مشكلات نفسية – إجتماعية معاصرة …. الدكتور أسعد الإمارة (4)
يشتق مفهوم التعصب من اصله الاوروبي وهو من الاسم اللاتيني”الحكم”. المسبق”Praejudiciumمر هذا المصطلح والمفهوم بعدة تغيرات في معناه الى ان وصل الى ما هو عليه الان.وتمثلت هذه التغيرات في ثلاث مراحل هي:
1. المعنى القديم … ويقصد به الحكم المسبق الذي يقوم على اساس القرارات والخبرات الحقيقية الفعلية.
2. اما بعد ذلك… فقد اكتسب هذا المفهوم في اللغة الانجليزية معنى الحكم الذي يصدر عن موضوع معين قبل القيام باختبار وفحص الحقائق المتاحة عن هذا الموضوع.فهو يعد بمثابة حكم متعجل وفوري مبتسرPremature
3. وأخيراً… اكتسب هذا المفهوم بمعناه الحالي خاصية الانفعالية،سواء من التفضيل او عدم التفضيل التي تتقارب مع الحكم الاولي(المسبق)الذي ليس له اي سند يدعمه.
يرى البورت ان اكثر التعريفات تطابقا وتقاربا وايجازا لمفهوم التعصب هو:
انه التفكير السيئ عن الاخرين دون وجود دلائل كافية.
اما ايرليك Ehrlick :
فيرى ان التعصب اتجاه عرقي يتسم بعدم التفضيل
ويعرف كريتش وآخرون التعصب بأنه:
اتجاه يتسم بعدم التفضيل نحو موضوع معين ينطوي على مجموعة من القوالب النمطيه شديدة العمومية،ومن الصعب تغييره بعد توفر المعلومات المخالفة له.
ويعرف روس التعصب بانه :
اتجاه سلبي نحو جماعة عنصرية او دينية او قومية.
ويعرف نيو كمب وزملاءه التعصب بانه:
اتجاه بعدم التفضيل يمثل استعدادا للتفكير والشعور والسلوك باسلوب مضاد للاشخاص الاخرين بوصفهم اعضاء في جماعات معينة.
مشكلات
نفسية – اجتماعية
معاصرة
التعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً او جماعة موضوعاً معيناً ادراكاً ايجابيا محباً او سلبياً كارهاً دون ان يكون لهذا الادراك او ذاك ما يبرره من المنطق او الاحداث او الخبرات الواقعية.
التعصب كما عرفه “سيمسون” و”وينجر”:
اتجاه انفعالي متصلب نحو جماعة من الاشخاص
بعض النظريات التي تفسر التعصب
تتناول النظريات النفسية الاتجاهات التعصبية على اساس تكوينها ونشأتها ونموها في ظل ظروف معينة ،لذا فهي تتناولها من حيث عمق تكوينها وطريقة اكتسابها ،فهي لم تكن متوارثة او منقولة بالجينات عبر الاجيال وانما متعلمة من البيئة فترى النظريات ان الناس لم يولدوا ولديهم اتجاهات خاصة ولكنهم يكتسبونها من خلال الملاحظة والاشتراط الاجرائي والاستجابي وكذلك من خلال الانماط المعرفية للتعلم وعلى هذا الاساس فأن المؤثرات تكون متداخلة في الخبرة لدى الفرد، وتقول”دافيدوف”الاتجاهات المتكونة والمتأصلة بطريقة جيدة تشكل خبرات الناس أزاء الاشياء المتعلقة باتجاهاتهم، فهذه الاتجاهات تؤثر في السلوك وفي التعامل وفي الحكم على الاشياء وفي التفاعل الاجتماعي مع الاخرين. وسنعرض لبعض النظريات التي تفسر هذه الظاهرة.
نظرية الشخصية التسلطية:
وجد تيودور ادورنو Theodor Adorno وزملاؤه بدراساتهم الميدانية عن الشخصية التسلطية تأييدا قويا لفروضهم العلمية حينما كانوا يدرسون الافراد ذوي الشخصيات التسلطية، ويتسم هؤلاء الافراد التسلطيون بأنهم جامدون تقليديون غير متماسكين تجاه الضعف سواء في الاخرين او في انفسهم ويميلون الى العقاب الشديد وتسيطر عليهم لغة القوة والعنف والخشونة المفرطة حتى مع اقرب الناس لهم، ويرون في الطبيعة الانسانية عند البشر ضعف واهتزاز في النفس وميوعة نحو الاخرين في التعامل، هذا النمط من البشر يخشون الافراد ذوي النفوذ والسلطة ويقتنعون بضرورة الطاعة والاذعان المطلق.
ينظر هؤلاء اصحاب نظرية الشخصية التسلطية للتعصب(ادورنو وزملاءه) على انه اضطراب في الشخصية يماثل تماما مختلف المخاوف المرضية Phobia او الحاجات العصابية للموافقة(الاستحسان). هذه الشخصية التسلطية عبارة عن زملة معقدة من السمات تميز الاشخاص مرتفعي التعصب، لذا فأن الاتجاهات التعصبية تنشأ وتنمو من زملة سمات الشخصية التسلطية وهي التمسك الصارم بالقيم المتفقة مع التقاليد الاجتماعية السائدة والسلوك النمطي ،والعقاب القاسي للمنحرفين عنه والحاجة المبالغ فيها للخضوع للسلطة القومية والتوحد معها.
تؤكد هذه النظرية ان الافراد المتسلطون كانوا في طفولتهم خائفين من والديهم وغاضبون منهم ، ويخشونهم على الدوام منهم ، ولذلك انهم يظلون غير امنين ويتمسكون بالعدوان وهم كبار، وتتفق رؤية هذه النظرية مع نظرية التحليل النفسي ببعض جوانبها بقولهم: يقومون بعملية اسقاط لعدم كفاءتهم على افراد جماعة الاقلية حاسرة القوة، ويزيحون غضبهم من اباءهم على هؤلاء الضحايا.
نظرية التحليل النفسي “النظرية الدينامية”
وتنسب هذه النظرية اسس افكارها الى مؤسسها سيجموند فرويد ، والتي تؤكد هذه الاسس على اهمية وجود ديناميات معينة في شخصية الفرد هي التي تمارس تأثيرها في تصرفاته المختلفة ويؤكد فرويد على اهمية اللاشعور في فهم مختلف جوانب الشخصية، بما فيها التعصب الذي يمكن تفسير نموه وارتقاءه في ضوء بعض الميكانيزمات مثل “الاسقاط” و”الازاحة”و”التبرير” وغيرها من الميكانيزمات الاخرى.
اعتقد سيجموند فرويد ان التعصب يدل على الميول البشرية”للاسقاط” وإسقاط التشابه على وجه التحديد.ويقصد به الميل الموجود لدينا جميعا الى ان نسقط اندفاعاتنا غير المرغوبة(وبالتحديد الميول ذات الطابع الجنسي والعدواني)على الاخرين، حيث يساعدنا ذلك على ان نرى الاخرين يفعلون الاشياء التي نخاف ان ننسبها الى انفسنا ، وهذا الميكانزم يسمح في رأي فرويد للشخص ان يقاتل ويعبث بالقيم ويفسق ويفعل افعالا شنيعة لاعتقاده ان الاخرين هم الذين بدأوا بذلك ، ويقول مصطفى زيور.. يقصد بالاسقاط الصاق صفة ذاتية بشخص آخر تفاديا من رؤيتها في الذات.
نظرية التعلم الاجتماعي …
(التعلم بالنموذج)
وضع اسس هذه النظرية باندورا و”والترز”واخرون غيرهما ، وتدور افكار هذه النظرية على ان التعلم يحدث من خلال نموذج اجتماعي معين يتم تقليده او التأثر به من خلال المحاكاة او التعلم او العبرة والاحتكاك ،وهو يتم من خلال تدعيم ذاتي بدلا من التدعيم الخارجي. اما في ما يتعلق بموضوع تكوين الاتجاهات التعصبية فتؤكد هذه النظرية على اهمية دور الوالدين حين يقوم الوالدين بالتأثير على الابناء وتشكيل الاتجاهات، ومن اهم العوامل على الاطلاق هو ان يبدأ الاطفال في تقبل آراء الوالدين عن الاشياء قبل ان تقوم التأثيرات التالية بتعديلها ومن اسباب هذا التأثير :
– الوالدين ومن خلال ما يلي:
· المحاكاة
· الاستماع والاصغاء
· التقليد
· توجيه النصح للابناء
ويتعاظم تأثير الوالدين كلما ازداد احتكاك الاطفال بهم وخصوصا عندما تكون العلاقة دافئة ووثيقة تتسم بالقبول التام ، ويعي بعض الاطفال فيما بعد قوة هذا التأثير وعظمته عليهم من قبل الابناء لكنهم ينسون ذلك عندما يتقدم بهم العمر محاولين انتحال تفسيرات واسباب اخرى لاتجاهاتهم.
تأثيرات الجماعات الاخرى:
ينتمي الاطفال الى جماعات اخرى خارج المنزل ، تصبح هذه الجماعات مؤثرة وفعالة عندما يتركون المنزل او المدرسة او المقربين لهم من الاقرباء،تصبح هذه الجماعات ذات اهمية كبرى لهم ويكون التعلم بالمحاكاة والتقليد من الكبار في هذه الجماعات . ان هذه الجماعات تمنحهم التنشئة الاجتماعية والتي تضم مسايرة معايير هذه الجماعة اذا حاولوا الانحراف عن قواعدها ،واذا لم يتفقوا او انحرفوا عن الجماعة سوف ترفضهم الجماعة، لذلك فالتقارب والالتصاق بالجماعة يولد لديهم الاتجاهات التعصبية ، لاسيما ان اتجاهات تلك الجماعة تسير نحو التعصب ورفض الاخر، وقد وجد علماء النفس ايضا ان تأثير الجماعة في بعض الاشخاص يتفاوت من شخص الى آخر وحسب القوة ، لا بسبب تأثير الوالدين فحسب، بل نتيجة لبعض الدوافع التي يرضيها التعصب الداخلي للفرد ايضا.
الاعلام وتأثيره
تعد وسائل الاعلام قناة مهمة جدا لتعلم الاتجاهات التعصبية خلال عملية التنشئة الاجتماعية،فالاطفال يميلون غالبا الى محاكاة اشكال العنف المختلفة التي يشاهدونها من خلال وسائل التخاطب الجماهيري العديدة التي باتت تشكل الظل الاعظم في كل البيوت وما لها من تأثيرات تنطوي عليه المادة الاعلامية من مشاعر الكراهية او التقبل او النبذ لطائفة معينة او قومية او حركة سياسية او شخصية ما او دين ما بعينه او لاقلية ما.
اذن جوهر موضوع نظرية التعلم الاجتماعي يكمن في كيفية ارتقاء الاتجاهات التعصبية واقرب مثال لذلك هو محاكاة الاطفال للكبار وتقليدهم ويكونون حينئذ عرضة لاستدماج اشكال التعصب التي توجد لدى الراشدين وبوجه خاص الوالدين والمدرسين .
سيكولوجية التعصب
· محاضرة للبروفيسور مصطفى زيور(عالم النفس العربي الشهير)
اننا نحن معشر المشتغلين بعلوم النفس نعلم ان النفس الانسانية تنفر من الكشف عما يدور في حناياها من ميول، وتكره ان تواجه في اخلاص ما تنطوي عليه من نزعات، ونؤمن بقول نيتشه”أن الاخطاء تنجم اكثر ما تنجم من الجبن عن مواجهة الحقائق”.
لابد لنا اذن من ان نستبدل بسياسة النعامة سياسة التبصر،اذا كنا نؤمن بأن خير وسيلة لضبط الانفعال انما هو تحليل الانفعال.
وأن لنا في تاريخ هذا العلم خير سند لما نذهب اليه.فلم يصل علم النفس الى شئ ذي جدوى الا بعد ان استطاع احد رواده اعني به فرويد بجرأته من ان يفتح عينيه على ما يدور في قرارة نفسه مهما كان بغيضاً. وكلنا نعلم ان هذا هو الثمن الذي يجب ان يدفعه المريض اذا اراد لنفسه شفاء.
علينا اذن ان نتجمل بكثير من الشجاعة والاناة بل علينا ان نفتح اعيننا على ما يدور في انفسنا عند بحث التعصب حتى لا تصدر في ما نقرر إلا عن الحقيقة وحدها.ولقد يتندر احدنا فيقول:ألا يكون البحث في التعصب صادراً عن نوع من التعصب.اننا نعلم ان الشفقة قد تكون رد فعل لما تنطوي عليه النفس من القسوة. ولقد تبين من سيرة تولستوي الملقب بنبي الرحمة انه كان يحذق تعذيب افراد عشيرته ممن لم يؤمنوا بمثله الاعلى،فكأن سلوكه الرحيم لم يكن إلا انتصارا على نزعته الى القسوة والعنف، ولكنكم قد ترون معي انه لا بأس علينا فيما نصدر عنه اذا كانت الرحمة رائدنا، وانه خير لنا ان نصدر في رحمتنا عن القسوة من ان نكون عاطلين عن القسوة والرحمة جميعاً.
ان التعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية ، ولا يغير من الامر شيئا ان يكون التعصب دينيا، فقليل من التفكير يدلنا على ان التعصب الديني لا يختلف لا في مبناه ولا في معناه عن اي نوع من انواع التعصب التي تنشأ بين الاجناس او بين الاحزاب السياسية او بين المذاهب الاجتماعية وما الى ذلك.
ولقد استطيع ان اسوق اليكم مثالا استمده من خبرتي الاكلينيكية،يدل في وضوح على ان هذه الظاهرات التي تتصف بأنها دينية،تنشأ اولا وقبل كل شئ من بواعث نفسية لا علاقة لها في الاصل بالعقيدة الدينية.
جاءني شاب يوناني على درجة عظيمة من الذكاء والثقافة، يشكو اعراضا من نوع هستيريا القلق،ثم اضطرابا عاما في سلوكه وخاصة نحو النساء،فلم يكن يستطيع ان يخلد الى واحدة منهن بل كان يجد نفسه مدفوعا الى ان يتصيد قلوبهن الواحدة بعد الاخرى، ثم يهجرهن سريعا.بدأت العلاج بالتحليل النفسي وأمضينا في ذلك نحو سنة ونصف شفي في نهايتها شفاء تاما.والمهم لدينا هنا ان هذا الشاب الذكي المثقف كان يعتنق الشيوعية ولقد كان ملحدا. ويجب ان اذكر انه كثيرا ما كان يقحم في حديثه اثناء التحليل مشاكل الدين والمجتمع، ولكني لم اناقشه فيها مرة واحدة، لأن هذا ليس من مهمة التحليل كما هو معروف.وكم كانت دهشتي عظيمة عندما تبينت في نهاية التحليل ان هذا الشاب شفي لا من اعراضه الهستيرية فحسب بل وتخلى عن شيوعيته والحاده، لا اقصد انه اصبح متديناً متحمساً لدينه،وانما اقلع عن تشبثه وتحمسه لفكرة الالحاد.
ويضيق المجال هنا عن تفصيل القول فيما كشف عنه التحليل من المعاني السيكولوجية التي اكتنفت اعتناقه للشيوعية والالحاد، وسأكتفي بذكر الخطوط الرئيسية التي تتصل بهدفنا مباشرة.وكانت الخبرة الباتوجنية وما نجم عنها من اضطراب في السلوك تنحصر في علاقته بأمه اثناء سنوات الطفولة،فقد كانت امه سيدة عصابية وكان سلوكها يتنازعه تياران.فمن ناحية كانت تختصه بعناية مفرطة وعطف زائد،وكان من شأنهما ان عطلا نموه الوجداني،اذا استمر هذا العطف وهذه الرعاية وتشبث بموقفه الطفولي منها، ومن ناحية اخرى كانت حريصة شديدة الحرص على ان تكون تربيته تربية مثالية تنسجم مع قواعد التهذيب السائدة في الاوساط الارستقراطية، وكانت تستعين في ذلك بالمربيات الاجنبيات.
وهكذا كان الطفل حائرا بين رغبة ملحة، دفعه اليها سلوك امه، في الاعتماد عليها اعتماداً تاماً والاستمتاع بعطفها الزائد، وبين قواعد ومثل يلقنها، تضع حدوداً لا يجب ان يتعداها ولست في حاجة الى الاشارة الى ان هذا السلوك المتناقض من قبل الام كان صدى لما يعتلج في نفسها من صراع، وخاصة لما يحتدم في نفسها من كراهية لمظاهر الرجولة والاستقلال، والنتيجة الحتمية من هذا كله ان الطفل شقي بشعور مرير بالخيبة، دفعه عندما ادرك مرحلة البلوغ، الى مناهضة كل ميل في نفسه الى الاتكال والاعتماد والاذعان، بل كل ميل الى التعاطف وتبادل الرحمة، فكأنه كان يخشى ان يؤدي ذلك الى ان يعاني الشعور بالخيبة والمرارة من جديد.فكان نفورا من كل موقف عاطفي لا يكاد يقيم علاقة مع امرأة حتى يبادر بقطيعتها خشية ان يلقى منها القطيعة، وكان ناكرا مستنكراً لكل نظام يتضمن الحب والاذعان، فأنكر النظام الاجتماعي السائد واعتنق الشيوعية بدوافع ذاتية، كما انكر اخلاصه لعقيدة ابويه واعتنق الالحاد.
وهو في هذا كله كان يناهض حنينه الى تلقي الحب ورغبته الملحة في الاخلاص والركون الى صدر رحيم.
وهكذا نستطيع ان نقرر ان الالحاد(اي التعصب ضد العقيدة الدينية) قد يكون رد فعل لرغبة عنيفة في الايمان،تتوجس النفس من عواقبها شراً،وسنرى بعد قليل ان العكس قد يكون صحيحاً بمعنى ان التدين الوسواسي والتعصب للعقيدة،قد يكون رد فعل لميول عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين،بصفة عامة على السلطان اياً كان نوعه.
ان مركز مشكلة التعصب الذي تدور حوله كل مظاهرها انما هو العدوان وقابليته للنقل.ولابد لنا الان ان نحاول الاجابة على السؤال الذي تستثيره هذه النتيجة .اننا نعلم ان الظاهرات النفسية لا يمكن ان تتم جزافا،فما الذي يدفع الى اختيار هدف ينتقل صوبه العدوان دون غيره؟وبعبارة اخرى ما هي الصفات التي يجب ان تتوفر في موضوع بعينه كي يصلح ان يكون كبش فداء؟
لننتقل الان الى عامل آخر من عوامل اختيار كبش الفداء في ظاهرة التعصب.ولكي نفهم طبيعة هذا العامل يجب ان نذكر ان اعتناق الطفل للمعاني الدينية ،لا يبدأ الا في مرحلة الكمون حوالي سن السابعة، اي عند نشأة الضمير الخلقي،وبعد انتصاره على دوافع الكراهية إزاء الاب،تلك الدوافع التي كانت تصطرع في نفسه اصطراعاً عنيفاً ابان المرحلة الاوديبية.
وهكذا فأن الاذعان لسلطان الدين يسير جنبا الى جنب مع الاذعان لسلطان الاب، ويشتركان في جميع الصفات النفسية،مما حدا بالمحللين الى اعتبار الاذعان لسلطان نوعا من الاسقاط للاذعان لسلطان الاب.
على ان مكتشفات التحليل النفسي تدلنا على ان الانتصار على دوافع الكراهية نحو الاب،لا يعني فناءها، وعلى ان هزيمتها لا تدوم الا بدوام مناهضتها.ولما كان وجود فرد او جماعة لا يذعنون لما نذعن له ،ولا يعبدون ما نعبد، يقوم دليلا على ان السلطان الذي اذعنا له غير مطلق، فإن هذه الجماعة تصبح اشبه شئ بمحرض لدوافع الكراهية نحو التمرد.والنتيجة الطبيعية من ذلك إنه لا بد من محاربة الكافر بما نؤمن به،حتى لا يتاح لعوامل الكراهية الذاتية ان تتمرد.
اما العامل الاخر في تبرير التعصب اي في اختيار كبش الفداء، فهو في نظري اهم من العوامل السابقة لانه الصق منهما بغريزة حفظ البقاء ولهذا فإني أميل الى تسميته بالعامل النرجسي.
لابد لنا ان نتبين السبب الذي يدعو الى اتخاذ التعصب وسيلة للدفاع عن النفس،وهنا يجب ان نذكر ان الطفل عندما يقلع عن اوهام القدرة المطلقة التي تبعث فيه الشعور بالامان وتزوده بالطمأنينة،فلا يلبث ان يتوحد بابويه ،وفي مرحلة تالية يتوحد بالطائفة او المجتمع الذي ينتمي اليه،ويخلع عليه كل صفات الكمال التي تكفل تزويده بالامان والطمأنينة ليست هي الكمال نفسه، وان ثمة من العقائد المغايرة ما يدعو الى الشك في هذا الكمال.فإن ذلك يبعث القلق ويحفز للدفاع عن النفس.
انه يبدو ان التوحد بالطائفة الدينية اياً كان نوعها وعددها،اكثر انواع التوحد في الشرق الاوسط كما تدل على ذلك الاختبارات التي اجريت على الاتجاهات الاجتماعية لطلاب الجامعة الامريكية ببيروت. وقد اسفر هذا الاختبار عن نتائج هامة كثيرة خليفة بأن تسترعي اهتمام علماء النفس والاجتماع في الشرق الاوسط وبأن تحفزهم على دراستها والمضي في هذا النوع من البحث.
اما النتائج التي تتصل بهدفنا اليوم فهي ان اعظم درجات التباعد كانت بين الفئات الدينية اي على اساس العقيدة الدينية ،وبعبارة اخرى ،فأن الاتجاهات المتصلة بالانتساب الى طائفة دينية برزت في قوتها مقابل جميع الاتجاهات الاخرى المتصلة بالقومية او الحالة الاقتصادية او التعليمية وما اليها.ويعلق المختبر على ذلك بالاشارة الى قوة الرابطة الدينية في الشرق الاوسط،كما يدل عليها توزيع المنشآت والاحوال الاجتماعية ،مثل السكن في احياء بعينها،وقيام مدارس طائفية،ثم اختلاف الشرائع والمحاكم الخاصة بالاحوال الشخصية،بل ان التمثيل السياسي نفسه يخضع للاحوال الطائفية.
بقيت مسألة اخيرة وهي غلبة التوحد الطائفي الديني على غيره من انواع التوحد بالمنظمات الحضارية الاخرى في الشرق الاوسط.وهذه مسألة تخضع للتطور النفسي الاجتماعي كما سبق ان قدمت .فان عدم استقرار النظم الحضارية الاخرى وتزاحم الحضارتين الغربية والشرقية في الشرق الاوسط لم يترك للافراد غير سند التوحد الطائفي.
وأخيرا يجب ان نذكر ان مظاهر العدوان والكراهية والنقمة لدى المرضى العصابيين تقل كثيراً بعد علاج نفسي ناجح ويحل محلها شعور بالتسامح مما يدل على امكان علاج مظاهر التعصب، وهي في نهاية الامر مظهر للصراع وما يتضمنه من عدوان وكراهية.
والخلاصة انه يجب ان نخضع ظاهرة التعصب وغيرها من الظواهر الاجتماعية للاسلوب العلمي في وصفها وتحليلها اذ ان الاسلوب العلمي يتضمن بطبيعته الموقف الموضوعي الذي يتجرد الى اقصى حد مستطاع من تأثير الاهواء والدوافع الذاتية المغرضة،وبالتالي فهو خير سبيل الى تحقيق التسامح.
ولنذكر ماجنته الانسانية من تطور موقفها ازاء الزيغ والانحراف النفسي فقد كان مرضى العقل يكبلون بالسلاسل ويعاملون اسوأ المعاملة كما كانوا اشراراً حتى جاء الطبيب الفرنسي بينل وفك قيودهم ونادى بمعاملتهم كمرضى لا كأشرار.وهكذا كان الحال إزاء المجرمين والاطفال المنحرفين فإن الموقف العلمي الحالي غير من موقف المجتمع إزاءهم تغييرا تاما عاد بفائدة كبيرة على المجتمع نفسه. فلا بد لنا اذن ان نقف الموقف نفسه في ميادين الاجتماع والسياسة اذا اردنا الوصول الى حلول فعالة.
وقد بينا ان التعصب يؤدي وظيفة نفسية خاصة تتلخص في التنفيس عما يعتلج في النفس من كراهية وعدوان مكبوت وذلك عن طريق عمليتي النقل والابدال دفاعاً عن الذات وعن من تحبه. فالمتعصب اذن يجني في موقفه كسباً، غير ان هذا الكسب لا يختلف عما يجنيه العصابي من سلوكه الشاذ،اي كسب وهمي ناقص يفوت على صاحبه فرصة حل اشكاله حلاً رشيداً واقعياً مجدياً.
مستل من كتاب في النفس لمؤلفه البروفيسور الدكتور مصطفى زيور.
التعصب ..اشكالية في التفكير، اشكالية في السلوك
لعل من اهم المنعطفات المهمة في قدرات الانسان المعرفية ، هي معرفة ما يدور ” داخل الدماغ”ولعل الشئ المميز لهذه القدرات هو التركيز على تأثير الخبرة السابق والدافعية والخلفية الاجتماعية على الادراك ثم التفكير بما ادركه الفرد، لذا فأن انتقاء الفرد للمنبهات الخارجية لا يحدث بشكل عشوائي وانما هناك تنظيمات معرفية مكتسبة خاصة بكل فرد تجعله يدرك المنبه بطريقة تختلف عن الافراد الاخرين وهكذا فأن بحوث عالم النفس ( ادورنو) وزملائه اساليب التفكير لدى الناس ، اكدت بوجود تنظيماً معيناً للشخصية يؤثر على كيفية استقبال الدماغ للمعلومات ومعالجته لها ، ولهذا فالشخصية هنا هي العامل الداخلي الذي يؤثر على التعامل مع المعلومات داخلياً ، ومع الافراد في المحيط الاجتماعي ، وتنبع كل تلك العمليات اساساً من عملية التفكير وتحديد الاساليب التي يمكن استخدامها اثناء التعامل .
اما السلوك فيعرفه ( احمد عزت راجح) بأنه كل مايصدر عن الفرد من استجابات مختلفة ازاء موقف يواجهه ، او مشكلة يحلها او خطر يتهدده او قرار يتخذه ، ويضيف (راجح) قوله ان السلوك كل نشاط يصدر عن الانسان وهو يتعامل مع بيئته حركياً او عقلياً او انفعالياً ، انما يصدر عن الانسان بأسره ، بكليته ، من حيث هو وحدة كلية .
ولعلني لست في حاجة الى بيان المعنى الذي يجب تفصيله عن التعصب ، ولكن لا بأس ان نستعرض بعض التوضيحات السيكولوجية عن هذا المفهوم الذي يأسر الشخصية باكملها حتى استطاع ان يحرف النفس عن مسارها في الصحة . فالتعصب ازمة تقوض وحدة المجتمع ، تنبع اساساً من شخصية مضطربة في معيار الصحة النفسية والعقلية الاجتماعية ، حتى اذا بلغ التعصب ذروته القصوى بين افراد المجتمع ، سيؤدي حتماً الى افساد تماسك المجتمع وتهديد كيانه ليختل توازنه فتعتل شخصية الفرد التي تنعكس بمجموعها على المجتمع ، وعليه يمكن تعريف التعصب بأنه اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً او جماعة او موضوعاً معيناً ادراكاً ايجابياً محباً او سلبياً كارهاً ، دون ان يكون لهذا الادراك ما يبرره من المنطق او الاحداث او الخبرات .
فالتعصب اذن اتجاه ، والاتجاه هو استعداد تجاه شئ او تجاه فكرة ، شخص ، هد ف ، موضوع، ذلك الاستعداد يتضمن الشعور الذي يحمل الفرد على العمل والتصرف . ويرى (البورت) بأن الاتجاه هو حالة من الاستعداد او التأهب العصبي النفسي ، تنتظم من خلاله خبرة الشخص وقد تكون ذات تأثير توجيهي او دينامي على استجابة الفرد لجميع الموضوعات والمواقف التي تستثير هذه الاستجابة ، ويطرح البورت اربعة عوامل لتكوين ذلك الاتجاه وهي – الخبرات الفردية حول موضوع معين تتكامل وتتجمع مع بعضها
– يمر بعملية تمايز نتيجة للخبرات المختلفة
– قد تكتسب نتيجة لخبرة واحدة قوية تقليد الوالدين والاصدقاء والافراد الاخرين الذين يحوزون اعجاب الفرد بصفة عامة يحمل التعصب معه دائماً وبلا ادنى شك الكراهية للاخر ، هذه الكراهية المفرطة التي ربما تصل الى الغاء الاخر او تسقيطه وقد تمكن من تدميره وفناءه لفعلٍ ما، فالتعصب اذاً كراهية موجة مرضية وغير صحية لا ترضي الا صاحبها بالذات ، وفي تلك الحالة يضعف الحس الانساني في التواصل مع الاخرين..
في التعصب يفتش المرء عن حل لتوتره ، اي عن الانتقام والتشفي ، هنا نلاحظ ان في سلوك المتعصب تقلب واضح لمن يسانده مهما كان مؤمناً او ملحداً ، مبدئياً او بروجماتياً “نفعيا” ، فهو يتقلب مع من يؤيده ، اذا هو يستنفذ كل خياله وتفكيره في البحث عن طرائق واساليب سلبية ملتوية ، حتى يتراءى له ان كل من يعارضه او يختلف معه يصبح خصمه ويرغب في ان يراه مغلوباً مقتولاً . ان من سلوك التعصب هو البروز الواضح في تفشي الحقد بين الناس او الاضطراب الواضح في العلاقات ، ويحمل معه الواناً كثيرة ومتعددة من السلبيات التي تتحكم بل وتوجه السلوك ، فهناك الكره ، والتعصب والرغبة في تدمير الاخر.
يقول عالم النفس المصري الشهير “مصطفى زيور” علينا ان نتجمل بكثير من الشجاعة والاناة ، بل علينا ان نفتح اعيننا على ما يدور في انفسنا عند بحث التعصب حتى لا تصدر في ما نقرر الا عن الحقيقة وحدها ، فالتعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية ، ولا يغير من الامر شيئاً ان يكون التعصب دينياً ، فقليل من التفكير يدلنا على ان التعصب الديني لا يختلف لا في مبناه ولا في معناه عن اي نوع من انواع التعصب التي تنشأ بين الاجناس او بين الاحزاب السياسية او بين المذاهب.
يحق لنا القول ان التعصب هو اشكالية في التفكير ، حيث تتكون الاتجاهات المتعصبة في الجوانب ( المعرفية والانفعالية والسلوكية ) وازاء ذلك فهو ميل انفعالي يفرض على صاحبه ان يشعر ويفكر ويدرك ويسلك بطرق واساليب تتفق مع حكم بالتفضيل او عدم التفضيل لشخص او لجماعة او لمذهب او لدين او لقومية او لجنس من الاجناس .
وهكذا نستطيع ان نقرر بأن التعصب هو اشكالية في الادراك واشكالية في التفكير واشكالية في السلوك تنعكس علينا جميعاً اذا ما كنا مسالمين متسامحين ، نرى الاخرين بعين السواء لا فرق في خلق الله في هذا الكون .
اما المتعصب فقد انتصرت لديه دوافع الكراهية نحو الآخر ويرى بعين تحرض لدوافعها على التمرد ضد الدين المعتدل والفكر الهادئ والمذهب الملتزم والاتجاه السوي لدى عامة الناس ، هذه اشكالية اخرى نعيها نحن معشر البشر الاسوياء لكن لا يدركها من لديه شعور بمرض التعصب ، فهو يريد تبرير التعصب في الدفاع عن النفس ، والدفاع عن النفس في مثل هذه الحالة يعني من الناحية السيكولوجية الاحتفاظ بالبناء الراهن للشخصية مهما كان فيها من عوج حتى وان تلوثت بمرض في الادراك وفي التفكير وفي السلوك …
التصلب والمواقف الاجتماعية
من منا لم يداهمه النحس في بعض المواقف ، من منا لم يداهمه القلق ،من منا كانت حياته عبر تاريخه الخاص تسير بخط واحد لا ينتابها الهم او الغم اوالشدة ، وكانت السعادة فقط هي السائدة ،انها سنة الحياة بكل معانيها، في اختلافها وتعادلها وتوافقها ، ومع ذلك يبقى من الصحيح ان نقول وبشكل عام في كل حالة فردية او موقف ضاغط ، انها بقدر ما يكون حظها من حل المعضلة بطريقتها السوية تكون الحدود الفاصلة ليست قاطعة التحدد بين هضابها الخضراء المتمثلة في السعادة وصحاريها القاسية او جبالها الوعرة في مسيرة الحياة، ولكن لا تتمكن ازماتنا الداخلية اوالخارجية ولا نسمح لها بالتسلل والنفاذ والتأثير الى كل الشخصية حتى تنعكس على السلوك الشخصي والمواقف الاجتماعية وبقدر ما يستطيع الفرد ان يُحِِيد المواقف الضاغطة، يستطيع ان يعيد توازنه ولو وقتياً اثناء الازمة،ولو تخفى بالتحريفات الدفاعية التي لا يستطيع التحكم بها شعوريا وربما تظهره في بعض الاحيان على غير حقيقته.
حديثنا اذن عن السوية في السلوك وفي التعامل وفي طريقة التفكير،والتفكير كما هو معروف هو الذي يحرك السلوك ويدفعه وهو الذي يقود صاحبه الى التعامل بالاسلوب او الطريقة المناسبة لكل مواقف الحياة المتنوعة ولكن ما رأيكم سادتي الافاضل حينما يتجدول التعامل والسلوك في اطار واحد هو التصلب. ولو تأملنا في هذا المفهوم لوجدنا انه يشير بوجه عام الى العجز النسبي عن تغيير المرء لتصرفاته واتجاهاته عندما تتطلب الظروف الموضوعية ذلك كما عبر عنها عالما النفس(انجلش&انجلش).
اذن نستدل بان الشخص المتقلب الشخصية هو الذي لا يستطيع التكيف مع المواقف الاجتماعية الجديدة او مع المتغيرات التي تطرأ على تلك المواقف ، وهذا العجز عن التكيف يجعل من الشخص المتصلب في صراع مع نفسه او مع مجتمعه وهو بذلك يبتعد عن السوية،لا يعترف بان التغيير والتجديد والتعامل مع المواقف الحياتية المتنوعة هي سنة الحياة، وان سمة المرونة هي من اهم مستلزمات الكائن الحي عموما، والانسان بشكل خاص حتى يستطيع ان يتوافق مع بيئته ومجتمعه والاخرين المحيطين به والذين يتعامل معهم في الشارع والعمل والبيت والسوق وفي كل مجالات الحياة الاخرى. لذا فأن حياة اي منا ما هي الاسلسلة من التوافقات لا سيما ان التوافق يعني هوالنشاط الذي يقوم به الكائن الحي ويؤدي الى اشباع الدوافع .
يقول علماء النفس ان الشخص الصحيح نفسيا هو الشخص الذي يعي دوافع سلوكه، مؤثرا في البيئة من حوله بفاعلية متجددة، فالفرد السليم نفسيا هو الذي يمكنه الاستجابة بطريقة تكيفية حينما تواجهه مواقف حياتية تستدعي ذلك. فالفرد الخالي من المرض النفسي هو الفرد الذي لا تصدر عنه استجابات متنوعة تميل الى العصابية او الذهانية او الانحرافات السلوكية في الشخصية ومنها التطرف في الدين او المذهب او في السياسة او المعتقد او التطرف في الاتجاهات الاجتماعية مثل القبلية والمناطقية والتعصب لها ، والمتصلب يبتعد كل البعد عن ذلك ولا يقف تأثير التصلب عند حدود الفشل في العلاقات الاجتماعية بل يترتب عليه ايضا الكثير من القلق والاضطراب النفسي، فهو يقترب من الانحراف نحو المرض العصابي او الذهاني ويبتعد عن السوية.
ويقول علماء النفس نحن من خلال خبراتنا في الطفولة نتعلم طرقا ونكتسب عادات لمواجهة وحل المواقف بطرق ثابتة نوعا ما، وهذه الطرق تستمر طوال سنوات الحياة التالية،كما اننا نكوّن ايضا صوراً او توقعات معينة سواء بالنسبة لانفسنا او بالنسبة للاخرين،وهذه الصور والتوقعات تستمر كذلك في سنوات الحياة التالية وكثيرا ما نشعر بان هذه النماذج السلوكية والتوقعات غير ملائمة ولكننا نجد انفسنا غير قادرين على التخلي عنها، ونشعر بان ظروف الواقع ومتطلباته تتطلب سلوكا مختلفا ولكننا نبدو غير قادرين على التعامل بطريقة معينة مما يسبب لنا الضيق والحصر والقلق، واذا كان الفشل في المواقف الاجتماعية يؤدي الى القلق، فأن القلق بدوره يؤدي الى تدهور الاتزان والتعامل السوي وبذلك يفقد الانسان المرونة ويميل الى التصلب كرد فعل ،وهو مظهر من مظاهر الاضطراب النفسي.
ان التصلب يقف عقبة كأداء في وجه كل التوافقات الداخلية الفردية او الخارجية مع الاخرين ويكون ذلك بداية الجنوح نحو الانحراف في الشخصية او سوء التوافق او ربما اصعب من ذلك الى العصاب او الذهان ونرى ان التصلب ينعكس في كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية ، ففي كل مكان وزمان ، وخصوصا في زمننا الحاضر نجد من الناس المتعصبين المتمسكين بآراءهم تمسكاً شديداً ، يدافعون عنها دفاعا مستميتا ويكنون العداء لكل انسان يختلف معهم، او لا يشاركهم الايمان بها او يرفضونها باعتبارها اراء متطرفة تدعو الى العنف والقتل والغاء الآخر.
يربط علماء النفس بين التصلب والعدوان والنزعة التسلطية وعدم التسامح من جهة وبين المحبة والفهم وتقبل الذات والآخر من جهة اخرى،حيث ان السمات الاولى هي سمات التوحش والافتراس في السلوك الانساني،بينما السمات الثانية هي سمات التحضر والمدنية،والصراع مازال مستمرا. ولا نغالي اذا قلنا ان التصلب هو مفتاح مهم لفهم الشخصية وتفسير التوافق النفسي والاجتماعي وقبول الآخر وفهم كثير من الظواهر النفسية المرتبطة بها،حتى عَد علماء النفس ان درجة تصلب الفرد هي حقيقة علمية، لذا فأن تعلم المرونة عبر مسيرة الحياة يجعل من الحياة اكثر قدرة على التطور واقل منها في الاتجاه نحو التصلب ،اي الاقتراب الى المرونة مع النفس في التعامل ومع الاخرين(زوجة او ابناء او افراد في المجتمع)،والتصلب في النتيجة صفة عامة للاستجابة التي تعم كل مظاهر سلوك الفرد في كل المواقف الفردية والاجتماعية.
التعصب والتصلب وعلاقتهما بالمرض النفسي
مما لا شك فيه ان مصطلح التعصب يترادف مع مصطلح التصلب في المعنى وفي الدلالة والمفهوم وفي السلوك ،فأذا كان التعصب اتجاه نفسي فأن التصلب يحمل ذات المعنى بنفس الوقت وان اختلفت التطبيقات،ليس اختلافا نوعيا او كمياً بل اختلافاً في التطبيق وكلاهما يكمل الآخر اذا ما اطلقنا هذا الحكم دون مبالغة ،فالتعصب Perjudice اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فردا معيناً او جماعة او موضوعا معيناً ادراكاً ايجابياً محباً او سلبيا كارهاً دون ان يكون لهذا الادراك او ذاك ما يبرره من المنطق او الاحداث او الخبرات الواقعية ويقول علماء النفس ان تعصب ضيقي الأفق من المتدينين او المتطرفين اسلامياً او مذهبيا ضد اصحاب المذاهب والاديان الاخرى او تعصب قبيلة ضد قبيلة اخرى او مناصرتها حتى ولو كان هذا الانتصار للباطل انما هو تعصب اعمى عنيد. بينما التصلب هو اتجاه مكتسب نفسيا ايضاً ويتم عبر التعلم من الواقع ومن البيئة حتى يتميز بالثبات النسبي ويكون تأثيره على السلوك تأثيراً كبيراً .
اما التصلب فيعرفه(د.فرج عبد القادر طه) في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بأنه عدم قدرة الفرد على تغيير افعاله او اتجاهاته عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، وقد يصيب التصلب الوظائف المعرفية وبخاصة الادراك،عندما تفتقد القدرة على ادراك تغيير الاشياء عندما تتغير مواصفاتها او شروطها الموضوعية كما ان التصلب قد يكون وجدانياً وهو ما نراه بعامة لدى اولئك الاحادي الرؤية بالنسبة لعواطفهم او لدى الوسواسيين الحوازيين عندما يقع الكبت على تلك الصلة ما بين الفكرة(الموضوع)والوجدان وبين الشحنة المصاحبة.
تقول الدراسات النفسية المرضية ان كل مرض او انحراف سلوكي او نزعات في السلوك مثل التطرف والتعصب له جذوره التكوينية في مرحلة من مراحل النمو النفسي عبر مراحل حياة الفرد، فكما هو الاعتدال والمسالمة والتسامح وقبول الاخر في السلوك السوي، نجد هناك من تتكون لدية نزعات مكتسبة من التطرف والتعصب والتصلب في الرأي ويقول عالم النفس المصري الشهير الاستاذ الدكتور مصطفى زيور تدلنا مكتشفات التحليل النفسي على ان الانتصار على دوافع الكراهية نحو الاب ، لا يعني فناءها، وعلى ان هزيمتها لا تدوم الا بدوام مناهضتها. ولما كان وجود فرد او جماعة لا يذعنون لما نذعن له، ولايعبدون ما نعبد، يقوم دليلا على ان السلطان الذي اذعنا له غير مطلق، فان هذه الجماعة تصبح اشبه بمحرض لدوافع الكراهية نحو التمرد. والنتيجة الطبيعية من ذلك، انه لابد من محاربة الكافر بما نؤمن به،حتى لا يتاح لعوامل الكراهية الذاتية ان تتمرد.
وتشير الحقائق النفسية الاخرى ان التعصب يساير التصلب في الفعل والممارسة على المستوى العقلي النظري والتطبيقي وهذان المفهومان يستخدمان في الغالب بالتبادل للاشارة الى المعنى نفسه رغم ان التعصب والاتجاهات التعصبية هي المفهوم الاعم والاشمل الذي يستوعب مفهوم التصلب ويرى (كورت ليفين)الى التصلب بصدد الحديث عن الارتباطات الممكنة في مجال الحياة ومتصلاتها ومنها المرونة-التصلب . فعندما يتقوقع الفرد داخل بيئته النفسية وتكون اتصالاته بالواقع المادي شحيحة وقليلة يكون تأثير العالم الخارجي بالنسبة لمجال الحياة عنده جدا ضئيل اذ ان التأثير متبادل بين مجال الحياة والعالم الخارجي، عندئذ فان التصلب سينعكس سريعا اذ يعزل الشخص عن بيئته بحائط جدا سميك وهو الحال ذاته عند الموقف التعصبي الذي يصدر من الفرد المتعصب ، فهو لا يتبادل مع الطرف الآخر الرأي والحوار وانما يجعل من الآخر عدوا لدودا له فتنقطع صلات الاتصال معه ويكون المتعصب دائما مصَفدْ الرؤية لا يقبل ان يستمع الى الاخر ولا يتقبل وجهة نظره لانها تخالفه وتتعاكس معه وهو يرى نفسه الاصح دائما ويمتلك كل مقومات الحياة التي لا يرى وجودها في الآخراو تنقص عند الآخر، انها الحماقة بعينها، ولو تأملنا في تعريف العصاب النفسي(المرض النفسي) لوجدناه يشمل انواعا من اضطرابات السلوك الناشئة عن فشل الافراد في التوافق مع انفسهم ومع البيئة المحيطة بهم ونعني بهذا القول ليس هناك لغة تواصل بين العصابي(المريض نفسيا)ومع الاخرين، وهذا يدل بمعنى ادق عن وجود مشكلات نفسية وانفعالية ومحاولات غير ناجحة للتوافق مع التوترات والصراعات الداخلية.
ومن الملفت للنظر ان المتعصب والمتصلب في الرأي وفي المعتقد يتشابه سلوكه في العديد من النقاط مع مرضى العصاب(المريض النفسي) ففي رأي المتعصب والمتصلب ان كل من يخالفه في الرأي والفكر يحكم عليه بالفناء او الاقصاء او انهاءه ،اما في المرض النفسي ،فمريض النفس تنتابه تخيلات تقوم لديه مقام الواقع ،والخيال يكافئ الواقع لديه والنية تساوي الفعل كما انه يقع فريسة لتوقع الشر المتربص به،فتوقع الشر هذا يظهر بقوة في المناسبات غير المعتادة التي تتضمن شيئاً جديدا غير متوقع او غير مفهوم ،هذه الهواجس تتمالك المتعصب والعصابي”المريض النفسي” دائما فضلا عن الريبة والشك في الاخر حتى وان كان يتشابه معه في الدين ولكن يختلف معه في المذهب حتى يلجأ في الكثير من الاحيان الى انهاءه بالقتل وهذا ما نشاهده من افعال لدى اخوتنا المسلمين المتشددين من السلفية والذين يرون ان الغاء الاخر واجب شرعي وقتله واجب ديني مقدس يرقى الى مستوى الجهاد المألوف اليوم في العديد من الممارسات مثل الانتحار الجماعي(تفخيخ النفس)ليشمل الاطفال الابرياء والنساء وكبار السن في معظم انحاء العالم ومنها العراق ولندن وجدة ومدريد وغيرها من الاقطار.
اعتقد فرويد ان العصاب الحقيقي يظهر نتيجة حالات الانغماس الزائد عن اللزوم في الرأي والفكر او الزهد الزائد الذي يدفع صاحبه للابتعاد عن الحالة الانسانية السوية والتعايش مع الواقع، وفي الواقع ان الايمان التقليدي او الاعتيادي بالدين لا يترك اثراً سلبياً على النفس او على السلوك بل يكون موضع فخر لصاحبه امام الاخرين، اما الحماس الديني القائم على التعصب والتطرف والتصلب في الرأي فأنه يولد الاتجاهات التعصبية بمرور الزمن ويترك الاثر السلبي في نفوس الاخرين حتى وان لم يصدر منه ما يسئ ولكنه يتعامل بخشونة واضحة وسلوك بعيد عن التسامح وهو ازاء ذلك يعادل ويساوي سلوك الاضطراب العصابي، فالتصلب نقيض للمرونة ، والتعصب نقيض للانفتاح والتقبل وهي السمات ذاتها لدى مرضى العصاب .اما لو استعرضنا لبعض معايير الصحة النفسية لوجدنا ان اولها هو تقبل الفرد لنفسه وللاخرين وثانيهما المرونة والقدرة على التكيف والتعديل والتغيير بما يتناسب والمواقف الطارئة حتى يحقق التكيف وقد يحدث التعديل نتيجة لتغيير على حاجات الفرد او اهدافه او بيئته وهناك العديد من المعايير الاخرى مثل التوافق الاجتماعي والاتزان الانفعالي والقدرة على مواجهة الاحباط فضلا عن التكيف للمطالب او الحاجات الداخلية والخارجية، انها سمات واضحة المعالم تميز الاسوياء عن المرضى العصابيين ومرضى التعصب والتصلب والتطرف،وهكذا فاننا لا نجافي الحقيقة كثيرا ان قلنا ان هناك فروق موضوعية بين سلوك الاسوياء وسلوك المرضى بشقيه(العصاب:النفس،والتعصب والتصلب والتطرف)هذه الحقيقة يلمسها كل من يتعامل في الواقع مع هذه الشرائح من المجتمع.
المصادر
– علم النفس الاجتماعي(2001)معتز سيد عبد الله &عبد اللطيف محمد خليفة،دار غريب،القاهرة.
– علم الصحة النفسية(ب.ت)مصطفى خليل الشرقاوي،دار النهضة العربية،بيروت.
– علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية(1982)ميشيل اراجيل،ترجمة عبد الستار ابراهيم،مكتبة مدبولي،القاهرة
– في النفس(1986)مصطفى زيور،دار النهضة العربية،بيروت
– الاتجاهات التعصبية(1989)معتز سيد عبد الله،سلسلة عالم المعرفة،الكويت
– الطبيعة البشرية(2005)الفرد ادلر،ترجمة عادل نجيب بشري،المجلس الاعلى للثقافة،القاهرة.
– التداعيات النفسية والاجتماعية لظاهرة التعصب(التطرف)(2001)اسعد الامارة،مجلة النبأ ،العدد ( 56 ) بيروت
– مرضى النفس في تطرفهم واعتدالهم(1972)محمد فرغلي فراج،الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر،القاهرة