النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 8
– جماعة الشعر الحر: نشرت مجلة الثقافة البصرية في عددها الصادر في يوليو تموز 1928م قصيدة لشاعر اسمه عبد الواحد أحمد. مؤرخة في 11/3/1924م أي أن ميقات كتابتها يسبق ميلاد بدر شاكر السياب بعامين!!! وأهم سماتها: 1) مكتوبة على بحر صاف ولم تلتزم بالوزن. 2)مكتوبة (معماراً) على طريقة الشعر الحر 3)لم تلتزم بقافية واحدة، فقوافيها متعددة. 4)لم تعتمد وحدة البيت وإنما كان اعتمادها الرئيس على وحدة الموضوع والمعنى. 5)تخلصت على نحو ما من الصياغة الفخمة والأبهة اللغوية والتاذت إلى الصياغات البسيطة والكلمات الواضحة 6)رتبت على طريقة السطر.. وقد يتضمن الشطر الواحد تفعيلتين مرة وثلاثاً أخرى وهكذا. 7)تخلص المعنى المركزي من الأغراض المستهلكة، فثمة سؤال وجودي يشغل النص!! وإذ نذكر هذه الخصائص فإنما نشير بذلك إلى دور مثل هذه النصوص في ارتياد المعمارية الجديدة للقصيدة الحديثة رغم ما يعتور هذه النصوص من الضعف حيناً والاضطراب آخر. هذي الحياة تنوء بالحمل الثقيل – شعر عبد الواحد أحمد. البصرة 11/3/1924: أيعود لي عصر التمتع بالزهور/أيلوح لي/نجمُ المسرّة والحبور/أيسيلُ لي نهرُ المجرَّةِ بالخمور/فأعودُ نشوانا/بذيّاك السرور/حسبي الحبور/يا صاح لا تفقد شبابك بالجوى/يا صاح لا تسلك سبيلاً للهوى/إن السرور يجيء من بعد العنا/هذي الحياة/تنوء بالحمل الثقيل/فإذا سكتّ قنعت بالحكم الضليل/وإذا عزمت فذاك أمرٌ/مستحيل…./ماذا جنيت رماك سهم للقضا/بعداً لنفس قد يضيق بها الفضا/ليلى…./أبيت مسهداً../دهري يصول كأنه الليل البهيم/ليلى متى؟ حتى متى قلبي كليم/وفلان يعبث بالحقيقة ؟/والحقوق!؟/والهلْك للمرء المحب وللشفوق/آه، وآهٍ…../ثم آه للسكن/نفسي تئن فهل انيني مرتهن/قلبي يحن، فهل حنيني للوطن/أوّاه مِمّن يدّعون ولا سُنَنْ/أوّاه ممن يفترون ونشر (خليل شوقي –بغداد) في آب اوغست/ايلول سبتمبر 1928 نصاً بعنوان (دموع البؤساء فريسة الأغنياء ) تحت عنوان (نثر فني مركز) كما نشر أمين الداودي، في العدد نفسه والصفحة نفسها وتحت الكليشة نفسها (نثر فني مركز) نصاً بعنوان (نجوى عاشق فقير) ومن يقرأ هذين النصين يجد ارهاصات حقيقية لقصيدة النثر إن القول بأن بدر شاكر السيَّاب (1926-1964) ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، هم روّاد الشعر الحر في العصر الحديث، قول فيه هدر لجهود نبيلة وكثيرة سبقتهم، والمبدع العربي دائم التوق للتجديد منذ امرئ القيس حتى نهايات القرن العشرين. وهؤلاء الثلاثة نبغوا نهاية أربعينات وبداية خمسينات القرن العشرين وقد مرَّ بنا موقف جماعة أبولو من الشعر الحر (إنما يرجع تقديرنا للشعر الحر إلى سنوات مضت؛ وفي اعتقادنا ان الشعر العربي أحوج ما يكون الآن الى الشعر الحر والى الشعر المرسل إذا أردنا ان ننهض به نهضة حقيقية.) بل ان الشعراء العرب قد عرفوا السوريالية منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، فالشاعر المصري جورج حنين قاد جماعة من الشعراء والمريدين نحو اتجاه شعري جديد خارج الوزن والتقليد وقد شاع أمر جورج حنين، إذ كان يرسل قصائده إلى الشاعر الأمريكي “ارشيبالد مكليش” والفرنسي”آراغون” وعدد من الشعراء والمثقفين في كثير من أرجاء أوروبا حتى كتب إليه رئيس المدرسة السوريالية اندريه بريتون، رسالة طويلة بتاريخ 18 ابريل نيسان 1936م أعلن فيها اعجابه وجماعته السورياليين بشعر الشاعر المصري جورج حنين وجماعته وجاء في رسالة بريتون لحنين (يبدو لي أن الشيطان السوريالي له جناج هنا والآخر في مصر). وإذا اطمأنّ السيَّاب رحمه الله ونازك الملائكة انهما خالقا الشعر الحر.. دبّ الخصام بينهما على أيهما أسبق ريادة، فالسيَّاب يزعم ان قصيدته (هل كان حباً؟) هي الميلاد الحقيقي للشعر الحر، ولكن الملائكة تزعم ان قصيدتها (الكوليرا) هي أول قصيدة بدأ بها الشعر الحر، يقول بدر شاكر السيَّاب (وإذا تحرينا الواقع وجدنا أن علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير: روميو وجوليت التي صدرت عام 1947م بعد أن ظلت تنتظر النشر سنوات، وإذا تحرينا الواقع مرة أخرى وجدنا أن ديواني الأول –أزهار ذابلة- الذي طبع في مصر وصل العراق في شهر كانون الثاني عام 1947م مع العلم أن قصيدة (هل كان حباً) المكتوبة على طريقة الشعر الحر قد كتبت قبل طبعه بما لا يقل عن شهرين إذا كانت المسألة مسألة حساب فقط، وبأكثر من عام كما هي الحقيقة ثم ان الآنسة نازك تقول إن الصحف لم تنشر شيئاً من الشعر الحر في الفترة الواقعة بين ظهور ديوان أزهار ذابلة وقصيدتها (الكوليرا) التي هي ليست من الشعر الحر، وبين صدور ديوانها شظايا ورماد، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد نشرت أنا في تلك الفترة ما لا يقل عن خمس قصائد من الشعر الحر في الصحف البغدادية والنجفية، كما نشر بلند الحيدري قصيدة أو اكثر في مجلة الأديب، وهناك حقيقة لم يبق من مجال لكتمانها هي أن الشعراء العراقيين الذين كتبوا على طريقة الشعر الحر لم يتأثروا خطى نازك ولا خطى باكثير وإنما تأثروا خطى كاتب هذه السطور وفي الوسع إثبات ذلك، ومهما يكن فإن كوني أنا أو نازك أو باكثير أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم،وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه ولن يشفع له إن لم يجوّد أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية، ومتى كانت الأبحر العربية ملكاً لشاعر دون آخر؟ ان الشعر الحر أكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، انه بناء فني جديد واتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسية كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي اعتاد الشعراء السياسيون والاجتماعيون الكتابة به) ، أما نازك، فلم تكتفِ بدعواها أنها أول رائدة في الشعر الحر وأن السيَّاب كتب الحر بعدها، وإنما بدأت تنظّر للشعر الحر فأصدرت قائمة مطولة بالممنوعات في الشعر الحر وقائمة أخرى بالمسموحات فهي مالكة الحقيقة لوحدها، وربما كان للعمر أثر في عتوّها على أقرانها فهي تكبر السيَّاب بثلاث سنوات (ولدت نازك في 1923م وبينما ولد السيَّاب في 1926م وبسبب سفرتيها المبكرتين للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، والغريب حقاً أنها وبعد رحيل السياب وصمت أقرانه، أصدرت عام 1968 ديوانها الجديد (شجرة القمر) وقدمت لقصائدها بمقدمة طويلة أعلنت فيها ارتدادها عن الشعر الحر، وحاولت إشعار القارئ أنها الأم التي ولدت هذا المسخ (الشعر الحرّ) وفصّلت القول في أسباب سطرية القصيدة الحديثة، فزعمت أن ناشر ديوانها الأول وجد أن البيت الشعري لنازك اطول من السطر في صفحة الديوان فاقترح عليها أن توافق على إنزال بعض كلمات السطر الشعري الأول إلى السطر الثاني فوافقت مضطرة، وحينما شاهد بعض المتشاعرين فعلها استعذبه وحاكاه! وقد كانت تتكلم كأنها تمتلك الحقيقة لوحدها منكرة تجارب زملائها وإنجازاتهم!! إن هناك أسباباً كثيرة لظهور جماعة الشعر الحرّ في العراق نقترح أهمها: 1- انتشار الترجمة في العشرينات والثلاثينات والأربعينات وقد برزت أسماء كانت تترجم عن الإنجليزية والفارسية والفرنسية والتركية مثل عبد الجليل برتو وحسن سلمان وعبد المجيد يوسف البياتي وإياس ميمون وسلمان اسحق ومير بصري، ود.سليمان غزالة، وشاكر محمود الأوقاتي ومحمد خان بهادر. 2- إتقان عدد من الشعراء اللغة الإنجليزية مثل السيَّاب ونازك الملائكة وبلند الحيدري ورزوق فرج رزوق ورشيد ياسين، وقد قادتهم قراءاتهم إلى الإطلاع على ثورة الشعر الحر التي قادها الشاعران الإنجليزيان وردز ورث وكولردج. 3- الأوضاع السياسية الصاخبة في العراق وانحياز السلطات العراقية الحاكمة للاستعمار الإنجليزي وتبنيها للتيارات القداموية والمحافظة ومعاداتها لكل جديد ومن ثم حدوث ثورة مايس 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني ومن بعدُ فشلها واعدام خيرة المناضلين والمفكرين العراقيين وتعليق جثثهم على بوابة وزارة الدفاع – بغداد. 4- ظهور شعراء مهمين مثل علي الشرقي والشبيبي وأحمد الصافي النجفي ومحمود الحبوبي وإبراهيم حرج الوائلي وصالح الجعفري ومحمد مهدي الجواهري، وكان هؤلاء يدعون إلى التجديد رغم المسحة الدينية التي عرفوا بها فـ علي الشرقي يقول في ذم التعصب للقديم.. وها أنا في ذمة لاهجليقبلنا المزج والمازجأأنت على وضعنا خارجفصالاً وينفصل الناضج ذممت التعصب من قبل ذادعونا نوسّع آفاقنااقول وقد سألتني الرفاقأبى الثمر الفج عن أصله بل إن علي الشرقي وهو رجل دين يرتدي الزي الديني، هاجم رجال الدين وشبههم بالقساوسة والحاخامات والشمّاسين فقال: ب من حبْلٍ ومن فاست حزماتٍ من الناسإلى قسٍّ وشمّاس تحرر أيها الحاطوخذ عن حطب الغابافمن حبر لحاخام 5- وصول مجلات الرسالة المصرية والأديب الشامية إلى العراق وصدور صحف ومجلات عراقية تقدمية كتلك التي أصدرها روفائيل بطي والجواهري ومحمد علي البلاغي وجعفر الخليلي وسواهم مع وجود المطابع خارج بغداد كمطابع مدينة النجف التي يسرت طبع الكثير من دواوين الشعر الحر بينها ديوان السيَّاب. 6- تأثير جماعات المهجر وأبولو والديوان ووصول كتاباتهم الشعرية والإبداعية إلى العراق، بل ان مجلة اميل التي يرأسها إيليا أبو ماضي كانت تنشر للعديد من الشعراء بينهم لميعة عباس عمارة، فضلاً عن تأثيرات شعراء عمالقة مثل بدوي الجبل وعمر أبو ريشة والياس أبو شبكه وسعيد عقل وظهور طبقة من المثقفين تدعو إلى نبذ القديم والإنفتاح على الجديد ومحاكاة الغرب في نهضته الشاملة وقد شاعت قصيدة الشاعر السوري الدكتور وجيه البارودي (1906-1996م) التي كتبها عام 1934م وانتشرت في أوساط المثقفين العراقيين فحفظها كثيرون واستظهروها. ومما جاء في هذه القصيدة: وانصتوا لي قليلاما كان أمس جميلافي عصرنا تدجيلاوالشرق يبكي الطلولاوسخروا المستحيلاأهل القرون الأولى يا أيها القوم مهلاًاليوم صار قبيحاهذي التقاليد أضحتالغرب يبني صروحافي الغرب طاروا نسوراوالشرق ظل يناجي 7- مجيء المبدع الكبير جبرا إبراهيم جبرا من فلسطين واستقراره في العراق، وكان جبرا شاعراً مجدداً وفناناً تشكيلياً وقاصاً وروائيا وباحثا ومنظّراً وكانت له علاقات وطيدة ومراسلات مستمرة مع معظم أدباء ومبدعي الغرب، فقد كان يتقن الإنجليزية اتقانه للعربية، وقد التفّ حوله صفوة من المبدعين العراقيين مثل الفنان جواد سليم والشاعر بلند الحيدري، وكان بلند يعرض قصائده في الشعر الحر على جبرا فيشجعه وينشرها له في الصحف العربية المرموقة، وبلند الحيدري هو الذي اصطحب معه بدر شاكر السيَّاب إلى مكتب جبرا وقال له : اسمح لي أن اقدم لك شاعراً يكتب الشعر الحر على طريقتنا.. ذكر ذلك جبرا رحمه الله في كتابه (ترويض النمرة)!! إن لجبرا أيادي بيضاء على كل حركات التجديد العراقية.. في الشعر في المسرح في الفن التشكيلي في الرواية.. 8- أثر دار المعلمين العالية في بغداد (كلية التربية) حالياً على رواد الشعر الحر.. فقد كانت هذه الدار منبراً تنويرياً مهما ولم تكن الدار لتقتصر على الدراسة.. بل كانت المواسم الشعرية والمباريات والنشرات الجدارية سمتها البارزة فضلاً عن وجود أساتP1گP1گe¾€¤½¸1گp1گ@p1گ نجوماً فيما بعد.. واكثر هؤلاء كانوا من رواد الشعر الحر.. أو رواد التجديد في الشكل التقليدي أو النقاد الدعاة للتجديد نذكر من هؤلاء: نازك الملائكة وسليمان العيسى وعلي جواد الطاهر وعاتكة الخزرجي وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة ورزوق فرج رزوق وعبد الجبار المطلبي، ، وشاذل طاقه، ومحمد جميل شلش وعبدالرزاق عبدالواحد .. وكانت المنافسة على أشدها بين أولئك الشعراء والأدباء أيام التلمذة.. بل ان بعضهم كتب أجمل قصائده في تلك الأيام… شهادة سليمان العيسى سليمان العيسى الشاعر المعروف وأحد ابرز طلبة دار المعلمين العالية في بغداد يرفع الغبار عن وثيقة تاريخية ثمينة تتصل بزملائه وأساتذته في الدار مرحلة الأربعينات ويقدم معلومات مهمة (ربما) تُكشف للمرة الأولى. صبيحة الجمعة 4/2/2000 وتحديداً الساعة العاشرة والنصف هاتفت الشاعر المعروف سليمان العيسى في بيته الكائن بصنعاء – السكن الجامعي لأساتذة جامعة صنعاء- ووجهت اليه أسئلة كثيرة تتصل بالأجواء التي طلع من تحت سمائها جماعة الشعر الحر وعن دوره وذكرياته. وقد تجاوب مع أسئلتي المفاجئة وكان الحوار طويلاً، وهانحن نذكر أهم النقاط. – ولدت عام 1921 ودخلت دار المعلمين العالية عام 1944 وتخرجت فيها عام 1947، وهذا يعني أنني الوحيد الذي حصل على شهادة الدار في ثلاث سنوات بينما المعهود ان الدراسة في الدار هي اربع سنوات،كنت قد قدمت من سوريا، وليس لديّ أصدقاء بعد من العراقيين، وكانت تجرى مقابلة لقبول الطلبة تجريها لجنة اتخذت من غرفة العميد الدكتور متى عقراوي مقراً لها وعلى باب العميد رأيت شاباً نحيلاً خجولاً يتأبط أوراقاً وكان ينظر إلي متسائلاً ربما عن هذا الوجه الغريب، وكنت أنا الآخر أطيل النظر إليه، ثم تعارفنا ببساطة شديدة، كان ذلك الخجول النحيل هو بدر شاكر السياب، فهو أول طالب أتعرّف عليه وأوّل صديق، وشعرت بمودة كبيرة نحو هذا الصديق الجديد ذي الحساسية المفرطة والنظرات الحزينة التي تشع من عينين لهما بريق خاص، وهكذا جمعنا فصل واحد، ومقعد دراسي واحد، اما نازك الملائكة فقد تخرجت من الدار قبل دخولنا اليها بأربع سنوات بيد أنها كانت تزور الدار في بعض المناسبات وهي شديدة الخجل زاهدة، لا تميل إلى صنع علاقات صداقة مع زملائها وزميلاتها، بيد أنني زاملت شقيقتها (إحسان الملائكة) الشابة المرحة والأديبة المتجددة، ويبدو أن لها تأثيراً على نازك، فقد كتبت لها مقدمة ديوانها (شظايا ورماد).. وكانت تقرأ شعري وتعلّق عليه.! مرة أخرجت قلمها الأنيق وكتبت سطوراً مطولة في أجندتي تبدي رأيها بتجربتي الشعرية، وبعد تخرجي وعودتي إلى سوريا استأذنتها نشر رأيها بشعري فوافقت على الفور، وهكذا صدر ديواني الأول (مع الفجر)1951 ومقدمته بقلم إحسان الملائكة.. أما بقية زملائي فهم ديزي الأمير ومحمد علي اسماعيل (من البصرة) ورمزة عبد الأحد واحمد قاسم الفخري (من الموصل) وكان أقرب الزملاء الى نفسي، وقد نشر رحمه الله دراستين عن شعري في مجلة الرسالة المصرية اما الشاعر عبد الجبار المطلبي، فكان قد سبقنا بعام أو عامين، لكنني لا أتذكر الشاعر رزوق فرج رزوق ولم اسمع به وقتها!! وكذلك لم اسمع وقتها بالشاعر بلند الحيدري وقد قرأت له فيما بعد حينما بدأ ينشر قصائده من الشعر الحر في الصحف والمجلات اللبنانية! وثمة الشاعر خالد الشواف فهو لم يزاملنا في الدار، بيد أن زياراته للدار او زياراتنا له مستمرة، وكان ودوداً مع جماعة الدار، أنت تسألني عن الشاعر رشيد ياسين، أنا لم اسمع به الا حين أقام في سوريا، وتعرّفتُ عليه في مقر اتحاد الكتّاب والمؤلفين. وهو ليس من زملاء الدار، وثمة خيمة كانت تظل جماعة الدار من رواد الشعر الحر، واعني بها قهوة (عرب) على طريق الوزيرية، كنا نلتقي فيها لنشرب الشاي ونحضر دروسنا ونتناقش في الشعر ولم يكن الشاعر رشيد ياسين أحد رواد تلك المقهى. …أما الشعراء لميعة عباس عمارة وعبد الوهاب البياتي،وشاذل طاقة فقد جاءوا الدار ودخلوا السنة الأولى وكنت وبدر السياب في السنة الرابعة..والشاعرة عاتكة الخزرجي جاءت في مرحلتها الدراسية بدار المعلمين العالية بعدنا لكنها سبقت البياتي ولميعة فهي متوسطة بيننا وبينهم وعاتكة إلى هذا انطوائية! ولم تسهم في إلقاء شعرها على طلبة الدار إلا مرة أو مرتين!! وأقول لك انني لم التق بالأستاذ جبرا ابراهيم جبرا طيلة حياتي ولا تحسب ذلك موقفاً منه، لكن السانحة لم تمثل لكي نتعارف. أما الشاعران شفيق الكمالي، ومحمد جميل شلش، فقد درّستهما في ثانوية الكرخ فترة التطبيق بعد التخرّج من الدار. ويمكنني القول أن دار المعلمين رزقت أساتذة كباراً، اثّروا في الطلبة تأثيراً واضحاً فضلاً عن أن الطلبة الذين تتلمذوا عليهم كانوا حملة مواهب كبيرة!! أما الأساتذة فهم: 1- د.متي عقراوي، عميد الدار حين كنا في السنة الأولى 2- د. خالد الهاشمي عميد الدار بعد د.متى وبقي بعد تخرجنا. 3- د. مصطفى جواد 4- د.محمد مهدي البصير 5-الأستاذة الفرنسية مدام البصير 6- الأستاذ الإنجليزي مستر وود 7-الأستاذ طه الراوي 8-الاستاذ حسن الدجيلي 9-د. عبد العزيز الدوري 10-د. عز الدين ال ياسين 11-المعيد الاستاذ جاسم محمد. وكان البصير قد شكل لجنةً ثقافية بإشرافه ورعايته كان أبرز أعضائها السياب والعيسى، وقد وجهت اللجنة الدعوة للشاعر محمد مهدي الجواهري فاستجاب على الفور وأقمنا له صباحية شعرية قرأ فيها الجواهري عشراً من قصائده الثورية والغزلية!! ولم تعبأ اللجنة الثقافية بموقف الدولة المعادي للجواهري. علاقتي بالسياب كانت حميمة جداً ، فأنا الذي نصحته لكي يرسل ديوانه (ازاهير ذابلة) الى مصر، وقد فعل ونشر ديوانه وهو طالب في الدار، بل انه أرسل إليّ أنشودة المطر بخط يده لكي أطّلع عليها وأعطيه رأيي فيها قبل أن ينشرها فيما بعد في مجلة الآداب البيروتية عام 1954 وقد ترك السيّاب قسم اللغة العربية وانتسب إلى قسم اللغة الإنجليزية وأشاع (البعض) أنه إنما فعل ذلك لأن قسم اللغة الإنجليزية يزخر بالطالبات الجميلات! وحين عدت إلى الشام كان السيّاب يراسلني وكنت احتفظ بعشر رسائل بعثها إلي السياب لا أعرف مصيرها الآن، وقد بلغ من حبه لي أن اخبرني في إحدى رسائله أنه رزق ولداً أسماه غيلان على اسم ولدي غيلان الذي يكبره بعامين . كانت دار المعلمين ترتدي أزهى حللها في عيد الميلاد النبوي وتقام الاحتفالات ويقرأ الشعراء السياب ،العيسى، البياتي، لميعة وآخرون قصائدهم، وكان يحضر القراءات الشعرية اركان الدولة العراقية وحين قرأتُ في عيد ميلاد النبي (ص) 1946 قصيدتي التي أتوعّد حكام العراق بانتفاضة تثأر لشهداء ثورة مايس 1941 ،كان معظم أركان الدولة حاضراً ، الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي ووزير خارجيته د.فاضل الجمالي، وقد ورد في قصيدتي: فحذارِ انفجارهن حــذارِ العفاريت في الزجاج لهيــب انا اخشى انتفاضة تَغْسِلُ الفردوس غسلاً من الأذى والعار فغضب الوصي عبد الإله وطلب إلى عميد الدار د.خالد الهاشمي أن يفصلني بيد أن العميد هدأ من روع الوصي وقال له ان سليمان العيسى طالب سوري وقد هجّر عن الإسكندرون وإذا فصلناه فإلى أين يذهب، فصرف النظر عن فصلي.. وإذا كنت قد سألتني عن الشاعر عبد الرزاق عبدالواحد، فاخبرك انه دخل دار المعلمين العالية عام 1950 بعد أن تخرجنا السياب وأنا عام 1947. شهادة لمعية عباس عمارة أنا خارج السرب ، أضع نفسي خارجهم جميعاً، درست في دار المعلمين العالية مع السياب والبياتي وسليمان العيسى، كان السياب إنساناً رقيقاً جداً ومندفعاً وقلقاً، كنا نتكلم كأصدقاء، يحدثني عن النساء اللواتي أحبهن ولم يبادلنه الحب ف (آخذ من خاطره) واقوم بتهدئته آخذة دور المواسي، كنا متفاهمين كأذكياء وكان حديثنا حديث الأذكياء الأصفياء بدون كلفة، لقد ذكر لي السياب جميع حبيباته، لبيبة القيسي ولمعان البكري وسعاد عبد الحميد ذات العينين اللتين لا يُعْرَفُ لونهما وسعاد نافع ذات الشعر السجين وهي زوجة الأديب (ناجي جواد) حالياً.. أما ديزي الأمير فأظن أنه أحبها رغم أنها في تلك الفترة كان يحبها شاعر الاسكندرونة سليمان العيسى أما وفيقة فلا وجود لها في حياته لأنه لم يذكر على الإطلاق لي اسم امرأة تدعى وفيقة…، نعم وفيقة لم تكن سوى رمز للميعة عباس عمارة فقد ذكر صفات امرأة تلبس (الثوب الأسود وتقف على النهر وصفات أخرى في قصائده تنطبق عليَّ! لم يذكر اسمي وذكر اسم وفيقة لأن زوجته إقبال كانت شديدة الغيرة، فلم يكن يجرؤ، وعندما يئس من الحياة ولم يعد يهتم لشيء ذكر اسمي الصريح في إحدى قصائده، السياب كان أول أمره يميل إلى النازية وكان انكساره كبيراً بانكسار هتلر، ثم صار رمزاً وقائداً في الحركة الطلابية عندما تحول إلى الشيوعية وشُهِرَ بـ (ميرابو) تهكماً من قبل الإدارة؛ وفصل سنة من الجامعة بسبب اندفاعه اليساري، وضايقه الحزب الشيوعي، أراده أن ينظم شعراً في كل حادثة تمر عدا عواطفه الخاصة، قال لي مرة: أنا مجروح القلب، انزف ولا يريدون أن أقول ذلك وإذا جرح فلاح يريدونني أن أكتب عنه. وكانت هذه بداية تحوله ضد الشيوعية، كان مندفعاً نحو الشيوعية اندفاع شاعر وليس اندفاع سياسيّ منظر؛ والشاعر عرضة للتقلب ومن الخطأ جداً أن ينتظم الشاعر في حزب أما أنا فمما يضحكني أنني لم أكن منتمية إلى أي حزب ولكن كنت وما زلت أؤمن بالديمقراطية فصار الذين كانوا في الحزب يشيعون عني أنني شيوعية، كنت أضحك وما أزال دون مبالاة فقد كانت الآراء الديمقراطية والشيوعية معناها التقدمية وغيَّرنا رأينا في الإشتراكية كلها وتغيّرت دول تعتمد عليها وانهارت الشيوعية في معاقلها ولا يزال البعض يتحدث بلغة الأربعينات! أما عبدالوهاب البياتي زميلي في الصف الدراسي بدار المعلمين فقد كان كسولاً،لم يزر المكتبة طوال أربع سنوات الكلية ولكنه حين يتكلم يقول: قرأت كل الكتب الموجودة في المكتبة ومازال جليس المقاهي يستمع إلى من يقرأ من الشباب ويلتقط المعلومات ويتبناها، لقد حارب بدر حتى قتله! وحارب نزار قباني وكان سبباً في النوبة القلبية التي انتهى بها نزار في المستشفى! شتمه بقوله الذي معناه: لولا المطرب كاظم الساهر لم يعرف نزار قباني، فعندما قرأ هذا الكلام وهو في المستشفى انزعج و… أما السياب فقد قتله بسمومه التي ينفثها حوله بحيث صارت هناك دعاية مفادها أن من يصادق السياب فليبصق عليه ويهينه، كان البياتي وقائد شيوعي سابق وراء هذه الدعاية وقد نشراها، ليعلم كل من تسوّل له نفسه الخروج عن الحزب بأن الحزب لا يتهاون في معاقبة الخونة وصار هذا (القائد) من قادة الخونة إذ اعترف على كل رفاقه وهو في طريقه إلى المعتقل قبل أن يضرب ضربة واحدة ! ماكان البياتي شاعراً كبيراً إلا بجهوده الدعائية الخاصة وادعائه وحديثه عن نفسه وركوبه كل موجة وتسخير كل من يتصل به للحديث والكتابة عنه، انا اقول هذا عن البياتي لأنه يشتمني كما يشتم الآخرين، في معرض الشارقة التقيت الشاعر مؤيد الشيباني فقصّ علي حادثة أسمعها لأول مرة، قال: نشرت في صحيفة إماراتية قصيدة من الكلام العامّي غير المنظم باسم البياتي، وكان رئيس التحرير مصرياً لا يعرف الكثير من اللهجة العراقية، فكذبـها البياتي وعوقب المحرر، وعندما سئل البياتي عن الفاعل، قال: إني أعرف من أرسل هذه القصيدة، إنـها لميعة عباس عمارة، فكيف خطر بباله أني أكتب هذا الكلام البذيء على لسانه؟ لكنه سيئ الظن بكل الناس يلقي الكلام جزافاً ويدسّه ويسعى لهدم غيره بكل الوسائل وقد تفرّغ للدعاية لنفسه وتسخير كل المناصب التي أنيطت به لخدمته. للبياتي قصائد جيدة ولكنه ليس شاعراً كبيراً في نظري هو شاعر من الصفوف الثانية أو الثالثة ولكن الغرور والأكاذيب التي ينشرها عن نفسه والدعاية الكبيرة الواسعة عن طريق النشر والصحفيين بحيث يكتب الخبر جاهزاً، كل هذه نفخته بحيث يجيب من سأله: يقال إنك أكبر شاعر في العالم العربي، فيهزّ رأسه بتواضع: نعم ، هذا صحيح. والبياتي يدّعي ما يحتاج إليه، ليس له علاقة بالوطنية لأن الوطنية خدمة وتضحية وهو غير مستعد لهما؛ قال لي مرة: انه لم يصحح ورقة امتحان واحدة للطلاب، يقول كنت أرميها في (الزبل) وينجحون، هذا كمدرس وكمناضل، كان طالباً في الكلية لمدة أربع سنوات وطوال هذه السنوات لم يسمع له صوت، وكانت الأصوات مفروزة في العراق، وبالصدفة حين عين في متوسطة المنصور وكان معه الاستاذ شاكر خصباك أخذ منه ثلاث قصائد لمجلة جديدة اسمها (الثقافة الجديدة) والبياتي لديه نقطة ضعف تجاه الصحف فهو يزود كل الصحف حتى قرأت له قصيدة في مجلة طبيبك. وحين تبين للحكومة أن (الثقافة الجديدة) وراءها قوى يسارية أوقفتها عن الصدور فأرسل كل من نشر فيها إلى المعتقل وليس إلى السجن في (الساعدية) وجاءت ثورة 14 يوليو تموز 1958 فاطلق سراح السجناء واستحق البياتي لقب المناضل بالصدفة أو باليانصيب، هذه الحادثة قال عنها في موسكو أنه كان محكوماً بالإعدام ومسجوناً وثار الشعب وأخرجه من السجن فصدقه السوفيت ثم أراد أن يستغل المناسبة وساعده أمران: الأول هبوط أرصدة الشاعر بدر السياب فجيرت له المواقف الوطنية حين سجل اسمه رسمياً في الحزب الشيوعي ليعين ملحقاً ثقافياً في موسكو! هذه المقايضة كنا قد حضرناها، وعندما عقد الاجتماع في بيت الجواهري لم يدع البياتي لأن الجواهري لم يكن يطيقه والبياتي لا يطيق الجواهري لأنه يحارب الشعر الكلاسيكي ويؤلب الشباب لمحاربة الكلاسيكيين مثل الجواهري، ومن هذا المدخل (الحزب) أراد أن يكون رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين وهيئت الظروف في الانتخابات ليكون رئيساً للاتحاد بحيث يسقط الجواهري ويعتلي البياتي صهوة (الحكم!!) ولكنه خذل فأرضي بوظيفة الملحق الثقافي في موسكو! ومن وطنيته انه لم يخدم طلاب البعثة مع كل التوسلات من الجانب السوفيتي والعراقيين لمعادلة شهادة الكانديدات بالدكتوراه وظل المتخرجون من روسيا دون اعتراف بشهاداتهم!! ريادة القصيدة العربية الحديثة لبدر شاكر السياب ونازك الملائكة أما جبرا فهو لم يكن من تشكيلة الرواد ولم يكن شاعراً في حياته! أما قصيدة النثر، فهذا خلط بين الشعر والنثر.. رحم الله حسين مردان كتب من أجمل ما يسمى (قصيدة النثر) ولكنه سماه (النثر المركز) وهي التسمية الصحيحة! أما أدونيس فهو شاعر له لغة من الذهب، إذا غير فقد طور وليس ضعفاً أو جهلاً أو استسهالاً ، ينطبق عليه ما ينطبق على بيكاسو، تدرج في الكلاسيكية حتى وصل إلى الحداثة وغالى فيها، ومحمد الماغوط يكتب نثراً مركزاً جميلاً. وبخاصة إذا كان نقداً سياسياً يعتمد على السخرية.. ونازك الملائكة لها كل مواصفات الشاعرة المثقفة، المجدّة، المتفرغة ولكن قسوة ظروفها وانطواءها في التشاؤم جعلاها بعيدة عن قلوب أكثر الناس ! تجربة عبدالرزاق عبدالواحد!! إنه شاعر كبير جداً، حاول الكثيرون طمسه وإيذاءه وتحطيمه وما قدروا وإن كان فيه نقطة ضعف تسهل الهجوم عليه وتغري به، عبد الرزاق ليس من مازن لذلك يهاجمونه ويفعلون به كما يفعلون ولا تشفع له طائفة ترد عنه سهام المعتدين، شعره درعه، وقدرته الهائلة على نظم القصيد العربي بسهولة!! (قال عبد الرزاق الربيعي وهو يحاور لميعة عمارة: لا أظن السبب الذي ذكرته هو الذي يجعل البعض يهاجم عبد الرزاق عبد الواحد مع احترامي لرأيك ولعبد الرزاق عبد الواحد الشاعر المبدع الذي أكن له كل المودة والتقدير، لكن ظهوره في وسائل الإعلام خلال سنوات الحرب وتقربه من السلطة) لا يهم، متى لم يكن الشعر وسيلة للتقرب من الملوك والرؤساء والأمراء بالمدح!! منذ نشأ الشعر العربي وهو مرتبط بالحكام، وهذا معيار نجاح الشاعر عند العرب فالشاعر ذو الحظوة عند الحاكم يحمي قبيلته وإن كان هو كبش الفداء، النقد لم ينصفني لأنني لم أتملّق النقاد ولم أهد لناقد كتاباً ولم تقدمني فئة أو طائفة أو رابطة للدراسات والنقد الذي يكال جزافاً لقصائد لا معنى لها ويفترض فيها كل المعاني غير الموجودة لن يستطيع أن يرفع القصيدة أو يسمو بها إلى مرتبة النقد الصحيح! لست مقلة لكنني لا أجمع شعري، قصائدي متناثرة في كل مكان، مرة زارني المرحوم د.علي جواد الطاهر في البيت ووجد قصائدي متناثرة، فأخذ عدداً من القصائد وقال: لماذا لا تجمعين هذه القصائد في ديوان؟ لست كسولة ولكن في داخلي انكساراً ما!! مات أبي وعمري سبعة عشر عاماً وكنت في ذروة الشباب وبعد أربع سنوات مات أخي فانكسر شيء فيّ.. الغزل عندي عملية انتحار لأنني كشاعرة وطنية انقطع أحياناً للغزل احتجاجاً على سوء الحال وهو بمعنى الانتحار ان أقتل في نفسي تلك المرأة الثائرة وأصالح المرأة المسالمة المترفة الغزلة. ان كل نوبة من نوبات مرضي تقربني من الموت وبسهولة أستطيع أن أموت دون انتحار.أنا لا أخاف أحداً ولم أزاحم أحداً على منصب ولم أتزلّف إلى أحد وأنا شاهد العصر المحايدإ.هـ . 9- وأنقل رأياً سمعته من الشاعر الليـبي المعروف د. خليفة محمد التليسي في الذكرى المئوية للشاعر المجدد الرائد احمد رفيق المهدوي وفي مدينة جادو (مدينة المهدوي): قال لي التليسي: ان السيَّاب ونازك الملائكة وبلند الحيدري كانوا يعشقون النجومية وحب الظهور، وهم شعراء، فوجدوا الجواهري جبلاً عالياً يقف حائلاً بينهم وبين تحقيق أحلامهم في الظهور.. فكان أن ابتكروا طريقة جديدة لكتابة الشعر بعيدة عن المجال المغناطيسي للجواهري!! إ.هـ. وحين سئل السيَّاب عن الجواهري أجاب (إنه أستاذ هذا الجيل من الشعراء، والحق أني والكثيرين من الشعراء الشباب الآخرين مدينون له بالشيء الكثير وهو قمة من قمم الشعر العربي في كل عصوره) ويبدو أن هذه الإجابة كانت مشابة في مصداقيتها، فالحساسية عالية، ولم يكن الجواهري ليوافق على نشر أية قصيدة للسياب أو أية دراسة عنه في جريدته الرأي العام!! ويعلِّق د.عبد الرضا علي فيقول (فإن صدوره -رأي السياب بالجواهري- عن السيَّاب لم يكن بسبب عظمة شاعرية الجواهري لأنه لم يؤكده بعد ذلك أبداً وإنما كان مفتاحاً أراد به أن يلج باب جريدة الرأي العام التي كان الجواهري يصدرها، فقد كان يريد من كلامه هذا أن يفسح له الجواهري مجالا فيها لنشر دراسة عنه أعدها محمود العبطة، لكن الجواهري اعتذر عن نشرها). وقال السيَّاب حين سأله كاظم خليفة عن حق الشاعر في إعادة صياغة قصيدته (لكنني أعيب على الشاعر أن يكتب قصيدة في مناسبة معينة ثم يغير فيها ويستعملها لمناسبة أخرى قد تكون مناقضة للأولى، كما فعل الجواهري مثلاً حين حول قصيدة قالها في مدح حكمت سليمان إلى مدح عبدالكريم قاسم. والحصيلة أن الشعر الحر ظاهرة إبداعية كبيرة غيَّرت مسار شعرنا العربي وقد كانت الدعوات إليه قديمة كما مرَّ بنا بيد أن السيَّاب استطاع أن يقدم النموذج العالي الذي صار قدوة للمريدين من الشعراء وما ذلك الا لضخامة موهبة السياب وسخونة تجربته الحياتية وحلمه الكبير الكبير وتوفره على اللغة الإنجليزية واتصاله بمبدع كبير هو جبرا إبراهيم جبرا.. ولو أمدّ الله بعمره لطور القصيدة باتجاهات الرقي أكثر فأكثر فهو ميت وشعره متداول وربما جايله أو سبقه بقليل بلند الحيدري وظهرت في الوقت نفسه نازك الملائكة ومن بعدها لميعة عباس عمارة (وهي تكبر البياتي بعامين). أما البياتي فقد انضم إلى جماعة الشعر الحر متأخراً، وآية ذلك ديوانه (ملائكة وشياطين) بيد أن قدراته الإعلامية رحمه الله هيّأت لكثير من الدارسين أنه رائد الشعر الحر الأول.. وإذا تحدثنا عن ريادة الشعر الحر في العراق فنحن لا نتحدث عنها بوصفها ريادة عربية فثمة ريادات مهمة ظهرت في مصر صلاح عبد الصبور ومحمود حسن اسماعيل وغيرهما. وريادات ظهرت في ليبيا وتونس والمغرب والجزائر واليمن وسوريا ولبنان والأردن والخليج فلا أحد يدعي الاستئثار بحركة الشعر الحر..لكن الصوت الأقوى لأسباب تاريخية وفنية كان لبدر شاكر السيَّاب ونازك الملائكة وبلند الحيدري ولميعة عمارة وعبدالوهاب البياتي. خصائص القصيدة عند جماعة الشعر الحر: 1- التجديد في المضمون والنأي بالشعر عن المضامين المستهلكة مثل الرثاء والفخر والمديح وقصائد المجاملة (الإخوانيات) وقصائد المناسبة! ومحاولة الكتP1گP1گe¾€¤½¸1گp1گ@p1گلشكل.. من خلال فك بنية العروض الخليلي وتشكيل بنية جديدة تتخلى عن الوزن وتكتفي من البحر بالتفعيلة وعدم التقيد بالقافية، وكتابة الأبيات على نظام السطر وليس نظام البيت، كأن يكون السطر الأول تفعيلتين والثاني ستاً والثالث واحدة والرابع اربعاً.. دون التقيد بعدد التفعيلات. 3- استثمار شحنات البلاغة الجديدة، فليس ضرورة مناسبة المشبه للمشبه به، فقد تقتضي المفارقة أن يكون التضاد مثلاً وجه شبه، والتخفف إلى أقصى حد ممكن من المحسنات اللفظية. 4- الاعتماد الكبير والعميق على جماليات الصورة الفنية (المركبة)، حتى قيل ان الشعر الحر هو شعر الصورة، واستثمار شحنات الصور الحسية الحارة. 5- نقل القصيدة العربية من وحدة البيت الى وحدة المعنى والموضوع من خلال تماسك بنية النص والتكافل العضوي بين أشطر القصيدة. 6- الإنفتاح على التجربة الغربية إلى حد المحاكاة أحياناً فقد اعجب الشعراء الرواد بدرجات مختلفة بشكسبير وت.س اليوت وازرا باوند وكولردج ووردزورث وروبرت براوننغ واديث ستويل وشلي وجون كيتس (يقول السيَّاب: شكسبير وجون كيتس أحبهم إلى نفسي وأعتبر نفسي متأثراً بعض التأثر بكيتس من ناحية الاهتمام بالصور التراجيدية العنيفة) كما أعجب الرواد بهوميروس وفرجيل ودانتي وغوته…الخ. 7- لم يقطع الشعراء الرواد جسور المودّة مع التراث ومع الشعراء العرب المعروفين باستثمار التراث اللغوي أو الشعري أو الصوفي (الثورة على القديم لمجرد أنه قديم جنون وانتكاس، كيف نستطيع ان نحيا وقد فقدنا ماضينا –السيَّاب) وقد اعجبوا بدرجات متفاوتة بالجواهري وإلياس أبي شبكة وسعيد عقل وبدوي الجبل وخليل شيبوب مع قيادة الرواد لحركة الحداثة الإبداعية. 8- التخفف من (الميوعة الرومنتيكية) والاتجاه بشكل هادي إلى الواقعية المبرأة من المباشرة والشعائرية والتقريرية. يقول السيَّاب: (إن كل الشعراء العراقيين الذين يستحقون أن نسميهم شعراء هم واقعيون من الشاعر الفحل الشيخ محمد رضا الشبيبي إلى استاذنا الأكبر محمد مهدي الجواهري إلى خالد الشواف بديباجته الشوقية إلى كاظم جواد الذي تراه رومانتيكياً في بعض الأحيان ثم تصويرياً في آن آخر كما يحاول أن يكون انطباعياً في حين ثالث إلى علي الحلي الذي طور رمزية محمود حسن اسماعيل تطويراً جعله يتميز بأسلوب خاص ينفرد به إلى عبد الوهاب البياتي الذي يجمع في أسلوبه أشتاتاً من أساليب ت.س اليوت التي تمثل مراحل شعره المختلفة، بل وحتى بلند الحيدري، هذا الشاعر الممتاز الذي أعدّ العديد من قصائده الرائعة أكثر من واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعدها واقعية). 9- تأثرت أشعارهم بقراءاتهم المستمرة في التاريخ القديم والقرآن الكريم والعهدين القديم والجديد والأساطير والخرافات والشعر الصوفي، وقد كثرت الإشارات إلى الرموز التاريخية واستعملت آلية القناع (ولو بشكل بدائي) فضلاً عن استثمار شحنات الأسطورة الإغريقية والرومانية والسومرية والآشورية والبابلية مع أساطير بلاد وادي النيل والسند وأساطير الصين، ويمكن اضافة الرمز الى هذا الحقل فقد تعامل الشعر الحر مع الرمز لاسباب جمالية فنية واجتماعية وسياسية لكن التعامل مع الرمز كان محسوباً فلن تجد اغلاقاً أوتعمية. 10- التأثر بمعطيات الفنون الجميلة الأخرى مثل اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية والأجواء المسرحية والتقطيعات السينمائية ومعطيات التراسل والحوار الداخلي والحوار الخارجي.. 11- الشعراء الرواد مهووسون بالجنس الآخر، الرجال منهم والنساء، فثمة عقدة جنس مستعصية عند السيَّاب والبياتي ونازك ولميعة وحسين مردان وقد نستثني بلند الحيدري وشاذل طاقة (الى حد محدود) فكل منهما سليل عائلة ارستقراطية، ولقد كان الحرمان الجنسي سمة الشعراء الرواد.. وقد تزوجت نازك الملائكة بعد الأربعين، ويشاء القدر أن تكون إحدى الطالبات الجامعيات وهي نجفية متعلقة بأستاذها الدكتور عبد الهادي محبوبة دون علمه وعلم الأستاذة نازك فأقدمت على الانتحار ليلة زفاف الأستاذة نازك للدكتور محبوبة وقد نجت من الموت باعجوبة (ولعلهما- د.محبوبة والأستاذة نازك لا يعلمان بالأمر حتى الساعة!!) ويتحدث عاصم الجندي عن الشاعرة لميعة عباس عمارة دون أن يسميها فيقول عن علاقتها بالسيَّاب (ولأنه يوماً ما ذهب في رحلة نهرية مع صديقة، أوجعه حبها كثيراً، وقد استغلته في حياته ومماته، كانت توحي له بميلها اليه ليكتب فيها الشعر، طلباً للإدلال بذلك الشعر الذي قيل فيها وكان ما أسرع ما يلبي النداء ثم استغلته بعد موته. عجنت جسده الموجع بعد رحيله لتصنع منه شهرة سمجة، حتى لبلغ بها التبجّح بحبه لها وشعره فيها أن تقول: كل حبيبات السيَّاب هن من بقاياي) ويعلق الجندي في موضع ثان عن اللبيدو عند السيَّاب (وظلت سكين شبقه وحاجته إلى الحنان والحب تعمل في سويداء قلبه حتى الساعات الأخيرة من حياته المعذبة) وقد زعم عبد الوهاب البياتي لكاتب هذه السطور أن لميعة عمارة كانت تتغزل به وتعاكسه، وهو ادعاء لا يمكن تصديقه، فالثابت أن السيَّاب توهّم أن حباً يجمع لميعة والبياتي، وهما شيوعيان (كما يظن) فترك الحزب الشيوعي وكتب المومس العمياء!! أما عبد الوهاب البياتي فقد هجا لميعة مر الهجاء في ديوانه ملائكة وشياطين.. وقراءة متأنية لشعر الرواد تكشف بشكل مباشر أو غير مباشر إحساس هؤلاء بالحرمان الجنسي.. فحين ادخل السيَّاب المستشفى في باريس بعد أن يئس من مستشفيات لندن تعرّف على الكاتبة البلجيكية لوك نورمان التي كانت تهتم به وتستمع إلى أشعاره وتأتيه كل يوم بباقة من زهر القرنفل فكتب لها قصيدة -ليلة في باريس- يودعها بها: لم يبق منك سوى عبير/يبكي، وغير صدى الوداع – إلى اللقاء-/وتركت لي شفقاً من الزهرات جمعها إناء . ثم قارن هذه القصيدة (أحبيني) التي كتبها السيَّاب لصديقته لوك نورمان أو نوران!! يعترف فيها بحاجته القاتلة إلى الحب: وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا/ولكن كل من أحببتُ قبلك ما أحبوني/ولا عطفوا عليَّ، عشقت سبعاً كن أحيانا/ترفّ شعورهن عليّ، تحملني إلى الصين/سفائن من عطور نهودهن، أغوص في بحر/من الأوهام والوجد/فألتقط المحار أظنّ فيه الدُّر، ثم تظلني وحدي/جدائل نخلة فرعاء/فأبحث بين أكوام المحار، لعلّ لؤلؤة ستبزغ/منه كالنجمة /وإذ تدمى يداي وتنـزع الأظفار عنها، لا ينـزّ هناك غير الماء/وغير الطين من صدف المحار، فتقطر البسمة/على ثغري دموعاً من قرار القلب تنبثق/ لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني إ.هـ. 12- التركيز على التكرار بحالاته كافة تكرار الحرف والكلمة والجملة والصياغة والصورة والمعنى واستثمار الفراغات فضلاً عن إعادة الاعتبار إلى علامات الترقيم وبخاصة الاستفهام والتعجب والنقاط الأفقية.. 13- الانتفاع من آليات الحكاية الشعرية، فهي تمتلك جاذبية تؤثر في المتلقي لأنها تشد أجزاء القصيدة إلى بعضها وتفتح شهية النص لقول أشياء مهمة كثيرة ومونقة فضلا عن الطول النسبي لقصيدة الشعر الحر.. 14- التدوير: وهو مغاير لتدوير القصيدة التقليدية التي يكون التدوير فيها كلمة مشتركة بين مصراعي البيت: الصدر والعجُز ومكانها المتوسط بين المصراعين يشدّهما إلى بعضهما، اما التدوير الحديث فينصرف إلى الكلمة التي يشترك فيها شطران ومكانها هو نهاية الشطر السابق المتصلة ببداية الشطر اللاحق!!. قارن هذا النص للشاعر صلاح عبد الصبور: أواحدتي ربما تعجبين، وقدتسألين/لماذا إذن يا صديقي ينوّر عينيك فيض سرور وحب/حكاية هذا على طولها لا تثير السأم../سأحكي الحكاية من بدئها لحد الختام/صباي الوحيد أحن إليه/…إلى أمّي البرّة الطاهرة/تخوّفني نقمة الآخرة/ونار العذاب، وما قد أعدوه للكافرين/وللسارقين وللاعبين/وتهتف إن عثرت رِجْليه/وإن (طننت) نحلة حوليه/(باسم النبي)/وفي الليل كنت أنام على حجر أمي/واحلم في غفوتي بالبشر/وعسف القدر/وبالموت حين يدك الحياة/وبالسندباد وبالعاصفة/وبالغول في قصره المارد، فأصرخ رعبا /وتهتف أمي (باسم النبي). نموذجان من الشعر الحر أ – الخيط المشدود إلى شجرة السرو- نازك الملائكة: في سواد الشارعِ المظلمِ والصمتِ الأصمّ/حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهمّ/حيث يرخي شجر الدفلى أساه/فوق وجه الأرض ظلا/قصة حدثني صوتٌ بها ثم اضمحلا/وتلاشت في الدياجي شفتاه/…قصة الحب الذي يحسبه قلبك ماتا/وهو ما زال انفجاراً وحياة/وغداً يعصرك الشوق إليا/وتناديني فيعيى/تضغط الذكرى على صدرك عبئا/من جنون ثم لا تلمس شيئا/أي شيء حلم لفظ رقيق/أي شيء ويناديك الطريق/… ويراكَ الليلُ في الدرب وحيدا/تسأل الأمس البعيدا/فتفيق/أن يعودا/… ويراك الشارع الحالم والدفلى تسير/لونُ عينيك انفجارٌ وحبور/وعلى وجهك حب وشعور/كل ما في عمق أعماقك مرسوم هناك/وأنا نفسي أراك/من مكاني الداكن الساجي البعيد/خلف عينيك يناديني كسيرا/وترى البيت أخيرا . ب – من يوميات شاعر متشرّد – رشيد ياسين: 1-إذا كان أدنى المسالك نحو القمم/وأيسرها أن نخون الحقيقة/وأن نستعير القيم/لنقضي حاجاتنا /ثم نبدلها كالثياب العتيقة/فدعني هنا، في المهاوي السحيقة/فإني تخيّرت درب الألم! 2-أردت أن أكون/ساقية شفافةً،/تسقي عروق الكرم والزيتون/تنعكس السماءْ/وأوجه الغيد على مرآتها/وخضرةُ الغصون/لكنني مررت عبر المدن الكالحة الشمطاء/فحملتني الطحلب الآسن،/والأوحال والدماءْ /وأنبتت أشواكها في أضلعي الصحراء/ولم يكن لي حيلة –فهكذا الأنهار/تتبع مجراها… ولا تمتلك الخيار. 3-أعرف أن يهوذا/باع أخاه ومعبوده/بدراهم معدودة! /أعرف أن وراء جمال الأزياء/وسحر الكلمات ذئاباً مصفودة!/أعرف أن الإنسان/مازال كما كان/يتقلّب كالدودة/في عالمه الطافح بالأرجاس/من أدرى مني بالناس؟/أنا من كوفئت على الحب/بأقسى الطعنات؟!/أنا، من جوزيت على الطيبة/باللعنات؟!/من أدرى مني بالناس؟!/لكني في الحشد الزاخرْ-/بين الخائن والقاتل والسارق والماكرْ-/صادفتُ، هنا وهناك، /بعضَ الشرفاء!/وعرفت، هنا وهنالكَ، …/نبلاً ووفاءْ…/فرجعتُ وفي النفس بقية إيمانْ/بزمان تسترجع فيه الأرضُ/براءتها المفقودةْ/وعرفتُ بأن طريق خلاص الإنسانْ /ليست مسدودة … 4-لم أعلن العصيانْ…/لكنني أبيت أن أستمرئ الهوانْ/أبيت أن أقتل في أعماقي الإنسان/فلم أقف مُعَدِّداً مناقبَ السلطان/ولم أجئ بلاطَهُ/في جملة العبيد والغلمانْ/مرتديا ملابس المهرّجِ/الفاقعةِ الألوانْ…/ولم يكن ذاك –كما ترون-/إلا أضعفَ الإيمان…/ورغم هذا فأنا الآن هنا/في قبضة السجّان نموذجان من الشعر الحر لجيل ما بعد الروّاد *آخر السلالة – هاشم شفيق: نحن آخر السلالة/آخر المحبين على الأرض/في دمنا يحفر القمحُ مجراه/وتومض بين اصابعنا البراكين/والنرجسُ الحيران/نحن شمال النعاس وجنوب الوردة/غرب الغزال وشرقُ الجنون/نحن الجهات والأمكنة/المحيطات في جيوبنا تهدرُ/والأنهارُ تجري في حناجرنا/من الأريج نُشَيِّد المدائن/من المهبِّ نبني المنازل/من القبل نصنع الأطفال/وها نحن من يرانا/يرى أيدينا تتكلم/أرجلنا تغني/مناكبنا تبتسم/نظراتنا تكتب من يرانا/يرى الغروب أخضر/والمرأة نبعاً/والرجل عشباً/والطفل عنبا/والشيخ طيرا/من يرانا/يرى المساء نبيذا/والصباحَ تفاحا/والشمسَ بحيرةً/وهكذا نحن …/ترمي السواحل قفافيزها لنا/والجبالُ قبعاتها/والهواءُ قمصانَه المهلهلة/نحن مناجمنا تعمل ما بين الثرى والثريا/حيث أيدينا ملطخةٌ بالضوء والتراب/نحن رافعو الكواكب والأنقاض والأعمدة/ممجّدو النور العلويّ/قابسو أهلّة التعب./وصانعو بضاعة الأمَلْ/نحن أكفنا مخشوشنة/ لأننا رفعنا السماءَ إلى الأعلى قليلا/وراحاتنا مشققة/لأننا آخينا ما بين السنبل والصخرة/هكذا نحن/نقص غدائر النباتات/لكيما نجلس في بستان حليق/ونحرث ضوءاً شاباً/لكي نتربع فوق تربة منيرةٍ/ولأننا بذرنا النجومَ في أرض مليئة/بالدم والدبابيس والحجر/ستهبّ علينا رمال معطرّة/ويدهن جلودنا ورقُ الرازقي./وتمحو الفناراتُ عن ركبنا/الخدوشَ والتركات وجراحَ القراصنة./هي الفنارات تجلسنا تحت لحية الحديقة/حيث رفُّ من الملائك/ينتشر بين ظل وفيءٍ/بين همسةٍ وحاجبٍ/وهنا وهناك/تجوب دوريةُ الملائكة وسائِدَنا/ثمة تنانيرُ من العسل والأوراق/تخفق في الريح فنرقاها/تاركين لهاثنا البرونزي/ في كل ثنيةٍ/نحن الجنادب والحباحبُ والجراذينُ/تختفي تحت أظفارنا/وتهتدي كلُّ دابة/إلى خطانا المخضوضرة/نحن آخر السلالة/آخرُ المحلقين على الأرض/في دمنا يفتح الطيرُ مأواهُ/وتخفق في صدورنا الاعشاشُ والأجنحة/وتقفونا كقياّفِ خطىً/الرقوق بدروعها السلحفية/ البؤبؤ بمنسرهِ البرقيِّ./السمنيُّ بزغبه وشكيرهِ/نحن تزقو العصافير في طيات لهاثنا/ويخطو الهديل فوق حواجبنا!/نحن سردابٌ للمناقير والأجنحة/ونحن فضاء للطيور الشريدة/ولكلّ طائر في قلوبنا عوسجٌ/ومِدْياتٌ مشبعة بالليكِ والحليبِ/نحن في دمنا يورق الزئبقُ/ويرتعش العطر المبارك في مساماتنا/عطرٌ مضفورٌ كجديلة/يطوّق خواصرنا/عطرٌ يتفشّى فينا كإله مدهونٍ بالهيل والعنبر/عطرٌ يتشظى كمرايا/ويجرحنا بالألفة/وهو عطرُ الأفلاك والغابات/عطرُ النيزك الساقط في بئر الذاكرة./وعطرُ الشعاب الضاربةِ في قيعان البدنِ./إنه عطر الموسيقا التي نصعدُ سلالمها الحريريةَ./ونحن مأخوذون بتيار مفتول النغم./نمشي فيه إلى آخر الحنين/حتى تضيع أقدامُنا./ما بين النهاوند والأوشار والصّبا/حيث لا صوتَ لنا./إلا ذلك الهمسُ الملكيُّ/همسٌ معجون بالحناء والصدى./ولا قرار هنالك/سوى هذا الرجع المتناوم./مِثْلَ أرجوحةٍ مغمورةٍ بالطلع والنسيم./هذا هو وشمنا/وذلك هو وسْمُهُمْ./أولئك الذين يقودونَ النهارَ/إلى الإنتحار/والقصيدةَ إلى الإنفرادي./والجنودَ إلى اللا أين!/نحن آخر السلالة/آخر المحبين على الأرض. * الساري وهمسات الشمس – زهير غازي زاهد: في جنح الليل تناديني أشواقي./أشواق الأمس/في جنح الليل أروح أضمّد أشواقي برفيف الهمس./بالبحر يهدهدُ آفاقي/بالنسمة خجلى في شفتي./ببريق الأمس../يلوح على شرفات الأيام المهجورة/في جنح الليل المكتوبِ على لافتةِ العمر/لملمتُ سنين سنين/فما لاحت في كفّيَّ/غيرُ أصابع كفّيْ/تعصرُ ماءً/تزرع ملحا/آه يا لافتةَ الليل/تلوحينَ على مرآتي/ضوءاً…حلماً…صوتاً…/آهٍ..آه/ أسكتُ أغرقُ في صمتي…/لكنْ لا تروى غاباتي وديانَ الصمت/…ألا أيها البدرُ الذي حال إلى كتلةِ أحجار /بعيني بل بقلبي بل بأوطاري./فلم يبق سوى همسة تذكار./وأرجوحة أسمار/لقد حالت بك الأيام/واستعلت بآفاقك أوهامُ لآيار/يمرّ اليومُ…والأيام/نجوانا بلا رفّة أوتار./وحالت قبلاتُ الشوق/آهات بلا رفّة أوتار/وحتى ومضات الصمت/نَامت دون أسرار/ولا واحاتنا النشوى/بها يخضرّ رغم الصيف رملٌ حلْو أزهار/ولا ذاك الربيعُ الحلو/في ثغرك عذْباً غافياً في حلْم أسحار/ألا يا خشبيَّ القلب/قلبي لم يزل يخفق بالذكرى وفاءً/لا تقل إني مخدوعٌ/ولا أنت نبيُّ العصر./بل ذاك وفاءُ الشمس للساري./وفاء الشمس للساري./…يا طير الشوق أجبني يا طيرَ الشوق./تتوهّج..تحرق أوهام الأمس./أجبني ../همساتي تعلقُ في همسك./في أحلامِ الشمس./يا طيرَ الشوقِ أجبني./يبستْ شفتي..يبسَ الليلُ على أفقي./جفّ الفجرُ بعيني/بل جفّ الهمس./ياطيرَ الشوقِ ألسْنا في جنحكَ سرّين/ يموت الدهرُ على خطوتنا/وتجفّ النظرات الجوعى./يأكلها حسد الأمس./خطوتنا لا تعرفها أوهام النحس/يا طيرَ الشوق أجبني/أنقذني من بئر تسكنه أفواه الأيام المهجورة/تسكنه أنظار مسعورة/ وسكوتك دنيا ألغاز./دنيا أنفاس مذعورة/ياطيرَ الشوق توهّج/أنقذني من نارك/تحرق أنفاسي/تأكل أيامي/حتى كادت تأكلُ خيط الوصل/…عرفتك يا ملَوّنُ زاهيَ الألوان./ترفلُ في ثيابكَ مثل درويش/عرفتكَ ساحرَ النظراتْ/ترقصُ تحتَ أشرعةِ الغرام/على بساطٍ فيك مغشوش./عرفتكَ تلبسُ القديّس وجهاً./حالم العينين في دنيا خرافية/وفي جنبيكَ أشعبُ نام/يحلب كلَّ خافقة على الأحلام مطوية./فأعشب حلمُك المغموسُ بالنار./تروّيه يداي حنينَ محزون لأسمار./ومدّتْ لحمَها جسر التصبّر نحو آيار/وأوهام غرابية/سعيدٌ أنت فيها تحسب الأيام منسيّة./فما تنسى عيونُ الليل دنيانَا/ولا ما خلّفت في الأفق من أثر./ولا ما سار بين الناس من خبر/ولا ما قدّمت عينايَ من سهر/ولا دنياك في دنياي تطويها يدُ السحر./ولا عيناك تغمز همسة الغجر/ولا عيناي فوق هواكَ محنيّة./سعيدٌ أنت؟!/ لا..لا تروها/أنت الذي تهوي إذا هدّمت جسرا./كنتَ في رؤياه موصولا/ومن أضوائه لوّنت أفقكَ/دربكَ المخدوعَ بالبسمات مغلولا../سعيد أنت؟!..ها..ها../هل رعيتَ يداً رعتك/لسانَ ودٍّ كان دونك حدّه/عيناً غدت رؤياك دنياها/فيا لسعادة ترويكَ بالأطماع مرويّة/تروح بلا عينٍ/بلا شفَةٍ/بلا قلبٍ./بلا أذنين/تحمل ودَّها زيفا/وتعثر..ثم تعثر..ثم تعـ…ثر../سوف لا تلقى سوى صوتي. *ذكريات. محمد عبد السلام منصور: مرة راودتني اليمامةُ عن حزنها/ودنت فتدلّى الهوى وانشبكنا/فَقَدَّتْ دمي قصباً للنواح/على نغمات الهديل هطلنا شجىً/من دموع الشبابيك/حتى تعرّى المدى/وارتحلنا الى خاطر الأرض ذكرى حبيبين: الحبيب المتيَّم في وطن ما أتى/والحبيبِ المعلَّقِ في زمن قد مضى/وكلانا شَتِيَتان/يجمعنا…/أننا مرةً قد هطلنا هنا/دمعةً تحت حزن الشبابيك/غنَّى لها قمرٌ وابتدأنا الهوى/في طريقِ الفراشاتِ والنهرِ والأغنيات/مرةً حدَّثَتْني الفراشات عن حبها/فأضاء الحصى من يد الطفل/في القدس/يرمي الشياطين/شعشع روحي على كَفِّهِ حجراً/والفراشات تحمله/في جناحٍ من اللون/غيماً من الزهر والنار/يرمي الشياطين/جئنا:/أنا والفراشات والضوء مثل الحجارة/نطبع في كَفِّه قبلة../ونصلي/مرة أوقفتني الطفولة/في بابها/أجلستني وأغلقت الباب/أدنيتها./وفتحنا الشبابيك للطير/غنى المدى/في عيون العناقيد/فانحدرَتْ دمعةٌ/من ظِلال الدوالي/على أغنيات الحليب/شربنا الصباحَ/مع العشْبِ/فوق الندى/ دمعةً/تخرج الطيرُ تغريدةً/من ضياءِ القناديلِ/فانسكبتْ/جمرةُ الشمس/ فوق الرُّبى ذهباً/ومشينا إلى ظل صفصافةٍ/خبأتنا من الدهر/عمرين أوتسعة/كلما لامستها الرياح/أفقنا بعمر الطفولة/تأتي/وأحلامُنا في بهاء البنفسج/ضاحكة للبساتين/دافئة/فاغتسلنا بأحلامِنا/تحت سحر الينابيع/غنت لنا نجمة الصبح/ملءَ المدى/حين جئنا إلى النبع/نغسل أرواحنا/وشوشتني الطفولة/ألاَّ أفارقها لحظة/واتفقنا/فكانت هي الروح مني/وكنتُ الحجر. مرة فاجأتني القصيدة/خاطفة/تَتَنَهَّدُ عَنْ جَسَدٍ/مرمريِّ الأنوثة/أوقفني نغم/يترقرق من فمها صادحاً/فانخطفتُ إلى زرقة البحر في مقلتيها/فشردني عالم غامض السحر/إن الطلاسم مغريةٌ/موسقتْ طائفَ الرقصِ في جسدي/أي سحر تغنى/فصلت له فرحة العندليب/وألقت إليه الحمامة بالشَّجْو/وانهمرت في البكاء؟/القصيدة غامضة:/شجر للأغاني، وسجادة للنحيب/جرت نغماً مبهماً كالجنون/تسبح في ملكوت الأناشيد باذخة الضوء/مفعمةَ الإشقرار/اشتهاء يراوغ خلف المرايا/يخبئه الشعر/تفضحه زرقة البحر/من نظرة لمعت للطيور/وقد ألقت السمع مفتونة/زرقة البحر فاتنة/والصبابة في مهجتي/طفلة النار/تشعلني كل ثانية عاشقاً/ثم تدخلني وطن العاشقين/القصيدة من برجها/تتدفق أغنية/شرراً يتطاير من جسد الأرجوان/المرايا مراوغة/والجنونُ المغامرُ في جسدي/عاشق جبلي الهوى/راحل في الجنون. مرة طارحتني القصيدة/أشواقها،/وأساها دماً/غازلتني وغازلتها/ففرشت لها من دمي طرحة/ثم جاءت على جسد مبهم الضوء/تبحث عن جاهلي/تأبط شراً/فألقت شجاها على شجني/وانسكبنا على نغم كالحريق/التقينا على دمعة/والتقاء الغريبين/في دمعة/هو اشهى من الحب والأغنيات/سأنظمها: فأنا جبلي الهوى/أتأبط عشقا/وأرسمها في بريق الجبال/معلقة تتدلى على “ناطحات السحاب”حرير السماوات بين الأنامل/إشراقة/خطفتها القصيدة/من بسمة الطفل/في قلم دامع/مفردات اضاء لها الغيب/القصيدة طيعة/كشفت سرها/حين أسلمت أمري إليها/أقام الجمال على صدرها/شاهدين/فصليت ألتمس القبَّتين/إستدارت لتشطر تفاحة/حملتها على عجز ذهبي البريق/فوشوشني المطلع المتأنق/خذ صدفات القوافي/انتظم في شهيق التنهد/واعزف على وتري/يتغنى الهوى/ثم دعني أعلمك الرقص/في البحر يا شاعري/إن بحري طويل/فغص رجزاً فيه/واطفئ على جسدي/رغباتِ الفراشة/وأشعل لنا شمعة الحب/هيا احترق، نأتلق/ثم نحيا/على ومضة خالدة. مرة كنت أرسمها: /وطناً في هديل اليمامة/حباً على زهرة الجلنار/ففاضت من الحزن/دمعاً تحدَّرَ من أعينِ الياسمين/فناولتها غيمة/من عبير البساتين/تغسل في روحها الحزنَ/حتى دنا نحونا شجرُ العطر/ملء النسائم/نمسح من مقلتيها الشجى/فغنت تسبح لله/وأْتلقَت ضحكات الطفولة/فوق المناديل/من فرح. مرة داهمتنا القبيلةُ / في لذةِ الحلم / فانكسرتْ فرحةُ العاشقين / على نغمات العصافير / وانتحر الورد في شجني / ناولتني القبيلة خنجرها / ادخلتني مطارحَها الشُّمَّ / ألقت علي تقاليدَها وطناً / “أيها الطفل إن لم تكن / أنت ذئباً ستبقى طعامَ الذئاب”/ “توحش تكن رجلاً / ربطتني القبيلة / في يبسٍ للفراغ / تَلتْ شجري العائلي / على عجل / بندقتني / دفنت على بابها اسمي / وعشت لها العمر / قنبلة / تتفجر في كل يوم / على جسد الأمنيات القتيلة * صنعاء* 14/9/1999م