نحو استراتيجية لأصلاح التعليم العالي في العراق… ألأستاذ الدكتور جلال محمد النعيمي
ألأستاذ الدكتور جلال محمد النعيمي
مساعد رئيس الأكاديمية العربية المفتوحة للشؤون الأدارية
وعميد كلية الأدارة والأقتصاد / الدنمارك
السويد 2006
المقدمة :
إن مشكلة التعليم العالي في العراق ليست بمشكلة جديدة , بل هي مشكلة قديمة , ولكنها تفاقمت اليوم بشكل كبير جدا , كون قطاع التعليم عانى ويعاني ما يعاني منه البلد برمته وكافة قطاعاته من غياب للمؤسسات و من حالة أمنية متدهورة وفوضى يؤطرها الفساد الأداري والمالي والذاتي بشكل لم يسبق له مثيل .فالتدهور الذي اصاب التعليم العالي في العراق منذ عقود خلت نتيجة السياسات الخاطئة للنظام السابق والمتمثلة بتسخير هذا القطاع لمآرب سياسية , ناهيك عن الحروب وفترة الحصار الذي تأثر به هذا القطاع بشكل كبير , حيث انقطع عن العالم تماما وبات يعيش في عزلة خانقة ويعاني من مشاكل جمة انعكست على المستوى العلمي والأجتماعي لطرفي المعادلة الرئيسية لهذا القطاع , الأستاذ والطالب . وبعد سقوط النظام السابق وأنهيار مؤسسات الدولة تعرض هذا القطاع بمؤسساته المختلفة الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث والمكتبات الى عملية نهب وسلب وتدمير ليضيف الى اعبائه عبأً آخر لا يقل خطورة عن السابق , من تفشي الفساد الأداري والمالي وانخفاض المستوى العلمي وغياب المعايير الموضوعية لعملية التعليم , ومحاولة بعض اطراف المعادلة السياسية في البلد الى تسيس هذا القطاع وكنتيجة للمحاصصة الطائفية والحزبية التي تتسم بها مظاهر الحياة العراقية اليوم أقتصاديا وأجتماعيا وثقافيا وسياسيا . ورغم سعي الوزارة الى الأصلاح بما لديها من امكانات والحث على عدم تحويل الجامعات والمعاهد الى مقرات حزبية وطائفية , والنأي بهذا القطاع عن الصراعات والتجاذبات السياسية والدينية والعرقية , إلا أن المشكلة أصبحت ألآن مشكلة مصير , على المستويين الداخلي والخارجي . داخليا فهذا القطاع يشكل مستقبل البلد ومستقبل أسرة العلم والمعرفة فيه , وهذا يعني مستقبل الأجيال مما يشكل الركن الأساسي للبناء والتقدم والحضارة , فإذا ما انهار هذا القطاع فسيؤدي الى انهيار الوطن بأكمله بكل ما تحويه هذه الكلمة من معاني .
أما خارجيا , فالعالم في تسابق مع الزمن , وفي لحظة تاريخية تتعجل فيه الخطى نحو الأمام فلا يمكن لنا ان نبقى متفرجين , وأن نتخلف عن مسيرة التاريخ ونخرج من دائرةالسباق مع الزمن .
لقد اهمل هذا القطاع الحيوي , سابقا رغم تسخيره لأغراض دعائية لا تمت للعلم والبحث العلمي بصلة , والآن ازدادت تراكمات هذا القطاع وتعقدت الجوانب المختلفة لمشكلة التعليم العالي والبحث العلمي , ناهيك عن اختلاف الوعي تجاه هذه المشكلة مما أدى الى تفاوت المسؤوليات في حلها , وبدلا من الجلوس على طاولة الوطن الواحد للنظر الى هذا القطاع بمنظار فاحص ودقيق وتشخيص سلبياته ومعالجة مشاكله للنهوض به ليحتل دوره في بلد علم العالم أجمع القانون والنظام والكتابة . فهناك من الأكاديميين العراقيين من تعيش هذه المشكلة معه , ولكنه لايملك السلطة لأحداث التغيير , وهناك من عاناها سابقا وحاليا لكنه ساكت خوفا من أن يحسب على تيار معين فينتهي ,وهناك من يؤمن بالمقولة التي يرددها بعض اشقائنا ( أبعد عن الشر وغني له ) , وهناك مع الأسف الشديد من هو مستفيد من الوضع الراهن على حساب المبادئ العلمية والأنسانية دون اكتراث ولا يريد الحديث عن ايجاد مخرج للمشكلة , سواءً في التعليم العالي او بقية مرافق الدولة .
فهل لنا زملائي واخواني وأحبتي من كل العراق الجريح , أن نفهم عِظَم المشكلة في ابعادها الأنسانية والمادية والمؤسسية .هذه المشكلة بحاجة الى همَّة ومواجهة غير أعتيادية , وان نعمل بروح الوطنية العراقية الخالصة لنجد الحل الجذري كي نعيد للعلم هيبته وللوطن أمله وللأجيال الطمأنينة , ونعطي زملائنا الذين ارقتهم هذه المشكلة , الطمأنينة , ونقدم للآخرين الوعي الكامل ليدركوا خطورة المشكلة ومن ثم يشكلوا ذراعا آخر للسعي نحو الأصلاح .
وإستنادا الى ما ذكر تنبع أهمية ” أستراتيجية إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراق “كونها تتناول مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة التعليم , اي تعليم وبناء الأنسان بالشكل الذي يؤهله علميا وأجتماعيا وثقافيا للمساهمة في بناء الوطن . فكما هو معروف لدى الجميع , فأنه من خلال التعليم يتم تزويد الفرد بالمعرفة والمهارةالمطلوبة التي تجعل منه انسانا قادرا على المساهمة في البناء المادي للمجتمع . ناهيك عن مساهمة التعليم بشكل اساسي الى ترسيخ القيم النبيلة لدى الأنسان , وتحديد السلوك الواعي والشعور بالمسؤولية الأجتماعية , فضلا عن ترسيخ وتثبيت الرؤى السليمة للفرد , ورسم الطريق الصحيح لمصير المجتمع الواعد بالنهوض والرقي والتقدم . إذا ليس القصد هي المعرفة فحسب , بل السعي نحو تشكيل البناء القيمي للأنسان والمجتمع , وهذا ما نحن بأمس الحاجة اليه الآن .
إذا يلعب التعليم العالي والبحث العلمي دورا بارزا وأساسيا في التنمية المادية والقيمية للمجتمع بأكمله , مما يؤدي الى تحديد المستوى الحضاري له من خلال كشف وأظهار القدرات الخلاقة للأنسان التي تقود عمليات التنمية الأقتصادية والأجتماعية للبلد , والتي تستند الى قدرة الفرد في تحليل الواقع وتشخيص المشكلات ومعالجة العوامل التي تؤثر فيه .فضلا عن دور التعليم العالي والبحث العلمي في كشف الواقع الذي يعيش فيه ثم العمل على تسخير مكونات هذا الواقع بأسلوب اكثر رقي وأعلى مستوى من الناحيتين الأنسانية والمجتمعية .
وتأسيسا على ما ورد , لابد لجميع الزملاء الأفاضل من العمل بجدية وبأسلوب تتفاعل فيه الطاقات الفكرية الخلاقة مع العمل الأبداعي لتؤسس اللَّبِنات الأولى لإعادة إعمار البلد . وهذا يعني ما تريدونه ايها الزملاء الأفاضل من التعليم , وما يجب ان يكون عليه المجتمع من تغيير جذري لمواكبة التطور في العالم واللحاق بركب الحضارة . فإذا كان الأمر كذلك فإننا نكون قد جعلنا من التعليم العالي والبحث العلمي حالة قيمية أخلاقية انسانية برسالتها وتوجهاتها , فضلا عن السعي بخطى حثيثة نحو المساهمة في ركب الحضارة العالمية الأنسانية بجوانبها الأخلاقية والعلمية . إذا فنحن امام تحديات كبيرة , منها ماهو متعلق بأنماط التعليم الحديث , ومنها ما هو متعلق بالأعتمادية وضمان جودة التعليم , ناهيك عن استخدام الوسائل التقنية الحديثة في مجال التعليم بشكل عام , والتعليم العالي على وجه الخصوص .
إذا حان الوقت لتتكاتف الجهود الخيرة من أجل إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي , وأن نقبل التحدي ونواجهه بالأصلاح لهذا القطاع , مستعينين بذلك بالله اولا و بالعلم والتقنية , كي نستطيع مواكبة التقدم المذهل في عصرنا الحاضر . أما إذا اهملنا هذا الجانب وبقي التعليم كما هو الآن بمدخلاته المتعددة , منها التدريسي الحائر في نفسه وضعه العلمي وذاته , كذلك الطالب الذي لايعرف طريقا لمصيره ومستقبله , والمنهج الذي بقي كما هو منذ عقود دون تحريك في مفرداته .
وأنطلاقا مما ذكر , لابد من طرح مشكلة التعليم العالي بمدخلاته المتنوعة وأبعاده العلمية والأجتماعية والتاريخية , وأن ندرك جميعا هذا الواقع بشكل موضوعي وواقعي كي نستطيع وضع الحلول المناسبة له ووفق معطيات البيئة العراقية .
عليه فإن المشكلة في التعليم العالي والبحث العلمي تتحد بعدم وضوح الرؤية لأستراتيجية محددة لأصلاح التعليم العالي في العراق على ضوء المعطيات والمتغيرات والظروف التي يمر بها البلد , بحيث تساعد على ايجاد حالة من التوائم بين طرفي المعادلة الأساسية للتعليم العالي وبين المناهج بأسلوب متطور بالشكل الذي يساعد على تحقيق الأهداف .
وإنطلاقا من ذلك , فألهدف هو امكانية صياغة أستراتيجية لأصلاح التعليم العالي لخدمة بلدنا والمساهمة في إعادة بنائه.
وبغية تحقيق ذلك ستحاول هذه الورقة من الأجابة على التساؤلات الآتية :
هل يمكن للتعليم العالي ان يسهم في تغيير الواقع الحالي رغم امكاناته المحدودة في الوقت الحاضر , ورغم بروز قيم لا يمكن مقارنتها بالقيم السائدة في الجامعات العالمية سواءً المتقدمة منها او غير ذلك ؟
كيف يمكن للتعليم العالي العراقية من ارساء وتعزيز القيم الأكاديمية التي تنسجم مع التقاليد الأجتماعية النبيلة التي كانت الجامعات اساسا لذلك ؟
هل يمكن للجامعات ان تساهم في ايصال المجتمع الى الحالة التي يرى فيها المجتمع نفسه الأداة التي تذكي روح المواطنة وتعزيز الوحدة الوطنية , بدلا من الصراعات التي يشهدعا البلد حاليا ؟
هذا ما ستجيب عليه هذه الورقة من خلال تناول محاور عديدة وكالآتــــــــي :
– المدخلات الأساسية لنظام التعليم العالي والبحث العلمي
أولا : التعليم الجامعـــــي
ثانيا: التعليم التقنـــــــــي
ثالثا: الدراسات العليـــــا
رابعا: البحث العلمـــــــي
– الأستنتاجات والتوصيات وألأستراتيجيــــــة المطلوبـــة
أولا : التعليم الجامعـــــي :
مما لاشك فيه بأن الجامعة نظام متميِّز بطبيعته ومهامه , عن بقية الأنظمة التي تتشكل منها الدولة . وهو منبرا للعلم والفكر والمعرفة التي تدعم مسارات التطور لبقية الأنظمة وتعمل على نقلها من حالة الى حالة افضل تطورا ورقيا . فالنظام الجامعي لايمكن فصله عن المجتمع الذي يعيش فيه فهو يتأثر بالظروف السائدة فيه ويؤثر فيها ايضا, فضلا عن أرتباطه وسعيه نحو افضل المستويات العلمية في بقية انحاء العالم , والمتقدم منه على وجه الخصوص . فالفرق يكمن في مستوى التطور العلمي كنتيجة للأختلافات التي تتميَّز بها بعض المجتمعات عن الأخرى . وهذا يعني بأن حركة التطور المجتمعي مقرونة بالحركة العلمية فيها . وبما ان الجامعة منبرا للعلم والمعرفة والفكر فهي الأساس في بناء نهضة المجتمع وتطوره حاضرا ومستقبلا .
إن الوضع الراهن في البلد بكل تفاصيله وتداعياته الأمنية والسياسية والأجتماعية والأقتصادية تفرض على الجامعة مسؤولية مضاعفة من نواحي متعددة , منها السعي وبكل الوسائل المتاحة لمواكبة الجهود التي تبذل في سبيل تجاوز المحنة التي يعاني منها البلد من خلال إذكاء روح المواطنة وتعزيز الوحدة الوطنية , وجعل الجامعة منبرا للتآخي ومنارا للعلم والمعرفة . من جانب آخر السعي نحو تلافي السلبيات وإزالة المعوقات التي تعترض طريق التعليم الجامعي , من خلال التركيز على تحديث اساليب التدريس وإستخدام التقنيات الحديثة في التعليم , والعمل بشكل جاد ومسرع لمحو أمية الحاسوب لدى اعضاء هيئة التدريس والعاملين في الأدارات المختلفة للجامعات والكليات والمعاهد ومراكز الأبحاث والمكتبات . أضافة الى دور الجامعات الريادي في تكوين الرؤية الواضحة للوضع الحالي والمستقبلي للبلد .
عليه فالجامعة هي دوما متقدمة برؤيتها للمجتمع ورائدة في مجال التطوير والبحث العلمي , مما يتوجب عليها وفي ظل الظروف الراهنة أن تكون رائدة كذلك في انشطتها وعناصرها نظرا لقدرتها على فهم الواقع المجتمعي بشكل اكبر من بقية المفاصل في الدولة . وبغية الوصول الى ما ذكر آنفا لابد للجامعات ان يكون لها فلسفة واضحة تستطيع من خلالها تشخيص الواقع والعمل على تغييره .ثم السعي نحو صياغة أستراتيجية شاملة تتضمن الأبعاد الرئيسية لكل مرحلة مع تحديد آليات العمل ووفق خطة مرسومة بدقة مستوحات من الواقع الذي يعيشه البلد , فضلا عن تحديد البرامج المطلوبة التي تترجم الأهداف الى سياقات وجداول عمل بغية تنفيذها بشكل فعال وسليم .
إذا بهذا المعنى تكون الجامعة القدوة في السلوك الفردي والجماعي , ذلك السلوك الذي تتجسد فيه القيم العراقية الأصيلة وألأخلاق النبيلة التي تتفاعل من أجل تهيئة الظروف المناسبة لتربية النفس الأنسانية الصافية , والتي تؤدي بدورها الى تشكيل المناخ العلمي والأخلاقي والأجتماعي والديمقراطي التي تكون القاعدة الأساسية للتغيير والبناء لمختلف قطاعات المجتمع العراقي .
وإستنادا الى ذلك , فإن التعليم العالي يسعى الى تكوين البناء المستقبلي للمجتمع , مع التأكيد على الأهتمام بمتغييرات الحاضر وتسخير امكاناته بشكل يخدم المستقبل . هذه الحالة تتطلب أستراتيجية واضحة المعالم والأتجاهات كي تستطيع تغيير واقع التعليم العالي والبحث العلمي بمدخلاته الأساسية بشكل عام وتغيير وتحديث التعليم الجامعي بكل مدخلاته الرئيسية , وكذلك التعليم التقني , إضافة الى الدراسات العليا والبحث العلمي .
فإذا كان الأمر كذلك , فلابد لنا من نظرة فاحصة ودقيقة لواقع جامعاتنا وما تتوفر لها من أمكانات وموارد وتشخيصها بشكل يخدم دورها الريادي في بناء وتطوير المجتمع العراقـــي . وكما هو معروف لدى زملائنا الأفاضل بأن الجامعة كنظام له مدخلات أساسية وفيه عمليات وله مخرجات , لابد لنا في هذه الحالة من دراسة هذه المدخلات لنتعرَّف على واقع كل مُدخَل عن كثب وتلافي السلبيات ان وجدت وتصحيح المسارات المنحرفة عن الخط العام للنهوض كي تستطيع الجامعة حينئذ القيام بدورها العلمي والأنساني والحضاري .
وأتساقا مع ما ورد , فإن المدخلات الأساسية يجب ان تحظى بأهتمام بالغ ألا وهي كل من ألأستاذ الجامعــي والطالب والمنهج , فضلا عن المخلات المادية من بنية تحتية مادية وتقنية , وإدارات . فكلما استطعنا التركيز على المدخلات الأساسية وأختيار النوعية بشكل سليم , وفحص مقومات هذا الأختيار منها على سبيل المثال لا الحصر , نظام القبول الجامعي , والمنهج الذي سيستخدم في التعليم , كلما كانت المخرجات تلبي حاجات المجتمع وتحقق أهداف التعليم العالي
1 – الأستاذ الجامعــي :
مما لاريب فيه , ان الأستاذ الجامعي يشكل أحد المدخلات الأساسية والفعالة لنظام التعليم الجامعي , وحجر الزاوية لهذا النظام . فمن خلال الأستاذ الجامعي يمكن الحكم على صحة قواعد هذا النظام , وفاعلية أدائه العلمي والتربوي , فضلا عن مساهمته وبشكل فعال على تحقيق أهداف النظام التعليمي الجامعي . ولما كان الأمر كذلك بالنسبة للأستاذ الجامعي , فإن ذلك يضعه في موضع من المفروض ان تهيء له كل مستلزمات الحياة الحرة الكريمة والحقوق المتميزة كي يستطيع التفرغ لمهامه وأدائه لمسؤولياته والتزاماته العلمية والتربوية التي تتساوى وتلك الحقوق , بشكل يحقق أهداف التعليم الجامعي .
إن النظر الى الواقع الذي يعيشه الأستاذ الجامعي منذ سنوات طوال منها عشرون سنة عجاف , اثقلته الأعباء المعيشية والمهنية مما حجمت نشاطه وأضعفت قدرته , وأختل عطائه ان لم يكن قد اختفى , مما شكل حاجزا ومانعا بينه وبين قيامه بأداء واجباته ورسالته . ناهيك عما يلاقيه اليوم من قتل و خوف وارهاب وأبتزاز وأخططاف له او لأحد افراد اسرته .هذا الواقع المرير يبين لنا الفجوة الواسعة بينه وبين ما يطمح اليه التعليم العالي .فلابد من ان تتكاتف كل الجهود الخيرة من ابناء البلد وعلى مختلف الأصعدة السياسية والأكاديمية والدينية بغية مساعدة الأستاذ في ممارسة مهامه وأداء مسؤولياته بحرية وأستقلال بعيدا عن كافة اشكال التوتر في البلد .
فإذا ما نظرنا الى تلك المهام والمسؤوليات فيمكن تحديدها بجوانب اساسية هي الجانب التدريســـي , وجانب البحث العلمي , واخيرا الجانب الفكري , هذه الجوانب المترابطة مع بعضها البعض والمتناغمة في نسيجها العلمي والمعرفي يجعل منه استاذا ومربيا , وباحثا يزداد من العلم والمعرفة بسطة , فضلا عن ان الجانب الفكري يعمل على توسيع مداركه الفكرية والتنظيرية . هذه الجوانب الأساسية والمتفاعلة فيما بينها هي التي تكشف سلوك الأستاذ المتميز وتكشف الدور البارز له في عملية تحقيق الأهداف .
وأستنادا الى ما ذكر لابد للأستاذ ان يواكب حالة التطور في مجال تخصصه بالشكل الذي ينمي قدرته الذاتية ويخلق منها حالة ابداع في ممارسة التدريس وطرح آخر مستجدات العلم , فضلا عن دور البرامج التدريبية والخبرة المكتسبة من خلال العمل والممارسة .وحريٌّ بنا ان نشير الى ضرورة مواكبة الأستاذ لكل اشكال التطور في الأساليب المستخدمة والمتطورة في التدريس والأبتعاد عن الطرق التقليدية التي اكل عليها الدهر وشرب , ولابد من استخدام التقنية في هذا المجال . وهنا نذكر بدور إدارات الجامعات الأساسي في العمل الجاد وفق برنامج وأستراتيجية واضحة لمحو الأمية في استخدام الحاسوب وبرامجه المتنوعة التي تسهل مهمة الأستاذ الجامعي بشكل افضل وتحث الرغبة لدى الطالب لتلقي العلم بأساليبه الحديثة .
كما انه يجب اعطاء الأستاذ الجامعي الحرية الكاملة في اختيار مفردات المنهج الذي سيدرسه لطلبته والمصادر التي يراها مناسبة لذلك , مع التركيز على دراسة الحالات من الواقع الذي يعيشه البلد كي نستطيع ربط الجوانب النظرية بالجوانب العملية الواقعية للبيئة التي يعيش فيها كل من الطالب والأستاذ .
ومن الجدير بالذكر , ان ضعف الأداء وعدم القدرة على الحركة في الساحة العلمية بشقيها التدريسي والبحثي لبعض التدريسيين من حملة الدكتوراه والماجستير , كانت نتيجة للسياسات الخاطئة للنظام السابق بتبني سياسة القبول في الدراسات العليا والعمل على تخريج حملة الشهادات العليا الدكتوراه والماجستير بأقل فترة ممكنة , والتغاضي عن المعايير والشروط الموضوعية , لتلافي النقص الحاد في اعضاء هيئة التدريس في الأقسام المختلفة للكليات والمعاهد نتيجة هجرة الكفاءات من حملة الشهادات العليا , وبشكل خاص الدكتوراه , نتيجة للتدهور الأقتصادي والأجتماعي والعلمي منذ بداية الثمانينيات وحتى نهاية النظام السابق . هذه السياسة الخاطئة أدت الى ان يشرف البعض من التدريسيين على الرسائل العلمية من هو غير مؤهل لهذه المهمة العلمية الكبيرة وكما هو معروف ( فاقد الشيء لا يعطيه) , مما انعكس سلبا على نوعية الخريج الذي اصبح استاذا ويقوم بالمهام التدريسية . هذا من جانب ومن جانب آخر عمل النظام السابق على التخفيف والتغاضي عن بعض الشروط الموضوعية والشكلية للترقيات العلمية مما ادى الى ترقية البعض الى مراتب علمية لايستحقونها , والغرض من ذلك كي يكون مسوغا للأقسام العلمية للمضي في سياسات قبول الدراسات العليا وخاصة الدكتوراه كي تكون مطابقة للمعايير المتعارف عليها عند استحداث الدراسات العليا في قسم من الأقسام . أضافة الى ذلك الأختلالات التي سادت سلم المراتب العلمية في الأقسام والكليات , حيث ازدياد عدد اعضاء هيئة التدريس من حملة الماجستير والبكالوريوس ومن هم بمرتبة ( مدرس مساعد ) وانخفاض نسبة اعضاء هيئة التدريس من حملة الدكتوراه ومن هم بمرتبة (أستاذ مساعد) و (أستذا) بسبب الهجرة خارج الوطن لأسباب عديدة منها ما هو متعلق بالسياسات الخاطئة للنظام السابق , وللكليات والجامعات التي اصبحت أداة للدعاية السياسية له وعدم القدرة على تغييرها , ومنها ما هو بسبب الأوضاع الأقتصادية المتدهورة , ومنها ما هو متعلق بالحصار الذي فرض على البلد من جميع الجوانب , ومنها الجانب العلمي وعدم القدرة على التواصل مع الحالة العلمية المتطورة خارج البلد مما ادى الى ان يهاجر العديد من الكفاءات . ناهيك عن عدم وجود خطة علمية مدروسة بأحكام لتحديد الأحتياجات الفعلية للتخصصات المطلوبة .
وحريٌّ بنا ان نشير الى مسألة الأعباء التدريسية التي يتحملها عضو هيئة التدريس في البلد مقارنة بمثيله في الجامعات العربية او الأجنبية , سواءً من حيث عدد الساعات او عدد الطلبة .
إن القبول في التوسع الكمي على حساب الجانب النوعي سواءً على مستوى التدريسي او مستوى البحث العلمي ادى الى ضعف المستويات التعليمية . او ليس آن الآوان لصياغة استراتيجية لمعالجة الخلل ؟
2 – الطالـب :
يعد الطالب احد أهم المدخلات الأساسية في نظام التعليم العالي , لابل السبب في وجود هذا النظام .فالعملية التعليمية بمكوناتها وعناصرها تتمحور حول الطالب ومن أجل الطالب بغية اعداده اعدادا سليما ليكون رجل المستقبل في قيادة وإدارة قطاعات الدولة المختلفة .فالمناهج والفردات وأساليب التدريس وألأساتذة والمستلزمات المادية جميعها في حالة تفاعل فيما بينها وبشكل مستمر سعيا وراء تأهيله علميا وفكريا وسلوكيا من خلال المنهج الذي يتلقى منه المعرفة والمهارة المطلوبة , فضلا عن اهمية الأدارة الجامعية في ايجاد صيغ التواصل والتفاعل بين اركان العملية التعليمية الأساسية الأستاذ والطالب .ناهيك عن اهمية المستلزمات المادية التي تهيئ الأجواء المناسبة والمتناغمة بين الأركان الرئيسة للتعليم الجامعي .
فالطالب الجامعي لم يكن احسن حظا من أستاذه ومربيه , سواء اقتصاديا او اجتماعيا او سياسيا . فمر بالظروف ذاتها التي مر بها الأستاذ سابقا, فقد عانى لسنوات طويلة نتيجة الحصار الذي كان مفروضا على البلد , مما اضطره الى ايجاد مصدر رزق يمكن مساعدة اهله فمنهم من ترك مقاعد الدراسة ومنهم من حاول عبثا ان يوفق بين العمل والدراسة ولكن كانت في افضل الأحوال على حساب الدراسة والمستوى العلمي . وحاليا يعاني من عدم الأستقرار الأمني بما فيه من قتل او خطف او تهديد .إن مرحلة التعليم الجامعي تعد من اخطر مراحل حياة الطالب الشاب , حيث يدخل الجامعة ومعه الضغوط والتأثيرات والظروف التي تسود المجتمع والتي ساهمت في تكوين شخصيته مما تنعكس وبشكل مباشر من خلال سلوكه في مسيرته التعليمية الجامعية , مستحضرا تطلعاته المستقبلية التي ستحققه له الجامعة فمنهم من يستمر على ذلك , ومنهم من تتشابك امامه الصور نتيجة للأوضاع غير الأعتيادية التي تسود الجامعة وكجزء من المجتمع والبيئة التي تتواجد فيها فيكون هدفا سهلا لأمور لا يدرك نتائجها السلبية عليه وعلى المجتمع ايضا .
عليه لابد لأدارات الجامعات في البلد من تبني خطة مسؤولة تستطيع من خلالها ان تزرع الأمل والقييم النبيلة وروح الموطنة فيه , إضافة الى تزويده بالمهارات المطلوبة كي تخلق منه مواطنا منتجا , وبالمعرفة كي يكون قادرا على تحمل مسؤولياته والتعامل مع انماط الحياة المختلفة . هذه المسؤولية الأخلاقية والعلمية للجامعة كقطاع رائد في المجتمع , يجب ان تكون وفق أستراتيجية واضحة ورسالة شاملة للمساهمة في بناء العراق الجديد . وهنا من المفيد ان نشير الى اهمية دراسة واقع الطالب في مرحلة التعليم الثانوي وما تحويها هذه المرحلة من سلبيات حيث تنعكس بالنتيجة على وضع الطالب في المرحلة الجامعية .
إن واقع الطالب الجامعي سابقا وما تضمنه من فقدان للأمل بعدم جدوى تحصيله العلمي , وانه سوف ينخرط في الخدمة العسكرية ويتوجه للحرب التي انهكت البلد والشعب اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا , مما ادى به الى التشبث بشتى الذرائع والحجج قانونية ام غير ذلك في سبيل إطالة مدة الدراسة بأكبر قدر ممكن إن امكنه ذلك أو ترك الدراسة . فتولدت حالة نفسية لدى الطالب ادت الى ضعف تحصيله العلمي , وضعف القدرة الذاتية للأعتماد على النفس في التحصيل العلمي , وانعدام الرغبة في البحث العلمي لديه , ناهيك عن ضعف الثقافة العامة التي من المفروض ان تكون عالية عند الطالب الجامعي . إن من اخطر المسائل التي انغرست في نفوس الطلبة في المرحلة الجامعية سابقا هي فقدان الثقة بأدارة الجامعة كمؤسسة علمية تربوية نتيجة تحولها الى أداة بيد النظام السابق لتهيئة وإعداد وجمع الطلبة لمآرب سياسية حين الطلب . هذه الحالة تعمقت بشكل كبير مما ولدت تصورا لدى القادمين الجدد الى المرحلة الجامعية وكوَّنت الصورة المشابه للسابق في الوقت الحاضر , فضلا عن ادراكه بعدم قدرة الجامعة على إحداث اي تغيير في مسارات الحياة الجامعية العلمية منها والأجتماعية على حد سواء نتيجة لضعف الأدارات الجامعية وأنعدام روح المبادرة لمعالجة بعض الأوضاع . الأسباب في ذلك متنوعة منها انعدام الكفاءة بمستوياتها الأدارية والعلمية لدى قيادات الجامعات وعدم امتلاكها للرؤية الواضحة لطبيعة العمل الجامعي في المرحلة الراهنة .
إذا لابد من العمل بشكل جاد ومسؤول , بعيدا عن المحسوبيات الحزبية والمحاصصة الطائفية والعرقية والدينية , لأيجاد الأدارات الجامعية الكفوءة علميا وإداريا كي تؤدي واجبها المطلوب تجاه المجتمع . ومن ثم القدرة على تحقيق التوازن بين المؤثرات التي يحملها الطالب نتيجة التفاعلات الحاصلة بين عناصر بيئته الأجتماعية وبين عناصر البيئة الجامعية .
إذا إحداث التوازن المطلوب بغية تحقيق الأستقرار النفسي للطالب , ورفع مستواه العلمي والأرتقاء بتحصيله العلمي والبحثي تستوجب الرؤية الشمولية لما يحيط به من متغيرات وتأثيرات في محيطه الجامعي والمجتمعي .
3 – المنهـــاهج والمقررات الدراسية :
لاريب في ان للمناهج والمقررات الدراسية الأثر البالغ في إعداد الطالب علميا وتأهيله بالشكل الذي يستطيع من خلاله مواجهة الحياة بعد تخرجه .فمناهج الجامعات في البلد ما زالت كما كانت منذ عقود دون اي تغيير او مواكبة للتطورات الحاصلة في العالم . ناهيك عن كون الكثير من المفردات وضعت بشكل تخدم فلسفة النظام السابق . إذا الشهادة الجامعية التي يحصل عليها الطالب في اغلب الكليات لا تؤمِّن له وظيفة او عمل , والسبب في ذلك هي الفجوة الكبيرة بين منهج التعليم وبين المهارة والقدرة المطلوبة وفقا لأحتياجات سوق العمل هذا من جانب , ومن جانب آخر فإن اسلوب تقييم الطالب في مختلف مراحل التعليم الجامعي تتمحور بالدرجة الأساس على ما يتم تحصيله من درجات , وإن تمت بطرق غير مشروعة . وهذا يعني أن معيار التفوق هو الدرجة التي يحصل عليها الطالب , رغم انها ليست المعيار في الحياة العملية , وهذا ما نلاحظه اليوم عند البعض وهي عدم القدرة على القيام بالعمل الموكل اليه بنفس درجة تفوقه المثبتة في شهادته الجامعية .
وتأسيسا على هذا , يمكن القول بان المناهج والمقررات الدراسية في المراحل الجامعية لا تتوافق وحاجات سوق العمل .
وهنا لابد من الأشارة الى ان اسلوب وضع البرامج الدراسية ومقرراتها لاتتم وفق الأحتياجات الأساسية لسوق العمل , فضلا عن التقليد الأعمى للكليات والجامعات في العالم وبشكل خاص الدول المتقدمة , والتباهي بأن القسم او الكلية تستخدم المفردات والمقررات الأكثر تطورا في العالم , في حين الواقع يقرأ عكس ذلك .
ومن الجدير بالذكر ايضا , بان التركيز في المقررات والمناهج على التخصصات الدقيقة كما هو الحال في بعض الكليات إن لم نقل اغلبها , على سبيل المثال لا الحصر كالمفردات والمقررات الدراسية لأقسام كليات الأدارة والأقتصاد في العراق. فمثلا في قسم أدارة الأعمال يتم التركيز على التخصصات الدقيقة لوظائف المنشأة مثل ‘دارة الأنتاج , والتسويق , الإدارة المالية وغيرها.مما أدى بالتدريسي الى استخدام الأسلوب التحليلي في شرح المادة وعرضها , متناسيا اهمية استخدام الأسلوب الذي يخلق القدرة لدى الطالب على الربط بين ما يتلقاه من علم ومعرفة وبين الواقع الذي سيعمل فيه , اي بمعنى عدم قدرته على تطبيق الجوانب العلمية المكتسبة في الواقع نتيجة لإفتقاره الى الرؤية التكاملية بين الوظائف المتختلفة للمنشأة والتي سيمارس فيها عمله بعد التخرج إن حصل ذلك . فضلا عن الأسلوب التقليدي المستخدم في تلقين الطلبة دون إشراكه في تحمل المسؤولية مع الأستاذ في عملية التعليم . فالطالب يتلقى المعلومة دون أن يمارسها ويقرأ النظرية دون تطبيقها .فكيف يمكن لمنهج او مقرر بهذه الصيغة ان يخدم التعليم العالي ويسعى الى تحقيق أهدافه ؟. اوليس ممارسة استخدام الحاسوب عمليا افضل وسيلة لتعليم الفرد على الحاسوب الآلي ؟
من جانب آخر , نجد التطور المذهل في تقنية المعلومات والأتصالات والتي باتت عصب الحياة في البلدان المتقدمة, حتى استخدمت المصطلحات الحديثة وفق ذلك كتقنية المعلومات في الأدارة , والأقتصاد الرقمي , واستخدام تقنيات المعلومات في العلوم المختلفة مما يفرض الحاجة الملحة في إدخالها الى المناهج والمقررات الدراسية , ومن ثم العمل على تهيئة المناخ المناسب لأعداد الطالب مهاريا قادرا على التعامل مع تلك التقنية , ومواكبة حالة التطور في العالم .
4 – البحث العلمـي :
مما لاشك فيه أن الهوة التكنولوجية والعلمية بين الدول المتقدمة والدول النامية تزداد بوتيرة خطيرة , وإن لم نكن قادرين على مواكبة الركب من خلال بعض الخطوات التي يجب ان نقوم بها وبدون تردد فسوف لن ولم نستطيع بعد فترة من الزمن ليست ببعيدة ان نلحق بعجلة التقدم في العالم . إن الأستمرارية الحاصلة في الدول الصناعية المتقدمة في السيطرة والأستحواذ على المفاصل الأساسية لأدوات العلم والمعرفة والأختراعات , والتفوق الهائل على الدول النامية في المجالات كافة بشكل عام , والبحث العلمي بشكل خاص , أدى الى زيادة الفجوة العلمية والتكنولوجية . فالقصور في الأنفاق على البحث العلمي بشقيه التطبيقي والأساسي في مجتمعنا ساهم ويساهم بشكل كبير على اضعاف قدرتنا على مواكبة التطور في جميع مرافق الحياة , ومنها التعليم العالي والبحث العلمي يجامعاته ومعاهده ومراكزه البحثية وغيرها .
فلو دققنا النظر في جانب البحث العلمي في الجامعات العراقية بشكل فاحص لوجدنا عدم وجود آلية هيكلية تحدد النشاط البحثي لعضو هيئة التدريس وعدد الساعات التي يجب قضاؤها في العمل البحثي وفق برنامج مرسوم وخطة موضوعة بشكل سليم , كما هو مطلوب ومرسوم من ساعات التدريس الأسبوعية اضافة الى النشاط الأداري سواءً في أدارة الأقسام او اللجان المختلفة داخل الكلية او القسم الواحد .
إذا التوازن بين المهام التدريسية والنشاط البحثي لعضو هيئة التدريس ضرورة اساسية إذا ما اردنا ان نقارن انفسنا بالعالم الآخر .حيث يسعى العالم المتقدم الى ايجاد افضل السبل وإتباع احسن الطرق في تحقيق حالة التوازن بين المهمتين , لابل أستخدام الدعم المادي والمعنوي بشكل كبير لتسهيل مهمة الباحث التدريسي لأداء هذه المهمة بكفاءة وفاعلية . فإذا نظرنا الى الوقت المخصص لعضو هيئة التدريس في الجامعات الرصينة لوجدناه يشكل ضعف الوقت المخصص للتدريس , فضلا عن توفير كافة المستلزمات المادية له , من حاسبات الكترونية وملحقاتها وأدوات مكتبية ومستلزمات قرطاسية متنوعة تسهل عمل الباحث التدريسي بيسر وسهولة .
وإذا ما نظرنا الى حالة الباحث التدريسي سواءً قبل سقوط النظام السابق او بعده , لأدركنا حقيقة أنخفاض المستوى النوعي للبحث العلمي , وأعتماده كوسيلة فقط للحصول على الترقية العلمية أو لكسب مبلغا زهيدا جدا من المال رغم انها لاتخفف العبء المادي له .ناهيك عن البيروقراطية والروتين الممل , فإذا اردت كباحث ان تطلب ورقا او قرطاسية فعليك تقديم مذكرة الى رئيس القسم وبدورها تتحول الى عميد الكلية وتعقد المشاورات لتحصل على ماتريده ان حصلت الموافقة . فأي رغبة تبقى لدى الباحث واي حافز موجود يحرك الطاقات الكامنة للباحث كي يبدع في مجال تخصصه .هذا مثل بسيط جدا امام المعوقات التي يضعونها امام الباحث المخلص والمبدع في عمله والتدريسي الناجح بكل المقاييس .
فهل ينقصنا المال كبلد مثل العراق , ام نفتقر الى العقول في بلد علم العالم معنى الحضارة . أم ماذا ؟ سؤال بات يعيش في اعماقي ويؤرُّقني ولم اجد تفسيرا مقنعا له . هذا ما ادى الى تدهور وضعف المستوى للبحث العلمي , فضلا عن انعدام الأمكانات المادية والمعنوية لخلق مدرسة عراقية متميزة وفاعلة في مجال البحث العلمي .
5 – الجوانب الأدارية والعلمية :
لقد ذكرنا سابقا بان الجامعة كنظام له مدخلاته الأساسية تتفاعل فيما بينها في عمليات ووفق برامج وخطط مدروسة لتحقيق الهدف وهي المخرجات من تلك العمليات . فكما للأستاذ دور بارز في هذه العملية ,كذلك للأدارة الجامعية الأثر البالغ في تحقيق الأداء الفعال لهذه العمليات , حيث تعد الأدارة الجامعية الركن الأساس في العملية التعليمية . فوجود أدارة جامعية متميزة في خصائصها استراتيجية في نظرتها للواقع والمستقبل , علمية في توجهاتها وكفؤة في أدائها , تستطيع خلق حالة الأبداع والأبتكار والنهوض بالمستوى العلمي للتعليم العالي ومن ثم تحقيق الهدف المنشود . فأفتقار الجامعات العراقية الى مثل هذه الصفات في قياداتها الأدارية والتي تعجز عن امتلاك الروية الفاحصة والدقيقة , وغياب الأستراتيجية السليمة كل ذلك ادى الى عدم قدرة الأدارات الجامعية على تحديد الرؤى الواضحة لطبيعة ومستلزمات العملية التعليمية الجامعية وما هي اتجاهاتها المستقبلية . ناهيك عن ضعف الكادر الأداري الكفؤ للأقسام والكليات والأدارات المختلفة في الجامعات , مما انعكس سلبا على طبيعة العلاقات الأدارية بين الكادر التدريسي وبين هذه الأدارات بما تتضمنه من ضعف في الأجراءات الروتينية وتعقيد في القضايا والمعاملات سواءً العلمية او الشخصية للكادر التدريسي .ناهيك عن الضعف الموجود في المكتبات ومراكز الأبحاث والمختبرات وما تحتويها من مستلزمات مادية وبحثية ومن مصادر علمية متطورة حديثة في مادتها . فضلا عن النقص الحاد في استخدام التقنيات الحديثة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي .
ثانيـــا : التعليـــم التقنــــــي :
يعد التعليم التقني مدخلا مهما ضمن مدخلات نظام التربية والتعليم لأي بلد .فهو القطاع المسؤول عن رفد البلد بكوادر من القوى العاملة الماهرة منهم والتقنيين والأختصاصيين في شتى المجالات التي تحتاجها عمليات التنمية الأقتصادية والأجتماعية في البلد .
إذا التعليم التقني عبارة عن نظام تعليمي له مدخلاته ايضا تتفاعل بطريقة دينامكية مستمرة تؤدي الى مخرجات تتمثل بالخريجين من القوى العاملة المعدة اعداداً تربويا وسلوكيا ضمن مساحة مهارية تتضمن مقدرة عملية وعلمية تتوائم ونوعية ومتطلبات العمل . ولهم دور فاعل ومؤثر في محيط عملهم المتنوع من حيث التشغيل والأنتاج وأعمال الصيانة والأدامة للخدمات المختلفة وفقا للجداول والخطط لبلوغ الأهداف المرجوة.
فالبرغم من الدور الذي يلعبه هذا النظام التعليمي في اعداد وتكوين القوى العاملة وفق الخطط والبرامج المطلوبة , إلا انه عانى كبقية أنظمة التعليم من الأهمال . فعدم وجود أستراتيجية محددة وواضحة في مجال التعليم العالي بشكل عام والتقني بشكل خاص , وعدم قدرة التعليم التقني على استقطاب اعداد الطلبة بسبب محدودية الطاقة الأستيعابية له , مما ادى الة تزايد قبول الطلبة في التعليم الجامعي سواء قبل سقوط النظام السابق او في المرحلة الحالية ,مما يعني إزدياد عدد العاطلين عن العمل . وهذا مما له انعكاساته الأجتماعية والأقتصادية بحيث تشكل عقبة كبيرة امام مرحلة بناء العراق الجديد . إن عدم الأهتمام بشكل مطلوب بهذا القطاع من التعليم , ومحدودية مخرجاته من الخريجين التقنيين مقارنة مع مخرجات الجامعات ادى الى نقص كبير في نسبة الخريجين التقنيين . فلو نظرنا الى النسب العالمية لوجدنا انفي بعض الدول هناك أختصاصي واحد مقابل خمسة –الى-ثمانية تقنيين ,بينما الملاحظ في العراق هو قيام العديد من الأختصاصيين بعمل ومهام التقنيين , وهذا يؤشر النقص الكبير في اعداد الخريجين التقنيين .
وبناء عليه فإن الحاجة الملحة في ذلك تضع التعليم العالي في موضع المسؤولية الأولى لرسم سياسة محددة وصياغة استراتيجية واضحة لتحقيق التوازن المطلوب بين نسبة التقنيين والأختصاصيين من مخرجات النظام التعليمي بغية إعادة هيكلة القوى العاملة ومعرفة الخلل ومعالجة البطالة التي ازدادت نسبتها الى ارقام خيالية .
ومن هنا يتبين اهمية ودور التعليم التقني في معالجة المشاكل والمعوقات من خلال التأهيل والإعداد للقوى العاملة في المنظور الحالي والمستقبلي وبما يتوائم وحالة التغيير الحاصلة في البلد اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا .إن الحاجة الملحة تفرض على التعليم العالي والبحث العلمي من إتباع صيغ غير تقليدية في انماط التعليم بشكل عام والتقني على وجه الخصوص , وبما تتوائم وحالة العراق الجديد للأسراع بتنفيذ الخطط والبرامج لأعادة اعمار وبناء العراق .
إن العمل بوتائر غير تقليدية في سبيل استقطاب الشباب للألتحاق بالتعليم التقني , بما يتضمنه من حوافز مادية ومعنوية تحفز الطالب للأنخراط في برنامج التعليم التقني , يستوجب إصدار قانون يحدد فيه رواتب مجزية مقارنة بما يتقاضاه قرينه في القطاع الخاص سوف يؤدي الى رفد هذا القطاع بألأعداد المطلوبة لسد الفراغ الناجم في هيكل القوى العاملة .
واستادا الى ما ورد , لابد من سياسة تعليمية وتوجيهية وإرشادية مهنية واضحة بما فيها سياسة قبول ذات تأثير فعال ومؤثر في استقطاب الطلبة للتعليم التقني . هذه السياسة لابد ان تكون على مستوى التعليم في العراق وبتنسيق بين وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي .
ثالثا – الدراسات العليا :
تعد الدراسات العليا رافدا من روافد نهضة البلد وتطوره , وعاملا من عوامل الرقي لما تقوم به من دور أساسي في تقدم الحياة الثقافية الشاملة بأبعادها المختلفة سواءً العلمية منها او الأدبية او التكنولوجية . ناهيك عن الدور الفاعل التي تلعبها في مجال المعرفة المتخصصة , والسعي نحو تطويرها وتعميقها من جميع الأوجه من خلال البحث العلمي وما يرتبط بها من ابحاث ودراسات تسعى نحو تطوير المجتمع ورفده بالأمكانات والكفاءات العلمية المطلوبة في مختلف مناخي الحياة الفكرية والتربوية والأقتصادية والسياسية وغيرها من جوانب المعرفة العديدة . تلك النخبة من الكفاءات التي تقع على عاتقها مسؤولية التخطيط والتنفيذ والتوجيه والرقابة والأشراف ومن ثم التقويم ضمن محيط عملها , تلك الكوادر التي إذا ما اتيح لها الفرصة المتكافئة بالمشاركة فإنها ستقدر وبلا شك على قيادة عملية التغيير والتطوير في البلد بشكل فاعل وايجابي لجميع مرافق الحياة الأجتماعية بغية تحقيق الأهداف المرسومة , والتطلع نحو مجتمع ديمقراطي متقدم احتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتقنيا .
وتأسيسا على ذلك , لابد للتعليم العالي من إعادة النظر وبمنظار فاحص ودقيق الى طبيعة الدراسات العليا وبرامجها ومناهجها وكيفية تطويرها بالشكل الذي يقود الى بناء مجتمع عراقي معرفي ,من خلال استخدام قاعد المعلومات والأستفادة من الثورة المعلوماتية ورفد الدراسات العليا بأحدث الأبحاث والدراسات مما يساعد وبشكل فعال على ايجاد قاعدة رصينة من الكوادر والكفاءات ذات معرفة حقيقية بقضايا البلد ومشاكله ومن ثم معالجتها بالأسلوب العلمي لتحقيق الأهداف . إضافة الى دعم وتعزيز إمكانات الأقسام العلمية المختلفة في مجال الدراسات العليا من خلال فتح القنوات الأتصال المتعددة مع الأقسام والكليات الرصينة في العالم المتقدم للأستفادة من خبراتها وبرامجها في الدراسات العليا .وهذا ما سيقود الى التعرف على معارف ومنهجيات بحثية جديدة تساعد طلبة الدراسات العليا على تطبيقها في مشاريعهم البحثية ورسائلهم العلمية .
إن العمل على تطوير الدراسات العليا يتطلب جهدا خلاقا وإبداعا والتزاما بالموضوعية والعلمية في سبيل الوصول الى افضل السبل التي تكفل لطالب الدراسات العليا مستوى علمي جيد يستطيع من خلاله المساهمة الفاعلة في المسيرة العلمية , ومن ثم تطوير الجامعات من خلال رفدها بالكوادر المؤهلة علميا .
وهنا لابد من طرح المشكلة بكل جرئة وشجاعة , وهي ان واقع الدراسات العليا والبحث العلمي سابقا وحاليا يشير الى تدهور في رصانة المعايير المستخدمة في عملية قبول الطلبة , الى جانب الضعف الواضح في المستوى العلمي , نتيجة ضعف البعض من اعضاء هيئة التدريس في الدراسات العليا . فكما هو معروف لدى الجميع بأن الأستاذ هو محور تطور العملية التعليمية , والمفروض فيه ان يتمتع بقدرات ابداعية خلاقة قادرة على الأبتكار في مجال عمله وممارسا لأكتساب المعرفة والطريقة العلمية معتمدا بذلك على نفسه في متابعة المستجدات في مجال تخصصه ومواكبا لأحدث الموضوعات العلمية والنظريات كي يقدم لطلبته ما هو جديد ويكون لديهم الرغبة والحافز في المتابعة الذاتية ايضا بأعتباره الموجه والمرشد لطلبته نحو التعرف على مواطن المعرفة والتطورات الحاصلة في المجال العلمي والتكنولوجي .ناهيك عن اهمية معرفة اللغات العالمية كالأنكليزية مثلا , ما يتيح لعضو هيئة التدريس التعرف على احدث المصادر العلمية الأجنبية والأستفادة منها في أداء مهامه التدريسية والأشرافية . إذا يمكن القول بأن الدراسات العليا في البلد أمام تحديات كبيرة , منها ما هو متعلق [انماط التعليم الحديث, ومنها ما يتعلق بالأعتمادية وضمان جودة التعليم , منها مثلا المنهج والمرجع وعضو هيئة التدريس . فهل أن المنهج يتضمن تغطية شاملة للموضوعات الأساسية لمرحلة الماجستير او الدكتوراه ؟ هل ترتبط بالواقع وتعد الطالب اعدادا جيدا لعصر الثورة المعلوماتية واستخدام تقنياتها وتعلم احدى اللغات الأجنبية الحيَّة؟ هل ان المرجع العلمي المستخدم يتصف بالأصالة للمادة العلمية فيه ؟ ما هي درجة المستوى العلمي والموثوقية في المرجع المستخدم ؟ ثم ان هل للدراسات العليا القدرة على فرز المستوى العلمي والخلفية المعرفية لعضو هيئة التدريس المكلف بالدراسات مثلا ؟ , ما قدرة عضو هيئة التدريس في إدراك احتياجات طالب الدراسات العليا ؟ هل لديه القدرة على تنمية المهارات الفكرية التنافسية لدى الطلبة ؟ ما هي مؤهلاته وخبرته في تنمية الأتجاهات التحليلية والمهارية لدى الطالب ؟ او ليست هذه الأسئلة بحاجة الى اجابة وإجابة صريحة وموضوعية لرسم الأستراتيجية المطلوبة لإصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في البلد ؟ .
اما من الناحية المادية والأدارية فهناك العديد من العقبات التي توجد في طريق الدراسات العليا , منها عدم دعم الدراسات العليا بميزانية مستقلة تمكن القائمين عليها من تجهيز المكتبات بأحدث المصادر والدوريات والمجلات العلمية المختلفة الأجنبية والعربية , النقص الكبير في المستلزمات التي يحتاجها كل من الطالب والأستاذ معا لأجراء ابحاثهم , عدم وجود آلية تنظيمية وأدارية تسهل مهمة الدراسات العليا . فتطوير هذا الجانب واعني الدراسات العليا هو تطوير للبحث العلمي
وحرّيٌ بنا ان نشير الى ان الدراسات العليا وكبقية مدخلات التعليم العالي والبحث العلمي تعاني من غياب الأستراتيجية الواضحة في رؤيتها ونهجها للمستقبل , وعدم قدرتها على امتلاك فلسفة واضحة من جهة , وخطط رصينة في تصوراتها .
رابعا – البحث العلمـي :
إن الحديث عن البحث العلمي لايمكن فصله عن الدراسات العليا , نظرا للترابط والتكامل الوثيق بينهما من جوانب متعددة . حيث يشكلان ركنا اساسيا من اركان المعرفة الأنسانية في جوانب مختلفة .فعن طريق البحث العلمي والدراسات العليا يسعى سواءً الطالب او الأستاذ الى الوصول الى حقائق علمية تساهم في حل مشكلة ما والأجابة على التساؤلات التي تواجههم في مواقع عملهم او مناحي الحياة المحيطة بهم .
وقد اهتمت الدول المتقدمة اهتماما بالغا بالبحث العلمي تمثلت بالرعاية الكبيرة بالبحث العلمي والباحثين , والسخاء في الأنفاق في جوانبه المختلفة لأنه يشكل مقياسا للرقي الحضاري لها , وأداتها في تطوير واقعها الأقتصادي والأجتماعي بكل جوانبه .فأزدادت الهوة التكنولوجية والعلمية بينها وبين الدول النامية بوتيرة خطيرة , فإن لم نكن قادرين على مواكبة الركب من خلال بعض الخطوات التي يجب ان نقوم بها وبدون تردد , فسوف لن ولم نستطيع بعد فترة من الزمن ليست ببعيدة أن نلحق بالعالم المتقدم . إن الأستمرارية الحاصلة في الدول الصناعية المتقدمة في السيطرة والأستحواذ على المفاصل الرئيسية لأدوات العلم والمعرفة والأختراعات , والتفوق الهائل في مجال البحث العلمي أدى الى تزايد الفجوة العلمية والتكنولوجية . فالقصور الواضح في الأنفاق على البحث العلمي ساهم ويساهم دون ادنى شك الى اضعاف القدرة على مواكبة التطور في جميع مرافق البلد .
وجير بالذكر ان ان التقرير الدولي قد اشار الى نسب الأنفاق على البحث العلمي من قبل الدول الرائدة في هذا المجال , حيث بين التقرير حجم الأنفاق على البحث العلمي بنسب مئوية من الناتج المحلي الأجمالي وهي كالآتــــي :
السويد 3,7% من الناتج المحلي الأجمالي , اليابان 3,013% , أمريكا 2,63% , الصين وتايوان 1,97% , واخيرا جنوب افريقيا 0,69% من الناتج المحلي الأجمالي .
إذا تخصيص المبالغ المجزية ضمن ميزانية الجامعات العراقية ومراكز الأبحاث , وفق سياسة واضحة للبحث العلمي وأستراتيجية محددة سيدعم حالة النهوض بالبحث العلمي عموما والتع