المدخل لدراسة حقوق الإنسان… الدكتور مازن ليلو راضي… الدكتور حيدر أدهم عبد الهادي (7)
المطلب الثاني
دور الدول في مجال الحقوق والحريات
كثيراً ما تورد الدساتير الحديثة مجموعة من الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن ذكرها للحريات الفردية التقليدية، فنجد مقدمة الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ودستور فرنسا النافذ لعام 1958 قد أكدا على “حريات الإنسان والمواطن المقررة في إعلان 1789” واعترافا بالمبادئ الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للعيش في الجماعة الحديثة، وفي حقيقة الأمر فان الحريات الفردية ليست في الواقع إلا حريات اجتماعية لأنها لا تمارس إلا في نطاق الجماعة، وهذا المعنى قد بدأ ظاهراً في المادة الرابعة من إعلان الحقوق الصادر عام 1789، إذ نصت على ان (الحرية تتضمن فعل كل ما ليس من شأنه الإضرار بالغير)، ثم أضافت ان (ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود إلا ما يضمن لغيره من أعضاء الجماعة ممارسة هذه الحقوق ذاتها). (15)
ومع ذلك فإن الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي قد تم الاهتمام بمضمونها من الناحية القانونية والعملية في وقت متأخر عن الاهتمام والاحترام للحقوق الفردية ويمكن إجمال خصائص كل من هاتين المجموعتين من الحقوق وبالشكل الذي سيوضح القيمة الفعلية لكل منها.
1. الالتزامات الإيجابية والالتزامات السلبية
لا تفرض الحريات الفردية على عاتق الدولة إلا التزاماً سلبياً مؤداه الامتناع عن القيام بعمل في مجالات النشاط الفردي، فدور الدولة يقتصر (في العلاقة مع هذا النوع من الحريات) على توليها مرافق الأمن والقضاء والجيش، إذ انها دولة حارسة أما الحقوق الاجتماعية فهي على العكس من ذلك تتطلب من الدولة ان تتيح لكل مواطن عملاً لائقاً وأجراً معقولاً وان توفر للأم والطفل والشيخ والمريض العناية المطلوبة، فهذه الحقوق تفرض التزامات إيجابية على الدولة منها ان تتدخل في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد.
فالأحكام الخاصة بالحريات الفردية من الضروري ان تصاغ بهدف توفير حماية كافية للمواطنين من احتمال تعسف السلطة التنفيذية أو الحكومة، إذ يقيم المشرع حولها سداً منيعاً لحمايتها، أما الأحكام الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فتصاغ بطريقة تحقق حماية الحكومة للمواطنين وبهدف تقديم العون لهم في حياتهم، فإذا نص الدستور في باب الحريات على ان للمنازل حرمة، فهذا يرتب التزاماً سلبياً على عاتق الحكومة يفيد أنه ليس للحكام شأن بما يجري في المنازل، وهم لا يستطيعون اقتحام المنازل إلا طبقا للقانون وبأمر القضاء.
أما نص الدستور في باب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على ان الدولة تكفل للمواطن المسكن والغذاء والكساء والعلاج والتعليم، فهذا يفيد ان للمواطن أن يطالب السلطات بان تقدم له العون في حياته الخاصة لترى في أي مستوى يعيش بهدف تقديم ما يحتاج له فهذا التزام إيجابي يقع على عاتق الدولة.
2. إن الحريات التقليدية في حقيقتها إنما هي تعبير عن واقع حاصل ولا يبقى بخصوصها إلا النصوص المنظمة لها والمرتبة للأوضاع التي تمارس بناءً عليها.
أما فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فالأمر يختلف، طالما ان النصوص الدستورية التي تسجلها لا تتضمن تقريراً لحالة واقعية بقدر ما تتضمن رسما لبرنامج يهتدى به مستقبلاً، وعلى ذلك فإذا ارتبطت الحريات الفردية بما هو كائن، ترتبط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بما يجب ان يكون.
عليه فالحرية بالنسبة للديمقراطية السياسية حرية طبيعية يكفي لحمايتها قيام الدولة بعمل سلبي يتمثل برفع يدها عن التدخل فيها.
أما بالنسبة للديمقراطية الاجتماعية فالحرية حالة مستقبلية لا يتوصل إلى تحقيقها إلا بإخضاع النشاط الاجتماعي لنفوذ الحكومة.
هذا وان القيمة الفعلية للحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي أمر يتوقف على جهود المشرع العادي والإدارة في كل دولة لمناقشة الخطوات التي تقود لتحقيق الوجود المادي لهذه الحقوق وصياغتها في تشريعات قابلة للتنفيذ.
3. الأعباء
إذا كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ترتب التزامات إيجابية فهذا يعني زيادة في أعباء الدولة، فضلاً عن تحمل الأفراد لواجبات لم تكن معروفة من قبل في ظل إعلانات الحقوق ذات الطابع الفردي الخالص ويتضح ذلك فيما يلي:
أ- بالنسبة لالتزامات الدولة
إن الاتجاه نحو إقرار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية يؤثر تأثيراً بعيداً في سياسة الحكم بأسرها، والدستور الذي يرتب على الدولة ان تقوم بأداء خدمات اجتماعية عامة يوجب عليها كذلك توفير الوسائل الاقتصادية لزيادة الثروة القومية لكي لا تصبح الضرائب باهظة فتعوق التقدم الاقتصادي والاجتماعي معاً، هذا ويتطلب التوسع في الخدمات الاجتماعية من جانب آخر وضع مالية الدولة على أسس جديدة بحيث توجه نفقات الدولة توجيهاً مثالياً باتجاه تحقيق فعلي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ب- بالنسبة لالتزامات الأفراد
إن تدخل الدولة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتطلب فرض التزامات ازاء الأفراد لكي يتحقق الهدف المنشود من وراء إقرار هذه الفئة من الحقوق، فعندما تلتزم الدولة قبل أفرادها بأداء الخدمات فهي تقدر مبلغ العبء الملقى على عاتقها، فتفرض واجبات معينة على الأفراد منها ضرورة الالتزام بعمل ما، وهكذا يتحول العمل من مجرد حرية إلى فرض إجباري على المواطنين.
ومن النصوص الدستورية التي يمكن الإشارة إليها بهذا الخصوص ما جاءت به المادة (53) من الدستور الإيطالي التي جاءت بالنص الآتي (على كل شخص ان يسهم في المصروفات العامة وفقاً لقدرته على الإسهام).
والحقيقة فإن كثيراً مما اشتملت عليه الدساتير الحديثة من التزامات لازالت مجرد التزامات اخلاقية أكثر منها التزامات قانونية، ومع هذا تبقى فائدتها السياسية قائمة باعتبارها عاملاً من عوامل الإرشاد وتوجيه الشعوب.
4.التزامات الدولة بالتنفيذ
تتباين الحريات الفردية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في فعاليتها أمام القضاء، إذ تقوم المحاكم بحماية الحريات الفردية فيستطيع الفرد رفع أمره إليها مبيناً أن حرية من حرياته قد لحقها اعتداء ما، لإيقاف هذا الاعتداء وطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته من جرائه.
أما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية فإن التخلف عن أدائها لا يصلح على وجه العموم أن يكون موضوعاً لدعوى أمام القضاء، على ان تحقيق مضمون هذه الحقوق يتطلب ان تكون الدولة قادرة مادياً على أدائها، ثم انها ستبقى في مرحلة الإعلان النظري ولا تبلغ الكمال في تطبيقها إلا تدريجياً حتى يتيسر لميزانية الدولة ان تمكن الحكومة من ان تقيم المجتمع الأمثل.
المبحث الثاني
صور الحقوق والحريات
توجد عدة تصانيف للحقوق والحريات كل منها يحمل اسماً مختلفا عن الآخر إلا انها تتداخل في حقيقة الأمر، فهناك حقوق الإنسان الفردية وحقوق الإنسان الجماعية، وحقوق الإنسان المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق التي تمثل الجيل الثالث، وسنتعرض لجانب من هذه الحقوق.
المطلب الأول
حقوق الإنسان المدنية والسياسية( الجيل الاول)
تعرف الحرية بانها تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة وهو ما يعني، الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره، وقد فهمت الحرية انطلاقاً من المعنى المتقدم خلال القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة لمقاومة الدولة وتقييد سلطاتها لصالح الأفراد فهي ضمانة لاستقلال الفرد وتحقيق ذاته وحفظ كرامته الإنسانية وعلى هذا الأساس سارت الحريات الفردية في اتجاهين:
الاتجاه الأول يتمثل في تحديد مجال خاص للنشاط الفردي حيث يعتبر هذا المجال منطقة مغلقة في مواجهة الحكومة، ومن ثم فان المجموعة الأولى من الحريات الفردية سيقصد بها الحريات المتعلقة بالنشاط الفردي التي لا تستطيع الدولة ان تباشر أي نشاط فيها.
الاتجاه الثاني تمثل بالاعتراف بمجال محدد للنشاط الحكومي، مع الاعتراف للأفراد بحقيقة أساسية هي انهم يملكون وسائل متعددة لمنع الدولة من ان تبسط نفوذها وسيطرتها، وبالشكل الذي يمنع تهديدها للنشاط الفردي وهذه تمثل المجموعة الثانية من الحريات الفردية، وهي الحريات المقررة للأفراد باعتبارها وسائل لمعارضة الدولة داخل الحيز المسموح لها بالتدخل فيه، ومن ثم فان هناك مجموعة من الحريات الفردية حيث تشتمل المجموعة الأولى المشار إليها آنفاً باعتبارها تمثل الحريات أو الحقوق المدنية(16) وسنتعرض لبعض منها وهي:
الفرع الأول- الحقوق المدنية (الفردية)
أولاً: الحق في الحياة والحرية وفي أمان الفرد على نفسه
يعد الحق في الحياة أحد الحقوق الطبيعية التي يجب ان تضمن لكل إنسان، وحماية هذا الحق لا يقتصر على عدم المساس به من قبل الدولة وسلطاتها العامة، بل هو حق يتطلب ضمانهُ التزام الدولة بمنع حدوث الاعتداء عليه من جانب الأفراد، والهيئات، والجماعات، ووضع القوانين التي تحقق هذه الحماية بصورة فعلية، وتوقع الجزاء على من يعتدي على هذا الحق بأي شكل من الأشكال.(17)
ونصت أكثر من اتفاقية دولية على هذا الحق بشكل صريح، أما دساتير الدول العربية فلا يوجد دستور عربي واحد يضمن الحق في الحياة بأي شكل كان،(18) فيما عدا قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (م12)، فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على تفاصيل تتضمن مجموعة من الضمانات لهذا الحق إذ تشير هذه المادة إلى ((1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي)
أما الفقرات الأخرى من المادة ذاتها فقد جاءت بتنظيم قانوني لمسالة عقوبة الإعدام باعتبارها من أكثر المسائل التي يمكن ان تتعرض للحق في الحياة إذ تنص على: (2- يجوز ايقاع حكم الموت، في الأقطار التي لم تلغَ فيها عقوبة الإعدام بالنسبة لأكثر الجرائم خطورة فقط طبقاً للقانون المعمول به في وقت ارتكاب الجريمة وليس خلافاً لنصوص العهد الحالي والاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة. 3- ليس في هذه المادة، إذا كان حرمان الحياة يشكل جريمة إبادة جنس ما يخول أية دولة طرف في العهد الحالي التحلل بأي حال من أي التزام تفرضه نصوص الاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها. 4- لكل محكوم عليه بالموت الحق في طلب العفو أو تخفيض الحكم ويجوز منح العفو أو تخفيض حكم الموت في كافة الأحوال. 5- لا يجوز فرض حكم الموت بالنسبة للجرائم التي يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً كما لا يجوز تنفيذه بامرأة حامل. 6- ليس في هذه المادة ما يمكن لأية دولة من الدول الأطراف في العهد الحالي الاستناد إليه من اجل تأجيل إلغاء عقوبة الإعدام أو الحيلولة دون ذلك الإلغاء).
وفي 15 كانون الأول 1989 أعلن البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام وفيه تم التأكيد على ان إلغاء هذه العقوبة يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان وان التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تمثل تقدماً في المتمتع بالحق في الحياة، وهذا البروتوكول يضع التزاماً على الدول الأطراف في مادته 1 / 2 بوجوب إلغاء الدولة لعقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.(19)
ان خلاصة موقف القانون الدولي يتجه إلى إلغاء هذه العقوبة باعتبارها تتنافى مع الحق في الحياة، إلا ان هذا الاتجاه يبقى غير معبر عن السياسات العقابية في بلدان العالم المختلفة والتي تنسجم على وجه العموم مع المجتمعات الوطنية لكل دولة، فضلا عن ان العديد من البلدان التي تعتمد هذه العقوبة توجد فيها ضمانات متعددة، فإيقاع الإعدام لا يتم بإجراءات سهلة ومن هذه الضمانات انه لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا على أكثر الجرائم خطورة، وهي تثبت الحق في الاستفادة من العقوبات الأخف في ظل ظروف معينة، والحق الإلزامي بالاستئناف مع إتاحة الوقت الكافي لإعداد الدفاع والتماس العفو، ووضعت استثناءات من عقوبة الإعدام بالنسبة للأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة والحوامل، والأمهات الحديثات الإنجاب، والأشخاص المخبولين أو الذين أصبحوا كذلك أو المتخلفون عقلياً، ونص على مقتضيات خاصة بالإثبات فيما يتعلق بالكشف عن الجرائم وأهلية المحاكم بغية ضمان محاكمة عادلة وعدم ترك أي مجال لتأويل الحقائق على غير ما هي عليه، ويحق للمتهمين الحصول على مساعدة قانونية خاصة تفوق ما يقدم في حالات الجرائم التي لا يعاقب عليها بالإعدام كما يحق للمتهمين الإطلاع على كامل التهم الموجهة إليهم والأدلة المستخدمة ضدهم وهناك التزام إنساني بأن يضمن عند تنفيذ هذه العقوبة ان تكون معاناة السجناء عند الحد الأدنى.(20)
من جانب آخر يشار إلى ان لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً في 3 نيسان 1997 طالب جميع الدول التي لم تُلغِ بعد عقوبة الإعدام بأن تدرس وقف تنفيذ الإعدام بغية إلغاء هذه العقوبة إلغاءً كاملاً وطالب القرار دول العالم بالانضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقية الحقوق المدنية والسياسية كما ان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمده مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين في تموز 1998 لا ينص على فرض عقوبة الإعدام على أي من الجرائم الخطيرة الواردة في النظام الأساسي.(21)
موقف الدساتير العربية من عقوبة الإعدام
تخلو الدساتير العربية من أية تدابير تقيد من عقوبة الإعدام، كحظر إعدام من يقل سنه عن 18 عاماً أو حظر إعدام النساء الحوامل، وهذا ما قد يوحي بأن واضعي هذه الدساتير قد اختاروا ان يتجنبوه تماماً في دساتيرهم على اعتبار ان من حق الدولة استخدام هذه العقوبة وهذا أمر مسلم به طبقاً لهذا الاتجاه الدستوري ومع ذلك فهناك بعض الدساتير تتضمن إشارة إلى هذا الموضوع بطريقتين: الأولى تتعلق بتحديد حق طلب العفو من عقوبة الإعدام أو إبدالها وهذا أمر تتركه الدساتير لرئيس الدولة، بينما تنفرد الوثيقة الخضراء الليبية في منح المحكوم عليه الحق بطلب التخفيف أو الفدية (م8) ولا يتحدث أي دستور عربي آخر عن مفهوم الفدية في هذا المجال.
أما الطريقة الثانية فهي تتمثل في منع بعض الدساتير الوسائل غير المشروعة للعقوبات كالدستور اليمني (م33) ولا يبدو واضحاً إذا ما كان ذلك يشمل عقوبة الإعدام، وتمنع الوثيقة الخضراء الإعدام بوسائل تعتبرها بشعة كالكرسي الكهربائي والغازات السامة وهذه أساليب متبعة في الولايات المتحدة الأمريكية.(22)
أخيراً من الضروري التذكير بان الشريعة الإسلامية تأخذ بعقوبة الإعدام لبعض الجرائم وهي توفر مجموعة من الضمانات الكافية في إطار فلسفة التشريع والعقاب في هذه الشريعة، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
أما الحق في الحرية وأمان الفرد على نفسه فهذه حقوق تتضمن مجموعة كبيرة من الحريات والحقوق التي تنضوي تحتها فلا يجوز استرقاق إنسان لأي سبب كان، وهذا أمر نصت عليه الكثير من الاتفاقيات الدولية وتنصاع له القوانين الوطنية، فضلاً عن تحريم السخرة ويعد العمل من أعمال السخرة أو مفروضاً في مفهوم حقوق الإنسان، كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لإرادته دخل في قبوله، ولا يهم بعد ذلك ان يكون المرء الذي يقوم بهذا العمل يؤديه نظير أجر أو بدون مقابل.
وهناك حق لكل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، ومن ثم لا يجوز القبض عليه أو إيقافه بصورة تعسفية دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة بهذا الخصوص كما لا يجوز ان يحرم أحد من حريته ومن الضروري ان يتم إبلاغ كل من يقبض عليه بأسباب ذلك عند حدوثه، فضلاً عن إبلاغه فوراً بأية تهمة توجه إليه ويجب ان يقدم الشخص المقبوض عليه أو الموقوف بتهمة جزائية فوراً أمام القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة صلاحيات قضائية ويكون من حق المقبوض عليه أو الموقوف ان يقدم إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه ومن حق كل إنسان يحرم من حريته بسبب إلقاء القبض عليه أو توقيفه أن يلجأ إلى الإجراءات القانونية المتاحة أمام المحاكم المختصة لكي تقرر مدى شرعية الإجراءات القانونية التي اتخذت بحقه وتم إيقافه استناداً إليها كما ان له الحق في طلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في حالة كون إجراءات إيقافه غير قانونية.
وتحتوي الدساتير العربية فيما عدا دستور دولة قطر على تدابير تتعلق باعتقال الأشخاص واحتجازهم لكن عدداً محدوداً من هذه الدساتير تتوافق نصوصها مع المعايير التي تتطلبها الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، فهناك عدد من الدساتير العربية تتحدث عن الحرية الشخصية بشكل عام على أنها مضمونة، بينما تشير دساتير أخرى إليها باهتمام أكبر فهي (حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، كما جاء في المادة (41) من الدستور المصري أو هي (حق مقدس) في الدستور السوري ( م25/1) ولا تسمح دساتير الدول العربية بحرمان أحد من الحق في الحرية والأمان الشخصي إلا وفقاً للقانون، وهذا نص يقترب إلى حدٍ ما من الصياغات الدولية لهذا الحق حيث (لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً) (م 9/1) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية)، وهنا يلاحظ غياب مفهوم التعسف في الدساتير العربية، وهو مفهوم كان القصد من وراء استخدامه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حماية الأفراد من الأفعال غير المشروعة وغير العادلة بشكل متساوٍ فلو اقتصر الأمر على مجرد حماية الإنسان من الأفعال غير المشروعة فقط لما أمكن الطعن في كل أعمال الظلم التي تقوم بها الإدارة الحكومية طالما كانت تلك الأعمال متفقة مع القوانين الوطنية الموضوعة.(23)
كذلك يلاحظ ان معالجة الدساتير العربية للحقوق الأساسية المتعلقة بكيفية الاعتقال والاحتجاز تعكس وجود اختلافات عديدة تفرض متابعة ودراسة القوانين المطبقة في كل بلد للتأكد مما إذا كانت هذه الحماية للحق في الأمان الشخصي حماية فعلية أم لا، ويمكن القول ان دساتير الدول العربية توفر نوعاً من الحماية النسبية لهذا الحق إلا ان ما يؤخذ على هذه الدساتير ان نصوصها عامة، فدساتير الجزائر والبحرين ومصر واليمن مع المادة 9/3 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966 هي التي يمكن ان تنجح في توفير شيء من الحماية المفصلة والضمانات الموسعة لهذا الحق وبشكل خاص عندما تكون السلطة القضائية هي المرجع في هذا الأمر، فالدستور المصري يشترط وجود أمر اعتقال تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع يكون صادراً عن القاضي المختص أو النيابة العامة طبقاً للقانون (م 41) وتتطابق معها المادة (32/5) من الدستور اليمني مدعومة بالفقرة السابقة التي تضع شرطاً مضمونه عدم جواز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة، كما توفر مجموعة أخرى من الدساتير دوراً أخر للقضاء بحظر تمديد الاحتجاز إلا بأمر قضائي كالمادة (45) من دستور الجزائر والمادة (42/ج)من دستور اليمن.(24)
ثانيا: تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية
ويرتبط بالحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية والحقيقة أن تحريم هذه الممارسات قد جاء مباشرة بعد النص على الحق في الحياة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان مما يعكس أهمية النص على تحريم التعذيب وضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وتعرضت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هذا الموضوع في الطعن الفردي الذي قدمه مواطن نمساوي حكم عليه بالسجن في بلده وكان يتعرض للنوم على أشياء صلبة مرة واحدة كل ثلاثة أشهر كعقوبة تكميلية حكمت بها المحكمة النمساوية وعلى الرغم من ان الطاعن لم يُشِرْ إلى هذه المسألة باعتبارها معاملة غير إنسانية فقد تعرضت الجنة لها تلقائياً وذكرت في قرارها الصادر عام 1959 (انها لاحظت جسامة العقوبة التي وقعت على الطاعن بمقتضى نظام النوم على أشياء صلبة، ولكن مع ذلك، فان هذه العقوبة التكميلية لا يتعرض لها الطاعن إلا مرة كل ثلاثة شهور، ولا تعد نظراً لذلك عقوبة غير إنسانية بالمعنى الوارد في الاتفاقية).(25)
وربما كانت اللجنة ستعد مثل هذه العقوبة غير إنسانية أو استثنائية لو كان الطاعن يتعرض لها يومياً أو خلال مدة طويلة من فترة السجن المحكوم بها عليه، ويؤيد هذا الفهم ان اللجنة لاحظت من تلقاء نفسها جسامة هذه العقوبة.(26)
ان النصوص الدستورية التي تؤكد على تحريم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو القاسية أو الاستثنائية، توفر بشكل خاص منهجاً لحماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ولا توجد في عدد من دساتير الدول العربية أية إشارة إلى التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، فالدساتير العربية التي ترحم التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة لا تتجاوز نصف الدساتير العربية وعلى درجات متفاوتة من التحديد والوضوح حيث تستخدم مصطلحات مثل (الإيذاء والإساءة أو المعاملة بشكل يوصف بالتعذيب بدنياً أو جسمانياً أو معنوياً أو نفسياً أو استخدام مصطلح المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة أو وضع عقوبات جزائية ضد من يرتكب التعذيب أو ينتهك الحظر المفروض عليه (م28/3 من الدستور السوري)، فضلاً عن اعتبار ما انتزع بسبب التعذيب لاغياً وباطلاً (م 19 و 42 من الدستور المصري)، أما المادة (45) من الدستور الجزائري فهي توفر ضمانة جيدة بهذا الخصوص إذ تنص على (لدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب ان يجرى فحص طبي على الموقوف ان طلب ذلك، على ان يعلم بهذه الإمكانية)، ومع ان الفحص الطبي من الوسائل الرادعة أو العملية لمنع اللجوء إلى التعذيب إلا ان ما يلاحظ عليه أنه يُلقي بعبء المطالبة بالفحص الطبي على عاتق الموقوف وعند انتهاء مدة التوقيف فقط وليس قبل ذلك ويقع الالتزام على الدولة بإعلامه ان له الحق في ذلك في نهاية المدة المذكورة.(27)
وتوجد نصوص دستورية أخرى في دول العالم تنص على تحريم التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية كالمادة (38) من دستور اليابان لعام 1967 التي نصت على (لا يجوز إكراه أحد على الإدلاء بأقوال تسيء إلى مصالحه، والاعتراف الذي يتم نتيجة للإكراه أو التعذيب أو التهديد أو القبض أو الحبس لفترة تتجاوز ما يقتضي به القانون لا يجوز ان ينهض دليلاً في الإثبات، كما لا يجوز إدانة أحد أو توقيع عقوبة جنائية عليه إذا كان اعترافه هو الدليل الوحيد القائم ضده).(28)
اما الدستور العراقي لعام 2005 فقد نص على تحريم جميع انواع التعذيب والمعاملة غير الانسانية فجاء في المادة (37) (( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب ، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي او المعنوي الذي اصابه وفقاً للقانون)).
ثالثاً: الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية
هو أيضاً من الحقوق المدنية حيث لا يجوز التدخل بصورة تعسفية أو بشكل غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو بيته أو مراسلاته كما أنه لا يجوز التدخل بشكل غير قانوني بشرفه وسمعته ويثبت لكل شخص الحق في الحماية القانونية ضد مثل هذا التدخل أو التعرض، ونصت على هذا الحق جميع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان كاتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي أكدت مضموناً آخر يتعلق بهذا الحق عندما أشارت إلى عدم جواز ان تتدخل السلطات العامة في مباشرة هذا الحق، إلا إذا كان هذا التدخل ينص عليه القانون، ويعد اجراءاً ضرورياً، في مجتمع ديمقراطي للأمن الوطني أو الأمن العام، أو الرفاهية الاقتصادية للدولة، أو لحماية النظام أو لمنع الجرائم، أو لحماية الصحة والآداب، أو لحماية حقوق وحريات الغير، وهذا يعني ان حماية الحياة الخاصة والعائلية والمحافظة على حرمة المسكن وسرية المراسلات ليست مطلقة إذا ما توافرت الشروط المذكورة آنفاً أي إذا كان تدخل المشرع ضرورياً لمباشرة الحقوق المذكورة في مجتمع ديمقراطي وتوافر أسباب ضرورية تبرر التدخل، وعلى هذا الأساس فان الطعن الذي قدم إلى اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان من جانب بعض الأشخاص الذين أرادوا اعتبار مباشرة بعض العلاقات غير المقبولة من الناحية الاخلاقية معترفاً بها أو مقبولة بالاستناد إلى الحق في حماية الحياة الخاصة لكن اللجنة أكدت أن هذا الحق يجوز تقييده بما يفرضه المشرع من حماية للآداب والأخلاق العامة.(29)
والحقيقة ان اللجنة قد أكدت في قرار آخر ان عبارة الصحة والآداب المنصوص عليها في المادة 8/2 لا تشمل الحماية العامة لصحة أو آداب المجتمع بل يراد بها كذلك حماية صحة وآداب أفراد المجتمع ويقصد بها الرفاهية النفسية والمادية للفرد وحماية توازنه النفسي من كل خطر قد يهدده.(30)
وتعتبر عملية مراقبة مراسلات المسجونين من الاستثناءات الجائزة في نطاق النظام الاقليمي الأوربي لحقوق الإنسان بالاستناد إلى المادة 8/2 وينطبق المعنى ذاته على جواز الاحتفاظ بملفات تضم وثائق خاصة بالمسجونين وصوراً لهم وبصمات أصابعهم التي تتعلق بقضايا جنائية سابقة بهدف حماية المجتمعات الديمقراطية من الجريمة واستتباب الأمن العام.(31)
ومن الدساتير التي نصت على هذا الحق ما جاء في المادة 52 من دستور يوغسلافيا السابق الذي حدد شروط انتهاك حرمة المسكن وحرمة السر حيث نص على (للمساكن حرمة، ولا يجوز انتهاك حرمة المساكن وما في حكمها أو تفتيشها على الرغم من ارادة اصحابها إلا بموجب أمر بذلك وفقاً للقانون، ولاصحاب المساكن والمحال التي يجري تفتيشها ولأفراد أسرهم ووكلائهم حق حضور التفتيش ولا يجوز إجراء التفتيش إلا في حضور أثنين من الشهود).
أما الدستور المصري لعام 1971 فقد نصت المادة 44 منه على ان (للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقاً لأحكام القانون).
ونصت المادة 45 من الدستور ذاته على ان (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التلفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو مراقبتها إلا بأمر قضائي ولمدة محددة وفقاً لأحكام القانون)، ونصت المادة 57 على ان (كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء).(32)
في حين اوردت المادة (17) من الدستور العراقي لعام 2005 ( اولاً : لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين او الاداب العامة . ثانياً : حرمة المساكن مصونة ، ولا يجوز دخولها او تفتيشها او التعرض لها إلا بقرار قضائي ، وفقاً للقانون).
ان الحق في الحياة الخاصة قد يتعارض مع حقوق وحريات أخرى منها مثلاً التنازع الذي يحدث بين الحق في حماية حرمة الحياة الخاصة وضرورة العيش بسلام وأمان مع الحق في التعبير والتجمع، ومن ثم فانه يجب ممارسة هذين الحقين بطريقة معتدلة ومنصفة لكي لا يطغى احدهما على الآخر.(33)
رابعاً: حرية التنقل (الغدو والرواح)
بموجب هذا الحق يصبح لكل انسان مقيم بصفة قانونية داخل اقليم دولة معينة الحق في حرية الانتقال من مكان إلى آخر، وفي اختيار مكان اقامته ضمن ذلك الاقليم وله الحرية في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، ولا يجوز حرمان أحد من حق الدخول إلى بلاده، ويذكر هنا ان الحقوق المشار إليها أعلاه يمكن ان تخضع لقيود ينص عليها القانون إذا كانت هذه القيود القانونية ضرورية لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق وحريات الآخرين، فعلى سبيل المثال منع قانون الاقامة العراقي الملغى لسنة 1961 الأجانب من الاقامة والمرور والتجول في بعض المناطق فمنع الاقامة في محافظات الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك عدا حدود بلدية مركز المحافظة وأخضع سفر الأجانب من العاصمة إلى المناطق المحرمة المذكورة آنفاً على استحصال موافقة وزارة الداخلية ومديرية الأمن العامة ومنع الأجانب من الاقامة في المؤسسات النفطية باستثناء العاملين فيها،( 34) اما اليوم فقد حرص الدستور العراقي لعام 2005 على ان يؤكد حرية المواطن العراقي في التنقل والسفر فنص في المادة (44) منه (اولاً : للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه . ثانياً : لا يجوز نفي العراقي ، او ابعاده او حرمانه من العودة الى الوطن ) .
كذالك فعل الدستور الاردني النافذ في الماده (9) منه ( 1- لايجوز ابعاد اردني عن ديار المملكه .
2- لايجوز ان يحظر على اردني الاقامه في جهه ما ولا ان يلزم بالاقامه في مكان معين الا في الاحوال المبينه في القانون).
ومن الجدير بالذكر انه يمكن ابعاد الأجنبي المقيم بصورة قانونية من اقليم الدولة إذا كان ذلك الأمر بالإبعاد صادراً طبقاً للقانون، ويستطيع ان يعترض على هذا القرار إلا إذا كانت هناك أسباب اضطرارية تتعلق بالأمن الوطني تتطلب غير ذلك، وهذا ما نصت عليه المادة 13 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية.
خامساً: الحقوق الأسرية
تعد العائلة الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية لكل مجتمع وبهذه الصفة يقع على كاهل الدولة والمجتمع حمايتها، وإذا كانت النصوص القانونية تقر بهذه الحقيقة فقد تم الاعتراف كذلك للرجال والنساء الذين هم في سن الزواج بتكوين الأسرة باعتبارها الخلية الاجتماعية الأساسية في جميع المجتمعات البشرية وهي تتشكل نتيجة الرضا الكامل لأطراف العلاقة ويقع على كاهل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين المساواة في كافة الحقوق والمسؤوليات في المراحل المختلفة للزواج كما يجب حماية الأطفال باعتبارهم قاصرين ويقع الالتزام الأخير على الأسرة والدولة والمجتمع ويجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويكون له اسم.
وترتبط بحقوق الأسرة حقوق وواجبات الأبوة وقد لاحظ المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1955 تبني بعض الأنظمة القانونية لمبدأ يحصر السلطة الأبوية أو هي تجعل هذه السلطة في المرتبة الأولى من حق الزوج ولا يوجد أي حق للزوجة في مباشرتها وان حضانة الأطفال في حالة انتهاء الزواج تكون للزوج بصرف النظر عن ظروف القضية، ورأى المجلس ان هذا الوضع لا يتفق مع مبدأ المساواة بين الزوجين وأوصى الدول الأعضاء باتخاذ تدابير تضمن تحقيق المساواة بين الأب والأم في مباشرة الحقوق والالتزامات تجاه الأفراد وهذه تشمل المساواة في مسائل حضانة الأطفال القصر وتعليمهم ورعايتهم وإدارة أموالهم سواء عند الزواج أو أثنائه أو بعد الانفصال.(35)
والحقيقة ان الحق في تكوين الأسرة أي حق الفرد في ان يتزوج ويؤسس عائلة دون تدخل الدولة وله بالنتيجة ان يربي أطفاله ويعلمهم بالشكل الذي يريده، كل هذه تعد من الحريات المانعة التي يراد بها تلك الحريات التي يكون مضمونها أو ميدانها خاصاً بالأفراد ومحفوظاً لهم بحيث يحرم على الحكام التدخل فيه.
سادساً: مبدأ المساواة المدنية
يطغى على نظريات الحريات مبدأ أساسي في كل ما تقرره من حقوق وحريات لمصلحة الأفراد وهو مبدأ المساواة ويعني ان جميع الأفراد متساوين في التمتع بالحريات الفردية دون أي تفرقة أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين، ولذلك فان الديمقراطيات التقليدية ترى في اقرار هذا المبدأ ضمانة أساسية من ضمانات الحريات الفردية وهو يتضمن:
أ- المساواة أمام القانون.
ب- المساواة أمام القضاء.
ج- المساواة أمام الوظائف العامة.
د. المساواة أمام التكاليف العامة، كأداء الضرائب أو أداء الخدمة العسكرية.(36)
ومبدأ المساواة يعد واحداً من خصائص الديمقراطية الغربية ويراد به تحديداً المساواة أمام القانون وتسمى كذلك بالمساواة المدنية لكنها ليست مساواة فعلية أي مساواة من الناحية المادية والاقتصادية، والمقصود بمبدأ المساواة أمام القانون ان يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع ودون تمييز بين طبقة وأخرى، ولا بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة وليس المقصود بهذه المساواة المساواة الفعلية التي نادت بها المذاهب الاشتراكية لكن المقصود بالمساواة أمام القانون ان تلك الميزات الاجتماعية التي يحظى بها المواطنون يجب ان يحميها القانون دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى، وقد تقرر هذا المبدأ على الصعيد الرسمي لأول مرة في الديمقراطيات الغربية الحديثة في وثيقة إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789، حيث أشار الإعلان إلى ان الحقوق الفردية أو الحقوق الطبيعية للإنسان هي الحرية، المساواة، الملكية، حق الأمن، حق مقاومة الظلم.(37)
ولكن ما هو أساس المساواة المدنية بين الأفراد؟
يذهب أنصار نظرية العقد الاجتماعي إلى ان هذا العقد هو مصدر المساواة المدنية وهم يبرهنون على ذلك بان شروط العقد كانت واحدة بالنسبة لجميع المشتركين فيه، وهذا يعني انه أبرم بين أطراف متساوين وان الدولة التي تكونت نتيجة لإبرام هذا العقد يقع عليها التزام بمعاملة أطرافه معاملة متساوية باعتبارهم متساوون.
وقد استنتج بعض فقهاء القرن الثامن عشر ان المساواة المدنية بين الأفراد مصدرها أحكام القانون الطبيعي وهم يقولون ان الناس حين كانوا يعيشون في الحالة الطبيعية الأولى كانوا متساوين لا يفرق بينهم فارق ولا يميز بينهم مميز، وقد أكدوا هذا المساواة على الرغم من اعترافهم بان الافراد غير متساوين من حيث كفاءتهم الجسمية والمعنوية، وأنصار مدرسة القانون الطبيعي يؤيدون فكرة المساواة بين الأفراد على اعتبار انها تقوم على أساسين: الأول ان كل فرد يشترك مع غيره من الأفراد في الطبيعة الانسانية، والثاني ان كل فرد يجب ان يحترم احكام القانون الطبيعي إذا أراد ان يحترم غيره من الأفراد أحكام هذا القانون في علاقتهم مع هذا الشخص، وهذا الالتزام المتبادل بين الأفراد سيقود إلى تحقيق المساواة بينهم(38)
ويترتب على المفهوم المتقدم ان المساواة بين الأفراد تكون حقيقية كما هي واقعة فعلية من غير الممكن انكارها، وهذا لا يعني تحقيق المساواة المادية أو المساواة في الثروة تلك المساواة التي تنادي بها الماركسية التي تستهدف ضمان ان يكون للأفراد قدراً متساوياً من الثروة، والدراسة التاريخية للوقائع تظهر ان الديمقراطية التقليدية لم تكن تستهدف تحقيق المساواة المادية بين الأفراد فالنضال في عهد الثورة الفرنسية كان يستهدف الوصول الى الحرية السياسية لإشراك الشعب في إدارة شؤون البلاد وبشكل متساوي بين الأفراد ولم تخطر فكرة المساواة المادية ببال منظري تلك الفترة، والحقيقة المهمة ان المساواة المدنية لا تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقوم الدولة بتقديمها.
يتضمن مبدأ المساواة المدنية كما أشرنا آنفاً مساواة الأفراد أمام القانون وهو يتطلب من الشارع ان يسن تشريعاته دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى ففي مجال القانون الجنائي ان ينص على توقيع العقوبة ذاتها بالنسبة لنفس الجريمة على الجميع ولا يعد وجود حدٍ أدنى وحدٍ أعلى للعقوبة على ذات الجريمة وبالشكل الذي يقود إلى تطبيق أو فرض الحد الأدنى على حالة والحد الأعلى على حالة أخرى، إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون أو المساواة في العقاب.(39)
المبدأ الثاني الذي تشتمل عليه المساواة المدنية هو مبدأ المساواة أمام القضاء بمختلف جهاته ودرجاته، والمقصود به: ألا يكون هناك تمييز لأشخاص على غيرهم من حيث القضاة أو المحاكم التي تفصل في جريمة ولا من حيث العقوبات القانونية التي تقرر على مرتكبيها وعلى أساس هذا المبدأ (المساواة أمام القضاء) قضت الثورة الفرنسية على المحاكم الخاصة بالنبلاء وعلى المحاكم الخاصة الأخرى أو الاستثنائية التي تحاكم مرتكبي بعض الجرائم الخاصة، كما قضت على التفريق في العقوبة الذي كانت هذه المحاكم تتبعه، وفي طرق تنفيذ العقوبة حيث كان الأشراف يعدمون بضرب العنق (المقصلة) في حين كان يتم اعدام غير النبلاء شنقاً.(40)
أما المساواة أمام الوظائف العامة فهي تلزم مؤسسات الدولة بعدم التمييز بين المواطنين عند تقديمها للخدمات أو عند استيفائها للمقابل عنها ويدخل ضمن هذا الأمر عدم جواز اقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين ولا يجوز اقامة أي تمييز فيما بين المواطنين بخصوص قبولهم في الوظائف والأعمال العامة طالما كانوا متساوين في الشروط التي يتطلبها القانون، ومع ذلك يمكن قبول استثناءات محدودة جداً وهذه الاستثناءات التي ترد على المبدأ المذكور محددة للغاية، ففي فرنسا مثلاً قرر قانون صدر عام 1886 منع أبناء العائلات التي سبق لها تولي عرش فرنسا من تقلد الوظائف العامة أو النيابية.(41)
أما المساواة في التكاليف فهي تشكل جانباً من المساواة أمام المصالح والمؤسسات العامة حيث لا يجوز ان تفرض الضرائب مثلاً على فئة اجتماعية دون أخرى بمعنى ان الضرائب يجب ان لا تثقل كاهل طبقة من الأفراد أكثر من طبقة أخرى(42) فمن التجاوزات غير المشروعة على هذا المبدأ الاعفاء الكلي من الضرائب قبل ثورة 1789 الفرنسية بالنسبة للأشراف ورجال الدين(43) وكذلك الحال فيما يتعلق بأداء الخدمة العسكرية إلا انه يلاحظ ان من المقبول فرض بعض الشروط للانتفاع ببعض المؤسسات العامة ذلك ان من المصالح العمومية ما لا يمكن للأفراد ان يطالبوا بخدماتها إلا إذا توافرت فيها شروط معينة أو قاموا بإجراءات خاصة تحددها القوانين والتعليمات وعلى ذلك لا يمكن لجميع المواطنين دخول الجامعة إلا إذا كانوا حاصلين على شهادة الدراسة الإعدادية ولا يمكن لجميع الأفراد ان ينتفعوا بمياه الشرب أو الكهرباء إلا إذا دفعوا مقابل هذه الخدمات.(44)
ولا خلاف في الوقت الراهن على ان المساواة أمام مؤسسات الدولة أو المساواة المدنية عموماً أصبحت واجبة الاحترام ولذا فان كل قانون يخرج على مقتضياتها سيكون مخالفاً للدستور وإذا خالفت دائرة من دوائر الدولة مبدأ المساواة فمن حق الفرد الذي أصابه الضرر ان يرفع دعوى أمام القضاء طالباً التعويض من الدائرة المخالفة، فإذا امتنعت مؤسسات الاتصالات عن ايصال خدمة الهاتف إلى أحد المواطنين فانه يجوز له ان يرفع أمره إلى القضاء للحكم له بالتعويض المناسب إلا انه لن يكون هناك مجال للتعويض إذا كان الرفض مبنياً على خطأ طالب الاشتراك نفسه أو كان مبنياً على مسوغ شرعي كعدم توفر الخطوط الكافية مثلاً،(45) وقد لا تمتنع المؤسسة الحكومية عن اداء الخدمة وإنما تميز فقط في المعاملة بين اشخاص كانت تجب المساواة فيما بينهم فان من حق المتضرر المطالبة بالتعويض أو الغاء الأمر الذي بني على تميز في المعاملة.(46)
وتتضمن الدساتير العربية جميعها مبدأ المساواة أمام القانون الذي يقضي بان كل المواطنين سواسية أمام القانون فقد ورد في المادة 40 من الدستور المصري ان (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
كما نص الدستور العراقي في المادة (14) منه : ( العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي).
وفي الاتجاه ذاته جاء الدستور الاردني في الماده (6) منه لينص :
( 1- الاردنيون امام القانون سواء لاتمييز بينهم في الحقوق والواجبات وان اختلفوا في العرق او اللغه او الدين .
2- تكفل الدوله العمل والتعليم ضمن حدود امكانياتها وتكفل الطمأنينه وتكافؤ الفرص لجميع الاردنيين ) .
والحقيقة ان معظم الدساتير العربية اتفقت في نصوصها التي أوردتها بهذا الشأن مع اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية مع فروقات بسيطة في التعابير المستخدمة ويستثنى من ذلك ما تذكره هذه الاتفاقية من منع التميز على أساس الرأي السياسي وغير السياسي وأحوال الملكية والميلاد وغيرها وتستبدل هذه في بعض الدساتير العربية بالكلام عن حظر التمييز على أساس الحالة الاجتماعية أو محل الاقامة أو المهنة بينما يورد الدستور اللبناني نصاًَ مبسطاً إذ يذكر فيه (كل اللبنانيين سواء لدى القانون … دونما فرق بينهم)(47)
ولا يشكل النص في دساتير العالم على المساواة وعدم التمييز مجرد مبدأ توجيهي أو مجرد توصية، لكنه نص أساسي ودقيق ومهم للغاية وهو يفرض على الأجهزة القضائية واجب اكتشاف ان السلطات التشريعية والإدارية قد أخذت بنظر الاعتبار هذا المبدأ في تعاملها مع المواطنين وعند انتهاك هذا المبدأ فانه يجب على القضاء ان يأمر هذه الجهات بعدم تطبيق القوانين والقرارات والتعليمات الأخرى غير المنسجمة مع هذا القانون.(48)
الفرع الثاني- الحقوق السياسية
يقع تحت هذا العنوان مجموعة من الحقوق والحريات التي توصف بانها ذات مضمون سياسي بشكل أو بآخر، منها حق المواطنة (الجنسية) وحق المشاركة في الشؤون العامة وحق الاجتماع وتشكيل الجمعيات والعضوية فيها والحق في حرية الرأي والعقيدة والدين وسنتعرض لهذه الحقوق بالشكل الآتي:
أولاً: حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات
يتكون هذا الحق من قدرة الفرد للاجتماع بغيره بهدف عرض آرائه، ويذهب أحد الكتاب إلى عدم جواز الخلط بين حق الاجتماع وحق تشكيل الجمعيات، فالأول هو اجتماع مجموعة من الأشخاص بشكل مؤقت وفي مكان معين بهدف عرض بعض الأفكار ومناقشتها، أما الحق الثاني فهو يتكون من اتفاق مجموعة أشخاص على تكريس نشاطهم بهدف الوصول إلى تحقيق غرض معين، والاجتماع في هذه الحالة له صفة الدوام ولا يستطيع المشرع المساس بهذا الحق أو جوهره إلا انه يستطيع ان يتخذ الاجراءات التي تضمن عدم مساس هذه الاجتماعات أو التجمعات بحرية الآخرين أو الأمن العام، ومن ثم فان من الممكن تنظيم الحق في الاجتماع وذلك باخطار الإدارة قبل انعقاد الاجتماع أو التجمع وقد ضمنت الدساتير هذا الحق إذ نصت المادة (11) من الإعلان حقوق الإنسان الفرنسي والصادر سنة 1789 ضمناً على احترام حق الأفراد في الاجتماع وكذلك الحال في دستور 1791 ودستور 1848 الفرنسيين.(49)
أما الحق في تشكيل الجمعيات فلا نجد إشارة له في إعلانات الحقوق وكذلك الحال مع الدساتير التي صدرت في فترة الثورة الفرنسية حتى ان واضعي إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 كانوا يرون ان الحق في الاشتراك في تكوين الجمعيات يتضمن اعتداء على الحرية الفردية لذلك فقد أصدروا قانوناً سنة 1791 يقضي بمنع الجمعيات المهنية إلا ان الوضع لم يستمر على هذا النحو فهناك أول إشارة للحق في تكوين الجمعيات وردت في المادة (8) من دستور 1848.(50)
ان اهمية الحق في تكوين الجمعيات تبرز من خلال الإقرار بوجود وسيلة واحدة للحرية تتمثل بحرية تكوين الجمعيات، فالفرد يكون حراً مادام قوياً وهو كذلك بالقدر الذي لا يكون فيه منفرداً.
في انكلترا يعد النظر إلى حرية الاجتماع طبقاً للقانون الانكليزي مثالاً للصورة التي تنظر فيها العقلية الانكليزية إلى حرية الفرد، فالفقيه الانكليزي دايسي يقول ان القانون الانكليزي، على العكس من القانون الفرنسي والبلجيكي لا يعرف حقاً متميزاً قائماً بذاته يرعى حق الاجتماع لكن هذا الحق عبارة عن امتداد للحرية الشخصية ولحرية التعبير حيث يستطيع مجموعة من الأِشخاص التجمع للتعبير عن آرائهم ولكن هذا الحق في الاجتماع للتعبير عن الرأي لا يمكن ان يمارس بطريقة مخالفة للقانون، إذ ان عقد الاجتماع بطريقة تنطوي على جريمة أو تعكير للأمن بشكل أو بآخر ففي هذه الحالة سيكون الاجتماع غير مشروع وهنا يجوز للسلطات العامة فض الاجتماع وتحميل المجتمعين المسؤولية عنه، إلا انه يلاحظ ان القضاء الانكليزي ومنذ سنة 1882 حكم بعدم جواز ان يتحول اجتماع مشروع إلى اجتماع غير مشروع لمجرد أثارته لمعارضة عنيفة ومخالفة للقانون وإفضائه بذلك عن طريق غير مباشر إلى اضطراب الأمن.(51)
أما القيود التي يوردها القانون الانكليزي على حرية الاجتماع فهي:
1- إذا قام في سلوك القائمين بالاجتماع ما يجعله غير مشروع وأثار هذا السلوك غير المشروع مناوئي الاجتماع مما أدى إلى التصادم والاشتباك فانه يجوز اعتبار المشتركين في الاجتماع مسؤولين عن نتائج الاصطدام، فمثلاً إذا عقد أحد دعاة البروتستانتية اجتماعاً في مكان عام يكثر فيه الكاثوليك واستعمل في خطبه ألفاظاً نابية