا، بل تأخذنا منا؟؟! قارن هذه العشية:
بلقط الحصى والخط في الترب مولعبكفيّ والغربانُ في الدار وُقّع عشية مالي حيلة غير أننيأخطّ وأمحو الرمل ثم أعيده
قتامة هذه العشية آتية من اللون العاطفي الذي أسبغه عليها الشاعر، ولن يستطيع (في الغالب) الشاعر السعيد أن يكتب قصيدة باكية!! ولا يحدث العكس أيضاً!! نحن نطرب لألفية بغداد للشاعر مصطفى جمال الدين ولا نطرب لألفية ابن مالك لأن المعنى المفرغ من العاطفة لا يستفز مشاعر المتلقي؛ وتلك هي الحدود بين القول العلمي والقول الشعري!! وقد ميّز ريتشاردز ضربين من اللغة: اللغة الاعتيادية واللغة الانفعالية واشترط تخلّي كل منهما عن آليات الأخرى، والعاطفة أحد أهم أسباب خلود النص وامتيازه، وإذا كانت (الشعرية) صدمة الجمال والدهشة في النص فإن للعاطفة مساحة كبيرة من الشعرية لكن عاطفة الأديب مختلفة عن عاطفة العالم أو الرجل الاعتيادي، فالمبدع يمتلك حساسية عالية تشبه المرض ويتصرف بعاطفته وفق رؤية تنحرف كثيراً عن الرؤية المألوفة السائدة!! ثمة طقس سري يمارسه المبدع ساعة حزنه أو فرحه، يأسه وأمله فكلما تعمقت العاطفة وتجذرت كلما التهب النص وبات مطاوعاً كمطاوعة الحديد للنار على أن الإشارة واجبة إلى أن الأديب هو إنسان يمتلك عاطفة ويوظفها في صناعة نصه، وليس من المحبذ أن تمتلكه العاطفة وتقوده، ثم نشير إلى أن العاطفة وحدها لا تصنع نصاً جميلاً مهما اتسعت وتعمقت وجملت!!.
*من ألفية بغداد لمصطفى جمال الدين:
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرودجت عليك وليل وجهك مقمرأن تسمني وغذاء روحك يضمرأن تُظلمي أفقاً وفكرك نيّرفيها يطول بها الحديث ويقصرللآن من صخب الحوادث موقرلم نلق إلا صورة تتكررووزيره، ولمن بهم يتأطّروصباحِ نُزْهته وما يتبطرعنتا دلالك إذ يضمّك (جعفر) بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرمرت بك الدنيا ووجهك مشمسلله درّك أيّ سرّ خالدأن تشبعي جوعاً وصدرك ناهدقصي فنحن وراء (ألفك)ليلةودعي الخيال فشهريارك سمعهفإذا تصفحناك سفر كرائملخليفة وأميره، ولحاجبمِن كل مشغوفٍ بليلة قصْفهفكأن كبرك إذ يسومك (تيمر)
*من ألفية ابن مالك:
واسم وفعل ثم حرف الكلموكلمة بها كلام قد يؤمومسند للاسم تمييز حصلونون اقبلن فعل ينجليفعل مضارع يلي لم كيشم كلامنا لفظٌ مفيد كاستقمواحده كلمة والقول عمبالجر والتنوين والندا وألبتا فعلتَ وأتت ويا افعليسواهما الحرف كهل وفي ولم
4-الخيال: تسعفنا المعجمات اللغوية (لسان العرب مثلاً) بمعلومات قيمة عن بدايات تشكل دلالة الخيال في الذهن البشري! فهو ظل الشيء؛ كأن تثبت عصا في النهار فتترك أشعة الشمس الساقطة عليها ظلاً على الأرض!! هذا الظل أطلق عليه العرب الخيال، أما الدلالة المستفادة من السياق فتحيلنا إلى أن الخيال هو ظل الشيء وليس الشيء نفسه!! إذ لاخيال دون ارتباط ما بالواقع، والخيال مصهر كبير؛ سبيكته مزاج الواقع والمجاز، الصحوة والحلم؛ الصدق والكذب، اللذة والألم، الرغبة والرهبة… وسوى ذلك الكثير من الثنائيات، فبأي مصهر يمكن تذويب هذه النقائض وجمعها في سبيكة واحدة إن لم يكن الخيال ذلك المصهر؟ فالخيال رؤية منحرفة للواقع تفككه وتعيد تشكيله وفقها، والمجاز رؤية منحرفة للدلالة، والجدل قائم بينهما!! وقد تنبّه ابن جني ت392هـ في الخصائص إلى أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة له. أما الظن بأن الخيال شيء من الإبهام فهو ظن ليس في محله. لأن الخيال منفتح والإبهام منغلق، لكن الغموض الشفيف عنصر مساعد في عملية التخييل، لأنه يوقد الانتباه ويعزز التماثل في اللاتماثل! يقول محمد علي اليوسفي وهو يوازن بين الفتنة والمتخيل (..يمارس المتخيل فتنة خاصة عندما يتعلق الأمر بالكتابة؛ إنها جاذبية تتفرع دلالاتها بتفرع معاني الفتنة في اللغة العربية… إنه برنامج حافل بكتابة تحاول طرق أبواب المستحيل وتسعى إلى مقارعة المحظورات وتذليل العراقيل سواءً أكانت ناجمة عن أسباب ذاتية متعلقة بالكاتب أم عن أسباب موضوعية يسنها المجتمع ضمن موانع ومحرمات وشرائع..) ثم يتساءل: فهل هناك تاريخ وهمي حقاً؟.. خصوصاً إذا كان النصف من حياتنا حلماً والنصف الآخر من حقيقتنا خيالاً طارداً للصور باتجاه الصناعة؟ وهل هو المتخيل الجمعي الثقافي؟ (استدعاء الأقنعة؛ توظيف الأسطورة القديمة مثلاً) ثم يقرر (عندما ننساق وراء المتخيل أثناء الكتابة نبتعد عندئذ عن مهمة التوثيق والتوظيف ونقترب من سواحل الفنتازيا) .
ويرى الحبيب شبيل ضرورة وجود شفرة تمثل مرجعية مشتركة بين أطراف عملية التخييل (فلاعبرة بالمتخيل بغير تقبل؛ وذلك أن فعل التخييل قاسم مشترك بين المبدع والمتلقي) ثم يلاحظ شبيل أثر الثنائية (واقع/متخيل) في عملية التخييل ذلك (يبدو أن الثنائية متباينة إلى حدّ ما؛ ذلك أن المتخيل مخالف للواقع من حيث أن الواقع كائن في الوجود؛ أما المتخيل فكامن في أفق ما في وعي المتخيل أو لاوعيه، لذلك فالمتخيل كائن لازماني ولامكاني!! على أن هذا التباين مفهومي لاغير فبين الواقع والمتخيل صلات عميقة لعلها صلات الأصل في الوجود؛ فالمتخيل يغدو مستحيل الوجود بغير الواقع) . وكان أحمد أمين قد قسّم الخيال ثلاثة: الخيال الخالق والخيال المؤلف والخيال الموحي وهذه التقسيمات متأثرة بإنجازات كولردج في تصنيف الخيال . وقد آنس د.كمال نشأت إلى تقسيم أحمد أمين -كما يبدو لنا- فقسم الخيال إلى: الخيال الابتكاري والخيال التأليفي
والخيال التفسيري . ويمكننا القول أن أوسع مداخل الخيال هو المجاز وأن أوسع أبواب المجاز هو التشبيه التام (التقليدي) أو الناقص (الاستعارة والكناية) وآليات التجسيم والتراسل والقناع..
وأقرب النصوص إلى نفس المتلقي أحذقها في التعامل مع الخيال: قارن: *ريح الجنوب للشاعر اسماعيل الوريث (اليمن):
A. وحتى الذين تسيرهم ريحهم نحو دارك؛ ليسوا بأحبابنا./أضع القلب في رحلهم / وأودّعهم باكياً./فأنا بعد يوم رحيلك لستُ أنا / صرت في حبك المتعدد بالشوق/ والمتلهّف بالوجد/ صرت سماء تساقط عن أفقها الأنجم/
B. كان لي في مدينة صنعاء ما يشغل القلب/أوجه غاداتها المستكنة تحت اللثام/وبين أزقتها كان شوقي يطوف/وكنت أسافر بين الحواري العتيقة/طيفاً من الذكريات/وجئت/فحوّلني بحر عينيك من شارد/في مواضي العيون الغزيرة بالحزن/والمستفيضة بالسحر/والمستحمة بالعشق/حولني موجة تتصعلك في العصر/تحلم بالليل في شاطئ/عانقتني متاعبه وشربت المسرات من كأسه .
5-الجمال: لا أحد يجهل فعل الجمال في النفس والنص والهيأة، نحن نعرف الجمال ونعشقه بيد أننا نجهل ماهيته!! وقد اختلف علماء الجمال حول ماهيته وهم يحاولون صياغة نظرية محددة له، فمنذ كونفشيوس (551ق.م-478ق.م) الذي جعل الجمال في التناغم والملاءمة والحميمية والسؤال مازال ماثلاً: ما الجمال؟ ، وسقراط يقرن بين الجمال والمنفعة، فالوجه ذو العينين الجاحظتين والأنف الأفطس يكون جميلاً حين يكون الجحوظ سبباً في قوة النظر والفَطَس سبباً في تنفّس أفضل، واللون الأسود جميل حين يكون سبباً في قوة البدن ، ووضع علماء الجمال عدداً من الكلمات التي تحمل في سويدائها دلالات جمالية ففرّقوا بين الجميل والمليح مثلاً، فالجميل جميل بذاته
ولا شأن لجماله بك لأنه محايد أما المليح فهو جميل وزيادة والزيادة هي تعاطفك
معه ومن هنا يكمن الخطر في معرفة قيمة المليح أما أهم الكلمات التي عللت الجمال
أو حاولت الاقتراب منه فهي:
الاقتران. 14 المضمون. 1 * الجمال (في) أو (لأنه) ç
الصدمة. 15 الشكل. 2
التسلط. 16 السماوي. 3
الجاذبية. 17 الأرضي. 4
الغرابة. 18 الخير. 5
الوضوح. 19 الراحة. 6
الغموض. 20 المنفعة. 7
الطبيعة. 21 الانسجام. 8
التناظر. 22 الألفة. 9
المثال. 23 التناسق. 10
المتعة. 24 البكارة. 11
السمو. 25 الطهارة. 12
الفرادة. 26 الدهشة 13
وقد لا تختلف مسوغات الجمال الأدبي عن مسوغات الجمالات الأخرى كثيراً، ومالبث الجدل ساخناً حول مكمن الجمال في النص: أهو الشكل ام المضمون أم الإثنان معاً؟! أهو شيء آخر لا علاقة له بالنص مثلاً.. كأن يوافق النص مزاج المتلقي واستعداده!! وقد اختزل رولان بارت جل جماليات النص في مبدأ اللذة . أما ابن قتيبة فقد وضع مسباراً دقيقاً لجمال النص الشعري فقال (أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه) بينا نقل اشتراطات ذاتية تسهم في كتابة الشعر الجميل وتعتمد الاستعداد والطبع (والشعراء في الطبع مختلفون منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل) (فهذا ذو الرمة أحسن الناس تشبيهاً وأجودهم تشبيباً وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء) ، ويونس بن حبيب ت182هـ مؤسس فكرة اقتران النص الجميل بطبع الشاعر فحين سئل عن أشعر العرب (أي أجملهم شعراً) قال: أشعر العرب امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب ، ومقياس جمال النص عند أبي عمرو بن العلاء القدامة أولاً ثم كثرة الافتنان والاختراع وكثرة الأعاريض .
6-7-التفرّد والصياغة: قال ت.س. اليوت (ليس للشاعر شخصية يصوغ بها عبارته، بل لديه أداة خاصة) والأداة التي يستعملها الشاعر هي اللغة لكن الاختلاف قائم بين شاعر وآخر حول فرادة كل واحد في استعمال اللغة وقال روبرت ب.وارن وهو يحاضر في (الشعر الصافي وغير الصافي): إن القصيدة لابد أن تستحق الجهد المبذول فيها إن شاءت أن تكون قصيدة جيدة.. الشعر لا يختص بأي عنصر من العناصر وإنما يعتمد على مجموعة من العلاقات، أي على المبنى الذي نسميه قصيدة.. والسؤال هو: أي العناصر لا يمكن استخدامه في هذا المبنى؟ ولي أن أجيب بأن لاشيء في متناول التجربة الإنسانية ليس له حق الدخول في الشعر..أهـ . إن عنصري الفرادة والصياغة متماهيان لأن كل منهما يصلح أن يكون سبباً للآخر كما يصلح أن يكون نتيجة أيضاً!! أما العناصر الأخرى (المعنى المبنى العاطفة الخيال الجمال) فهي المسالك التي ينتهجها النص وهو يرتقي جلجلة الشعرية، وينبغي تكاملها وتفاعلها في النص الواحد؛ ولكن تكاملها في النص قد لا يعني توفر النص على شعريته المطلوبة دون صياغة تشدّ هذه العناصر إلى بعضها في بودقة قوامها موهبة منتج النص ودربته ورؤيته للنص والحياة والمتلقي معاً!! وجدير بنا أن نتذكّر مقولة الجاحظ (الشعر صناعة وضرب من الصياغة) وتعول صناعة الشعر في قدرة المنتج على صياغة هذه العناصر داخل سبيكة النص الصافي، ولن يتفرد النص بأسلوبه تحت أي شرط جمالي أو دلالي إذا لم تتهيأ له صياغة تعكس قدرة النص في التوصيل! وإذا كان الأمر كذلك فإن النص المتكامل هو النص الذي يوهم المتلقي بعفويته وتلقائيته بحيث لا يشعر المتلقي بثقل الصياغة! فالنص الجميل كما يقول ديفد ديتش (لعبة بارعة مادتها الكلمات) ص244 (م.ن)! وكان الجاهليون قد التفتوا إلى هذه الإشكالية فقسموا الشعر قسمين: مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الذي يتلقاه المتلقي وكأنه طالع من الموهبة دون تدخل يثقل النص ويبهظ الذائقة، أما المصنوع فأمره بيّن، فأنت قبالة نص صقله الحذف والتعديل فكأنه منحوت من حجر.. وهذا القول لا يؤخذ على ظاهره.. فالشعر المطبوع محتاج إلى صناعة ثقيلة وصياغة كبرى ليضلل المتلقي ويوهمه بأنه شعر موهبة لا شعر صناعة والشعر المصنوع هو الشعر الذي أخفق منتجه في صناعته وصياغته والصياغة ليست عملاً تقليدياً ميكانيكياً، بل هي عمل يتصل بخاص الخاص وينتقي لغته الاستثنائية من اللغة السائدة مستفيداً إلى أبعد الحدود من جاذبية الإدهاش، فأمر الصياغة هو المسوّغ لمقولات النص المصنوع والنص المطبوع بما يهيء لنا القول أن شعرية النص مقترنة بقدرة مبدع النص على صياغة نصه وفق أسلوب متفرّد.. قارن هذه الصياغة:
بلقط الحصى والخط في الترب مولعبكفّي والغربان في الدار وُقّع عشية مالي حيلة غير أننيأخط وأمحو الرمل ثم أعيده
بيتان قالا الذي لم تقله القصيدة!! فقد استطاعا إيصال مشهد كبير لطبيعتي الشاعر ومحيطه بشكل تلقائي، بيتان قالا كل شيء بعبارة سهله ممتنعة، فمنذ الصدر الأول نجدنا قبالة (العشية) التي تحيلنا على تكسر النهار وتفتّت الضوء والأمل معاً!! لقد كشف الشاعر مساحات اليأس التي تحيط بالبؤرة. واليائس يعادل إحساسه بالعبث والمرارة من خلال إشغال نفسه بكتابة اللاكتابة (أخط وأمحو الرمل) ويكتب ويمحو ويكتب ويمحو وفق استمرارية تعتمد التخييل،فإذا اطمأن الشاعر إلى أن البيت الأول (بصدره وعجزه) مع البيت الثاني (الصدر فقط) قد أوصلا إلينا بؤرة الهمّين الدلالي والجمالي ختم النص بقفل فني يرقى إلى المعادل الموضوعي (عجز البيت الثاني ç والغربان في الدار وقّع) هذا المعادل كان قفلاً محكماً لدائرة النص الفائق!! وقد يجيء شاعر بعده فيقول المفردات نفسها ويشيع الجو ذاته دون أن يوفّق في كسب انحيازنا إلى نصه وذلك بسبب إخفاقه في الصياغة وخسارته عنصر التفرد!! وكم من شاعر قال كلاماً جميلاً بسبب نجاحه في الصياغة أفسد على الآخرين تناول معناه وإن أصرّ الشاعر اللاحق على صياغة المعنى السابق دون أن يمتلك قدرة تفوّق الشاعر الأول فإنه -والحال هذه- سيعرّض نفسه إلى مساءلة ذوي النظر من النقاد والمتلقين معاً.!! ولن يكون التفرّد ممكناً بسوى وعي كبير لعملية صناعة النص، ومقولة (خالف تعرف) لا تشفع لشاعر عاجز عن الصياغة المتقنة، ولن تمنحه التفرد الجمالي المطلوب، وهنا مكمن الهوّة التي سقط فيها عدد من الشعراء القدامى والمحدثين أولئك الذين يلهثون وراء التفرّد دون أن يمتلكوا أسبابه؛ زد على ذلك أن الشاعر الواحد قد يخفق في صياغة نص وينجح مع آخر.. بل ربما صنع الأديب نصاً واحداً، فنجح في صياغة مقطع منه وأخفق في صياغة الآخر.. وهذا يفسر حذر الأديب في تعامله مع النص آن ولادته، وكم من مرة أنفق الأديب وقتاً طويلاً وهو يعالج النص.. أفكاره عباراته مداخله أواسطه نهاياته بما يشبه إنجاز السيناريو ولكل مبدع طريقته في الصياغة.. وينبغي القول أن أصعب مافي عملية ميلاد النص هو صياغته وكان الحطيئة يقول (خير الشعر الحولي المنقّح المحكك) وكان زهير يسمي أفضل قصائده الحوليات وقال سويد بن كراع يصف صياغة شعره:
أصادي بها سرباً من الوحش نُزّعا أبيت بأبواب القوافي كأنما
وقال عدي بن الرقاع:
حتى أقوّم ميلَها وسنادهاحتى يقيم ثقافُه منآدها وقصيدة قد بتّ أجمع بينهانظر المثقّف في كعوب قناته
وقيل لكثير كيف تصنع إذا أعسرت عليك صياغة الشعر؟ فقال: أطوف في الرباع المخيلة والرياض المعشبة فيسهل عليّ أرصنه ويسرع إليّ أحسنه وكان الخليل بن أحمد يعتذر عن قول الشعر بقوله ( ما أريده لا يأتيني وما يأتيني لا أريده) والفرزدق يقول ( وربما أتت علي ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيت) .
ويقول أحمد رامي: أنا لا أكتب الشعر بل أغنيه، أكون في حجرتي منفرداً وغالباً في جو مظلم بعض الشيء وعندئذ أغنيه في خلوتي وبذلك يظهر الشعر… أنا لا أفهم أن القصيدة تبزغ وقت النظم فحسب، بل على العكس من ذلك أن بعض القصائد تعيش معي فكرتها عدة سنوات قبل أن أنظمها..إ.هـ ، والشاعر يستعين ببعض الطقوس التغريبية ظناً منه أنها تساعده في صياغة شعره ولبيد العامري ( جاهلي) غرّب هيأته حين هجا الربيع في بلاط النعمان؛ والأعشى يدخل غرفته المظلمة ببيته في منفوحة ويرجّل جمجمته بالخمر زاعماً أنه يلتقي بشيطانه (مسحل) الذي يصوغ الشعر نيابةً عنه!! وقد أخبرني الشاعر د.حازم الحلي أن جده الشاعر الكبير السيد حيدر الحلي كان إذا أراد كتابة قصيدة في الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب (رض) يدخل غرفته ويأمر عياله بأن لا يقطعوا عليه خلوته ثم يرتدي جلباباً أصفر ويمسك بالسيف ويدور في الغرفة والعرق يتصبب من جبينه! ويستمر ذلك وقتاً طويلاً؛ فإذا خرج من غرفته كانت القصيدة قد اكتملت . وقد أخبرني شاعر العرب الأكبر (الجواهري) في لقاء تلفزيوني أجريته معه سبتمبر 1976 -بغداد- أنه لا يستطيع كتابة أي قصيدة مالم يغن أبياتها بالترنّم وثمة عدد من الأطوار (المقامات) يستعين بها في الغناء
وفي مقدمتها طور جاهلي اسمه الركباني.. ويردد ألحاناً مبهمة ممزوجة بكلمات بعضها مبهم بسبب ازدراده لشيء من حروفها ثم تأتي القصيدة مصاغة . وهذه الأخبار تسوّغ لنا تركيز
ابن المقفّع على الصياغة وسلب منتج النص كل مزية سوى مزية الصياغة أو النظم فالشاعر (وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل ووضع كل فص موضعه وجمع إلى كل لون شبهه وما يزيده بذلك حسناً فسمي بذلك صانعاً رقيقاً وكصاغة الذهب والفضة صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية.. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدع فإنه إنما اجتباه كما وصفنا) ، ثم تلقف الجاحظ جذوة هذه الفكرة بعد قرن تقريباً
لينظّر هذه المقولة ويطلع على الناس بنظرية النظم التي تكرّس فكرة الصياغة وأهميتها؛
فالمعاني موفورة لكل من يريدها وإنما العبرة بصياغة هذه المعاني وترتيب الجمل
التي تسهم في الديباجة. والنظم هو الصياغة وقد (تحدث الجاحظ عن النظم وسمى أحد كتبه
نظم القرآن وذهب إلى أن كتاب الله معجز بنظمه البديع -الذي لا يقدر على مثله العباد- وتطورت الفكرة عند أبي سعيد السيرافي الذي قال: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخيروتوخّي الصواب
وتجنب الخطأ في ذلك. وإن زاغ شيء عن النعت فإنه لا يخلو أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أومردوده لخروجه عن عادةالقوم الجارية على فطرتهم والفرزدق أفسدعبارته حينما قال:
أبو أمه حي أبوه يقاربه وما مثله في الناس إلا مملكاً
وتمتع الشاعر (أمل دنقل) بقدرة فائقة على صياغة القصيدة، حتى تفوّق على مجايليه،
فهو ينتقي الموضوع أولاً ثم (يخمّره) في ذاكرته الشعرية ويجرّب عدداً من الاستهلالات
والإيقاعات له ثانياً بعدها يقسمه إلى وحدات دلالية ومشاهد.. فإذا اكتملت القصيدة
في صدره، قرأها على عدد من أصدقائه من الأدباء وغير الأدباء وينظر في عيونهم
ليرى مدى تفاعلهم مع قصيدته الجديدة، وربما عدّل مرات ومرات بسبب ملاحظات
أصدقائه وانطباعاتهم فإذا اطمأن إلى أنه حذق الصياغة، وأن القصيدة الجديدة جميلة
وجديدة وقريبة من همه وهم المتلقي.. كتبها وأعلن ميلادها.. .
قارن الوصايا العشر (لاتصالح) للشاعر أمل دنقل:
1/ لا تصالح/ ولو منحوك الذهب / أترى حين أفقأ عينيك / ثم أثبت جوهرتين مكانهما / هل ترى / هي أشياء لا تشترى / ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك / حسكما فجأة بالرجولة / هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقه / الصمت – مبتسمين لتأنيب أمكما / وكأنكما / ما تزالان طفلين / تلك الطمأنينة الأبدية بينكما/إن سيفان سيفك/ صوتان صوتك / إنك إن متّ / للبيت رب / وللطفل أب / هل يصبر دمي -بين عينيك- ماء؟ / أتنسى ردائي الملطخ / تلبسه -فوق دمائي- ثياباً مطرّزة بالقصب؟/إنها الحرب قد تثقل القلب/لكن خلفك عار العرب.
2/ لا تصالح على الدم حتى بدم / لا تصالح ولو قيل رأس برأس / أكلُّ الرؤوس سواء ؟! / أقلبُ الغريب كقلب أخيك / أعيناه عينا أخيك؟! / وهل تتساوى يد … سيفها كان لك / بيد سيفها أثكلك / سيقولون: / جئناك كي تحقن الدم. / جئناك كن -يا أمير- الحكم / سيقولون: / هانحن أبناء عم / قل لهم إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك / واغرس السيف في جبهة الصحراء / إلى أن يجيب العدم / إنني كنت لك / فارساً / وأخاً / وأباً / وملك
ويمكن القول أن الصياغة عند الشاعر سليمان العيسى كانت السبيل اللاحب إلى تفرّده بين الشعراء العرب من مجايليه؛ فهو يُنْضِجُ قصيدته على نار هادئة، ويمخضها في متخيله المركّب ثم ينشرها على مساحتي الحقيقة والمجاز؛ مستعيناً بذاكرة شعرية عتيدة تزوّده بالكلمة المناسبة والصورة المنسجمة والنغمة المتجاوبة لحظة الاستعانة، بسبب موهبة كبيرة وُهِبَها العيسى وتجربة عريضة اختزنها ورؤية نافذة وحّدت بين آلتين (البصر/البصيرة) قارن خذي شفتي – سليمان العيسى:
يسلّم عند الباب بالدمعة الهُدْبُعلى العَتباتِ السّمْر ثغرٌ ولا لبُّكما ارتعشتُ في العُش صادية زُغْبُأغانيه.. هل تَبْلَى أغانيه.. هل يخبو؟ويُشعلُ عودَ العمرِ في خَفقةِ قلبُيشد عليّ الرملُ، يعرفُني العشبُعتيقٌ كخمرِ الله، يصبو كما أصبوعلى الظلُ، أضلاعي وأضلاعهُ نَهْبُأنا دفترٌ لم يفتحاهُ.. أنا الكُتْبُيودّعها سِربٌ.. ليَلقفَها سِرْبُخيالٌ تساوَى عنده البعدُ والقربُ؟هنا ابتسمَتْ.. لما التقى الدربُ والدربُبنصف صباح الخير.. حَسْبُ الهوى حَسْبُ خذي شفتي يا دار، وليركَع الحبلَثَمتُكِ سبعاً.. ما ارتويتُ.. ولا اكتفىأتيتك هذا الصبحَ كالسر زائراًخذي شفتي فالطفل عاد.. ولَمْلِميخُذي شَفَتي.. هل تُشْبعُ الجمرَ قبلةٌصغيرُكِ مِلءَ الدار يَنهدُ خاشعاًيُوشوشُني البابُ القديمُ ومَقْعَدُأُريحُ بقايا من شبابي.. وأَرْتَميأنا النخلةُ العطشى.. أنا اثْنانِ تحتَهاخُذي شفَتي اقرأْ بقايا قصيدتيأليس لها يا دارُ في كل خُطْوةٍهنا وقَفَتْ يوماً.. هناك تَحَدَّثَتْهنا ارتعشَ الثغرُ الجميلُ مُتَمْتِماً
كما كان يا داري، ومحرابيَ الرَّحْبُجدارٌ على هَمْسي وهَمْستِها رَطْبُعلى ألفِ طيفٍ من ضفائرها يحبودعي رَمَقاً من حرّها.. إنه عذْبُج كؤوسي على وَهْجِ الشباب، ومِنْبَريأَلُمُّ صدى صوتي، ويُورِقُ في دميوأمضي غريباً في المَمَرّ وأنثَنيممرٌ تركنا في حناياه جمرةً
أتيتُ وأحلامي على خَشَبي صَلْبُوعمري وسيلٌ من فجائعنا سَكْبُحُطاماً، ولا شكوى لديه ولا عَتْبُعلى شَفَتينا أُمةٌ، ومشى ركْبُعِطاشاً، ويُسقَى من براءتنا الجَدْبُولا بَرْقَ في ليل العذابِ ولا شُهْبُولو صُلِبَتْ أحلامُنا.. زادُنا الشعبُعليه اسمَهُ، لاخوفَ يُجْدِي ولا رُعْبُيَصُكّ دمي خطبٌ، ويسحقُني خطبُوغيرَ النعيبِ المُرّ ما خاضتِ الحربُوقاتلَ حتى الموتِ وانتصرَ الكِذْبُفغيرَ الفدائيين لم يَلدِ التُّرْبُمن اللحنِ لا تَخْشَى الحريقَ ولا تكبو؟بشمسكِ حتى روَّضَ الوتَرَ الضّرْبُفإصرارُه باقٍ، وفرسانُهُ غُلْبُجج أتيتكِ هذا الصبحَ ظلاً مجرّحاًأقبِّلُ بَدْءَ النارِ وهي قصيدتيوأستغفرُ الطفلَ الجريحَ، لقد أتىأُقَبِّلُ بدءَ النار، يومَ تململتْطلعنا على الدّنيا صلاةٌ جديدةٌوسمّرتُ في ليل العروبةِ مُقْلَتيرَحلنا، رَحَلْنا جائعينَ.. وزادُناأأنفُضُ عني القبرَ يا دارُ؟ أطْلِقيأأنفُضُ عني القبرَ؟.. من عَتَماتِهتركنا لأقدام الغُزاة جلودَناتركْنَا صحارانا.. تَرَكْنا جباهَناتَرَكْنَا.. دعي صمتي يَعضُّ على فميأأُطعِمُ يا بغدادُ عودي بَقيَّةًتعلمتُ منكِ النارَ.. عَمّدتُ نَبرتيوأشعلْتُ حرفي في لهيبكِ مرةًججج
إلى الشمسِ شيءٌ في مقابِرنا صُلْبوأعرِفُ أن الشوطَ في كَفَني صَعْبُ ونُدْفَنُ يا بغدادُ.. ثم يُعيدُنابِنَعْشي تَحَدّيتُ الدُّجى، بجنازَتي
دعي شَفْرَةَ السكين في الجرح واسخَري على شَفْرَة السكين قد يُولدُ العُرْبُ