النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 6
الفصل الرابع: (النـزعات الأدبيــــة) 1 – النـزعات الغربية 2 – النـزعات العربية النـزعة مجموعة من القناعات والميول يرجع إليها صاحبها، ونرجّح أن هذا المعنى (الاصطلاحي) قريب من المعنى اللغوي، فتنازع القوم أي اختلفوا والنـزوع انحسار الشعر عن جانبي الجبهة، ونازعت النفس إلى الوطن: اشتاقت! والمنـزعة بما يرجع إليه الرجل من أمره ورأيه وتدبيره وهي أيضاً قوّة عزم الرأي والهمة!! أما النظرية فهي أكبر من النـزعة وأعمق وأوضح، فالنظرية قضية تثبت ببرهان أو طائفة من الآراء تنهض لتفسير الوقائع العلمية أوالفنية أو الأدبية ، والنظرية Theory مجموعة قناعات مؤلفة تأليفاً عقلياً تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات أما نظرية الأدب Literary Theory فهي دراسة تجريدية غايتها استنباط القواعد العامة وفلسفة المفاهيم والأصول الجمالية التي ينبني عليها النقد، فضلاً عن أنها الأساس النظري لدراسة الأدب؛ ولعل أول كتاب في نظرية الأدب هو فن الشعر لأرسطو . المبحث الأول [ النـزعات الأدبية الغربية ] نحن ندرس بعض الاتجاهات الغربية على أنها نـزعات لأننا لم نتوسم فيها حدود المدرسة، فالمدرسة تبنى على نظرية، تقارع بها النظريات الأخرى وتمتلك مبدعين ونقاداً يأخذون عنها ويضيفون إليها، أما النـزعة فهي في أحسن أحوالها: إرهاصات بميلاد نظرية.. وقد تصدر عن مفكر أو مجموعة مفكرين.. 1-النـزعة الأكمية Acmeism : وتسعى إلى إلغاء التطرف في التجريد والإبهام مما حفلت به الرمزية، ودعت الأكمية إلى استثمار إمكانات الحواس، وقد ظهرت هذه النـزعة في الشعر الروسي قبل عام 1917 وابرز روادها (آنا اخماتوفا) التي ثارت على الاستغراق الصوفي الذي يثقل النص بمرجعيات وهوامش لامسوّغ لها.. 2-المكانية Regionalism : وتدعو إلى استثمار شحنات المكان في النصوص الشعرية والروائية والقصصية والتشكيلية والموسيقية!! فالنص المفرغ من المكان إنما هو نص هش غير ذي قيمة ، ودعت للالتفات إلى جماليات المدن الصغيرة والأرياف النائية! وظهرت النـزعة المكانية في ألمانيا خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، وكان الأدباء والفنانون الألمان يبشعّون المدن المختنقة بالناس والصخب والدخان والمصالح.. بل إن بعضهم سفّه الحضارة واعتدها سبباً لشقاء بني البشر (كذا). (ويمكن اعتبار يوميات نائب في الأرياف 1937 لتوفيق الحكيم ودعاء الكروان 1941 لطه حسين مثالاً لهذه النـزعة). 3-الإنسانية Humanitarianism : مجّدت الإنسان والخير والحياة وقد ظهرت في حدود عام 1850 حين تصاعد الوعي الأوربي وتنادى المفكرون والمبدعون إلى ضرورة الدخول في عصر التنوير، والتخلص من القيود الاجتماعية التي تكرّس فكرة (الحظوظ) التي تجعل الفقير فقيراً والثري ثرياً.. والمزاعم التي تؤكد أن لاجدوى من العمل والجد ما دام الحظ هو المتحكّم في أقدار الناس!.. بل لقد دعا روّاد هذه النـزعة إلى النظر إلى السيد المسيح (ع) على أنه إنسان نـبيّ فقط وليس رباً أو ابن الرب!! مما هيّج غوغاء الشارع ضدهم، أولئك الذين تحرّكهم وتستغل سذاجتهم مؤسسات الإقطاع ورأس المال والكنيسة . 4-البدائية Primitivism : وهي دعوة إلى نبذ التعقيد والتكلّف وتمجيد الطبيعة والبساطة، إنها تستلهم أفكار مونتيني (1533-1592) الحانقة على الحضارة والعلم، وكان جان جاك روسو (1721-1778) وهو أحد أهم المثقفين الفرنسيين برماً بتثقيف المرأة (قارن مذكرات جان جاك روسو) وهو القائل (إن زوجة لا تقرأ ولا تكتب لهي عندي أجمل وأحبّ من زوجة مثقفة يركبها السخف فتجعل من مخدعي صالوناً للحوار والأدب)!! وقد ظهرت أعمال أدبية وفنية تتغنّى بالعزلة وتكرّس فكرة اغتراب روح الإنسان في المجتمعات المتحضرة والصناعية، فالبدائيون وحدهم هم السعداء من نحو مجتمعات الهنود الحمر في أميركا والنور في إسبانيا وبالوبا في الكونغو والمركيسيز في بولينيزيا وكرّست هذه الأعمال هاجس الحنين إلى الماضي والتغنّي بوهلات البشرية الأولى!! وكان الأديب الفرنسي الساخر فولتير(1694-1778) أقوى من هاجم هذه النـزعة وقال أنها تجهّل المجتمعات لكي يخلو الجو للحكومات الجائرة.. 5-الحقيقة Verism: نـزعة قديمة بيد أنها تبلورت في إيطاليا حدود عام 1852 وكان الناقد الإيطالي كابوانا (1839-1915) قد هاجم الرومانسية والتعابير الخطابية المجلجلة ودعا عام 1872 إلى ضرورة احتفاء المسرح والرواية والقصيدة واللوحة والموسيقى بالحقيقة الصافية، فهي الشيء الوحيد الذي يبقى بعد أن تتكشف الأمور ويضمحل التزويق والتصنّع. 6- الأسطورية : يرى الكثير من الدارسين أن زمن الأسطورة أزلي، فهي ليست تمثيلاً لحقبة تاريخية وتمثّلاً لتأويلات الأوائل حسب، وإنما هي أيضاً طريقة مجازية تقرأ عقل الإنسان وتفسّر له الكثير من الظواهر.. إذن النـزعة الأسطورية نمط من التفكير يحلل ويؤوّل وفق منظور يرى الأسطورة ضوءاً يكشف أسرار كثير من الأعمال.. وقد ظهر نقاد مهمّون كرّسوا هذا النمط في كتاباتهم: ويبدو هذا النمط من النقد مناسباً للدخول إلى بعض الأعمال الأدبية على سبيل المثال: في بعض القصائد الجاهلية يتصارع الثور مع كلاب الصيد، فإذا مات الثور فإن في هذا إيحاءات بالحزن، لذلك تبتدي بمثل هذا قصائد الرثاء في حين أن قصائد المديح تبدأ بانتصار الثور على كلاب الصيد!! ورواية جيمس جويس (يولسيس)!! لايمكن الدخول إلى رحابها إلا من خلل معطيات هذه النـزعة حتى نرى إنسان هذا العصر الأوربي هو بطل من نمط خاص (مستر بلوم) بيد أنه مضطر لأن يعيش ويكذب وينافق بسبب اختلاف ظروفه عن جده يولسيس. وملحمة الأوديسة لا تفهم بطريقة الكلمة معناها والحدث توريخه لأن البطل أوديسيوس نموذج مركّب من المشاعر الواقعية والأسطورية وبنلوب كانت تبجّل قيم عصرها ، ويرى يونج أن لاوجود للأسطورة خارج اللغة، إ.هـ. ولفظة Mythos اليونانية في دلالتها الاشتقاقية تعني (الكلمة) وكانت الكلمة ومازالت معادلاً رئيساً للوجود، وقد أطلق أرسطو هذه الكلمة على المسرحية بوصفها رديفاً لكلمة Plot في المصطلح الحديث، وعرف عن الإنسان أنه حين يعجز عن التأويل، يسدّ الثغرات المعرفية لديه بالتأويل الأسطوري، وحين بدا الوعي الأول يتشكّل أحس بعبء التأويل! فما سرّ الموت والحياة والحب والمقت والطرب؟ ماسرّ الصواعق والزلازل والأعاصير والنجوم والشموس والأقمار؟ ولماذا يمتلئ القلب رعباً حين يعجز العقل عن تأويل وجود كل ذلك، بله تأثيره! فجاءت الأسطورة لتسدّ الثغرات في معرفية الإنسان وتؤوّل له كل ما عجز عن تأويله! ويبدو أن التفسير الأسطوري لم يمت بعد ولم يضعف قبالة الثورة العلمية التكنولوجية والعكس هو الصحيح أيضاً. فالأسطورة لن تطالب العالم المتمرّس أن يلغي علميته، وإنما هي تساعده في سد الثغرات مؤقتاً ريثما يصل إلى الحلول الأكيدة فينتقل إلى الوجه الآخر للأسطورة وهذا تحديداً هو رأي (مارك شورر) فالأسطورة عنده لا تلبّد التفكير بل تنشطه، والإنسان الحديث يناضل ضد الفناء والرعب النووي والقهر السلطوي بوساطة أسطورته الحديثة ، وقد فسّر فرويد الأسطورة بأنها موقف إنساني دفاعي ضد فجوتي الجنس والموت ثم تأتي الملحمة لتوظّف الأسطورة كلاً أو بعضاً وربما فككت الملحمة الأسطورة لتشكلها مرة أخرى ، فالأسطورة محاكاة لدراما الحياة وهي على نحو ما.. تُحَوّل اللامدرك إلى حسي لكي تتغلب عليه، نظير ما فعله الإنسان الأول مع الموت والزمان ، ويمكن القول ان ت.س.اليوت قد بذل جهداً متميزاً لتوكيد أثر الأسطورة في الشعر من خلال شعره وكتاباته معاً! ويرى د.أحمد مطلوب أن تفكير الإنسان بطبيعة حاله تفكير أسطوري حتى أن بعض البلاغيين لم يدخل قول أبي ذؤيب الهذلي في الاستعارة المكنية: ألفيت كلّ تميمة لا تنفعج وإذا المنية أنشبت أظفارها مدّعياً أن لا وجود للاستعارة المكنية في هذا البيت بسبب اعتقاد أبو ذؤيب أن المنية غول حقيقي وليس ثمة تشبيه استعاري في الأمر.إ.هـ. واستثمر بعض القصاصين والروائيين العراقيين عدداً من أبطال الملاحم والأساطير مثل جلجامش في أعمالهم مثل رواية (سبي بابل) لعبدالمسيح بلايا ورواية الأنهار لـ عبدالرحمن مجيد الربيعي وليس ثمة أمل لجلجامش لخضير عبدالأمير. 7-الجمالية Aestheticism : ترى هذه النـزعة أن كل شيء محدود إلا الجمال. وكل شيء تأخذ منه ينقص إلا الجمال.. ولذا كانت دعوتها ملحّة إلى استثمار أقصى طاقات الجمال، لأن الجمال هو المرادف الوحيد للحياة والحرية! وتحمس أكثر مريديها إلى مقولة (الفن للفن) فالجمال هو الفن.. والفن في زعمهم كما الجمال.. غاية ووسيلة معاً!! وقاوم بعض المريدين نـزعة الفن للفن والجمال للجمال!! فالإبداع حين يدعو المجتمع إلى الخير والطهر والحرية فهو بالتأكيد يدعوه إلى الجمال.. وفصل الجمال عن المجتمع يشبه فصل المعنى عن محتواه! ثم اختلف علماء هذه النـزعة كما اختلف الذين سبقوهم في موضع الجمال أهو في الشكل أم في المعنى أم في الإثنين معاً؟؟ كما اختلفوا في مكوّنات الجما ومرادفاته مثل الحسن والملاحة والجودة والامتياز والانسجام والتناسق والاقتران والجاذبية والدهشة والغرابة والصدمة والألفة والراحة والبكارة والخير والزخرف والإفراط والتناظر والغموض والسرور…الخ . 8-الخفاء Occultism : تؤمن هذه النـزعة بأن الخفيّ كامن في الجلي وأن اللب يغلّف نفسه بالقشرة الصلدة!! فبإمكان المبدع من خلال قوتي الاستبطان والتأمّل معرفة دخائل الأمور وهتك أسرارها المعمّاة وقد أثرت هذه النـزعة كثيراً في أدب وفنون القر وسطية! بل إن الناس -عامة الناس- تبنّوا معتقد هذه النـزعة وتقبلوا بعض التفسيرات (الحدسية) عن بداية الخليقة، مما جعل السلطتين الحكومية والكنيسية تعترفان بخطر هذه النـزعة فأصدرتا بالتكافل قراراً يقضي بالإعدام حرقاً لكل إنسان يؤمن بنـزعة الخفاء؛ ولكن القرارات القاسية لم تقبر نـزعة الخفاء وشاهد ذلك تأثر الرواية الأوروبية أواخر القرن التاسع عشر بفكرة الخفاء والكمون.. وهي فكرة تستثير قدراً كبيراً من الخيال والتمويهات المجازية مما سوّغ للنقّاد ومؤرخي الأدب القول بأن خيال الخفاء كان تمهيداً فذا للخيال الرومانسي في عدد من البلدان الأوروبية من نحو إنجلترا وفرنسا وألمانيا وناقد هذه النـزعة (يهدف إلى اكتناه جدلية الخفاء والتجلي وأسرار البنية العميقة وتحولاتها) والعبرة ليست (بإدراك الظواهر المعزولة بل تحديد المكونات الأساسية للظواهر في الثقافة والمجتمع والشعر، ثم إلى اقتناص شبكة العلاقات التي تشع منها وإليها والدلالات التي تنبغ من هذه العلاقات) ، وقد عرفت العرب نظرية الخفاء وأسمتها (الباطنية) التي نشأت منتصف القرن الثالث الهجري يقول الشهرستاني (وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنـزيل تأويلاً!! والباطنيون القدماء قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنّفوا كتبهم على هذا المنهاج) والباطنيون ينسبون المعلول إلى العلة (والنطفة إلى تمام الخلقة والبيضة إلى الدجاجة والولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج) وقد أنكرت جل طوائف المسلمين هذه النـزعة واعتدتها مروقاً عن الدين ودعوة إلى تحريف النص عن مواضعه . وأجاز بعض الدارسين حالات من القراءة الاستبطانية ومنع الآخر! ويرى هذا البعض جواز التحليل والتأويل: 1-التحليل: هو شرح الغامض من الكلمات والصياغات وتشكيل المعاني المستخلصة من النص.. 2-والتأويل: بعد أن يتم تحليل النص فإن ثمة مرحلة لاحقة تعمل على استخلاص أكبر قدر ممكن من المعاني المخبوءة.. ويتم ذلك عن طريق اقتراح مسوّغات لإضافة المسكوت عنه إلى النص الأصلي على أن يتم الاعتماد على إشارات وصياغات موجودة بشكل جلي في النص.. وقد اعتد (التلوين) قتلاً لطبيعة النص وغاياته؛ لأنه يحمل النص فوق ما يحتمل ويسقط ألوان القارئ على النص فيخطف لونه الأساسي ويسبغ عليه لوناً غريباً . 9-الشعبية Populism : ثمة دائماً أدب أثرياء يعبر عن أجوائهم ومصالحهم وأدب فقراء يدافع عن مصالحهم ويصف أحوالهم! وقد تنادت طبقة من المثقفين الأوربيين والروس بشكل أوضح إلى ضرورة اعتماد الطبقات الفقيرة وبخاصة الفلاحين والعمال مقياساً لوظيفة الأدب وقيمته؛ ووضحت هذه النـزعة نهاية القرن التاسع عشر، فصدرت أعمال أدبية وفنية موافقة لتطلعاتها، وكان أن هجر كثير من المبدعين والمثقفين مدنهم والتحقوا بالريف للعمل بين الفلاحين والعمال وتعليمهم وتوجيه الأدب والفن لمخاطبة حساسيتهم الجمالية النقية! والغريب حقاً، وربما من المضحك أيضاً أن الفلاحين والفقراء لم يأنسوا لهذه النـزعة وارتابوا في نواياها وتطلعاتها أول أمرهم ثم ما لبثوا أن قاوموها واستثقلوا تدخلها في حياتهم المستقرة ودعوتها إلى تبديل قناعاتهم الثابتة، مما شجع القيصر علىأن يصدر أمراً مباشراً إلى البوليس لقمع هذه النـزعة بقوة السلاح إن استدعى الأمر ذلك!! في الوقت الذي امتد تيارها إلى عدد من دول أوروبا الشرقية، ثم ظهر فريق من الروائيين الفرنسيين المتحمسين لها مثل أندريه تيريف (1891-1967) وليون ليمونيه (1890-1953) وما يزال أثرها حتى الآن واضحاً في كثير من الأعمال الأدبية والفنية! ومن الجدير بالذكر أن النـزعة الشعبية امتدت على مساحة واسعة من المبدعين والمثقفين حتى أن جائزة مهمة استحدثت باسم الرواية الشعبية Roman Populist وقد تبنى رواد هذه النـزعة مقولة (الفن للحياة) وألّفوا كثيراً من الكتب التي تدعو إلى ارتباط الفن بحياة الناس وتسفّه المقولات التي تعزل الفن عن المجتمع وتنادي بأن الفن للفن. 10-الطبيعية Naturalism : الطبيعة في نظر روّاد هذه النـزعة طبيعتان: طبيعة واقعية وطبيعة مثالية، وقد نادت هذه النـزعة بأهمية الالتفات إلى الطبيعة الواقعية والكتابة عنها ونبذ فكرة الكتابة عن الطبيعة كما ينبغي لها أن تكون، وقد تطورت أفكارها الجمالية في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، واقتربت أفكارها كثيراً من أفكار المدرسة الواقعية! وطور أميل زولا (1840-1902) مفهوماتها الجمالية وميّزها عن مفهومات الواقعية الفرنسية النقدية واقترح في محاضرته القيمة المسماة الرواية التجريبية The Roman Experimental عدداً من النقاط نذكر منها: 1-انتقاء مدخل للرواية بعناية فائقة وليكن المدخل حادثة تهم المجتمع أوالفرد.. 2-أن تكون أحداث الرواية حادة تجتذب إليها اهتمام القراء شريطة أن لا يستعمل الروائي الحذلقة والتمحل في لفت الانتباه. 3- ان تتضمن الرواية موقفاً إنسانياً يرمّم الخراب الروحي الذي يحدث بسبب المصالح السياسية والاقتصادية والدينية. 4-التعامل مع القوى الخبيئة في أعماق النفس.. تلك القوى التي يرثها الإنسان عن أسلافه البعيدين أو القريبين على حدّ سواء. 5-الإيمان المطلق بالحرية وإيقاف الأنشطة الخارجية التي تقتحم خصوصية الأديب والفنان. وقد بان أثر هذه النـزعة في الأدب أكثر منه في الفن، وفي الرواية تحديداً، والغريب أن معظم الروايات ذات النـزعة الطبيعية كانت سوداوية الرؤية وتفسّر السلوك البشري والطبيعي على أساس جبري، الأمر الذي أسهم في فقدانها لشطر كبير من شعبيتها في أوساط المبدعين والقراء (وهبة408). 11-العاطفية Sentimentalism: اجتاحت أوربا شرقاً وغرباً! وإنما احتفى بها المثقفون والمبدعون لأنهم آنسوا فيها مقولات تتمحور حول كون الجمال كامناً في قدرته على إثارة عواطف المتلقي، وكسب انحيازه لهمومه، وكان ظهور النـزعة العاطفية بهيئتها المتكاملة أوائل القرن الثامن عشر، فاحتفت بها أوساط كثيرة بعضها محسوب على الشارع الثقافي والإبداعي والآخر محسوب على الشارع الاقتصادي أو الترفيهي، والسبب في ذلك أن هذه النـزعة تمثل القواسم المشتركة بين عدد من النـزعات والحركات، فهي تربط بين الجمال والخير وبينهما وبين الإنسان، وقيل أن هذه النـزعة سبقت ظهورها، فقد تحدث سقراط وأفلاطون وأرسطو عن العاطفة وكيف يتم التحكم بها . 12-العالمية Cosmopolitanism: وقوام هذا الاتجاه هو الانفتاح على كل الآداب العالمية والتخفيف من الروح القطرية التي تغلق الذائقة على الأدب المحلي؛ وقد تأثرت الآداب الأوربية بأطروحات النـزعة العالمية وبخاصة في القرن الثامن عشر، فأديب فرنسي كبير مثل فولتير (1694-1778) لم يخف إعجابه بالنظريات الأدبية والفنية القادمة من بلاد الإنجليز وقد وجدت هذه النـزعة عشاقاً لها في الوقت الحاضر بعد دخول عصر العولمة والانترنيت والقنوات الفضائية وحقوق الإنسان. 13-الهيلينية Hellenism: جاء في كتاب الثقافة والفوضى Culture and anarchy للناقد الإنجليزي ماثيو ارنولد (1822-1888)أن ثمة قوتين كبيرتين تتنازعان النفس البشرية منذ وهلة التاريخ الأولى وهما النـزعة الهيلينية والنـزعة العبرانية، وجاء في الفصل الرابع أن الهيلينية تعمل على تلقائية انطلاق الوعي البشري وتركّز اهتمامها حول سلطة الحواس الخمس والشعور (التأمل متعة جمالية) أما النـزعة الأخرى فهي دعوة لقراءة الحافز الداخلي (الضمير) والطاعة المطلقة للطقوس الدينية! ويوازن ارنولد بين أيوب Job وبروميثوس Prometheus في مأساة اسخيلوس فأيوب امتاز في ذاكرتنا بالصبر لأنه لا يجرؤ على اعتراض قرارات الآلهة أما برومثيوس فهو معترض على القرارات ولا يؤمن إلا بإرادته هو.. وحين التقى برومثيوس مصيره المروّع نادى بأعلى صوته (كم أنا مظلوم انظروا في مصيري البائس تدركوا ذلك). 14-التاريخية Historicism : محاولة لقراءة العالم من خلال التاريخ ومن ثم إدراك الحاضر والمستقبل من قبل أحداث الماضي، فكل شيء محكوم عليه بالمضي آجلاً أو عاجلاً! الحاضر سيكون ماضياً والمستقبل سيكون ماضياً بعد أن يمر بالحاضر!! وكان نقاد هذه النـزعة يدرسون النص أو منتجه أو الظاهرة الأدبية من خلال التطور التاريخي للمكان والناس والقيم والتقاليد والأحداث وربما يكون للفيلسوف الألماني هيجل Hegel (1770-1831) الفضل في اصطناع نظرية لهذه النـزعة ثم جاء بعده مواطناه شبنجلر وفيبر ومن ثم الأمريكي جون ديوي والفرنسي تين والمجري جورج لوكاتش والإيطالي كروتشه الذين حاولوا (كلاً على انفراد) بلورة مفهومات النـزعة التاريخية. وبعد.. فإن الحديث عن النـزاعات الغربية التي اشتغلت على الآداب والفنون طويل وقد لاينتهي، وقد استفدنا في توضيح حدود معظم هذه النـزاعات من مصادر متعددة فاقتضت الإشارة . المبحث الثاني [ النـزعات الأدبيــــــة العربية] لم ترق الوثائق النقدية التي بين أيدينا إلى تعزيز فكرة وجود نظرية أدبية عربية فالعرب ميالون لصناعة النص الشعري أو النثري وليسوا ميالين إلى تقعيد الأدب والآراء النقدية، فضلاً عن أنهم يرون إلى أنفسهم سادة الإبداع في الدنيا، فلم يركزوا على ترجمة آداب الأمم الأخرى والنظريات النقدية، ومنذ العصر الجاهلي كان التقليد أن يقرأ الشاعر قصيدته على جمهور عريض من الناس أو يلقي الناثر نصه! وقلما فكّر الناس في أهمية تقويم النصوص، وربما كان الشاعر ينقد نصه بنفسه أو يستأنس برأي ناقده في تقويم بيت، وثمة مؤشرات تنم عن أن المبدع العربي كان يعرف عدداً من الطرائق التي يصون بها شعره من الخلل.. والسؤال: هل كانت للعرب نظرية نقدية؟ والجواب ليس يسيراً، فالنظرية النقدية لم تتشكل بعد: لقد بدأ السلف مشروع هذه النظرية، بيد أن الخلف لم يكمل المشوار وهانحن أولاء نذكر بعض الإشارات التي تشكّل إرهاصات لظهور نظرية نقدية عربية. العصر الجاهلي: 1-معيار الصورة: إذا لم تكن الصورة الفنية عيار الناقد؛ فأيّ عيار سواها كان يعتمد؟ ربما يقال أن سلامة الذوق أو ما اصطلح عليه (الحاسة الفنية) هي العيار، فكيف السبيل إلى تحققها؟ لقد فضّلت أم جندب شعر علقمة على شعر زوجها امرئ القيس وعللت التفضيل على أساس الصورة، صورة فرس علقمة كريمة خلافاً لصورة فرس زوجها ، وعاب ناقد آخر قول امرئ القيس في رسم صورة الفرس: وأركب في الروع خيفانة كسا وجهها سعف منتشر فقد غطى الشعر الكثيف الشبيه بالسعف وجه فرسه الذي يشبه الجرادة، وهذه الملامح لا تحبذ لصورة الفرس الكريم ، ولم يغب عيار الصورة عن النابغة حين اعترض شعر حسان بن ثابت: لنا الجفنات الغرّ يبرقن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فقد قلل جفانه وسيوفه وبياض فرسه ولو قال يلمعن في الضحى لأصاب ولو قال يجرين لجوّد ، وأخذ طرفة بن العبد على خاله الملتمّس أنه استنوق الجمل أي أنه استعار صورة الناقة للجمل في قوله: وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم ولم يغب كذلك عيار الصورة عن زهير حين أجاز لابنه كعب قول الشعر بعد أن اعتسفه واختبره في إكمال الأبيات وصورها الفنية ، لكن حسان بن ثابت لم يعتسف ابنه عبدالرحمن، فما إن وصف النحلة التي لسعته (كأنها ثوب حبرة) حتى هتف الأب قال ابني الشعر ورب الكعبة ، وقد اتخذ الأعشى ابنته ناقدة لشعره فهي تستحسن أو تستهجن وفق اقتراب الشعر من الصورة أو ابتعاده عنه، ولنا أن نلتفت إلى ألقاب الشعراء المقترنة بالصورة من نحو المهلهل والمحبر والكيس والشويعر والذائد والمفصِّل وعويف القوافي كما نلتفت إلى اختصاص كل شعر بوصف ما، فامرؤ القيس وأبو دؤاد الإيادي وطفيل الغنوي برعوا في صورة الفرس وأوس بن حجر وكعب بن زهير وسواهما أجادوا رسم الناقة بكلماتهم بينا تفنن الأعشى في جماليات صورة المرأة ومجالس اللهو . 2-السرقات الشعرية: قال النقاد القدامى أن السرقات باب لا يدّعي أحد من الشعراء السلامة منه! وكانت السرقات مقصورة في الغالب على الصور الفنية والصور الفنية أدخل في باب المعاني، والمعاني مبذولة للكافة كما يقول ابن المقفع ومن ثم الجاحظ فعبد القاهر الجرجاني!! وتعكس هذه النظرة تساهل النقد القديم مع السرقات الشعرية، ولصوص الشعر إنما يسرقون البديع الذي يخترعه الشاعر وجمال البديع في الصباغة والتصوير وهم (النقاد) يغفرون للشاعر السارق إذا أحسن التصرف بما سرق (وركّب عليه معنى ووصل به لطيفة ودخل إليه من باب الكناية والتعريض والرمز والتلويح، فقد صار بما غير من طريقته واستؤنف من صورته) ، وقد يجد الناقد صورة مشتركة بين شاعرين فلا يدري من المسروق ومن السارق! فيلجأ إلى عنصر الزمن لحسم الأمر.. فلو اشترك عامر بن الطفيل وأبو دؤاد الإيادي في صورة سائدة وألفاظ واحدة فالنقد يلاحظ الأقدم زمناً والأكثر قدرة ثم يضع في حسبانه احتمال وقوع ذلك مصادقة ، وقد سئل زبان بن سيار ت154هـ: أرأيت إلى الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ دون أن يلتقي أحدهما صاحبه أو يسمع شعره؟ فأجاب: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها.إ.هـ وقد عرض لنا الشعر الجاهلي (السرقات الشعرية) واعتدّها هماً يكابده الشاعر.. ووردت مصطلحات تتصل بالسرقة الشعرية من نحو: الاجتلاب والإغارة والانتحال!! قارن: يا أيها الزاعم إني أجتلب-وإنني غير عضاهي أنتجب-كذبت إن شر ماقيل الكذب ، وقال طرفة: ولا أغير على الأشعار أسرقها عنها غنيت وشرّ الناس من سرقا ثم قارن ما قاله الأعشى: فما أنا أم ما انتحالي القوا ف بعد المشيب كفى ذاك عارا 3-النقد الانطباعي القائم على الذوق الخاص تارة والملاحظات اللغوية أخرى ومطابقة الصفة للموصوف، فقد فضل، النابغة شعر الأعشى على شعر الخنساء دون أن يسوّغ لنا التفضيل وحينما اعترض عليه شاعر وقال له إنك تعلي نفسك وتنـزل غيرك لأنك شاعر قبض النابغة على لحيته وقال له: يا ابن أخي إنك لا تستطيع أن تقول كقولي: وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع 4-انتخاب الشعر الجميل من نحو انتقاء المعلقات والاتفاق على هذا الانتقاء، فلابد والحال هذه من أن تكون قواعد ذات قواسم مشتركة قوامها الذوق السائد قد تشكلت، إذ لم نقرأ ان أحداً انتقص من قيمة المعلقات أو شكك بجمالياتها؛ وتخبرنا المصادر القديمة أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان ينتخب القصائد الجميلة التي تمجّد حكمه وتشيد ببني لخم قبيلته ويقول لمستشاريه علقوها، وأنهت المصادر الأخرى أن المختار الثقفي بعد النجاح المؤقت الذي حققه ضد الأمويين دخل القصر الأبيض فأخبره بعض الفضوليين أن في باحة القصر كنـزاً عظيماً فاحتفر الباحة وعثر على صناديق فيها طنوج تمثل انتقاءات النعمان بن المنذر. 5-هناك مقولات شائعة لا يهمنا مدى انطباقها على الواقع بقدر ما يهمنا أنها آراء مبنية على الاستقراء والاستنباط مهما كانت العملية بسيطة ومن هذه المقولات: أغزل بيت قالته العرب وأهجى بيت وأشعر بيت، وبيت القصيد، وأخنث بيت وأرثى بيت وسمط الدهر.. 6-الوعي الإيقاعي.. فقد كانت للشعراء وسائل كثيرة يستعملونها حين يَزِنون أشعارهم مثل النصب والركباني والترنّم والترسم وكانوا يعرفون الأقواء: وأشيع أن شاعرين كبيرين كانا يقويان بشر بن أبي خازم وقد نبهه أخوه فما عاد إلى الإقواء ثانية أما النابغة.. فقد كانت منـزلته كبيرة.. فاحتالت عليه يثرب أن دعته إلى ليلة غناء. فاستجاب إليها.. وفي الحفلة وجد مغنية جميلة ذات صوت عذب تصدح بشعره وتحديداً داليته المشهورة: من آل ميه رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزودِ ثم وصلت إلى قوله: زعم البوارح أن رحلتنا غدا وبذاك خبّرنا الغراب الأسودُ وحين وصلت إلى الأسود مدت بصوتها.. وظهّرت الرفع في الدال.. فانتبه النابغة وقال لها ماذا تفعلين ياجارية؟ فقالت هذا فعلك يا سيدي.. فقال لها غنّي (وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ) وسئل الخليل الفراهيدي هل كانت العرب تعرف العروض قبلك؟ فقال نعم.. ثم حكى لهم أنه ذهب إلى مكة للعمرة فوجد شيخاً يضع ظهره على الحائط ويدرّس الصبيان طريقة التنعيم.. وهي تعتمد (لا+نعم+نعمن) = (اه +ااه +اااه) قولك فعولن = نعم لا. فاعلاتن=لانعم لا… 7-تقسيم الشعراء الجاهليين إلى ثنائيات تنم عن أن الذائقة النقدية الجاهلية قد استقرأت واستنبطت قارن هذه الإشارات: 1.الشعراء المطبوعون: الذين يأتي شعرهم رقراقاً رقيقاً فكأنهم يغرفون من بحر. 2.الشعراء المصنوعون: الذين يأتي شعرهم ثقيلاً مبهظاً فكأنهم ينحتون في حجر. 3.الشعرءا المتألهون: وهم الذين يدعون إلى تأمل خلق الله ويترفعون في لغتهم ويتعففون في عواطفهم. 4.الشعراء المتعهرون: الذين لا يستحون من قول أي شيء يريدون قوله دون أن يمنعهم وازع داخلي أو خارجي.. 5.شعراء المدر وشعراء الوبر وشعراء الثغور والشعراء الصعاليك والأغربة والفرسان. 8-الألقاب التي أسبغت على بعض الشعراء المشهورين وهي ألقاب تحيلنا إلى اختصاصات كل شاعر مثل المهلهل والمرقش والمنمّق والكيس وعويف القوافي زد على ذلك استقرار الرأي على مهارات الشعراء فمنهم من عرف بوصف المرأة أو الخمرة أو الحرب أو الفرس أو الطبيعة. 9-الأسر الشعرية، فثمة أسرة أوس بن حجر التي تخرج فيها زهير وابنه كعب وتلميذه جرول وخؤولة طرفة، فخاله الملتمس؛ وأسرة الأعشى الكبير التي تخرّج فيها ابنه وابنته؛ وأسرة الخنساء وتخرج فيها أولادها وكلهم شاعر، واسرة حسان بن ثابت التي تخرج فيها ابنه عبدالرحمن. 10-تمثّل الصياغات القديمة التي ورثها الشعراء، وهي صياغات نعرفها على سبيل العقل وليس على سبيل النقل إذ لا يمكن مجرد التخيّل أن الشعر الجاهلي جاءنا ناضجاً دون أن تكون له مقدمات أو تمهيدات، ولدينا إشارة ربما تكون وحيدة، وهي قول امرئ القيس: عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن خذام وثمة النظرية الشفاهية التي جاء بها مونرو وتقول النظرية أن هناك قوالب جاهزة يتمثلها الشاعر حين يكتب فهي مثل القوالب وما على الشاعر إلا أن يستثمرها ويصب فيها سبائكه.. 11- فن المنافرة الذي ساد في العصر الجاهلي ويعتمد ضرباً من المفاضلة بين شخصين يقبلان بشخص موثوق به يحكم بينهما.. مع حضور جمهور غفير يشهد المنافرة، وقد يقول المحكم راياً فينفّر هذا على هذاك.. ويعترض الجمهور على حكم الحَكَم فكيف يحكم الرجل بين شخصين؟ وكيف يقول هذا أفضل من هذاك إذا لم تكن تحت يديه مقاييس يعتمد عليها في الموازنة، ومثال ذلك المنافرة التي دارت بين خصمين هما ينتميان لعمومة واحدة، عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة.. فالمنافر يكثف عبارته وينتقي الصور المؤثرة والمكر الفني والمناورة…الخ. 12-ونظر الجاهليون إلى أثر المكان والحرفة والوضع الاجتماعي في الشعر فضلاً عن الحالة الشعرية، فقالوا أشعر الناس النابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وامرؤ القيس إذا رغب ويقولون (شاعر خشن العبارة لأنه شرب حليب النوق وأكل الشيح ومسح بالقيصوم.. وشاعر لان شعره وثقل لسانه لأنه أكل البقول ) (عدي بن زيد كان يسكن الحيرة ويدخل الأرياف فثقل لسانه) و(أمية بن أبي الصلت يأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة) .. وقد مر بنا أن مهلهلاً إنما سمي مهلهلاً (لأنه هلهل الشعر أي رققه وكان فيه خنث) وثمة شعراء رصدت آثار حياتهم في المدن البحرية مثل طرفة: عدولية أو من سفين بن يامن يجور بها الملاح طوراً ويهتدي إن هذه الإشارات وسواها تثبت لنا أن هناك وعياً نقدياً تشكل في العصر الجاهلي وهو وعي بسيط بالنسبة لوعينا النقدي الآن (يناير2000)أما بالنسبة لمقاسات الوعي عهدذاك؛ فهو عميق فضلاً عن أنه يفي بمتطلبات المركز والأطراف / النص والآراء فيه وكان بالإمكان نشوء نظرية نقدية لو أن الجاهليين دونوا أشعارهم بأنفسهم ودونوا كذلك الآراء النقدية التي سادت في زمانهم وفسحوا للنقد أمكنة أوسع، غير التي تمتع بها النابغة في الأسواق وأم جندب في المجالس الرجالية منقّبة أو من وراء الحجاب.. ومع كل ذلك فقد تركوا لمن يأتي بعدهم إرثاً نقدياً لا يستهان به . العصر الإسلامي. وصلنا عن العصر الجاهلي كم ونوع في النقد مهمان، والآراء النقدية الإسلامية تعد قفزة نوعية إذ طرحت بعض الأفكار التي تستدعي الجدل وإعمال الفكر من نحو: هل الشعر إلهام أم صناعة؟ أهو ضرورة أم كمال؟ هل الشعر حلال أم حرام؟ وإذا كان الشعر حراماً، أهو حرام كله؟ وإن كان حلالاً؛ أهو حلال كله؟ وأي الشعر حلال وأي الشعر حرام؟؟ وهل لنا أن نصرف النظر عن الشعر الجاهلي؟ أم ننتقي منه شعر المروءة والتعفف والغزل البريء الذي تسمعه العذراء في خدرها فلا تستحي!!وما موقف القرآن الكريم من الشعر؟ وتساءل كذلك عن موقف النبي الأمين (ص) من الشعر والشعراء؟ وموقف الصحابة والتابعين والفقهاء والعلماء أيضاً؟ الحضارة كما يقول ادورد تايلر (هي أسئلة لا تكف، وتتكاثر بالانشطار، ولا حاجة للسؤال إلى جواب، فالسائل أكثر قدرة على الإجابة. ولكنها الحضارة تبدأ بسؤال وتنمو بسؤال!) . حدث جدل نافع بين طرفين الأول كان مع الشعر والآخر ضده وقد ناقش عدد كبير من الأساتذة موقف الإسلام من الشعر، فجمعوا وحللوا وقالوا رأيا ، وقد كان شهاب الدين أحمد ابن عبدربه رحمه الله سبّاقاً إلى مناقشة موقف الإسلام من الشعر والآراء النقدية المهمة التي فهمت من قول النبي الأمين (ص) والخلفاء الراشدين (رض) وأثبت رحمه الله، أن الإسلام لم يحرم الشعر ولن يحرمه، فإذا وقف ضد الشعر الداعر والمتهتك والشعر الذي يخرّب الحياة ويدعو إلى التفرقة فذلك موقف يتصل بموضوع الشعر وليس بطبيعته ونهد بعد قرابة المئة والأربعين عاماً الإمام عبدالقاهر الجرجاني فجمع وأوعى، وحلل وقعّد وأثبت بالشواهد والأدلة أن روح الإسلام العظيم لن تقمع الشعر الذي يدعو إلى المحبة والخير وحب الحياة، وخصص مساحة مهمة من كتابه لبيان موقف النبي (ص) والصحابة (رض) من الشعر ثم بث كمّاً مهماً من الآراء النقدية (العصر الإسلامي) في كتابه العتيد ، ونـزعم أننا استثمرنا إشارات ابن عبدربه والجرجاني من الغابرين و د.الجبوري و د.العاكوب من المحدثين وأضفنا إليها إشارات جديدة وعبها كتابنا الجديد الذي صدر عام 1999 . إشارات إسلامية تتصل بالموقف من الشعر *النبي الأمين (e) 1-قال النبي (ص) حين أعجب بكلام الشاعر عمرو بن الأهتم (إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً). 2-سمع النبي (ص) السيدة عائشة (رض) تنشد شعراً لزهير بن حباب: يوماً فتدركه عواقب ما جنىأثنى عليك بما فعلت كمن جزى ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفهيجزيك أو يثني عليك فإن من فقال (ص) : صدق يا عائشة، لاشكر الله من لا يشكر الناس. 3-وأنشد الرسول (ص) قول شريك بن عامر المصطلقي: إن المنايا بجنبي كل إنسانحتى تلاقي الذي منّى لك المانيوكل زاد وإن أبقيته فانبكل ذلك يأتيك الجديدان لا تأمنن وإن أمسيت في حرمفاسلك طريقك تَمْشِ غير مختشعفكل ذي صاحب يوماً مفارقهوالخير والشر مقرونان في قرن فقال (ص) : لو أدرك هذا الإسلام لأسلم. 4-وأنشد (ص) أيضاً: وأدمنت تصلية وابتهالاونثني على المشركين القتالافقد بعت مالي وأهلي بدالا تركت القيان وعزف القيانوكرّ المشقّر في حومةأيا رب لا أغبنن صفقتي فقال (ص) : ربح البيع ، ربح البيع.. 5-وأنشد النابغة الجعدي رسول الله (ص): بلغنا السماء مجْدَنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له (ص) : إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال إلى الجنة فلما بلغ قوله: نوادر تحمي صفوه أن يكدّراحليم إذا ما أورد الأمر أصدرا ولا خير في حلم إذا لم تكن لهولا خير في جهل إذا لم يكن له فقال (ص) لايفضض الله فاك. فعاش مئة وثلاثين سنة لم تنقص له ثنية. 6-وأنشد ابن عباس النبي (ص) أبياتاً لأمية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش فتبسم النبي(ص) كالمصدّق له. والتيس للأخرى وليث ملبدفجراً ويصبح لونها يتوقّدإلا معذّبة وإلا تجلد رجل وثور تحت رجل يمينهوالشمس تطلع كل آخر ليلةتأبى فلم تطلع لهم في وقتها 7-وأردف النبي (ص) ابن الشريد فقال له أتروي من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً؟ فقال نعم وأنشده وجعل يقول بين كل قافيتين هه يا شريد. فأنشده مئة قافية فقال (ص) : هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه. 8-قال (ص) لحسان بن ثابت (رض): شن الغطاريف على بني عبدمناف، فوالله لشعرك اشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام فقال حسان: والذي بعثك بالحق نبياً لأسلنّك منهم سلّ الشعرة من العجين،. ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه وقال: يا رسول الله إني لو وضعته على حجر لفلقته وعلى شعر لحلقته فقال (ص) : أيّد الله حسان في هجوه بروح القدس. 9-قيل إنما أسلمت قبيلة دوس فرقاً (خوفاً) من شعر كعب بن مالك صاحب النبي (ص) وهو القائل في دوس: وخيبر ثم أغمدنا السيوفاقواضبهنّ دوساً أو ثقيفا قضينا من تهامة كلّ نحبنخبّرها ولو نطقت لقالت وقال له النبي (ص) : لقد شكر الله لك قولك: وليغلبنّ مغالب الغلاب زعمت سخينة أن تغالب ربّها 10-وقال (ص ) لعبدالله بن رواحة: أخبرني ما الشعر يا عبدالله؟ قال شيء يختلج في صدري فينطق به لساني قال (ص) فأنشدني فأنشده. قفوت عيسى بأذن الله والقدر قبلت لله ما آتاك من حسن 11-لما نـزل (ص) الصفراء وأمر عليا (رض) فضرب عنق النضر بن الحرث بن كلدة بن علقمة ابن عبد مناف صبراً بين يدي رسول الله، فبلغ الخبر أخته قتيلة فهرعت نحو النبي فوجدته ركب راحلته يريد المضيّ، فأمسكت بخطام ناقته باكية وأنشدت: من صبح خامسة وأنت موفّقما إن تزال بها النجائب تخفقجادت بواكفها وأخرى تخنقأم كيف يسمع ميّتٌ لا ينطقفي قومها والفحل فحل معرقمنّ الفتى وهو المغيظ المحنقوأحقهم إن كان عتق يعتقلله أرحام هناك تمزّقرسف المقيد وهو عان موثق يا راكباً إن الأثيل مطيةأبلغ بها ميتاً بأن تحيةمني عليك وعبرة مسفوحةهل يسمعن النضرُ إن ناديتهأمحمد يا خير صنو كريمةماكان ضرّك لو مننت وربماوالنضر أقرب من أسرت قرابةظلت سيوفُ بني أبيه تنوشهصبراً يقاد إلى المنية متعبا فقال (ص) لما سمع شعرها: لو بلغني هذا الشعر قبل قتله ما قتلته. 12-قال أبو جرول الجشمي وكان رأس قومه: أسرنا النبي (ص) يوم حنين فبينا هو يميز الرجال من النساء إذ وثبتُ بين يديه وأنشدته: فإنك المرء نرجوه وننتظريا أرجح الناس حلماً حين تختبروعندنا بعد هذا اليوم مدّخر أمنن علينا رسول الله في حرمأمنن على نسوة قد كنت تُرضعهاإنا لنشكر للنعما إذا كفرت فقال (ص) : أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم؛ فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله . 13-لما كان يوم حنين رأى البراء بن عازب النبي (ص) والعباس وأبا سفيان ابن الحارث وهما ممسكان بلجام بغلته وكان (ص) يقول: أنا ابن عبد المطلب أنا النبي لا كذب 14-قال النبي (ص): لا يدع العربي الشعر، حتى تدع الإبل الحنين. 15-قال كعب بن مالك: مدرّبة فيها القوانس تلمع مقاتلنا عن جذمنا كل فخمة فقال له (ص) : لا تقل عن جذمنا ولكن قل عن ديننا. 16-قال كعب بن زهير: مهنّدٌ من سيوف الهند مسلولُ إن الرسول لنورٌ يستضاء به فقال له (ص) : قل وصارم من سيوف الله .. فأصلحها كعب.. 17-وسأل قومٌ رسول الله (ص) : من أشعر الناس؟ فقال ائتوا حسان فآتوه فقال لهم: ذو القروح (امرؤ القيس) فرجعوا إليه فأخبروه فقال (ص) لقد صدق، ذو القروح رفيع في الدنيا خامل في الآخرة، شريف في الدنيا وضيع في الآخرة، وهو قائد الشعراء إلى النار. 18-قال (ص) : أصدق كلمة قالها لبيد: وكل نعيم لامحالة زائل ألا كل شيء ما خلا الله باطل 19-قال علي (رض) : لما أتينا بسبايا طيء؛ كانت في النساء جارية حمراء؛ لعساء؛ لمياء؛ عيطاء؛ شماء الأنف حوراء العينين، معتدلة القامة ردماء الكعبين؛ خدلجة الساقين؛ لفّاء الفخذين؛ خميصة الخصر؛ ضامرة الكشحين؛ مصقولة المتنين! فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لنفسي لأطلبنها من رسول الله ليجعلها من فيئي، فلما تكلَّمَت أنسيت جمالها لما سمعته من فصاحتها!! فقالت : يامحمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرّج عن المكروب ويطعم الطعام ويغشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنابنت حاتم طيء. فقال لها رسول الله (ص) : ياجارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق.إ.هـ. (قارن الأغاني 16/93). 20-قال (ص) : ما وصف لي أعرابي في الجاهلية وأحببت أن أراه إلا عنترة ثم طلب إلى أبي بكر (رض) أن ينشد له بيتين لعنترة فأنشد: حتى يواري جارتي مثواهاحتى أنال به كريم المأكل أ – وأغض طرفي ما بدت لي جارتيب – ولقد أبيت على الطوى وأظله 21-عن أم المؤمنين عائشة (رض) : أن النبي أعجب بقول الأعشى: ـضال والشيء حيثما جعلا قلدتك الشعر يا سلامة ذا التفـ ويكرر النبي (ص) : نعم والشيء حيثما جعلا.. وأعجب (ص) : بقول طرفة بن العبد: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويقول النبي (ص) : حين يسمع هذا البيت: إنه من مخايل النبوة!! *عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): 1-قال (رض) : كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه. 2-وقال (رض) احفظوا الشعر وطالعوا الأخبار فإن الشعر يدعو إلى مكارم الأخلاق ويعلم محاسن الأعمال ويبعث على جميل الأفعال ويفتق الفطنة ويشحذ القريحة وينهى عن الأخلاق الدنيئة ويزجر عن مواقف الريب ويحض على معالي الرتب . 3-وقال (رض) : ارووا من الشعر أعفّه ومن الأحاديث أحسنها، ومن النسب ما تواصلون عليه وتعرفون به، فرب رحم مجهولة قد عرفت فوصلت، ومحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهى عن مساويها.. 4-سئل (رض) : عن أشعر الشعراء فقال: امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر. 5-ويرى (رض) : زهيراً بن أبي سلمى اشعر العرب لأنه لا يعاضل بين الكلام ولا يتَّبع حوشيه ولا يمدح الرجل إلا بمافيه. وقال (رض) : لابنة هرم بن سنان حين فاخرت ابنة زهير المزني: أبوك كان يعطيهم الأموال وأبوها كان يعطيكم الشعر، لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. 6-خرج (رض) : وفي بابه وفد غطفان فسألهم أي شعرائكم الذي يقول: وليس وراء الله للمرء مذهبلمبلغك الواشي أغشُّ وأكذبعلى شعث أيّ الرجال المهذّب حلفت فلم أترك لنفسي ريبةلئن كنت قد بلغت عني رسالةولست بمستبق أخاً لا تلمه قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين فقال: ومن القائل: وراحلتي وقد هدت العيونكذلك كان نوح لا يخونعلى خوف تظن بي الظنون إلى ابن محرّق أعملت نفسيفألفيت الأمانة لم يخنهاأتيتك عارياً خلقاً ثيابي قالوا : النابغة يا أمير المؤمنين! قال فمن القائل: قم في البرية فاحددها عن الفند إلا سليمان إذ قال المليك له فقالوا : هو النابغة يا أمير المؤمنين، قال (رض) : فهو أشعر شعرائكم. 7-سمع (رض) : قول الحطيئة: تجد خير نار عندها خير موقد متى تأته تعشُ إلى ضوء ناره فقال عمر (رض) : كذب الشاعر.. بل تلك نار موسى نبي الله. 8-ويأنس (رض) : لقول زهير أداء أو نفار أو جلاء فإن الحق مقطعه ثلاث فيقول أن زهيراً قاضي الشعراء.!! 9-ويأنس أيضاً لقول زهير ويقول (على هذا بنيت الدنيا). والعيش شح وإشفاق وتأميل المرء ساع لأمر ليس يدركه 10-وكان إذا أراد التحقق من دلالة محددة لبيت من الشعر استدعى خبيراً نظير ما حدث عندما شكا الزبرقان بن بدر من الحطيئة حين هجاه فاستشار حسان بن ثابت وترك له القول الفصل.. 11-قال (رض) : لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: يا كعب هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد اسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال لا نعلمهم إلا العرب .