التربية البيئية… الدكتور كاظم المقدادي (3)
الفصل الحادي عشر
لمحات من مسيرة التربية البيئية وتطورها
يؤكد الأستاذان رشيد الحمد وحمد صباريني بان التربية البيئية ليست حديثة العهد، فلها أصولها القديمة، ولكنها إكتسبت أهمية أكبر في الآونة الأخيرة نتيجة لأنبثاق الوعي بالمشكلات البيئية الكبرى.. المشكلة السكانية ومشكلة الطاقة ومشكلة الغذاء ومشكلة التلوث ومشكلة إستنزاف الموارد.. ولقد ظل مفهوم التربية البيئة وثيق الصلة في تطوره بمفهوم البيئة ذاتها وبالطريقة التي كان ينظر بها اليها. وقد إنتقل من نظرة تقصير بصفة اساسية على تناول البيئة من جوانبها البايولوجية والفيزيائية، الى مفهوم اوسع مدى يتضمن جوانبها الأقتصادية والأجتماعية والثقافية، ويبرز ما يوجد بين هذه العوامل المختلفة من ترابط.. بيد ان التربية كانت دائماً ترتبط بالبيئة على نحو ما، إذ كان الإنسان يعد لمواجهة الحياة في المجتمعات القديمة وحتى اليوم في قطاعات كبيرة من سكان الريف من خلال تجارب وثيقة الصلة بالطبيعة، وما برحت النظم التربوية الحديثة تتخذ لمناهجها الى حد ما أهدافاً ومضامين لها علاقة بالبيئة حتى وان كانت تنظر اليها من جوانبها البايولوجية والفيزيائية بصفة اساسية وكان ذلك هو واقع الحال بوجه خاص بالنسبة للمواد الدراسية المتصلة بعلوم الحياة التي كان كل منها يعالج علاوة على ذلك بصورة منفصلة ودون تنسيق. وفي هذا الأطار التقليدي كان ينتظر من الدارس ان يؤلف بين المهارات المكتسبة بنفسه ويستخلص منها نظرة شاملة عن الواقع البيئي ويدرك كنه العلاقات القائمة بين عناصره المتباينة.وقد كان هذا (التعلم) يتسم في الغالب بالتجريد والإنفصال عن الواقع البيئي الذي من المفروض ان يكون هدفاً للدراسة.كما كان يسرف في إقتصاره على تقديم بعض المعارف عن الطبيعة متجاهلاً في كثير من الأحيان دوره في إحياء وتطوير سلوك قوامه والإحساس بالمسؤولية إزاءها، ولم يكن مفهوم البيئة ذاته وقد أختزل الى جوانبه الطبيعية وحدها كافية لتقدير الدور الذي يمكن للعلوم الإجتماعية ان تنهض به من أجل فهم البيئة البشرية وتحسينها[ ].
ويشير الأستاذ الدكتور عصام الحناوي الى الإعتقاد السائد لدى الكثيرين بان المشكلات والقضايا البيئية هي مشكلات وقضايا عرفناها حديثاً منذ منتصف القرن الماضي، ولا يتفق مع هذا الإعتقاد، مؤكداً بأن الدراسات العلمية المتعمقة توضح بان المشكلات البيئية لازمت الحياة على سطح الأرض منذ بدايتها، التي يرجعها العلماء الى تكوين أول مادة بروتينية منذ 3000 أو 4000 مليون سنة، والتي تطورت على مر مئات الملايين من السنين الى تكوين النباتات واللافقريات الأولية منذ نحو 600 مليون سنة، الى النباتات الأرضية والحشرات والزواحف والديناصورات والفقريات الأحدث، وأخيراً الإنسان بمراحل تطوره المختلفة حتى الإنسان الحديث منذ نحو 40 – 90 ألف سنة. ويوضح لنا العلماء انه خلال العصور الجيولوجية المختلفة تغيرت الظروف البيئية الطبيعية تغيراً كبيراً أدى الى إنقراض أنواع كثيرة من أنواع الحياة النباتية والحيوانية، وظهور أنواع جديدة، فيما أسماه داروين بعملية الإختيار الطبيعي. وكانت بعض هذه التغيرات البيئية قوية بحيث أدت الى فناء كامل للديناصورات منذ 65 مليون سنة، فيما عرف بانه أضخم فناء حدث لنوع من أنواع الحياة في التأريخ.في كل هذا كانت العوامل البيئية الطبيعية هي المتحكمة في بقاء أو إنقراض أنواع الحياة[ ].
ومع بداية الإنسان الأول بدأت مرحلة التفاعل بينه وبين البيئة الطبيعية المحيطة به.فالإنسان الأول عاش على صيد الحيوانات، وجمع النباتات ليأكل، وإستخدم في ذلك أدوات حجرية مختلفة، وسكن الكهوف، وإكتشف كيف يوقد النار.وكان دائم التجوال بحثاً عن المأكل.وعندما بدأ هذا الإنسان الأول يشعر ان نشاطاته أدت الى نقص شديد في أعداد الحيوانات، التي كان يقوم بإصطيادها،وفي مساحة النباتات التي كان يجمعها، بدأ في تغيير أنماط حياته، وإتجه الى الإستقرار في مستوطنات بشرية بدائية، وتعلم إستئناس وتربية الحيوانات، وزراعة النباتات منذ أكثر من 10 اَلاف سنة. وهكذا إستبدل الإنسان الأول حياة التجوال والصيد والجمع المرهقة والمحفوفة بالمخاطر، بحياة الإستقرار الأكثر أماناً لتلبية حاجاته الأساسية، وتعلم مهارات مختلفة، مثل صنع الأواني من الفخار، وبناء المأوى، ثم صناعة الأدوات الحديدية والنحاسية وغيرها كما هو معروف من الحضارات القديمة في مصر وإيران وتايلند منذ نحو 7 اًلاف سنة.
وخلال تلك الأزمنة القديمة أدت أنشطة الإنسان الى بعض المشكلات البيئية، خاصة في النظم الطبيعية لإنتاج الغذاء، مثل تدهور التربة بسبب الرعي الجائر، وإزالة الأشجار وغيرها. ولقد كان هذا التدهور شديداً في بعض المناطق حتى أنه أدى الى إندثار حضارات بأكملها ( مثل حضارة المايا في أمريكا الوسطى) مما دفع الإنسان الى تعلم صون الطبيعة.فتم صون بعض الحيوانات طبقاً لمعتقدات دينية، وحرمت بعض المعتقدات قطع الأشجار والنباتات، وبدأت جماعات كثيرة تتعلم كيف تؤقلم حياتها وتسد حاجاتها بالتنسيق مع الظروف البيئية المحيطة بها.فمثلاً تمثل البداوة التقليدية صورة حية للهجرة الموسمية التي تتحكم فيها ظروف البيئة الطبيعية ( وفرة الماء وبالتالي عشب المراعي)، كما تمثل التفاعل الحساس والمتوازن بين الإنسان البدوي وبيئته الصحراوية، وكيف أنه إستطاع لقرون طويلة الحفاظ على التوازن بين متطلباته وقدرة البيئة الصحراوية على التحمل وإعادة التأهل.وهناك أمثلة كثيرة توضح لنا كيف ان البدو في مناطق الصين الوسطى ودول شمال أفريقيا وغيرها كانوا يعرفون أين ومتى يحطون الرحال ومتى والى أين يرحلون مرة أخرى.
لقد كتب علماء الأغريق منذ نحو 2500 ستة عن العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به وكيف ان الإنسان بسلوكه وأفعاله يمكن ان يؤثر بالإيجاب او السلب في هذه البيئة.ففي حدود عام 350 قبل الميلاد قال أفلاطون مخاطباً عشيرته: ان معظم العلل الإجتماعية والبيئية التي تعانون منها هي تحت سيطرتكم، على ان تكون لديكم العزيمة والشجاعة لكي تغيروها .وكان أفلاطون أول من نادى بأن الذي يحدث تدهوراً في البيئة عليه ان يتحمل نفاقات إعادة تأهيلها، فذكر في كتاب ” القوانين”:إن الماء يمكن تلويثه بسهولة، ولذا فانه يتطلب حماية القانون.ومن يقوم بتلويث الماء بقصد، عليه ان ينظف البئر او الجدول، بالإضافة الى تعويض المتضررين من هذا التلوث.وتجدر الإشارة هنا الى ان هذا المبدأ هو أساس ما يعرف اليوم بمبدأ ” من يلوث عليه ان يتحمل نفقات إزالة التلوث!”[ ].
المحطات الرئيسية لتطور مسيرة التربية البيئة
1- مؤتمر ستوكهولم 1972- إعترف بدور التربية البيئية في حماية البيئة.
2- ميثاق بلغراد 1975- وضع إطاراَ شاملاً للتربية البيئية، وحدد أسس العمل في مجالها.
3- مؤتمر تبليسي 1977- وضع مبادئ وتوجهات للتربية البيئية.
4- مؤتمر موسكو 1987- وضع إستراتيجية عالمية للتربية البيئية.
5-مؤتمر ريو دي جانيرو 1992- أكد على إعادة تكييف التربية البيئية ناحية التنمية المستدامة، وزيادة الوعي البيئي العالم، وتعزيز برامج التدريب البيئي.
الفصل الثاني عشر
تأثير المؤتمرات الدولية في مسيرة التربية البيئية
يؤكد الباحثون بأن التربية البيئية ليست حديثة العهد، بل ان لها جذورها القديمة في ثقافات الشعوب.وثمة رأي يرجع نشأة التربية البيئية الى القرن التاسع عشر، من خلال ربط التربية بالطبيعة، وتلقي الأديان السماوية على عاتق الإنسان مسؤولية إستثمار الطبيعة والعناية بها، معتبرة ان سوء إدارة الطبيعة إثم كبير شأنه في ذلك شأن الخطايا الأخلاقية، وأن الإهتمام بالطبيعة ورعايتها هو فضيلة أخلاقية أساسية، داعية الإنسان على نحو واضح وصريح الى التعاطف مع الطبيعة وعدم إساءة إستخدامها، الى جانب تحبيب الطبيعة الى الإنسان وتقربه منها، وجعل ما بين الإنسان والطبيعة إنسجاماً والفة ومودة.. بيد أن التربية البيئية كفكر وممارسة وتطبيق إكتسبت محتواها العلمي، كجزء متمم للعلوم البيئية،وتطورت على نحو كبير، في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، بفضل الحركة المتنامية والمتصاعدة لأنصار البيئة وحماتها،وتحت تأثير الأنشطة، وخاصة المؤتمرات العلمية الدولية التي كرست للبيئة ومشكلاتها..
مؤتمر ستوكهولم
يؤكد الأستاذ راتب السعود بأنه بعد مؤتمر ستوكهولم وبتأثيره سرت موجة إهتمام عارمة بالتربية البيئية، وتمثل ذلك بالمؤتمرات والندوات التي أنعقدت في مختلف مناطق العالم من أجل وضع أساس لبرامج التربية البيئية في التعليم النظامي والتعليم غير النظامي.وكان ميثاق بلغراد/ يوغسلافيا الذي صدر عن المشغل الدولي للتربية البيئية عام 1975 بمثابة إطار شامل حدد أسس العمل في مجال التربية البيئية، مؤكداً على أن هذا المجال يهدف الى تطوير عالم يكون سكانه أكثر وعياً بالبيئة وإهتماماً بمشكلاتها، ويمتلك من المعارف والمهارات والمواقف والإلتزام بالعمل فرادي وجماعات، ما يلزم لحل المشكلات القائمة وتجنب حدوث مشكلات جديدة[ ].
كان لمؤتمر ستوكهولم، بما ابداه من إهتمامات وتوجيهات، أثره في إتجاه التفكير صوب الأخذ بتوجهات جديدة في معالجة مشكلات البيئة.ذلك أنه إذا صح ان الجوانب البايولوجية والفيزيائية تشكل الأساس الطبيعي للبيئة البشرية، فان ابعادها الإجتماعية -الثقافية والإقتصادية هي التي تحدد ما يحتاج إليه الإنسان من توجيهات ووسائل فكرية وتقنية كفهم الموارد الطبيعية وإستخدامها على نحو أفضل في تلبية إحتياجاته.وفي هذا الإطار شهدت الأعوام الأخيرة نمو حركة على المستويات الوطنية والأقليمية والدولية من التأمل في دور التربية البيئة وأهدافها.وأمكن التوصل الى وضع المفاهيم الكفيلة بتوجيه التطبيق العملي لهذه التربية توجيهاً جديداً وذلك بفضل كل من الندوة الدولية في بلغراد عام 1975 وندوات إقليمية عقدت خلال عام 1976 و 1977 بمناطق مختلفة من العالم في إطار البرنامج الدولي للتربية البيئية، من بينها الندوة العربية للتربية البيئية التي عقدت بالكويت في نوفمبر 1976، وكان المؤتمر الدولي الحكومي الذي عقد في مدينة تبليسي السوفيتية في أكتوبر اَخر لقاء دولي سعى الى تنمية التربية البيئية ووسائل نشرها [ ].
ندوة بلغراد
لقد حددت ندوة بلغراد التي عقدت في أكتوبر 1975 بدعوة من اليونسكو وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، غايات وأهداف وخصائص التربية البيئية والمنتفعين بها.. وتهدف التربية البيئية (وفق ما إتفق عليه في مؤتمر بلغاراد) الى إعطاء الإنسان القدرة على فهم ما تتميز به البيئة من طبيعة معقدة نتيجة للتفاعل الدائم بين مكوناتها ىالبايولوجية والفيزيائية والإجتماعية والثقافية.وتمد الفرد بالوسائل والمفاهيم التي تمكنه من تفسير علاقة التكافؤ والتكامل التي تربط بين هذه المكونات المختلفة في الزمان والمكان بها يساعد على إيضاح الطريق السوي نحو إستخدام موارد البيئة بمزيد من العقلانية والحيطة لتلبية الإحتياجات المادية والروحية للإنسان في حاضره ومستقبله له وللأجيال من بعده [ ].
ميثاق بلغراد
لقد أولى ميثاق بلغراد إهتماماً كبيراً للإشكاليات الرئيسة في التربية البيئة،محدداً غايات وأهداف التربية البيئية،وخصائصها، والمنتفعون بها،كانت ومازالت بمثابة إطار علمي للتربية البيئية، وأصبحت مرشداً للتربويين البيئيين. وأدناه تفاصيلها:
1- غايات وأهداف التربية البيئية
تهدف التربية البيئية الى تمكين الإنسان من فهم ما تتميز به البيئة من طبيعة معقدة نتيجة للتفاعل بين جوانبها البايولوجية والفيزيائية والإجتماعية والثقافية.. ولابد لها بالتالي من ان تزود الفرد والمجتمعات بالوسائل اللازمة لتفسير علاقة التكافل التي تربط بين هذه العناصر المختلفة في المكان والزمان بما يسهل توائمهم مع البيئة ويساعد على إستخدام موارد العالم بمزيد من التدبير والحيطة لتلبية إحتياجات الإنسان المختلفة في حاضره ومستقبله، وينبغي للتربية البيئية كذلك ان تسهم في خلق وعي وطني بأهمية البيئة لجهود التنمية كما ينبغي لها ان تساعد على إشراك الناس بجميع مستوياتهم وبطريقة مسؤولة وفاعلة في صياغة القرارات التي تنطوي على مساس بنوعية بيئتهم بمكوناتها المختلفة، وفي مراقبة تنفيذها.. ولهذه الغاية ينبغي للتربية البيئية ان تتكفل بنشر المعلومات عن مشروعات إنمائية بديلة لا تترتب عليه اَثار ضارة بالبيئة، الى جانب الدعوة الى إنتهاج طرائق للحياة تسمح بإرساء علاقات متناسقة معها.ومن غايات التربية البيئية أيضاً تكوين وعي واضح بالتكامل البيئي في عالمنا المعاصر حيث أنه يمكن ان تترتب على القرارات التي تتخذها البلاد المختلفة وعلى مناهج سلوكها اَثار على النطاق الدولي. وثمة دور بالغ الأهمية للتربية البيئية من هذه الناحية يتمثل في تنمية روح المسؤولية والتضامن بين بلاد العالم بصرف النظر عن مستوى تقدم كل منها، لتكون اساساً لنظام يكفل حماية البيئة البشرية وتطويرها وتحسينها.ان بلوغ هذه الغايات إنما يفترض تكفل العملية التربوية بنشر معارف وقيم وكفايات عملية ومناهج سلوك من شأنها ان تساعد على فهم مشكلات البيئة وحلها..فبالنسبة للمعارف يتعين على التعليم ان يوفر الوسائل اللازمة وبدرجات متفاوتة في تعميقها وخصوصياتها تبعاً لتباين جماهير المتعلمين لإدراك وهم العلاقات القائمة بين مختلف العوامل البايولوجية والفيزيائية والإجتماعية والإقتصادية التي تتحكم بالبيئة من خلال اَثارها المتداخلة في الزمان والمكان، وإذ يقصد من هذه المعارف ان تسفر عن تطوير مناهج السلوك وأنشطة مؤاتية لحماية البيئة وتحسينها، فمن الضروري ان يتم تحصيلها بقدر الأمكان عن طريق وضع البيئات الخاصة موضع الملاحظة والدراسة والتجربة العلمية.. وفيما يتعلق بالقيم ينبغي للتربية البيئية ان تطور مواقف ملائمة لتحسين نوعية البيئة، فلا سبيل الى إحداث تغيير حقيقي في سلوك الناس إتجاه البيئة إلا إذا أمكن لغالبية الأفراد في مجتمع معين ان يعتنقوا عن إرادة حرة ووعي قيم أكثر إيجابية تصبح أساساً لأنضباط ذاتي. ولهذه الغاية ينبغي للتربية البيئية ان تسعى الى توضيح وتنسيق ما لدى الأفراد والمجتمعات من إهتمامات وقيم أخلاقية وجمالية وإقتصادية بقدر ما لها من تأثير على البيئة.. أما عن الكفايات العملية الهدف هو تزويد كافة أفراد المجتمع،أي مجتمع، بمجموعة بالغة التنوع من الكفايات العلمية والتقنية تسمح بإجراء أنشطة رشيدة في مجال البيئة وذلك عن طريق الإستعانة بأساليب متعددة تتفاوت في درجة تعقيدها والمقصود بوجه عام هو إتاحة الفرصة في كافة مراحل التعليم المدرسي وغير المدرسي لأكتساب الكفايات اللازمة للحصول على المعارف التي تتوافر في البيئة والتي تسمح بالمشاركة في إعداد حلول قابلة للتطبيق على المشكلات الخاصة بالبيئة وتحليلها وتقييمها، ذلك لأن القيام بصورة مباشرة ومحدودة بأنشطة ترمي الى حماية البيئة وتحسينها هو خير وسيلة لتنمية هذه الكفايات .
ان هذه الأهداف كلها تشكل عملية تربوية موحدة حيث لا طائل يرجى من أنشطة تربوية ترمي الى تحقيق أهداف معينة بصورة مشتتة وجزئية، وليس يجدي ذلك كثيراً في تطوير نهج جديد شامل إتجاه البيئة.
2- خصائص التربية البيئية
ان السعي الى تحقيق الغايات والأهداف التي مر ذكرها يضفي على عملية التعلم خصائص معينة ويتطلب توافر شروط معينة فيها، سواء في ما يتعلق بتصميم مضمون التربية وتنظيمه، أو بأساليب التعليم والتعلم وطريقة تنظيم هذه العملية.
وقد تكون أهم سمة لهذه التربية هي كونها تتجه الى حل مشكلات محدودة للبيئة الإنسانية، فهدفها معاونة الناس أياً كانت الفئة التي ينتمون اليها، وأياً كان مستواهم، على إدراك المشكلات التي تقف حائلاً دونما فيه خيرهم كأفراد وجماعات وتحليل أسبابها وتقييم الطرق والوسائل الكفيلة بحلها.وهي تهدف كذلك الى إشراك الفرد في وضع تحديد إجتماعي للأستراتيجيات والأنشطة الرامية الى حل المشكلات التي تؤثر على نوعية البيئة.وإذا كانت توجد اليوم مشكلات بيئية كثيرة، فمرد ذلك في جانب منه الى أن قلة ضئيلة من الناس كانوا قد أعدوا لتبني مشكلات تتسم بالتحديد والتعقيد، فضلاً عن إيجاد حلول فاعلة لها.وقد اساء التعليم التقليدي، بإفراطه في التجريد وعدم التناسق إعداد الأفراد لمواجهة ما يطرأ على واقعهم من تعقيدات متغيرة ، في حين ان التربية التي تتخذ من مشكلات بيئية محدودة محوراً لها تتطلب على العكس تظافر المعارف بشتى جوانبها لتفسير الظواهر الواقعة المعقدة. ومع ذلك تبرز سمة أخرى من سماتها الأساسية، وهي كونها تأخذ بمنهج جامع لعدة فروع علمية في تناول مشكلات البيئة.والواقع أنه يحسن لفهم هذه المشكلات على نحو سليم ان تكون على البيئة من وجوه الترابط القائمة بين الظواهر والأوضاع السائدة والتي كان أتباع نهج يعتم على فرع واحد من فروع العلوم سينحو الى تجزأتها. فالنهج الجامع لعدة فروع علمية يتجاهل الحدود الفاصلة بين العلوم التخصصية ويعنى بأعطاء نظرة أكثر شملاً وابعد عن التبسيط للمشكلات الماثلة، إذ انه لا يتمثل في البدء بوضع العلوم المختلفة جنباً الى جنب، ولكن في فهم العملية فهماً شاملاً قبل التطرق الى تحليل إحدى المشكلات الخاصة وحلها.. على ان التوصل الى تربية جامعة لعدة فروع علمية بصورة حقة يشكل مطلباً صعباً ينبغي ان نسعى الى تحقيقه تدريجياً.. ويفترض لذلك ان تقوم إتصالات ميسرة بين المعلمين بفضل ما يتلقاه المختصون من تدريب جديد ووضع نظام ملائم للتعليم يأخذ في أعتباره الروابط الفكرية والمنهجية بين فروع العلم على إختلافها. وتدعو الحاجة الى وضع تعليم يستجيب للإحتياجات الإجتماعية إستجابة فاعلة للتنويه بإحدى الخصائص الرئيسية الأخرى للتربية البيئية وهي إنفتاحها على المجتمع المحلي المعين. فليس يفترض في التربية التي تهدف الى حل مشكلات بيئية محودة ان تعمل على تنمية المعارف والمهارات وحسب، بل وان تعمل أيضاً وبوجه أخص على تطوير عرف محلي يمارس في بيئات محدودة، ومن التحقق ان الأفراد والجماعات لا يولون إهتمامهم لنوعية البيئة، ولا يتحركون لحمايتها او تحسينها بعزم وإصرار إلا في غمار الحياة اليومية لمجتمعهم المحلي، وحين يواجهون ما يعترض سبيلهم من مشكلاتها.. ولهذا النهج الجماعي أهمية لأنه من الجلي ان كثيراً مما يسمى بالمشكلات الوطنية لا يعدو كونه حصيلة مشكلات فردية وان كانت مشتركة بين عدة مجتمعات محلية في وقت واحد.. وإذا أمكن حل مشكلات معينة تخص أحد المجتمعات المحلية فاننا نكون قد قطعنا بذلك في الوقت نفسه شوطأ صوب تحسين البيئة لصالح مجتمع أوسع نطاقاً مثل القطر او المنطقة. ويتطلب تحسين نوعية البيئة من ناحية أخرى، توفر الإدارة السياسية اللازمة، ونهوض شتى قطاعات المجتمع ببذل جهود لدعمها بكفاياتها وبما تملكه من وسائل متعددة. ذلك ان التظافر الحقيقي بين قدرات المعرفة وغيرها من العناصر مثل القيم والنظرة الجمالية والمهارات العملية في إطار الجهود المنسقة ومشاركة الأفراد داخل مختلف الجماعات والمرافق التي يتكون منها المجتمع المحلي، سيؤدي الى فهم البيئة وترشيد إدراتها وتحسينها. وهناك في النهاية جانب اَخر من الجوانب الأساسية للتربية البيئية وهو ما تتميز به طابع الإستمرار والتطلع الى المستقبل.فحتى وقت قريب من تأريخ الإنسانية كان التغيير في الإطار الإجتماعي والثقافي والطبيعي للحياة يحدث ببطء، وكان من الميسور في ظروف كهذه ان يتعلم أبناء الأجيال الجديدة قيم اَباءهم ومعارفهم وان ينقلوها الى أبنائهم وهم على يقين من ان هذا التراث الثقافي سيكون كافياً لضمان تلاءمهم مع المجتمع.. ومنذ الثورة الصناعية وخلال النصف الثاني من القرن العشرين بوجه أخص تعرض هذا الإطار لهزة عنيفة، فقد أدى التقدم الباهر الذي أحرزته المعارف العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية الى مضاعفة سيطرة الإنسان على بيئته وتزايدت سرعة التغيرات التي تعرضت لها. وفي يومنا هذا تتغير البيئة الطبيعية والمبنية في مختلف جوانبها بسرعة بالغة مما يسفر عن ظهور نظم إقتصادية وإجتماعية وثقافية جديدة، ومن تولد مشكلات جديدة دون إنقطاع. وأصبحت المعارف والتقنيات تتغير للمرة الأولى في تأريخ الإنسان خلال فترة تقل عن عمر الفرد..إذاً لا مناص لتربية تهدف الى حل مشكلات البيئة من ان تتسم في هذا السياق بطابع الإستمرار ولكي لا تتخلف المعارف التي يكتسبها الناس ضماناً لأستمرار فاعلية الأنشطة الجارية يتعين على التربية البيئية ان تحرص دائماً على إعادة صياغة توجيهاتها ومضمونها وأساليبها، وان تعنى في ذات الوقت بان ان تكون المعارف المتاحة لمختلف الفئات مستوفية بصورة دائمة مع تطويعها للأوضاع الجديدة بإستمرار.. وهي تتدرج بهذه الصفة في إطار التربية المستدامة.
ونخلص من كل ذلك الى أنه يمكن للتربية ويتحتم عليها ان تلعب دورا أساسيا في درء مشكلات البيئة وحلها، ولكنه من الواضح ان الجهود التربوية لن تؤتي ثماراتها الكاملة إذا تجاهلت بعض العوامل الهامة الأخرى، ومنها على سبيل المثال ان يكون هناك تشريع يسعى الى تحقيق نفس الأهداف، وان تتخذ التدابير اللازمة للسهر على حسن تطبيق القوانين وان تفرض قرارات حازمة وان يستعان بأجهزة إعلام الجماهير التي يتزايد نفوذها بين الناس. وينبغي لكل هذه العوامل ان تتظافر فيما بينها، وان تشكل كلآً مترابطاً حتى تستطيع ان تسهم في حماية البيئة وتحسينها بصورة فاعلة.. ومن أجل ذلك فعلى التربية ان تعمل على تصريف رجال السياسة وغيرهم من المسؤولين ممن يتمثل في قراراتهم رد المجتمع على مشكلات البيئة، بما يقوم بين البيئة والتنمية من تكافل وتكامل مع توعيتهم بالحاجة الماسة لأتباع أساليب أكثر رشاداً في تدبير أمور البيئة. وإذا كانت التنمية عملية مستمرة، ينبغي ان تعود بالنفع على جميع قطاعات الناس، فمن اللازم لسياسات التنمية ان تضع البيئة في إعتبارها.. وإذا أسقطت متطلبات التنمية من إعتبار الإهتمامات البيئية فسيؤدي ذلك على العكس الى وضع سياسات لا تعود بالنفع على المجتمع المحلي في مجموعه.
3- المنتفعون بالتربية البيئية
تمارس فكرة التربية الشاملة المستديمة والمتاحة للجميع تأثيراً واضحاً على مفهوم التربية البيئية وتنظيمها.إذ ان هذه التربية تهم المجتمع في مجموعه بحكم طبيعتها ووظيفتها.وينبغي ان تصبح متاحة لجميع لأفراد المجتمع المحلي بوسائل تتلاءم مع الإحتياجات والمصالح والبواعث الخاصة بكل فئة من فئات العمر ومن الفئات الإجتماعية المهنية على إختلافها.. وما دام من الضروري ان تكون هذه التربية مستمرة ومتاحة للجميع، فمن المناسب إدخالها في جميع مراحل التعليم المدرسي وغير المدرسي أو النظامي وغير النظامي.. ويأتي تعليم الجمهور في مقدمة المهام التي تناط بالتربية البيئية.فإلى جانب دورها في نقل المعارف العامة الى جميع المواطنين، ينبغي لها ان تعمل على توعيتهم بما يصادفهم في حياتهم اليومية من مشكلات بيئية، وان تحثهم على إنتهاج سلوك قويم، والعمل بصورة جادة على حل هذه المشكلات.ومن اللازم ان تصبح التربية البيئية متاحة للناس على إختلاف أعمارهم، وان تدخل في التعليم المدرسي بجميع مراحله: رياض الأطفال والأبتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي.. وفي شتى أنشطة التعليم غير المدرسي لصالح الناشئة والبالغين أياً كانت فئة الناس التي ينتمون إليها.ويتعين ان تدمج في عملية التعليم العام بكل بلد وان تنمى في كل مؤسسات التعليم ومناهجه..
وتتصل المهمة الثانية بتعليم فئات معينة لها بحكم عملها ونفوذها تأثير كبير على البيئة. والمعنيون هنا بصورة مباشرة هم المهندسون والمعماريون وخبراء تخطيط المدن ورجال القضاء والقانون ومتعهدو البناء ورجال الصناعة والنقابيون والأطباء وغيرهم.. ولا مندوحة لتوعية هؤلاء بنتائج قراراتهم وأعمالهم بالنسبة للبيئة، من ان توضح مناهج التعليم بحسب المهن والفئات الإجتماعية المعنية.ويمكن إدخال هذا النوع من التربية في التعليم النظامي، او في المؤسسات المختصة بتدريب مختلف الفئات التي تمارس مسؤوليات إجتماعية معينة، سواء أكان ذلك أثناء تدريبهم المبدئي او بمناسبة عودتهم لإستكمال دراستهم.
وتتصل المهمة الثالثة بتدريب بعض المهنيين والعلميين ممن يعكفون على دراسة مشكلات بيئية محددة، ويتعلق الأمر من هذه الناحية بمجموعة ضخمة تتألف من أشخاص يملكون مهارات تقنية بالغة التنوع، بعضهم أصحاب تخصصات عليا وتقنيات مراقبة تلوث الهواء والمياه وهندسة.وبعضهم الآخر يتلقى تدريباً جامعياً بين فروع العلم لإعدادهم لمعالجة مشكلات متشابكة.ويجب ان يدخل في الحساب أيضاً الأخصائيون في مجالات العلوم الطبيعية والإجتماعية الأساسية.فكل هؤلاء المهنيين والعلميين مطالبون، بحكم بحوثهم وأعمالهم التخصصية، بوضع معارف وثيقة يرتكز عليها التعليم والتدريب في مجال البيئة.
ومن المفيد ان نشير الى ان ثمة علاقات تربط بين المهام الثلاث اَنفة الذكر، سواء من حيث مضمون التربية البيئية او من حيث المؤسسات التي تكلف بهذه التربية.إذ يتسم ذلك التعليم وهذا التدريب بكونهما مستمرين.ولابد من ان تنفذ المهام، التي أوردنا كلاً منها على حده في هذه الدراسة لأغراض منهجية وتحليلية، بطريقة منسقة.ويتعين أيضاً ان تشكل التوجيهات والمضامين كلاً مترابطاً يستند الى الخبرة العملية والمعرفة العلمية، ويمكن إستخدامه كمرجع مشترك لأنشطة التربية البيئية على أنها عملية يتم خلالها توعية الأفراد والجماعات ببيئتهم وتفاعل عناصرها البيولوجية والفيزيائية والإجتماعية والثقافية، فضلآً عن تزويدهم بالمعارف والقيم والمهارات والخبرة وبالأرادة التي تيسر لهم سبل العمل فرادى وجماعات، محل مشكلات البيئة في الحاضر والمستقبل.وينبغي ان تكون هذه التربية هادية لا لسلوك الناس وحدهم، وإنما أيضاً لسلوك المسؤولين ممن يمكن ان تتأثر البيئة بقراراتهم.
لقد كان ميثاق بلغراد بمثابة إطار علمي للتربية البيئية، أو هو في الواقع( ميثاق أخلاقي عالمي ) يعتبر الأساس لكل عمل مستقبلي في مجال التربية البيئية.وقد تم على أثر هذا الميثاق عقد ندوات وطنية في أقاليم العالم المختلفة، من بينها ندوة عربية للتربية البيئية عقدت بالكويت في نوفمبر عام 1976[ ]. وتوصل المجتمعون فيها الى وضع معالم لأستراتيجية عربية للتربية البيئية أخذت معالم وسمات البيئة في الوطن العربي ولكن دون إغفال لتكامل البيئة العربية مع باقي بيئات العالم.
الفصل الثالث عشر
إعلان وتوصيات مؤتمر تبليسي
إعلان المؤتمر الدولي الحكومي للتربية البيئية
إنعكس صدى ميثاق بلغراد في إعلان المؤتمر الدولي الحكومي للتربية البيئية، الذي نظمته اليونسكو بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة في مدينة تبليسي في جورجيا عام 1977، إذ أكد إعلانه على ان التربية البيئية ترمي بشكل أساسي الى تعريف الأراد والجماعات بطبيعة البيئة بشقيها الطبيعي والمشيد، الناتجة عن تفاعل مكوناتها البيولوجية والطبيعية والإجتناعية والإقتصادية والثقافية، وكذلك إحتساب المعارف والقيم والمواقف والمهارات التي تساعدهم على المساهمة المسؤولة والفعالة في بلورة حل المشكلات الإجتماعية وتدبير أمور نوعية الحياة في البيئة.
كان المؤتمر تجمعاً ضخماً إلتقى فيه أناس من كل حدب وصوب جاءوا اليه يحملون أفكاراً وسترتيجيات تدعو كلها الى تنمية خُلق بيئي، وضمير بيئي، ينقذ الجنس البشري من ويلات الممارسات الخاطئة في البيئة البشرية.. الذين إلتقوا في تبليسي كانوا يمثلون مختلف قطاعات المجتمع الدولي: وزراء تربية، مخططون وضعوا مناهج دراسية، معلمون، أساتذة جامعات، مهندسون كيمياويون، فيزيائيون، بايولوجيون، إقتصاديون، مهنيون، محامون، قضاة، أطباء، نقابيون، إعلاميون، وغيرهم.. وقد قام هؤلاء بداية بتشخيص واقع البيئة الراهن، وخلصوا الى:
1- ان الأهتمام الجدي بالمشكلات البيئية يشكل ظاهرة حديثة العهد نسبياً في مجتمعنا المعاصر.فمع أنه كانت هناك دائماً مظاهر معينة تفصح عن الإهتمام ببعض القضايا المتصلة بالبيئة، فلم يحدث إلا في خلال العقود القليلة الماضية فقط، ونتيجة لتقدم العلم بسرعة خارقة، ولما طرأ من تغييرات تكنولوجية وإجتماعية، ان برزت مشكلات جديدة، وإكتسبت مشكلات كانت موجودة من قبل،أبعاد جديدة تماماً، وأصبح من المسلم به الآن أن كثيراً من الأنشطة البشرية تسفر مجتمعة عن نتائج ضارة بالبيئة وقد يسحيل تداركها.ومن الظواهر الجديدة أيضاً إدراك ان بعض المشكلات التي تنشأ في أشكال محدودة وفقاً لبيئة البلد الذي تظهر فيه قد تؤثر على الجنس البشري في مجموعه، بل ان هناك مشكلات بيئية يمكن تصديرها الى بلاد أخرى عن طريق الترتيبات الرامية الى التجارة والإستثمار.وما فتئ الإحساس بإلحاح مشكلات البيئة الذي اعرب عنه مؤتمر ستوكهولم عام 1972 قائماً حتى الآن.
2- وثمة في الوقت ذاته حاجة ملحة للتنمية.فالفقر نفسه هو نوع من تدهور البيئة.وإذا نظرنا اليه بهذا المفهوم فلن يصبح في وسعنا ان نفاضل بعد الآن بين حماية البيئة وبين الحاجة الى التنمية.ذلك ان حماسية البيئة في الكثير من البلاد الأقل حظاً، وبوجه خاص في ما بين الجماعات الأقل حظاً والتي تشكل الغالبية الساحقة، إنما يتطلب تحقيق التنمية كشرط لازم له، وخاصة لتلبية الأحتياجات الأساسية لأشد الناس فقراً في العالم.
وواقع الأمر ان ستراتيجيات حماية البيئة وتحسينها تتوافق الى حد بعيد مع التنمية في ظل هذه الظروف، فهما مظهران مرتبطان ولا إنفصام بينهما لقدرة البشر على تحسين حياتهم وتهيئة الظروف المؤاتية لرفاهية الأجيال المقبلة. فينبغي للإنسان ان يستخدم موارد الأرض بطريقة يمكن معها ان تنتقل الى أناس لم يشهد العالم مولودهم بعد.وهذا الإحساس بالمسؤولية إتجاه الأجيال المقبلة يمثل جانباً بالغ الأهمية من الوعي بالمشكلات البيئة ولا زال الشوط الى تحقيقه بعيداً.
3- وثمة أتفاق عريض في الرأي على خطورة الوضع بالنسبة للبشرية جمعاء، وعلى ضرورة إتخاذ تدابير عاجلة.وقد تجلى ذلك مثالاً في موضوعات المؤتمرات الدولية التي عقدت مؤخراً، بيد أنه لم يتبلور بعد إدراك واضح أو رشيد بخطورة القضايا المطروحة لدى العدد الأكبر من المعنيين، أي الجنس البشري بأسره.فكثير ما تحدث مقاومة للمشروعات الرامية الى علاج الوضع الراهن، أحياناً من بعض الناس التي تضار به في المقام الأول.
4- وعلى الرغم من إتخاذ التدابير والإقدام على عدد من المبادرات على الصعيدين الوطني والدولي منذ مؤتمر ستوكهولم، فانه يبدو انها لا تفي بالمتطلبات أو الآمال التي أعرب عنها المؤتمر. ولأن كانت الحالة البيئية خطيرة الى هذا الحد فانه لا ينبغي المغالاة في تصوير هذه الخطورة.ولقد قيل ان الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لا تقيده بيئته، ومن ثم فهو يستطيع أن يغير فيها.ولا ينبغي له ان يحميها فقط،، بل عليه أيضاً ان يحسنها.
5- ان حل المشكلات البيئية يقتضي أولاً تحليلاً دقيقاً لها.فكثيرا ما بحثت المشكلات بطريقة جزئية، بدلاً من دراستها دراسة شاملة لبحث العلاقات المتبادلة بينها.وينبغي ان يبدأ التحليل بتصنيف لأنواع التلف او الأخطار التي تحدثها للبيئة أو تتعرض لها البيئة مع أخذ مدى أضرارها بالإنسان بالإعتبار.وهناك الآن إتفاق على ان البيئة تشمل البيئة الاجتماعية والثقافية، كما تشمل البيئة الطبيعية، ومن ثم يجب ان تضع التحليلات في الإعتبار العلاقات المتبادلة بين البيئة الطبيعية ومكوناتها البايولوجية والفيزيائية، كذلك العوامل الأجتماعية والثقافية.وفضلاً عن ذلك فان المشكلات البيئية ليست قاصرة على مشكلات الإستخدام الضار او غير الرشيد للموارد الطبيعية او مشكلات التلوث، بل هي تشمل بعض مشكلات التخلف، مثل نقص السكن وسوء ظروف الصحة العامة وسوء التغذية وقصور أساليب الإدارة والإنتاج.وبعبارة أعم جميع المشكلات الناجمة عن الفقر، كما تتضمن أيضاً بعض المشكلات المتعلقة بحماية التراث الثقافي والتأريخي.
6- وما من شك في ان العلم والتكنولوجيا يستطيعان إيجاد حلول للمشكلات التي ربما يكونان قد ساعدا بالفعل على إحداثها أو الإسهام في إيجاد تلك الحلول.بيد أنه لا ينبغي ان تكون الحلول المنشودة قصيرة المدى او محدودة الأفق، بل ينبغي في كثير من الحالات ان تراعي فيها العوامل الإجتماعية والثقافية التي كثيراً ما تكون من المسببات الأساسية لتلك المشكلات.فالمطلوب إذاً هو إعادة النظر في العلاقات المعقدة والدقيقة بين الإنسان وبيئته لكي يتسنى للإنسان الشروع في إتباع نمط إنمائي سليم من الناحية البيئية.وينبغي حفظ اوإعادة التوازنات الضرورية في تدفق المادة والطاقة خلال الأنظمة البيئية الطبيعية والأنظمة البيئية التي عدلها الإنسان على السواء، ويقتضي ذلك معرفة أفضل بالعلاقة بين أنشطة الإنسان والأنظمة البيئية المختلفة مما يقتضي بدوره مزيداً من البحوث الجامعة لعدة فروع علمية.
7- ويتعين فضلاً عن ذلك إعادة النظر في نماذج التنمية.فقد أصبح من الضروري التمييز بين الضروريات والكماليات، سواء ما يتعلق بالبيئة او بالتنمية.ويعتبر هذا دافعاً إضافياً الى المناداة بنهج شمولي في دراسة المشكلات البيئية التي تستلزم إسهام جميع العلوم الطبيعية والإجتماعية والإنسانية في تحليلها وحلها.ومن المسلم به على نطاق واسع ان تلك المشكلات تعد إنعكاساً لأزمة حضارية ولا يقل مضمونها الأخلاقي أهمية بحال عن عناصرها التكنولوجية أو الأقتصادية.
8- ويجب ان يقترن الأعتراف المتزايد بعواقب المشكلات البيئية وتداعياتها بالتضامن بين الأمم، كما ينبغي ان يستهدف تحسين إدارة البيئة بما يحقق منفعة الإنسان والتقليل من الفوارق القائمة حالياً وإرساء علاقات دولية تقوم على الإنصاف في إطار نظام دولي جديد.وللتربية البيئية دور واضح تؤديه، إذا كانت الغاية المنشودة هي تفهم القضايا المطروحة ، وتزويد المعنيين جميعاً بالمعارف والمهارات والمواقف الكفيلة بتحسين الوضع الراهن.
وقد أصدر مؤتمر تبليسي 40 توصية تناولت مجالات التربية البيئية المختلفة على مستوى العالم ككل، وحددت التوصيات في 3 أطر رئيسية، هي:
دور التربية البيئية، وأستراتيجيات لتنمية التربية البيئية على الصعيد الوطني ، والتعاون الأقليمي والدولي في مجال التربية البيئية.
عملاً بتوصيات مؤتمر تبليسي، إنطلقت برامج التربية البيئية بحماس شديد، فظهرت النشرات والمجلات المتخصصة، وعقدت الندوات والمؤتمرات الوطنية والإقليمية والدولية، ونظمت برامج لتدريب المعلمين والقياديين والمخططين والإعلاميين، وأدخلت في المناهج الدراسية مفاهيم بيئية[ ].
وهكذا يتضح ان للتربية البيئية هدف رئيس يتمثل في:إعداد الإنسان للعيش الآمن في كوكب الأرض.ولتحقيق هذا الهدف فقد إكتسبت التربية البيئية شكلي التربية الرئيسيين وهما: التربية النظامية Formal Education التي تتم من خلال مؤسسات التعليم العام والعالي، والتربية غير النظامية Non-formal Education التي تتم من خلال بعض مؤسسات المجتمع كالأسرة ودور العبادة ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية وغيرها.وكان للتربية البيئية برامج شتى في كل المؤسسات اجتماعية السابقة، سعياً منها لتحقيق الأهداف العامة التالية:
1- زيادة الوعي بالعوامل البيئية وأرتباطها بصحة الإنسان وسلامته.
2- زيادة القدرة على السعي الى إيجاد التوازن وتعزيزه بين العناصر الإجتماعية والإقتصادية والبيولوجية المتفاعلة ي البيئة.
3- زيادة المعرفة بالأنظمة الإجتماعية والتكنولوجية والطبيعية في البيئة.
4- تحسين إتخاذ القرار حول قضايا المجتمع المستقبلية.
وإذا كانت هذه الأهداف الأربعة للتربية البيئية منوطة بالتربية بشكل عام، بشكليها الرسمي ( النظامي) وغير الرسمي ( غير النظامي)، إلا ان التربية الرسمية ( التعليم النظامي) تبقى الأهم في تحقق أهداف التربية البيئية، والأسهل لتخطيط برامجها، والأيسر لتقييم مخرجاتها.
وعند التركيز على هذا الشق من التربية، التعليم النظامي، فإنه يمكن إستخلاص الأهداف الخمسة التالية للتربية البيئية:
1- معاونة الطلاب على فهم موقع الإنسان في إطاره البيئي والإلمام بعناصر العلاقات المتبادلة التي تؤثر في إرتباط الإنسان بالبيئة.
2- إيضاح دور العلم والتكنولوجيا في تطوير علاقة الإنسان بالبيئة ومعاونة الاَبناء على إدراك ما يترتب على إختلال توازن العلاقات من نتائج قد تؤثر في علاقات الإنسان.
3- أبراز فكرة التفاعل بين العوامل الإجتماعية والثقافية والقوى الطبيعية ومعاونة الطلاب على إدراك تصور متكامل للإنسان في إطار بيئته.
4- تكوين وعي بيئي لدى الطالب وتزويده بالمهارات والخبرات والإتجاهات الضرورية التي تجعله إيجابياً في تعامله وفي تصرفاته مع البيئة.
5- تأكيد أهمية التعاون بين الأفراد والجماعات والهيئات للنهوض بمستويات حماية البيئة.
وبغض النظر عن شكل التربية، سواء أكانت نظامية أو غير نظامية، فان التربية البيئية تسعى الى إعداد الإنسان البيئي Ecolate الذي يفهم نظم البيئة الطبيعية المعقدة، الذي هو في الأساس جزء منها، فهماً يتجاوز مجرد المعرفة الى الشعور بالمسؤولية حيالها.إنها تهدف الى تمكين الإنسان من إدراك أنه الكائن المؤثر والمتأثر في الكيان البيئي، وأنه جزء لا يتجزأ من هذا الكيان، وعلى نوعية نشاطه يتوقف مدى حسن إستغلاله للبيئة والمحافظة عليها، والأقصاء بها عن كل ما يعكر صفوها. وبشكل اكثر تحديداً، فان هذا الإنسان البيئي يتصف بما يلي:
1- الإلمام بالمفاهيم الإيكولوجية والأساسية والمبادئ المرتبطة بها.
2- المعرفة بكيفية تأثير فى النشاطات البشرية في العلاقة بين نوعية الحياة ونوعية البيئة.
3- التمكن من المهارات الضرورية للإستكشاف الفعلي للقضايا البيئية والحلول البديلة لها، وتقويم القضايا والحلول.
4- تمثل الإتجاهات وتبني القيم الضرورية اللازمة للممارسة البيئية العقلانية والمسؤولة.
وقد تعارف الباحثون على تسمية هذه الخصائص الأربعة للإنسان البيئي بالثلاثية البيئية Environmental Trilogy وهي: التعلم عن البيئة، والتعلم من البيئة، والتعلم من أجل البيئة. ويقصد بجانب “التعلم عن البيئة” الإلمام بالقواعد والمبادئ الأساسية لجوانب المعرفة العلمية التي تستخدم في تفسير الظواهر المتشابكة في البيئة والعلاقات القائمة بين المكونات الحية وغير الحية، وأثر الإنسان في بيئته، وكيفية التعامل معها ( المعرفة).أما الجانب الثاني ” التعلم من البيئة” فيركز على التفاعل بين مكونات البيئة الحية وغير الحية، والتعلم من البيئة من خلال الزيارات والرحلات التي يقوم بها المتعلمون لمواقع مختلفة في البيئة ( المهارات).في حين يتناول الجانب الثالث” التعلم من أجل البيئة” المحافظة على البيئة وتحديد ممارسات الإنسان الخاطئة والسليمة في بيئته، من أجل هذه البيئة، والإبقاء عليها سليمة نقية معافاة ( المواقف والقيم والسلوك).على ان هذه الجوانب الثلاثة تتداخل فيما بينها محققة في المحصلة تعلماً من أجل حماية البيئة وصيانتها والمحافظة عليها، وتكون بذلك أداة للتنمية وتحسين نوعية حياة الناس.
وخلاصة القول فان التربية البيئية تهدف الى تمكين الإنسان من إدراك من أنه كائن مؤثر في الكيان البيئي ومتأثر به، وأنه جزأ لا يتجزأ من هذا الكيان، ويتوقف على نوعية نشاطه مدى حسن إستغلاله للبيئة والمحافظة عليها[ ].
من توصيات مؤتمر تبليسي الدولي الحكومي للتربية البيئية
إنعقد المؤتمر الدولي الحكومي للتربية البيئية في تبليسي بالإتحاد السوفيتي السابق في الفترة من 14 – 26 أكتوبر 1977، ومن توصياته:
لما كانت التربية البيئية قد تيسر حماية البيئة وتحسين نوعيتها مما يحسن نوعية الحياة البشرية والحفاظ على صلاحية الأنظمة البيئية..يوصي المؤتمر الدولي الأعضاء بما يلي:أن تهدف التربية البيئية الى إيجاد وعي وسلوك وقيم نحو حماية الغلاف الحيوي وتحسين نوعية الحياة للإنسان في كل مكان.والحفاظ على القيم والأخلاق والتراث الثقافي والطبيعي.ويشمل ذلك الأماكن المقدسة والمعالم التأريخية والأعمال الفنية والآثار والمواقع والحياة الطبيعية للإنسان وفصائل النبات والحيوان والمستوطنات البشرية..
وتحقيقاً للأهداف المشار إليها يوصي المؤتمر الدول الأعضاء بما يلي:
1- ان تتولى السلطات المختصة إنشاء وحدات متخصصة يعهد إليها بإعداد كوادر قيادية بالمجالات البيئية، وتطوير المناهج الدراسية بما يتلاءم مع متطلبات البيئة المحلية والأقليمية والدولية وتأليف الكتب والمراجع اللازمة للبرامج المطورة.وتحديد طرق الوسائل التعليمية وما يتطلبه ذلك من أدوات مساعدة سمعية وبصرية بهدف شرح وتبسيط المناهج والبرامج البيئية.
2- الإمتناع عن كل ما يشوه البيئة ويهدد حياة الإنسان وصحته وإقتصادياته.
3- تشجيع إنشاء جمعيات أهلية تعمل على حماية البيئة وتسهم في برامج التربية البيئية على مختلف المستويات الشعبية والمهنية وصانعي القرارات.
4-بذل كل الجهود الممكنة في سبيل حماية التراث بما في ذلك تدريس عناصر التراث الثقافي في برامج التربية البيئية.
5- الأخذ في الإعتبار ما للقيم الأخلاقية من اَثار إيجابية لدى تطوير برامج التربية البيئية.
التوصية رقم 5: يوصي المؤتمر الحكومات بان تجري تقييماً منهجياً للأثر البيئي للأنشطة الإنمائية، ويدعوها بان تتيح الأستراتيجيات وبرامج المعونة من أجل التنمية للبلاد التي تعتمدها فرص إنشاء برامج تدريبية في مجال البيئة، تتضمن تقييماً للتنمية من زاوية البيئة البشرية.
وركزت التوصية رقم 7 على بيئة العمل وأهميتها لكل إنسان، ودعت الى إدخال هذا الجانب من التربية البيئية في المدارس الأبتدائية والثانوية وفي التعليم العالي وتعليم الكبار، وتزود الدارسين بمعلومات عن بيئة العمل ومشكلاتها، في الحرفة والمهنة المعينة، ومعلومات عن المعايير الطبية المتعلقة بالمستوى المسموح به من التلوث البيئي، وغير ذلك من العوامل التي تؤثر في الإنسان، ومجموعة التدابير الوقائية والمنظمة لمراقبة تطبيقها.
التوصية رقم 15: أن تولي الحكومات الأعضاء إهتمام لتثقيف عامة الجمهور، ولتعليم جماعات مهنية أو إجتماعية محددة،وتدريب بعض المهنيين والعلميين المشتغلين ببعض الأنواع الخاصة من مشكلات البيئة.
التوصية رقم 18:دعت الى إستحداث سياسات وأستراتيجيات وطنية تشجع مشروعات البحوث في مجال التربية البيئية وتطبيق نتائجها في العملية التربوية، وإجراء بحوث بشأن غايات التربية البيئية وأهدافها والبنى المعرفية والمؤسسية التي تؤثر في دراسة المتطلبات البيئية ومعارف الأفراد ومواقفهم، وإجراء بحوث بشأن الظروف التي تساعد على تنمية التربية البيئية، وإجراء بحوث لتطوير أساليب تعليمية ومناهج دراسية لإرهاف حس عامة الناس، وإتخاذ تدابير لتشجيع تبادل المعلومات بين الهيئات الوطنية للبحوث التربوية، وغير ذلك.
الفصل الرابع عشر
التربية البيئية بين الواقع والأمل
معالم أستراتيجية عربية للتربية البيئية
عقدت في الكويت الندوة العربية للتربية البيئية، للفترة من 21 – 26 نوفمبر 1976 وذلك من أجل وضع أستراتيجية عربية للتربية البيئية إستعداداً للمؤتمر الدولي الحكومي للتربية البيئية، الذي عقد في تبليس في أكتوبر 1977.وقد أعتبرت نتائج ندوة الكويت من الوثائق ذات الأهمية في مؤتمر تبليسي[ ]. ومما جاء فيها:
لما كان النمو الصناعي والزراعي والإجتماعي في العالم قد أدى الى تدهور مكونات البيئة، فأصبحت حمايتها وتطويرها وتحسينها من الأمور الملحة والعاجلة، الأمر الذي يبقى قاصراً ما لم تتبنى الدول استراتيجية تربية بيئية توجه الى جمهور المواطنين، سواء في القطاع المدرسي أو في القطاع غير المدرسي.واَخذاً في الإعتبار الخطوات السابقة في هذا المضمار، والتي تتمثل في التوصية 96 الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في ستوكهولم عام 1972، وبرنامج المشروع المشترك بين برنامج الأمم المتحدة للبيئة واليونسكو والمتعلق بالتعليم الخاص بالبيئة ، في مطلع عام 1975، وندوة بلغراد الخاصة بالتربية البيئية في أكتوبر 1975،والتي صدر عنها ميثاق بلغراد، الذي يعتبر أساس كل عمل مستقبلي في مجال ا