النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 4
الفصل الثالث: (المدارس الأدبية) إذا كان المنهج The Method هو سبيل الإنسان في الوصول إلى الحقيقة؛ فإن البحث The Research كفيل بإدراك الحقيقة من خلال تحليل عواملها وإيصالها إلى المعنيين بها! لكن ثمة مصطلحات أخرى تقترب بدلالاتها من مصطلح منهج، مثال ذلك: Manner & Mod & Way & Fashion & System والخلط حاصل أحياناً بين مذهب doctrine ومدرسة School ومنهج Method ويذهب جبور عبد النور إلى أن المذهب الفني: آراء وتقنيات يعتمدها الفنان أو الأديب في تحقيق آثاره وتقترب دلالته من مدرسة!! وفي كتاب الشامل ص825: إن المذهب اتجاه تثمّره المدرسة إ.هـ ويبدو أن الخلط قد استوردناه من الغرب! يقول د.علي جواد الطاهر: كثيراً ما أطلق الغربيون على كثير من هذه المذاهب اسم المدارس كأنهم بذلك يشيرون إلى مافيها من مناهج وخطوط عامة وخلاصة الحوار مع هذه الآراء وسواها قرّ الرأي البحثي على تسمية الاتجاهات الأدبية التي تشكلت عبر الزمكان (مدارس) من نحو المدرسة الكلاسية والمدرسة الرومانسية والمدرسة الواقعية…الخ. والمدارس: اتجاهات عزرتها التجربة وعوامل البيئة والثقافة فبانت أطروحاتها على أيدي عدد من المنظّرين والمبدعين معاً.. وقادت جماعة من المريدين باتجاه تحقيق حلمها الأدبي، فالمدارس مؤسسات شيدها الواقع المتطور فهي تحاكي الواقع ثباتاً وتطوراً وهي إلى هذا تحاكي الواقع من حيث حقب التشكل والفتوة والشيخوخة وربما الموت أيضاً، وذلك ما سنراه لاحقاً. 1-الكلاسية Classicism : مصطلح مقبوس من أصل يوناني Classicus ويعني الصف أو الجماعة ويعني أيضاً الصفة التي تطلق على الطبقة العليا في المجتمع اليوناني، وكان المجتمع الروماني القديم ست طبقات أعلاها الطبقة الكلاسية بينا نرى أن المجتمع اليوناني طبقتان فقط هما طبقة النخبة وطبقة السّوقة، وظهر أدبان استناداً إلى هذه الطبقية هما: الأدب الكلاسي (خاص بالنخبة) ثم الأدب البرولتاري (خاص بالسّوقة)!! وقد عني الأدب الكلاسي بأعمال أفلاطون وأرسطو (من اليونان القديمة) وبأعمال (هوراس ولونجينوس وشيشرون وديونسيوس وديمتروس (من روما القديمة) وباتت كلمة نضج Maturity مرادفة لكلمة كلاسية! وقد حدد ت.س. اليوت عدداً من خصائص الكلاسية هي: 1-الأسلوب المحكم العريق 2-الموضوعات المعبرة عن النضج العقلي والارتقاء بالنص بعيداً عن الأثر العاطفي 3-التركيز على السلوك الراقي وعدم فسح المجال في الأعمال الأدبية للسلوك الاجتماعي المتدني 4-النضج اللغوي 5-ويبدو أن الكلاسبة وهنت، فتعين على الأجيال اللاحقة تجديد دمائها فظهرت الكلاسية الجديدة New Classicism في الآداب الأوروبية منذ عصر النهضة حتى منتصف القرن العشرين(!) وغاية هذا الظهور الجديد هو (1)تركيز الاهتمام بالأدبين الإغريقي والروماني، والتشبث بطرائقهما في التفكير والتعبير 2-مناقشة أثر التلقائية (المحسوبة) في صناعة النص الجميل، (3)عناية الأدب بالعقل والعاطفة معاً والحقيقة والمجاز (4)هذا التطور النسبي لا يعني التخلي عن العناية المكثفة بالأدبين القديمين اليوناني والروماني، بل هو فعل يعزز دوريهما!! (5)التشدد في الأجناس الأدبية وعدم قبول فكرة التحديث أو الخلط (6)العناية بدور الأدب في صناعة البهجة عند المتلقي. إن أخصب فترات انتشاء الكلاسية الجديدة كانت بين عامي 1650-1800 أما فترة ظهورها فمقترنة بالنهضة الأوربية العظمى Renaissance التي كانت تمهيداً للعصر الحديث أما تنجيم مسوّغات الظهور فهو كالآتي: 1.حركة إحياء العلوم والفنون Revival of Learning. 2.انحلال البابوية وتسلّط الإقطاع والقنانة. 3.فتح القسطنطينية عام 1453 على أيدي المسلمين الأتراك مما حدا بالعلماء والمبدعين النصارى إلى مغادرتها واختيار إيطاليا منفى لهم، وترتب على ذلك أنهم حملوا معهم كتبهم ومخطوطاتهم الإغريقية 4.اختراع آلة الطباعة على يد يوحنا غوتنبرغ عام 1444؛ وقد نقل هذا الاختراع المعرفة من الاقتصار على الأثرياء والقلة إلى الفقراء والكثرة، 5.تشرذم البلاد الإيطالية إلى إمارات صغيرة يحكمها أمراء طموحون؛ ميالون إلى الشهرة والظهور بمظهر الأمير الذي يرعى العلم والعلماء والأدب والأدباء.. وفي طليعة هؤلاء أميرا فلورنسا والبندقية.. مما مهد لظهور عبقريات مؤثرة (دانتي-بترارك-بوكاشيو). 6.الاستقرار الذي نعمت به إيطاليا وارتفاع دخل الفرد، بسبب مركزها التجاري المتوسط بين الشرق والغرب فانصرف الكثير من الإيطاليين إلى تبني الفنون والثقافة والأدب 7.استندت النهضة الأدبية في إيطاليا إلى تقليد الأدب القديم (اليوناني والروماني) واستيحائه في الموضوعات الأدبية وأساليبها.. فقد ساد اعتقاد بأن الأدب القديم منضبط ومحمي بالتقاليد 8.اعتزاز إيطاليا بماضيها القديم إذ لم يكن لها أدب ذو قيمة في العصور الوسطى والأدب! الإيطالي القديم كان منضبطاً ومحمياً بالتقاليد أيضاً. 9.وشغف الطليان الشديد بالمسائل اللغوية والمناقشات النحوية والصرفية وعشقهم للفن والجمال ، وكان النقاد الكلاسيون يقيسون عظمة أي أدب على مقاس الأدبين اليوناني والروماني، وقد صرّح بذلك الأديب الإنجليزي والش Walsh عام 1706 قائلاً (إن أكبر الأدباء المحدثين في كل لغات العالم هم أولئك الذين قلدوا الأدباء القدماء إلى أكبر قسط من التقليد، ومقياس الإبداع هو قربه أو بعده عن إبداع هومير وفرجيل وهوراس!!.). قارن عدداً من الآراء في الكلاسية: لوكاش: إنها سيطرة العقل الواعي. سانتسبري: يجري التعبير في الأعمال الكلاسية عن الفكرة مباشرة وفي أقصى ما يمكن من دقة في صياغة الشكل. ليليان.ر.فرست: الكلاسي شغوف بالصنعة والتقليد ولوع بالمحاكاة لأدب الصفوة! والكلاسي يستشعر السخرية إزاء أعمال الشباب ويرى إلى همومهم صغيرة ومنحطة!! غوتة: الكلاسية لغة العقل، كمال في الاعتدال، لأن الكلاسية صحة والرومانسية مرض. برونتير : الرومانسية اضطراب الخيال وانتصار الشطط وسيادة العمى والغرور والانحطاط الأدبي، والكلاسية نقيض ذلك . ويعد الشاعر الإنجليزي (بوب) واحداً من أبرز دعاة الكلاسية، فقصائده على رأي النقاد خالية من العاطفة، ذات رؤية ضيقة للحياة وأسلوبه مغرق في المحسنات البديعية.. قال في إحدى قصائده: (أشتاق إلى حياة أجدادي العظماء / لا أنا قادر أن أحلّق مثل الطير في زمنهم ولا هم قادرون / آه لو كنت أستطيع / لكن العقل يهزأ بهذا الضعف الإنساني المريع / لكن قوانين الطبيعة توبّخ الحلم ولا تسمح بمثل هذا اللقاء) ولكن: أيمكننا عقد مقارنة موضوعية بين أدبنا العربي التقليدي والأدب الكلاسي؟ أيمكننا إطلاق (اتباعي / تقليدي / قداموي) على الأدب الكلاسي؟ والجواب ليس أمراً يسيراً!! وإذا كانت الكلاسية معنية بأدب الطبقة الرفيعة المتميزة بالثقافة فإن التاريخ الأدبي لن يسعفنا بملامح أية طبقة عربية تتطابق مع ملامح الطبقة الكلاسية!! وإن ندّت حالات من التشابه بين (مثلاً) طبقة الملوك والأمراء وبطانتهم فإننا لن نجد شاعراً عربياً واحداً ترفّع عن هموم الطبقات الفقيرة! امرؤ القيس وهو الشاعر الملك كان محاطاً بطبقة من الشعراء الصعاليك وشغلته مفردات حياة الناس بعامة، ناهيك عن الشعراء الصعاليك والشعراء الغربان!! ومثل ذلك كان الحال مع المتنبي ت354 الذي لم يمنعه انتسابه إلى بلاط سيف الدولة الحمداني من مديح الناس البسطاء أو مهاجاتهم، وإذا كان الكلاسي مترفعاً عن استعمال كلمات الطبقة السفلى (كذا) فإن المتنبي حينما هجا ظبة، هجاه بأسلوب الطبقة السفلى: وأمــه الطرطبة ما أنصف القوم ظبة إذن لا مسوغ لإطلاق كلاسي على أدبنا العربي القديم أو الحديث التقليدي ولو على سبيل التجوّز ولبثت الحدود واضحة حتى لا تختلط الأوراق. 2 – الرومانسية Romanticism: صفة من الإسم Romance المشتق من قصص الرومانس الخيالية، تلك التي ظهرت في القرون الوسطى وامتازت بالخيال الواسع العالي، فإذا هبطت إلى الأرض شغفت بالنبلاء والفرسان وذوي الألقاب والنياشين العالية في إطار من العواطف الملتهبة والمشاعر الفردية ، وقد شيدت عمارة الرومانسية على أنقاض الكلاسية التي تهدّمت بسبب من صرامتها وعتوّها واستنكافها من مقاربة مشاغل الطبقة العامة؛ فضاق الناس بها وبحثوا عن رياض أينع لأدبهم؛ فقد بدأت النظرة إلى الخيال تتغير والرغبة في أدب جديد مدهش مشوّق استثنائي تزداد، وكان ذلك في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، هذا القرن الذي شهد ثلاث فترات نقدية هي: 1-العصر الرومانسي 1780-1832 2-العصر الفيكتوري المبكر (1832-1867) 3-العصر الفيكتوري المتأخر (1868-1900). ولم يكن النقد قد استقر وتبلور وفق اشتراطات المدرسة الرومانسية، فقد دب الخلاف بين النقاد، بعضهم يريدها ثورة صارمة ضد الكلاسية واندغاماً تاماً مع الرومانسية وبعضهم أراد ترميم الكلاسية بالرومانسية والثالث كان مبلبل الإرادة! وقد استمر الخلاف إلى سنة 1832 ميقات صدور قانون الإصلاح الأول وانتشار الأدب الرومانسي في مساحة كبيرة من الناس، ثم ساد الاضطراب ثانية في مواقف النقاد فضلاً عن البلبلة في الأوساط الاجتماعية وظهرت مقولة المواءمة بين الواجب والجمال فأصدر مايثو ارنولد عام 1867 كتابه (الثقافة والفوضى) الذي فضح فيه الأصولية في الذهنية الإنجليزية (التي تضمنت غلواً في أتباع المبادي -العبرانية- وقليلاً من حرية الوعي-الهيلينية) ثم أصدر جون مورلي كتابه (التوافق) عام 1874 الذي كشف التناقضات الفكرية السائدة آنذاك، وقد أسهم التطور الصناعي في فتح آفاق جديدة وواسعة أمام الرومانسية فتعالت الأصوات داعية إلى صناعة مسرح جديد واتهمت مسرح شكسبير الذي قدّم أرقى الأعمال المسرحية بأنه متحجر بسبب تزمته الكلاسي، فأصدر مديره بياناً أكّد فيه أن مسرحه لا يقوم على قواعد المدرسة وإنما يقوم على قواعد العبقرية والجمال! ومع ذلك فقد لاحظ النقاد تصدّع قانون الوحدات الثلاث (مكان-زمان-موضوع) التي تتم في 24ساعة في الأعمال التي قدمها المسرح الشكسبيري فيما بعد!! وقد ظهر تأويل جديد لمقولة أرسطو (المسرح مرآة الحياة ومحاكاة لها) أسهم في تبدل النظرة لتراتبية العمل المسرحي والروائي وصرامة العناصر.. فاستحدثت العقدة الثانية ولم تتغير النظرة إلى الحبكة! ثم حلت وحدة الأثر العام محل وحدة الموضوع وعناصر الجذب محل صرامة عناصر العمل المسرحي والروائي، ثم تساهل الرومانسيون في مسألة الفصل بين التراجيديا والكوميديا فظهرت الكوميديا السوداء والتراكوميديا، ومشكلة الرومانسية أنها جاءت ردة فعل ضد الكلاسية، فهي لم تر أية مزيّة لغريمتها وهذه مشكلتها.. وهذا لايعني أن الرومانسية لم تحقق اقتراباً كبيراً من هموم الجماهير التي جلدتها الكلاسية بصرامتها وكبريائها! وإذا كان المسرح من قبل (محاكاة لأحداث جادة نبيلة تستمد موضوعاتها من حياة الآلهة وأنصاف الآلهة والنبلاء) فقد أضحى مع الرومانسية متخففاً من فكرة السمو والفوق والكبار إذ التفت إلى أبطال كادحين فقراء وثانويين، وعلى أصعدة النص الأدبي فقد استبدل الرومانسيون سلطة القوانين الكلاسية الصارمة وأحلوا محلها (سلطة الذوق الأدبي)، وربما أسهمت تلك °²ص°²صP±ںگڈ®³صذ²ص@ذ²صات (كبرى) ضاغطة في علم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ واللغة، كل هذه المرجعيات أسست ذائقة جديدة للتعامل مع النص الإبداعي فالنص الأدبي حسب وردزورث إنما هو (نتاج تجربة فنية متعددة المرجعيات وتجربة ذاتية تعد ثمرة فيض تلقائي للعواطف الجامحة، لكن الذي لابد من تأكيده هو أن المبدع والعاطفة فاعل ومفعول به إذ لا يمكن للعاطفة قيادة المبدع وإن حصل ذلك تهافت النص)!! وكان وليام بليك قد ربط بين الخيال والإحساس بالزمن، لأنه -الخيال- هو القوة السحرية التي تجعل الشاعر عملاقاً وتقلل من صرامة العقل (المعتوة المدلل!!) وقد ميز كولردج بين خيالين: أولي وثانوي، الأولي هو القوة الحيوية التي تجعل الإدراك ممكناً أما الآخر فهو صدى للخيال الأول مع أنه نتاج الفعل الواعي! وأهمية تشريح كولردج للخيال أنه توصل إلى وجود فروقات رئيسة بين الخيال والوهم الذي يشبه (الذاكرة) في أنه يأخذ مادته من قانون تداعي المعاني ويرى أحمد أمين أن إيطاليا طوّرت الكلاسية وابتكرت الكلاسية الجديدة! وأن انجلترا طوّرت الرومانسية وابتكرت رومانسية مختلفة!! أبرز أعلامها وردزورث وكولردج وشللي وكيتس وبايرون! أما أبرز أعلام الرومانسية في فرنسا فهم هوجو ولامارتين والفريد دي موسيه والفريد دي فيني بينما كان غوته الصوت الأقوى في ألمانيا؛ وقد تحددت ملامح الرومانسية على الآتي: 1-تحطيم القواعد والقوانين التي استنتها الكلاسية والاحتكام إلى الذوق الشعري والعاطفة والإلهام الذاتي 2-ترك المدينة والاتجاه إلى الريف لعناق الطبيعة، والجمال الحر البسيط دون تزويق وقد ظهرت حركة العودة إلى الطبيعة Return to Nature بعد أن أهملتها الكلاسية. 3-العناية بالنفس الإنسانية والفطرة في إطار الحرية المطلقة. 4-التحرر من العالم المادي والتسامي إلى العالم المثالي المتخيل. 5-البساطة في كل شيء: التعبير والتفكير . والسؤال المهم: هو هل الرومانسية مدرسة ذات تقاليد واضحة وقناعات ثابتة؟ أما الجواب فسندعه لذوي الاختصاص بهذه المدرسة، فكلمة Romance مشتقة من العجب والدهشة والجـدّة والطرافة والتشويق والاستثنائي والاستعداد لتلقف أي جديد!! 1-يقول ي.ب.بوركوم: كل من يحاول تحديد الرومانسية أو تعريفها يعرّض قلمه إلى مغامرة خطرة ذهب ضحيتها أقلام كثيرة قبلاً!! 2-وكتب كريشن: ان الرومانسي مثل الكلاسي، ولن تفلح أية محاولة في تعريفه، وإذا حاولت فكيف تقنع الآخرين، بله نفسك؟! 3-وكتب جاك بازرون: لن أعظ أو أعرّف، ولكنني أحاول أن أضع كلمة ترادف (رومانس) بالتأكيد كلمة واحدة لا تكفي ولا عشراً قارن: ذكي منفتح جـذّاب ثوري حركي ممتلئ واضح عجائبي فـتّان مادّي نمطي إيثاري أُثْري لانمطي هبائي مقرف تعليلي غامض فارغ سكوني محافظ طارد غبي مغلق 4- برونتير : هياج الشطط؛ موجة عمياء، من الغرور الأدبي. 5-موز : توهّم رؤية اللامحدود خلال مسار الطبيعة ذاتها. 6-ج.ج.روسو: العودة إلى الطبيعة. 7-هوجو: حرية الأدب والأديب وخلط الغريب بالمأساوي. حقيقة الحياة كاملة. 8-ووترهاوس: جهد شاعري للهروب من الواقع. 9-فيليبس: سوداوية عاطفية وتشوّق مبهم. 10-جورج ساند: عاطفة أكثر منها عقل، القلب بمواجهة الرأس. 11-غوتة: الرومانسية مرض الصحيح، وصحة المريض . 3 – البرناسية Parnassianism : تمثل البرناسية مرحلة انتقال بين الرومانتيكية والواقعية، وقد أولت اهتماماً بالصورة الفنية (لأنها تتعامل مع الموضوع بوصفها منظوراً إبداعياً من جهة وقناة تربط بين الإدراك والموضوع) فالصورة بؤرة الواقعي والمتخيل ولم تقطع البرناسية جذورها مع الرومانسية وإن سلط النقد البرناسي حملة عنيفة ضدها، وقد نشر الناقد (Catulle Mendes) كتاباً جاء فيه (البرناسية امتداد للرومانسية وازدهار لها)!! وهذا الرأي مما يصعب البرهنة عليه، إذ أن للبرناسية خصوصيتها التي تركت بصماتها على أدب المرحلة المغايرة للرومانسية، وكان من نتائج الآراء البرناسية أن اتجهت القصة والمسرحية نحو الواقعية واتجه الشعر نحو الموضوع ، والبرناسية تأثرت بفلسفة كانت وهيجل المثالية، فهما اللذان كرّسا فكرة الصلة بين الصورة والجمال في صياغة العمل الفني؛ واستقلال الفن عن كل غاية! وقد ظهرت دعوة استقلال الفن عن الغائية الاجتماعية في آراء تيوفيل جوتييه (1811-1872) وهو أحد أهم أعلام البرناسية ارتبط خطابه بنظرية (الفن للفن)! يقول جوتييه: الفن بالنسبة لي ليس وسيلة، إنه غاية كبيرة وكبيرة جداً، وكل مبدع لا يفكّر بالجمال الصافي فهو مغفل، وكل من يفصل المعنى عن المبنى فهو غبي، فالجميل إنما هو جميل بروحه وجسده وفكره وشكله إ.هـ، ولم تغب عنه وهو يقدم لقصته (الفتاة دي موبان) حين قال: (كل ماهو نافع فهو قبيح)! وهذا الرأي مقارب لرأي رأس المدرسة البرناسية ل.ك.دي ليل (لابد من إقصاء الشعر عن الغايات والنفع، فهو مستقل تماماً، إنه لانهائي لكونه غاية بذاته، والجمال البرناسي مزيج من السمائي والأرضي، الإلهي والبشري أما المبدع الذي يهدف من وراء سعيه إلى الجمال فلن يتذوق عطاءه أحد فالجمهور يتذوّق الجمال المباشر وليس النص الباحث عن الجمال) وهذه الآراء وسواها تكشف أثر الفلسفة الوضعية والتجريبية فيها، الفلسفة التي سايرت النهضة العلمية وقد دعت الفلسفة الوضعية التي أسسها أوجست كونت (1798-1957) والفلسفة التجريبية على يد جون ستيوارت ميل (1806-1873) إلى خروج الإنسان من حدود ذاته ليدخل في حدود المعرفة الصحيحة عن طريق العقل لا القلب!! وقد مثل هذه (الحدود) الناقد تين (1828-1893)، هذا الناقد الكبير الذي أثّرت آراؤه النقدية وتطبيقاته على البرناسيين والواقعيين معاً.. وفي المقدمة (لو كنت دي ليل) رأس المدرسة البرناسية! وحين ألقى ليل محاضرة في حفل التكريم الذي أقامته له الأكاديمية الفرنسية عام 1887 بوصفه رأس المدرسة البرناسية قاطعه أحد الحاضرين بغضب قائلاً له (إنك يا سيدي تردد مقولات تين فقط..) . أما اسم (برناس) الذي اختير اسماً لهذه المدرسة، فهو مقتبس من اسم الجبل المقدس في الأساطير اليونانية، فهو البؤرة التي تشع الأدب والفن على المبدعين وقتذاك (كذا) و(البرناسية) مدرسة شعرية تألّقت في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، اقتبست اسمها من اسم المجلة الأدبية (برناسوس المعاصر) 1866-1876 التي احتضنها أشهر أدباء هذه المدرسة مثل الشعراء: ليكونت دي ليل (1818-1894) وجوزي ماري دي هيريديا (1803-1839) وسولي برودوم (1839-1907) وستيفان ملارميه (1842-1898) أولئك الشعراء الكبار الذين جاء شعرهم ردة فعل للإسراف العاطفي والخيالي الذي انحدر إليه الشعر الورمانسي. فكان التخفف من هذين الجانبين وتحديدهما، ومشايعة نظرية (الفن للفن) وادعاء العلمية فضلاً عن التأنق في صناعة النص الشعري والولع بالعروض وبخاصة العروض (المعقد)!! 4 – الواقعية Realism : ظهرت هذه المدرسة في الآداب الغربية وبخاصة الأدب الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر، وهي ترى أن العالم الخارجي انعكاس للذهن أو المثل الأعلى!! وربما جاءت نقيضه لآراء أفلاطون. والواقعية الفرنسية مدينة لأعمال شان فلوري (1821-1889) وغوستاف فلوبير(1821-1880) والأخوين كونكور: جان (1822-1896) وجون(1830-1870) فهؤلاء انتقوا موضوعاتهم من الحياة اليومية والناس الاعتياديين والحوادث والأخبار المنشورة في الصحف والمناقشات والمخاصمات التي تشهدها المقاهي ونداءات الباعة وأغانيهم في الأسواق ، والواقعية واقعيتان واحدة قديمة قدم الإبداع نفسه ولم تتجلبب بجلباب نظري والأخرى مدرسية وسنرى أن الواقعية الثانية بلورت الأولى وقعّدتها، إذ لا يمكن تخيّل أية مدرسة على أنها آتية من فراغ لكن التطرف والغلو سمة أية مدرسة أدبية أو فنية! والانحلال والانطفاء هو المآل المتوقع لجل تلك المدارس، والذي لامراء فيه هو أن ظهور أية مدرسة لاحقة إنما يكون على حساب المدرسة السابقة وربما على أنقاضها!! باحتراز شديد هو أن ظهور اللاحق لن يميت السابق! والمدرسة الواقعية الأدبية تهدف إلى تصوير الحياة الطبيعية للناس (بأوسع معانيها وبأدق أمانة ممكنة) إذن هي ترفض ارتقاء الواقع إلى مستوى التوقع المثالي مهما كانت النوايا والمسوغات فلن تتنازل الواقعية عن ثوابتها إرضاءً للرؤية الجمالية في المعنى والمبنى، لأنها زاهدة بمعالجة الموضوعات التي تسمو على الواقع وذلك لا يعني السكونية فهي تتميز بإخلاصها وصدقها في وصف الواقع (ليس كماهو بل في حالته الديناميكية) فهي إذن ترصده أثناء حركته وتطوره فتحلل الأحداث وتحدد أثرها في الفرد أو الجماعة . وثمة واقعيتان على رأي معظم الدارسين: الواقعية القديمة والواقعية الجديدة التي عرفت بالواقعية الاشتراكية. أما الواقعية القديمة فقد تشكلت ونضجت بعيد العام 1830 الذي شهد زلزال الثورة الفرنسية، ونشأت جماعات مترددة بين الولاء للرومانسية والولاء للواقعية ، لكن الواقعية حسمت الولاءات لحسابها من عام 1850 حتى 1880؛ والواقعية ساخطة على هاجس (الإغراق) و(التطرف) أينما وجد، في الكلاسية المعقلنة المقلدة المقننة؟! في الرومانسية المهلهلة المنفلتة المهووسة!! ووضعت الواقعية في حسابها محاربة جماعة الفن للفن فسلطت عليها صحافتها ومنتدياتها ومقاهيها وقصائدها!! وكان أبرز عيب اتهمت به هذه الجماعة هو الانفصام عن الحياة الحقة والتنكّر لجماهير العمال والفلاحين، وإذا قدرت الواقعية (التي تبنت: الفن للحياة) أو كادت على جماعة (الفن للفن)، فإنها تطرفت في مقولاتها وبدا للدارسين أن الواقعية مستعدة للتضحية بالشكل حباً بالمضمون وتعصباً له!! فظهرت أعمال إبداعية واقعية ملتزمة بقضايا الجماهير(!!) بيد أنها ضحّت بجماليات الأسلوب وتقنيات الصنعة. لكن الثابت أيضاً أن الواقعية خرّجت كوكبة من المبدعين الكبار الذين كتبوا عن الأرض والإنسان والعذاب وصرفوا النظر عن الآلهة والمخلوقات المجنحة فأصدر بلزاك Balzac (1799-1850) الكوميديا البشرية مناكفة للكوميديا الإلهية لدانتي (1265-1321)؛ وقوام الكوميديا البلزاكية مئة وخمسون قصة فأثارت الشارع الثقافي عهدذاك لغلبة السوداوية والعصابية عليها وإقحامه مقولات عصره الفلسفية مما أوهن نصوصه؛ وقد خاطب ناقد رومانسي بلزاك بلهجة ساخرة (أنت منا يا بلزاك؛ وهذه كوميدياك خير دليل): ولن يضير بلزاك هذه السخرية العابرة لأن بلزاك مبدع موهوب وقاص كبير، ومن الصعب عليه أو أمثاله الالتزام الحرفي بقواعد أية مدرسة مهما كان الولاء، ومثل هذا القول منطبق على قصص موبسان وديكنـز، ويعلل تاريخ النقد هذه الولاءات المشوبة بان موبسان (الذي كرّس الإثارة في أعماله الروائية والقصصية) وديكنـز وبلزاك.. انهم ظهروا في المساحة الزمنية الفاصلة بين ضمور الرومانسية وظهور الواقعية، والمرحلة الفاصلة بين زمنين هي مرحلة انتقالية فيها شيء من السابق وأشياء من اللاحق، وأعلامها روّاد يمتلكون مزية الابتكار والأولية، بيد أنهم يكابدون شروخات الريادة بسبب نقص الخبرة وشراسة المعركة وثقل التغيير قارن ريادة الواقعية الروسية في أعمال ديستوفيسكي وتشيكوف، فهما متهمان (عند منظّري الواقعية) بأنهما بعيدان عن روح المدرسة الواقعية لأنهما لا يتحكمان بحركة الأبطال، وقد نسي المنظرون أن المبدع إنسان غير محدود بسبب رؤيته الشاسعة، وكان فلوبير (1821-1880) منصفاً حين دعا إلى الموضوعية قائلاً(إنني لا أتكلم في أعمالي، بل الحقائق هي التي تتكلم عن نفسها) واقترح هاولنـز الاتجاه بالواقعية نحو التلقائية وأسمى الاتجاه (الواقعية الاعتيادية) تمييزاً لها عن (الواقعية المتطرفة)؛ كما اقترح ستانـدال وضع (التوثيق) بديلاً عن (الإبداع) ثم حذّر رواد الواقعية من الوقوع في (فخاخ الجمالية) التي تشغل المبدع عن الأفكار السليمة التي ينبغي له أن يعبّر عنها بشكل مباشر، وكان سومرست موم (1874-1965) الروائي والمسرحي الإنجليزي يجيب سائله عن الواقعية (أنت تسألني عن الواقعية، فهل أجيبك عن الرومانسية؟ هل ابتعد عن السؤال وأفترض أنك سألتني عن آخر لقاء مع صديقتي!! الواقعية هي أن تتحدث عن الواقع، وكلمة واقع لا تحرمني من جماليات الأسلوب، خذ مثلاً روايتي (القيود الإنسانية) فهي تتحدث عن الواقع بعبارات الواقع وأخيلته ولغته دون أن يصيبها الإعياء والانحطاط)! وقد مرّ بنا عدد من قرائن الواقعية ومصطلحاتها مثل الواقعية القديمة والواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والواقعية الاعتيادية والواقعية المغالية وثمة قرائن أخرى مثل الواقعية الوصفية والواقعية النسخية والواقعية الوصفية التي تمازج المجتمع وتكابد همومه وتصفها بأسلوب أدبي يحذق مخاطبة عواطف القارئ؛ أما الواقعية النسخية فهي التي تراقب المجتمع دون أن تمازجه وتنقل إلينا أخباره كما ينقل الصحفي أخباراً عن حادثة بشكل محايد أو كما يصور الفوتوغرافي وجه فتاة فيجيد التصوير لكنه لا يجيد التعبير عن مشاعره نحو صاحبة الصورة أو الصورة نفسها.. لكن الواقعية النقدية التي أسسها أدباء فرنسيون وبدأت نشاطها في النصف اثاني من القرن التاسع عشر اعتمدت في أدبيتها على نقد الواقع وتسليط الأضواء (على رأي روّادها) على الفضائح أو المظالم فالحياة في النظر الواقعي النقدي خراب وأنها آيلة إلى الدمار،. كان في طليعة الواقعيين النقديين بلزاك الذي تخفف من الخيال والأحلام واعتور أسلوبه الغموض والمبالغة والتشاؤم والسوداوية!! لكن بعض الدارسين صنف الواقعية النقدية على أنها اتجاه برجوازي ينقد الواقع ويجهل الحلول وعلل هذا البعض تهافت الواقعية النقدية واعتدّه مسوّغاً للواقعية الاشتراكية. لقد شهد القرن التاسع عشر وهو مشرف على الانتهاء ميلاد الواقعية الطبيعية التي اكتنـزت أدبياتها بمؤثرات علوم الحياة مثل علوم الوراثة الطبيعية وأصول الأجناس والطب التجريبي مؤمنة بدور العلم في الحياة ودور الحياة في الفنون والأدب! وقد عُدّ اميل زولا (1480-1920) رائد الواقعية الطبيعية إذ بوّأته كتاباته النقدية ورواياته لهذه الريادة ثم أصاب الواقعية المتعددة الأوصاف والتسميات ما أصاب سالفتيها (الكلاسية والرومانسية) من غلو وشيخوخة، فتعالت أصوات الاحتجاج ضد ما زُعم أن الواقعية تمارسه مثل التقليل من شأن الأسلوب وتجاهل الهاجس الإنساني والانتقاص من قدر الإنسان الفرد والتهوين من شأن البطل الفردي فضلاً عن أن الواقعية أسهمت في شهرة قصص وروايات لا تستحق الشهرة لأنها تفتقد مقومات البناء الفني مثل الحبكة وحاولت الواقعية الوصفية الوقوف بوجه الانتقادات التي أثخنت جسم الواقعية بالطعنات وبخاصة طعنات المدرسة الهيومانية الجديدة التي أطلقت على كتابات الواقعيين الوصفيين (الأدب الأسود)، والثابت أن الواقعية مدرسة غيّرت سكونية الواقع وحررت النص من سلطة الخرافات والأوهام، ولسوف نلقي ضوءاً على (الواقعية الاشتراكية) التي بلورت الوعي الواقعي بصيغة كتابات نالت شهرة عظيمة. * الواقعية الاشتراكية Socialist realism: جاءت ترميماً للمدرسة الواقعية النقدية بعد أن تصدّعت قلاعها وشاخ روادها، وكان عام 1917 إيذاناً بظهورها، إذ دعت ثورة أكتوبر إلى تبديل العلاقات بين الطبقات وتفسير التاريخ تفسيراً مادياً، فصاغ الروائي الروسي ماكسيم غوركي بنفسه بيانات الواقعية الاشتراكية التي ربطت بين الأدب والأيديولوجيا، وكان فلاديمير ايليتش لينين قد كتب عام 1919 مبحثاً حول ضرورة أن يعبّر المبدع عن حاجات الناس وينظر بعيونهم ويعي بوعيهم قال (يمكن الاعتراف بروايات هنري باربوس باعتدادها إحدى الإثباتات الواضحة للغاية الظاهرة العامة الملحوظة لنمو الوعي الثوري في الجماهير) ودعا لينين إلى تسليط الأضواء الساطعة على مؤلفات الفيلسوف الألماني فريدريك انجلز (1820-1895) الذي أسهم مع مواطنه كارل ماركس (1818-1883) في بلورة المفهوم الواقعي الاشتراكي، والمعروف أن أنجلز يكلف الأدب الواقعي شجون كتابة التاريخ لأن الأدب قادر على إعطاء صورة دقيقة عن تفاصيل أي مجتمع!! يقول انجلز (إنني عرفت أدق التفاصيل عن حياة المجتمع الفرنسي من خلال الأعمال الروائية التي كتبها أونريه بلزاك.. ولو قرأت تقارير المختصين من علماء الاقتصاد والتاريخ والإحصاء لما استفدت منها شيئاً أكثر مما استفدته من روايات بلزاك مع أن الخلاف كان وما يزال يدور حول حقيقة ولاءات بلزاك، فهو بشكل عام محسوب على الفئة الارستقراطية لكن صوت الراوي في رواياته يؤكد حتمية سقوط الفئة الارستقراطية ورواياته تنقد المجتمع دون أي شعور بذنب الاشتراك معه وأوكل العقدة في رواياته إلى سببية عقلية وإن بدت ظاهراً سببية قلبية) . وكتب ليكال يولداشيف: ان الحكام (الفرديين) في كل زمان ومكان يستغلون المنتوج الإبداعي لكي يروّج لحقهم في الحكم ويشيع نظرياتهم بين الطبقات الضاغطة ويكرّسون مشاعر التبجيل!! وهذا هو الذي تدحضه الواقعية الاشتراكية التي تكرس سلطة الجماعة على حساب حرية الفرد . ويبدو أن روايات بلزاك التي أشرنا إليها قبلاً قد وجدت من ينظّر لها وفق مقاسات الواقعية، فبلزاك لم يدع إلى الرذيلة وإن توهّم القارئ ذلك فإذا وضع على لسان بطله المحوري نصائح تتعارض مع الفضيلة فإنما يحاول بذلك تعرية القيم المنحطة التي تحكم المجتمع بأسلوب قريب من (التراكوميك) الحزن المضحك أو المضحك الباكي.. قارن كلمات (فورتران) البطل الواقعي في الأب غوريو التي وجهها إلى (رستيناك) التلميذ ذي الأحلام المثالية. رستيناك: هنا في هذه المدينة تفتحت شهيتي مثل زهرة.. إيه يا فورتران.. أين قريتي المتقازمة قبالة باريس المتعملقة؟ أين الجمال والدهشة هنا من القبح والمألوف هناك؟ ياصديقي جئت إلى باريس لأحقق أحلامي النظيفة.. فورتران: لا عليك ياعزيزي، ستضيع في باريس؛ قريتك أمك التي ولدتك؛ وباريس صديقتك التي صادقت قبلك وتركتهم وستصادق غيرك وتتركهم؛ أنتم أيها الطلاب عددكم لن يقل عن خمسين ألف شاب حالم ومثالي أيضاً.. أنتم تثورون على قراكم ومدنكم البسيطة ولكن ثورتكم العاجلة العمياء هي مأساتكم ومأساتنا معاً، أنت رقم في العدد الكبير؛ كم عليك أن تبذل من الجهد يا صغيري؛ كم عليك أن تقدم للمعركة العنيفة التي ستخوضها دون أن تكون كفءاً لها،يوماًما ستكونون أيها الحالمون الثائرون مثل العناكب في قنينة زجاجية واحدة، يلتهم بعضكم بعضاً، لأنه من المستحيل أن تحقق باريس مئة وخمسين ألف مركز مهم لكم.. رستيناك: لكنني سأشق سبييلي إلى الحياة رغم تثبيطك لعزيمتي. فورتران: أتدري كيف يشق الناس سبيلهم في هذه الحياة؟ إنهم يشقونه بمخالب العبقرية أو المهارة الدنيئة الخسيسة، عليك أن تكون قنبلة تقتل ولا تعرف أسماء من تقتلهم ولا أعدادهم ، عليك أن تتسلل بينهم مثل الوباء.. رستيناك: إنني رجل شريف ولن أؤذي أحداً في بحثي عن المجد.. فورتران: أما الشرف فلا مكان له هنا؛ الناس لا ينحنون إلا أمام العبقرية مع أنهم ليسوا عباقرة ثم يحاولون قتلها في السر، ولكنهم في الأخير يستسلمون لعبقريتك، الناس يجثون أمام العبقرية عندما يعجزون عن جرها إلى الوحل. رستيناك: هذه خسّة، لن أسمح لنفسي بمجرد التفكير بقبولها.. فورتران: لن تسمح لنفسك؛ يالك من مسكين؛ الخسة هنا قوة؛ الخسة سلاح الضعفاء الذين يملأون المكان، ستحس بلسعاتها في كل أرض، إذا أحببت أن تثرى سريعاً؛ فمن الضروري أن تمتلك شيئاً أو تتظاهر بأنك ثري، إذا أردت الثراء فعليك المغامرة بخطوات واثقة قوية وإلا أضعت قوتك وأنت تحبو.. رستيناك: بين المئة والخمسين ألف مركز لكل طالب حالم؛ لابد أن يتوفر مئة مركز في الأقل فأستطيع استثمار واحد منها.. فورتران: هذا هو المستحيل بعينه.. حتى لو كانت عشرة مراكز يحصل عليها عشرة من عددكم الكبير.. الناس سوف يسمّون العشرة الذين ينجحون لصوصاً.. هل تعلم لماذا أنا فورتران أصبحت مجرماً ودخلت السجن؟ هل تعلم لماذا هربت من السجن؟هل تعلم لماذا أنا ضحية؟ رستيناك: لا .. لا أريد أن أعرف شيئاً بعد الآن. لا أريد أن أطلب شيئاً..!! إ.هـ. ومثلما كان المبدعون الواقعيون يدمّثون الموضع للواقعية، فإن المنظّرين فعلوا ذلك أيضاً وقد دعا الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي الكونت دوسان سيمون (1760-1825) الحكومات التي تمثل حلم الجميع إلى تربية الشعوب في جو من التعاون الخلاّق ونبذ استغلال الإنسان للإنسان!!! أما اوغست كومت (1798-1857) وجون ستيوارت ميل (1806-1873) وتين (1828-1893) فقد نضجت على جهودهم وكتاباتهم الفلسفة التجريبية التي تؤسس أن المعرفة هي معرفة الحقيقة! والعلوم التجريبية سبيل الإنسان لنيل المعلومات اليقينية، ومهما تكن الأسباب فالواقعية الاشتراكية تدين للآراء التي بلورت فكرة الصراع الطبقي ، ثم دعت الواقعية الاشتراكية أتباعها إلى تبني فكرة الالتزام وشاع وهم بين بعض الدارسين أن هذه المدرسة هي التي اخترعت فكرة الالتزام عند الأديب، وهذا الوهم مناف للوثائق التاريخية، والمجتمع اليوناني القديم مثلاً شهد أدباء ملتزمين بالخط الارستقراطي وآخرين ملتزمين بالخط البروليتاري ، وقد شهد العصر الجاهلي التزام الشاعر بهموم قبيلته، بل وجد من الشعراء من التزم بهموم العرب.. مثل صنيع لقيط بن يعمر الإيادي والأعشى ، فإذا جاء الإسلام تألق الإلتزام وتحوّل من التزام الأديب بهموم قبيلته أو عنصره إلى التزامه بمبادئ الإسلام! وتميّز في العصر الأموي شعراء ملتزمون يدعون إلى حق أهل بيت النبي (ص) وآخرون يدعون لحق بني أمية في الحكم .. وظهر كتاب (ماهو الفن) الذي أصدره تولستوي عام 1898 وفيه دعوة للإلتزام بل إن بعض الدراسات اعتدت شكسبير اشتراكياً لأنه يدعو إلى مكارم الأخلاق ويدين الاستغلال والوصولية مع أن شكسبير احتفى بالملكية والإقطاع في مسرحياته، وكافكا في (المحكمة) و (المسخ) أدان الظلم والقهر؛ فهو ملتزم؛ وبريشت (1898-1956) في (الأم العظيمة) هتك مكائد التجار والعسكريين وأصحاب القرار! بل إن جان بول سارتر (1905-1980) وسيمون دي بوفوار وهما رأس المدرسة الوجودية الفرنسية دعيا إلى التزام الأديب بالأخلاق! وهكذا نجد أن الالتزام ليس ثمرة المدرسة الواقعية، بل هو موقف الإبداع من الحياة منذ أن كان وكانت، وثمة التزامات. الأول: أن يكون الالتزام في دائرة الشاعر أي أن الشاعر جزء من القضية؛ يدافع عنها بالكلمة واللسان واليد والروح إن استدعى الأمر فهو الآمر وليس المأمور وهو الآتي وليس المجلوب وهو المجتهد وليس التابع، مثل ذلك حصل في أوساط المبدعين الجزائريين سني قيام الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين فكان الأديب الجزائري يقاتل بالكلمة والرصاصة معاً؛ وكان الشاعر والروائي مالك حداد حزيناً لأنه يكتب الفرنسية ولا يعرف العربية (اللغة الفرنسية سجن لموهبة الأديب الجزائري)! وفي العراق منذ 1915-1995 ظهر شعراء ملتزمون كبار مثل أحمد سعيد الحبوبي وعلي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي وإبراهيم الوائلي ومحمد مهدي البصير فقاتلوا الإنجليز كما قاتلوا عملاءهم فيما بعد.. كما قاتلوا الأنظمة القهرية المتجلببة بمزاعم الحرية والاستقلال، ولنا في الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي وقف ضد الطغيان فتعين عليه أن يذوق الغربة قرابة الخمس والسبعين سنة!! وسعدي يوسف ومظفر النواب وشاكر السماوي وعزيز السماوي ومحمد حسين الأعرجي ومحمد طالب محمد البوسطجي الذين ذاقوا السجن والتشريد (والعوز أحياناً) لأنهم وحّدوا بين الوطن والكلمة والرغيف والحرية.. أما الالتزام الآخر فهو أن يكون الأديب في دائرة الالتزام، وهنا يكون الأديب ضيفاً على القضية ينادي بانتصارها ولكنه مناد مهزوز الروح وإن بدا متماسك الجسد، فهو منتمٍ لقضية ما بسبب الخوف من الأذى الذي سيلحقه إن لم يشهر الولاء وإما بسبب الطمع في مكاسب يمكنه الحصول عليها بإشهار ولائه فظهر جحفل من الأدباء الملزمين (فتح الزاي) ربط مصالحه وكلماته وكرامته بإرادة الحزب أوالمؤسسة أوالدولة!! وأطلق الناس عليهم شعراء المناسبات أو شعراء السلطة أو الشعراء المرتزقين!! وإذا كان أدباء الواقعية الاشتراكية قد التزموا قبل وأثناء وبعد ثورة أكتوبر 1917 فإن التزامهم تبلور فيما بعد بهيئة إلزام، فضيق الخناق على حرية المبدع، حتى أن جوزيف ستالين (1879-1953) قال لأحد الشعراء الروس إنك تثير بقصائدك المقززة أعصابي أكثر مما تثيرها الدبابات النازية!! وقدمت له الشاعرة (آنّا عليفا) وهي صديقته ورفيقته أيام الصراع ضد المنشفيك شكوى ضد وزير دعايته مؤدّاها أن الوزير منع ديوانها لأن فيه غزلاْ لا يليق بالمرأة السوفيتية وليس فيه تمجيد لأفكار أكتوبر!! فكتب ستالين على ورقة الشكوى: الرفيق وزير الدعاية.. أرجو طبع نسختين من ديوان الشاعرة.. النسخة الأولى لها والثانية لصديقها!! هكذا تحولت الواقعية الاشتراكية على يد اللاحقين وممن ركبوا الموجة إلى ماكنة عظمى (تفرم) كل من يدعو إلى حرية الفرد وحقه في التعبير وكل من يجمح به خياله بعيداً !! بل إن أدباء الواقعية الاشتراكية في وطننا العربي قد أسهموا في نشر (الأصولية) السياسية (والغلو) الفكري ومارسوا (إرهاباً) ضد أدباء الشاطئ الآخر.. ولم ينج من الأذى حتى بعض الأشياع والتابعين ولعل أسوأ ما زرعه الأدباء الواقعيون بيننا هو فكرة (امتلاك الحقيقة) والنيابة عن الجماهير ، فأولئك الأدباء كانوا على حق وأندادهم على باطل وقد جرّت فكرة امتلاك الحقيقة والنيابة عن الجماهير الويلات على أدبنا العربي حين تعلّم منهم أعداؤهم وحملوا شعارات تنافق الجماهير وتستغفلها وزاد الطين بلة استثمار بعض الأنظمة هذه الأدوات والتقنيات لترسيخ سلطتها وتسويغ قهرها!! وهكذا أفل نجم الأدب الواقعي الاشتراكي بيد أنه لم يتلاشَ.. q تداخل المدارس: لايمكن القطع بالحدود الزمنية للمدارس، فهي تتشكل بهيئة إرهاصات ثم تتجلى في بيانات أو كتابات مؤرخة، بيد أن المدارس لا تموت! فهي تتخلى عن مكانها لتترك بصماتها على أعمال المبدعين والنقاد المغايرين، ولو افترضنا أن الرومانسية تركت مكانها للواقعية، فإن الرومانسية باقية حتى في أعمال خصومها ومسفهيها، وهذه سنة الحضارة؛ والأفكار لا تموت وإنما تضمر وتعاود النمو مرة أخرى، وقد ظهرت قبل الواقعية ومعها وبعدها مثلاً مدارس من نحو الرمزية والدادية والسوريالية والوجودية والبنيوية!! إذ لا يعقل غياب الروح الرومانسي في أي عصر من عمر البشرية كما لا يعقل ان تكون ثورة أكتوبر1917 الميلاد الوحيد للواقعية، فقد عرفت الواقعية منذ ملحمة حينما في العلى وملحمة جلجامش العراقيتين (2500ق.م) وكذا الحال مع الرمزية! بيد أن توريخ ظهور أية مدرسة مشروط بظهور جماعة من المنظرين وحلقات من المريدين وكتابات المحتفين.. والكلاسية كلاسيات كما رأينا والواقعية واقعيات.. يقول محمد غنيمي هلال (ولذا كثيراً ما نرى شاعراً يجمع بين أكثر من اتجاه من الاتجاهات السابقة، ولكل شاعر من هؤلاء أصالته في التجارب والصور وهي أصالة ينفرد بها وتتسع بها الهوة بينه وبين غيره من الشعراء، فهنري ميشو الشاعر الفرنسي المعاصر الذي ولد في بلجيكا عام 1899 ونشأ ونضج في فرنسا يجمع في شعره من الرصانة الكلاسية والشفافية الرومانسية والهلوسة السوريالية في غنائية عذبة.. نظير قصيدته -الفراغ- التي أثبتها بديوانه -خط الاستواء- : تهبّ عاصفة مروّعة وليس سوى ثقب صغير في صدري/ولكنها تهب فيه ريحاً مروعة/وفي الثقب حقد دائب ورعب كذلك/وضعف هنا../ضعف ولكن الريح فيه عاتية عاصفة كالزوابع/تحطم إبرة من الصلب/وليست هي مع ذلك سوى هواء؛سوى فراغ/فإذا اختفت لحظة افتقدت نفسي وتولّهت /ماذا يقول المسيح لو أنه خلق هكذا/والرعدة في نفسي تنبعث عن برد لايهدأ/وهذا الفراغ الذي تثيره نـزاع إلى العدم/هومداراة وصمت؛صمت النجوم/إن هذا الثقب عميق وليس له شكل . وقد احتار نقّاد الأدب في تصنيف أعمال توماس هاردي (1840-1928) ونسبتها إلى مدرسة معينة!! فهذا الروائي والشاعر الإنجليزي يعد أحد أبرز شعراء العصر الفكتوري وروائييه وكان يخلط الدمعة بالابتسامة، واليأس بالأمل والشك باليقين!! ومع أنه متشائم بيد أن في تشاؤمه دعوة للخير والوفاء، وصرخة في وجه الوصولية والضحك على ذقون الطيبين.. وهذا الإطار جعل توماس هاردي جديراً بنموذج تداخل المدارس! مع أن بعض النقاد رآه حداثوياً يدعو للقطيعة مع الماضي!!. قارن (وحشتان: القبر والغدر): – آه أخالك تحفر عند قبري يا حبيبي، تغرس على حوافيه أشجار السذاب التي نحبها معاً.. – كلا، حبيبك ذهب البارحة ليخطب شابةً حسناء من أثرى كرائم الثراء! وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض لها عهدي في الحياة؟!. – إذن من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر؟! أهم أقاربي الأعزاء؟ – لا أيتها المسبية بوحشة القبر، أقاربك يجلسون هنالك ويقولون: أي نفع لهذه الأشجار والأزهار؟ إن روحها لن يفلت من براثن القضاء خلال ذلك التراب المركوم. – ولكنني أسمع حفّاراً يحفر عند قبري، فمن عساه أن يكون؟ أهو عدوتي اللئيمة الرعناء؟ – لا؛ إنها حين علمتْ انكِ عبرتِ البابَ الذي لن يخرج منه أحد، ضنت عليك بالعداوة، ولم تجدك أهلاً للكره والبغضاء!! فما تبالي اليوم في أي مرقد ترقدين. – إذن من يكون ذلك الذي يحفر في قبري؟ فقد أعياني الظن، وأقررت بالإعياء. – أوه.. إنه أنا ياسيدتي الودود، إنه أنا، كلبك الصغير الذي كنت تضعينه على حجرك وتقدمين له الطعام الشهي، أعيش بقربكِ وأرجو ألا يزعجك ذهابي ومآبي في هذا الجوار. – آه.. نعم، أنت إذن الذي يحفر عند قبري. عجباً كيف غفلتُ عنك، ونسيت أن قلباً واحداً وفياً قد تركته بين تلك القلوب الخالية من المحبة والوفاء؛ وأي عاطفة لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب الأمين؟. – سيدتي، إنني أحفر عند قبرك لأدفن عظمة أعود إليها ساعة الجوع في هذه الغابة، فلا تعتبي عليّ لأني حفرت عند قبرك، فقد نسيت أنكِ تنامين نومك الأخير. وها نحن أولاء للأسباب المنهجية ذاتها نرتب عدداً آخر من المدارس وهي 1.التأثرية 2.التعبيرية 3.المستقبلية 4.الرمزية 5.الدادية 6.السوريالية 7.الوجودية 8.البنيوية 9.الحداثية 10.ما بعد الحداثية. 1-التأثرية: ظهرت هذه المدرسة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ومؤدّاها أن المبدع مخلوق شديد الحساسية وهو أكثر تأثراً من سواه وعليه أن يعبر عن مشاعره أو أحاسيسه دون تدخل لعقله أو تفكيره المنطقي وضغط هذا الاتجاه على الخطاب السردي وبخاصة القصة والرواية، وقد اختُلِف في مرجعيته مصطلح “Influence” وتعددت الآراء، ولسوف نختار رأيين: 1- مقتبس من اسم سائل أثيري كان القدماء يظنون أنه ينـزل من النجوم لأنه عصيرها، ومن يمطر عليه أو يشربه يستطيع أن يتفهم الأمور على أسرع وجه وأحسنه. 2- مقتبس من لوحة اسمها (التأثر) أنجزها الفنان الفرنسي ادوار مانيه (1832-1883) في 2/2/1872. وكان روّاد المدرسة التأثرية ومريدوهم ذوي أحلام إنسانية كبرى ووطنية بارزة، فهم مع الإنسان ضد كل القيود التي تكبله بها المؤسسات الثقافية والاجتماعية المؤثرة في الأدب والفن فالمبدع هو الذي تتولد لديه انطباعات صادقة مثل غيره، لكن الأحداث السياسية والاجتماعية المتلاحقة أشعرت التأثريين بالعجز بسبب فقرهم المعرفي لحركة المجتمع التي تصطرع فيها الرغبات والرهبات وتؤدي فيها المصالح المادية أدواراً مزدوجة، فانصرفوا إلى الفن والأدب معبّرين في أعمالهم عن تأثرهم بالطبيعة وتعبيرهم عنها. 2- التعبيرية Expressionism : لا يمكن القول أن التعبيرية مدرسة جاءت لتعزز مدرسة أو تناكف أخرى، فهي أقرب إلى النـزعة منها إلى المدرسة بيد أنها اتخذت هيأة المدرسة ومسوّغاتها، وترمي التعبيرية إلى إيصال الصورة بطريقة أجمل مما هي عليه في واقعها، وصياغة العبارة الأدبية بأسلوب مختلف عن صياغتها اللا أدبية، وظهرت هذه المدرسة في ألمانيا قبيل الحرب الكونية الأولى 1914 وتحلق حولها الأنصار والمريدون وانتشرت أفكارها في عقد السنوات اللاحقة، وتزامنت معها النـزعة المستقبلية Futurism في إيطاليا والمستقبلية التكعيبية Cubo Futurism في روسيا وكان لهذه المدرسة الأثر العميق على السوريالية Surealism في الغرب وجاء في معجم المصطلحات أن هيرفي (مصور فرنسي) هو أول من استعمل التعبيرية في عام 1901، ثم أطلق هيرماندبار (أديب نمساوي) التعبيرية على نمط محدد من الأدب عام 1914 وقد أثرت آراء برجسون الفلسفية على أدبيات التعبيرية وكذلك روايات ديستوفيسكي ومسرحيات ستراندبرج لأنها تبحث في المعاني العميقة المعبرة عن أسرار النفس! و يمكن القول أن هذه المدرسة أسهمت في سطوع أدبائها، نذكر منهم الشاعر فرانس فرفل والروائي فرانس كافكا. 3- المستقبلية Futurism: ثارت هذه المدرسة على تعاطف كثير من الأدباء القدامويين مع الماضي وترسّم أساليبه في صناعة الأعمال الإبداعية وسعت إلى التجديد الذي يتناغم مع روح العصر الجديد الذي وشمته الآلة والسرعة، وقد أسهم الشاعر الإيطالي مارتيني (1876-1944) في ميلاد هذه المدرسة بله تسميتها، وكان مارتيني قد نشر روايته (ماماركا المستقبلي) ثم أصدر البيان المستقبلي ونشره في جريدة لافيجارو الفرنسية في شهر فبراير 1909. أما أهم فقرات البيان المستقبلي فهي: أ – إلغاء فكرة التبتل في محراب الماضي، والتنصل من آثاره الضاغطة على أساليب التعبير والذائقة الجمالية. ب-الارتقاء بأساليب التعبير إلى مصاف الثورة التكنولوجية وعصر السرعة. جـ- الحرية الكاملة في اختيار الأديب لأسلوبه في الحياة أو التعبير.. د-فك البنية المنطقية للجملة وتشكيل بنية أخرى تستثمر رموز الزمن الجديد من نحو الروائح الكيماوية وجلجلة الآلة. هـ – العنف صورة للصدق والهدوء صورة للكذب، والحروب إنما تنشأ لتكريس الحياة. ز- العبث والجنون والحدس مداخل لمعرفة مكنون الأشياء بسبب محدودية العقل. ويؤخذ على المستقبلية أنها كانت محظية الحركتين النازية والفاشية بسبب دعوتها إلى نبذ القيم وتسويغ الحروب والدمار، وتبنت الفاشية مصالح هذه المدرسة خلال تسلمها السلطة ثم نبذتها وبددت تجمعاتها ومنابرها، ولكن المستقبلية كانت تمهيداً للواقعية والتكعيبية والسوريالية، وانشطرت المستقبلية وهي تجتاح الأدب الروسي إلى (مستقبلية الأنا) ثم (المستقبلية التكعيبية) وكان ممن حالف هذا الاتجاه الشاعر الروسي مايكسوفسكي الذي احتفت قصائده بالآلة كثيراً وقد شهد عام 1930 انحسار المستقبلية في أوروبا.. 4- الرمزية Symbolism : مدرسة اشتغلت على الرمز بعد أن توصلت إلى أن الحياة إشارات ورموز، وكل شيء هو إما إشارة أو رمز وإما هو الإثنان معاً، فاللغة مثلاً إشارات ورموز، لأنها ليست مقصودة بذاتها لذاتها وإنما هي إشارة مكتوبة أو منطوقة تدلنا على مرموزها! وازدهرت الرمزية في الخمس عشرة سنة المتبقية من القرن التاسع عشر إثر غياب الشاعر والروائي فكتور هوجو في1885 فاجتمع عدد من الفتيان في مقهى باريسي يرتاده الأدباء والفنانون وأعلنوا برمهم من المدارس الأدبية والفنية السائدة وبخاصة البرناسية، وأبرز هؤلاء الفتيان: ستيفن مالا رميه 1842-1898 وبول فرلين 1844-1896، وآرثر رامبو 1854-1891 وتريستان كوربيير 1845-1875 وجان مورياس 1856-1910 ثم أصدروا بياناً بعد انتهاء الاجتماع يدعو إلى كتابة شعر يتجه إلى أعماق الشاعر بدلاً من أن يحوّل الأنظار عنه إلى شيء آخر!!والانتباه!!والانتباه الشديد لمعطيات الدراسات السايكولوجية والميثالوجية والأنثروبولوجية والبراسايكولوجية، واعتداد الأحلام نصوصاً يمكن قراءتها دون الانـزلاق إلى وهم القراءة، وحمل البيان الرمزي توقيع جان مورياس الذي حدد قناعات الرمزيين وأهدافهم، ثم نشر البيان لاحقاً في جريدة الفيجارو عدد سبتمبر 1886، وفتيان الرمزية معجبون أيما إعجاب بأعمال تشارلس بودلير ويعتدونه رائداً جديراً بالإعجاب، وقد احتفوا بالسونوتو الذي كتبه وبخاصة (المطابقات) ومما جاء فيه: الطبيعة معبد تكتنفه أسرار الدين -تصدر عن- أعمدته الحية بين حين وآخر -أصوات مثل الزمزمة- بكلمات مختلطة مبهمة- ويجوس منه الإنسان في غابات من الرموز تراعيه- وتحدّق فيه بنظرات أليفة-… وكما تختلط الأصداء المديدة في الآفاق البعيدة -في وحدة غامضة عميقة- لها رحابة النهار وشمول الظلام -كذلك في معبد الطبيعة-تتجاوب العطور والألوان والأنغام-…. ومن العطور ماهو مثل أجسام الأطفال نداوة-والأنغام عذوبة- والحقول الخضراء نضارة – كما أن فيها الداعر المجاهر – القوي الرائحة الفظ القاهر – كالعنبر والمسك – وميعة الحاوي – وعود الهند – يتضوّع ريحها ويمتد – كاللانهائي بغير حد – فيطرب النفس ويسكر الحواس! إ.هـ وقد استنبط النقاد من المطابقات مصطلح التراسل Correspondence الذي استنبط من عبارة بودلير (إن المشاعر الإنسانية إن هي إلا رموز واضحة لحقيقة جوهرية خفية، وهذه الحقيقة يمكن أن يعبّر عنها بمشاعر مختلفة بعضها عن بعض تماماً).. مرت المدرسة الرمزية بجيلين من الشعراء: جيل ختم القرن التاسع عشر ويشمل أيضاً البيرسامان(1858-1900)وجول لافورج(1860-1887) وجوستاف كان(1859-1936)،وهذان الأخيران مبدعا الشعر الحر Verslibr في فرنسا!! والجيل الثاني استمر يكتب بعد الحرب العالمية الأولى وقاده بول فور (1872-1960) وبول فاليري (1871-1945)؛ والنظرية الجمالية للشعراء الرمزيين إلى جانب أنها ردة فعل لما كان يقوم به الشعراء البرناسيون كانت تتجه اتجاهين واضحين هما إخضاع شعرهم للجمال الموسيقي في الكلام أكثر من اهتمامهم باستحضار الصور الخيالية الشبيهة بتصويرات الفنان، والاتجاه الآخر هو إحياء بعض الاهتمامات التي كانت تميز الحركة الرومانتيكية بأوروبا نحو الولع بأسرار الكون والسحر وعالم ما وراء الطبيعة؛ ورغم اندثار الرمزية في الثلاثينات من القرن العشرين إلا أنها كانت تمهيداً أكيداً للمدرسة السوريالية!! ويمكن التلبث عند أهم خصائص المدرسة الرمزية: 1. اعتداد الرمز مفتاحاً للنفس البشرية واسرارها، والطبيعة وقوانينها؛ والرمز ليس المغلق من الإشارات والمعمّى من المعاني، وإنما حقل يتوصّل إليه بوساطة الإيحاء والتأمل والاقتران والاستبطان أي بإعمال الفكر.. 2. التحرر من سلطة الحواس؛ والاهتمام بكشف المعاني الذهنية التي تجردت من الإشارات الظاهرة، فنحن نصل المعلوم من خلال المجهول وندرك الجلي من خلال الخفي.. المعنى قارة غاطسة تحت سبعة بحور!! والمبدع هو ذلك الذي يصل إلى قرارة هذه القارة فيكتشف كنوزها.. 3. تشويش الحواس بخلع وظيفة حاسة على أخرى، وذلك الذي عُرِفَ بـ(تراسل الحواس) كأن يكون النظر بالأذن والسمع بالأنف والشم باللمس. فالحواس مضللة لاتصالها بالمحدود والفناء!! والمجردات هي الحقيقة لأنها تتصل بالسمو والبقاء. 4. استثمار طاقات الإيقاع الكامنة في كل شيء، ثمة مثلاً طاقات كبرى في الحروف (لاحظها من قبل ابن جني في كتابه الخصائص وابن سينا في كتابه أسباب نـزول الحروف!! انظر الفهرست في كتابينا: الصورة الفنية معياراً نقدياً ثم الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية). وقد قرأ رامبو قصيدة إلى..(..) فاستأثر حرف الراء بأكثر من نصف حروفها.. بل إن بعض سطورها كان مجرد تكرار لحرف الراء: RRRRRRR RRRR RRR وكان قرأها أمام جمهور غفير من الناس، فضجت القاعة معه وكررت حرف الراء..وأصيب عدد منهم بحالات من الإغماء ، الإيقاع لا يسبغ على جسد النص كما الحالة في الشعر العربي التقليدي وإنما هو ينضح من مسام النص! والإيقاع ليس تزويقاً جمالياً، بل هو حقيقة نصية تتصل بكلية النص. 5. الاغتناء بالأحلام، فهي بئر لا يجف ماؤه، يمتح الفنان والشاعر منه الكثير الكثير من المعاني العميقة، ويمكن للفنان الاستفادة من حالات الهلوسة، حتى أن عدداً من الشعراء والفنانين كان يتناول الأطعمة الفاسدة ويتعرّض للهلع المعتم مثل مساكنة الموتى أو تناول جرعات قليلة من السمّ لكي يتعرّض للغثيان والهذيان ويكتب شعره في هذه الأجواء. 6. استثمار آليات المجاز على نحو مختلف؛ والنظر إلى الاستعارة والكناية على أنهما مبدأ الوجود، لكل شيء في الحياة استعارات وكنايات ولن تتمتع بأدب ذي قيمة أو فن مهم دون أن تحذق استعمال المجاز على نحو مختلف يشحن النص بطاقات لم يكن يعرفها الذين استخدموا المجازات والأخيلة وفق نمطية مملة..!! بل إن عدداً من الرمزيين حاول دمج المشبه والمشبه به في حالة واحدة، وقال أن المشبه به وهم وهو غير موجود إلا في رأس الإنسان، أما في الطبيعة فلا وجود له (كذا) .