الإقتصاد والبيئة… د. محمد غنايم
د. محمد غنايم معهد الأبحاث التطبيقية – القدس (أريج)
هناك بعض الجوانب المهملة في الحياة الاقتصادية تفرض نفسها ولم تدخل صلب التحليل الاقتصادي بعد، فلا زالت الجامعات تدرس علم الاقتصاد على أنه (العلم الذي يبحث في الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية بهدف تحقيق أكبر ربح ممكن، أو إشباع الحاجات الإنسانية بأقل تكلفة ممكنة) ، هذا المفهوم لعلم الاقتصاد بدأ يتغير ولم يعد الفهم الكلاسيكي له متناسباً مع متطلبات تطور النشاط الاقتصادي، فعند العودة إلى هذا المفهوم نجد أنه لا يأخذ بالاعتبار الجانب البيئي في النشاط الاقتصادي، فالاستخدام الأمثل للموارد يقصد به – وفق المفهوم الكلاسيكي – الاستخدام الأمثل للموارد التي تعتبر أصولاً إنتاجية، أي تلك الموارد التي تقيم تقييماً نقدياً في السوق وتستخدم في العملية الإنتاجية ولا تعتبر الموارد الطبيعية أصولاً إنتاجية، وبالتالي لا تدخل ضمن إطار الاستخدام الأمثل، ولا تزال هذه الموارد مستبعدة من مفهوم (الاستخدام الأمثل) كما أن تعبير (أقل تكلفة) لا يزال يقصد به أقل تكلفة بالنسبة للعوامل الإنتاجية الداخلة في العملية الإنتاجية مباشرة ولا تؤخذ بالاعتبار الخسائر البيئية والتكاليف الاجتماعية، أي التكاليف على مستوى المجتمع وعلى مستوى الاقتصاد ككل والتي تسمى بالتكاليف الخارجية، فعند إنتاج أي منتج صناعي مثلاً، لا يحسب ضمن التكلفة سوى التكلفة داخل المجمع الصناعي ولا يحسب كم طناً من الأسماك قد دمر في البحيرة أو في البحر المجاور مقابل إنتاج هذا المنتج أم كم شخصاً قد تضرر أو مرض نتيجة الغازات أو الغبار المنطلق، وكم سيكلف علاجهم وما هي خسائر الإنتاج الناجمة عن التوقف عن العمل بسبب المرض، وكم هو حجم الضرر الحاصل في المزروعات والغابات والهواء في المنطقة المحيطة بالمجمع الصناعي. ولا تحسب أيضاً التكاليف الإقليمية أو العالمية الناجمة عن المصانع الفرنسية أو الإيطالية، مثلاً، والواقعة على حوض المتوسط والتي تؤثر على اقتصاديات وموارد وسكان هذا الحوض سواء بموت الأحياء البحرية أو بتلويث الهواء أو غير ذلك.
كما أنه لا تحسب تكلفة زيادة غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسبب بارتفاع درجة حرارة الأرض، ولا تحسب أيضاً تكلفة زيادة غازات الكلورفلور كربونات وأول أوكسيد الكلور التي تسبب تمزيق طبقة الأوزون. هذه التكاليف الاجتماعية والتي تعتبر خارجية بالنسبة للمنشأة، سواء كانت على مستوى بلد معين أو إقليم معين أو على المستوى العالمي، لا تزال خارج الحسابات الاقتصادية.
إن العائدات من النفط والغاز والخامات الطبيعية الأخرى والتي تحسب على أنها دخل أو قيمة مضافة جديدة ما هي في الحقيقة إلا ريع ناجم عن استنزاف رأس المال الطبيعي والموجودات النادرة، ولا تشكل قيمة مضافة ناجمة عن عمل إنتاجي، وهدر هذه الموارد يشكل عامل تدهور بيئي.. وما لم يتم القيام باستثمارات تعويضية تحافظ على رأس المال الطبيعي وتضمن تجدده فإن النمو المستند إلى الموارد الطبيعية لن يكون متواصلاً ولا طويل الأجل.
إن التكاليف الاجتماعية أو التكاليف الخارجية والتي تبقى دون مراعاة عند احتساب الناتج الاجتماعي، تنجم عن الفرق بين التكاليف الاقتصادية الكلية والتكاليف الخاصة على مستوى المشروع ويعود ذلك إلى أن تكاليف المنفعة عند استخدام البيئة تحسب عند مستوى التعرفة صفر للموارد البيئية. فحسابات المشروع تتضمن فقط التكاليف التي يتحملها المشروع وليس التكاليف الإضافية التي تتحملها الوحدات الاقتصادية الأخرى أو المجتمع ككل، ولا تظهر هذه التكاليف في الحسابات الخاصة للمنشآت أو في الميزانيات العامة، وفي حال عدم احتساب التكاليف الاجتماعية هذه فإن الناتج الاجتماعي يقيّم بقيمة أعلى من قيمته الحقيقية. وتتمثل التكاليف الاجتماعية – على سبيل المثال – في الأضرار الصحية الناجمة عن التلوث، الأضرار النباتية والحيوانية، تدهور نوعية المياه، انخفاض حصيلة ونوعية الصيد السمكي، انخفاض قيمة المساكن وإيجارها بسبب الضوضاء والتلوث المادي، الانخفاض النوعي لأهمية وقيمة مناطق الاستجمام والراحة.. الخ. إن التكاليف الاجتماعية هذه تتسبب في أضرار بيئية واقتصادية، فأسعار السلع والخدمات (المنتجة والمستهلكة) الضارة بالبيئة تكون قياساً بالتكلفة الاجتماعية الحقيقية متدنية وتُعرض بسعر أرخص، وهذا يعني أن إنتاج واستهلاك وتصدير هذه السلع قد حصل على دعم غير مرغوب فيه. وعلاوة على ذلك فإن استخدام الموارد الطبيعية يصبح أغلى ثمناً وذلك بسبب الحاجة للإنفاق في مجالات تنقية وتحضير المياه الملوثة وتنقية الهواء الملوث وتحسين نوعية التربة المهددة والوقاية من الضوضاء.. الخ.
لقد أفرزت التطورات البيئية في العقود الأخيرة إلى وجود فرعاً جديداً من فروع العلوم الاقتصادية هو و(علم اقتصاد البيئة) الذي نعرّفه بأنه (العلم الذي يقيس بمقاييس بيئية مختلف الجوانب النظرية والتحليلية والمحاسبية للحياة الاقتصادية ويهدف إلى المحافظة على توازنات بيئية تضمن نمواً مستديماً)، وقبل الحديث عن مهام ودور اقتصاد البيئة وعن مستوياته لابد من تحديد مصطلح البيئة.
تعني البيئة بالمعنى الواسع مجمل العوامل التي يكون لها دور في تحديد الوجود البشري، أي العوامل التي تحدد الشروط المادية والنفسية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية لعلاقات البشر. ويتضمن التعريف الذي أوردناه لاقتصاد البيئة المفاهيم البيئية التالية:
1. البيئة الاجتماعية: وتتضمن المجال أو الحقل الاجتماعي للفرد والأسرة والمجموعات البشرية والمجتمع.
2. البيئة الجغرافية (المكانية): وتشمل المحيط الجغرافي للبشر في الحي والقرية والمدينة والدولة.
3. البيئة الحيوية: وتتضمن الوضع البيئي للبشر والحيوانات والنباتات والشروط الضرورية لحياتها المشتركة ويشمل ذلك الآثار الناجمة عن التطورات التقنية والاقتصادية والسكانية.
يشمل مفهوم البيئة في (1) و(2) المشاكل المتعلقة باستخدام المكان ووجود الخامات الطبيعية والكثافة السكانية وحماية الطبيعة وتلوث البيئة. بهذا الفهم للبيئة يكون قد تم احتواء المشكلتين الرئيسيتين اللتين يحتدم حولهما النقاش في مجال البيئة كالتالي:
الأولى: مشكلة الإضرار وتلويث المجال الحيوي من خلال الانبعاثات السامة والنفايات والإخلال بالتوازنات البيئية.
الثانية: مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة (الخامات الطبيعية الزراعية وبقية مرتكزات الحياة البيئية).
وتعني البيئة بالمعنى الضيق أو الأكثر ضيقاً حالة الهواء والماء والأرض والنباتات والحيوانات البرية. ومن التعريف الذي أوردناه لاقتصاد البيئة يمكن أن نميز بين مستويين لاقتصاد البيئة على مستوى المنشأة (مستوى جزئي)، واقتصاد البيئة على مستوى الاقتصاد ككل (مستوى كلي).
1- اقتصاد البيئة الجزئي (على مستوى المنشأة):
يمثل اقتصاد البيئة الجزئي جزءاً من اقتصاد المنشأة الذي يهتم ويحلل علاقة المنشأة بالبيئة الطبيعية والتطور النوعي للبيئة المحيطة وأثر السياسات البيئية على المنشأة. ولاقتصاد البيئة على مستوى المنشأة المهام التالية:
1. دراسة وتحليل إجراءات حماية البيئة على المنشأة وأهدافها وعلى تعظيم الربح فيها.
2. تقديم المشورات والنصائح للمنشأة المناسبة والمنسجمة مع متطلبات حماية البيئة.
3. المساهمة في توجيه الإنتاج بما تقتضيه التوجهات والتعليمات واللوائح البيئية.
4. ددراسة الاستثمارات البيئية التي تحد من الأخطار البيئية.
5. إعطاء المعلومات حول تكاليف حماية البيئة ونفقات الاستثمار وتأثير حماية البيئة على حسابات الأرباح والخسائر وتحليل الجدوى البيئية للمشاريع.
6. إعطاء النصائح وتحليل المشاكل ودراسة آفاق المستقبل لبعض فروع الاقتصاد الوطني في ضوء التطورات البيئية كمنشآت الخدمات والنقل وصناعة حماية البيئة والتجارة والتأمين.
7. إن اقتصاد البيئة الجزئي على مستوى المنشأة لا يحظى بأهمية كبيرة بالمقارنة مع اقتصاد البيئة الكلي.
2- اقتصاد البيئة الكلي:
يتناول اقتصاد البيئة الكلي مشاكل البيئة على مستوى الاقتصاد ككل.. من أهدافه الوصول إلى مستويات أعلى من الرفاه الاجتماعي المستديم الذي يأخذ بالاعتبار المحافظة على نوعية البيئة عند مستويات عليا. ويعالج اقتصاد البيئة الكلي الموضوعات التالية:
1. التقويم المادي والنقدي للأضرار البيئية وكذلك تقويم التحسين البيئي الناجم عن السياسة البيئية في النشاطات الحكومية والخاصة.
2. تحديد ودراسة الصلات القائمة بين البيئة والأهداف الاقتصادية الكلية وكذلك الصلات القائمة بين السياسات الاقتصادية والسياسات البيئية.
ولاقتصاد البيئة الكلي مجموعة من الوظائف يجب أن يقوم بها:
1. اقتصاد البيئة كجزء من العلوم الاقتصادية الكلية، أي ليس فقط تخصيص التكاليف على مستوى المنشأة وإنما التكلفة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الاقتصاد ككل.
2. تقديم المعلومات والاستشارات التي يمكن على أساسها اتخاذ القرارات وذلك من خلال:
· تقويم الأضرار البيئية وإجراءات حماية البيئة ونتائج تلك الإجراءات.
· تقويم تطور أدوات السياسة البيئية سواء المحلية منها أو العالمية وتحديد إلى أي مدى تم حل المشاكل
· الموجودة.
· تقويم تأثير حماية البيئة على الأهداف الاقتصادية الكلية وتحديداً على العمالة والنمو الاقتصادي.
· تقويم العلاقات بين السياسات البيئية والاقتصادية ذات الصلة فالسياسة البيئية تؤثر في السياسات الأخرى؛ كالسياسات الإقليمية وسياسة النقل والمواصلات وسياسة الطاقة والموارد.
·
3- أسباب المشكلة البيئية: هناك جملة من الأسباب جعلت مشكلة البيئة تتفاقم بشكل متسارع، من هذه الأسباب:
أولاً: أسباب تتعلق بالنمو والتطور عموماً:
1. الزيادات السكانية الكبيرة على الكرة الأرضية وتجمع البشر في تجمعات سكانية كبيرة تصل في العديد من مدن العالم إلى أكثر من عشرة ملايين نسمة.
2. النمو الاقتصادي الذي يترافق مع استنزاف الموارد الطبيعية ، وإثقال البيئة.
3. التحولات التقنية الاقتصادية الضارة بالبيئة.
ثانياً: أسباب اقتصادية اجتماعية: تتمثل الأسباب الاقتصادية الاجتماعية في النقاط التالية:
1- النظر إلى البيئة كملكية عامة مشاعة للجميع؛ إن أهم أسباب التدمير البيئي هو كون البيئة الطبيعية ملكية عامة مشاعة مفتوحة أمام الجميع، أي عدم وجود مالك محدود لموجودات البيئة. ونظراً لأن البيئة تعتبر ملك مشاع فإن قيمة موجوداتها تحسب عند مستوى التعرفة صفر. والقسم الأعظم من السلع البيئية التي تعتبر سلعاً عامة تتمتع – بخلاف الأملاك الخاصة – بسمتين أساسيتين:
الأولى: هي أن القسم الأعظم من هذه السلع يصعب تجزئته ولا يمكن أن يباع.
الثانية: إن أي فرد يستطيع وبحرية أن يستخدم هذه السلع، وباعتبار أن أي شخص يستطيع أن يستهلك السلع البيئية بشكل مجاني فإنه سوف يستهلك من هذه السلع بقدر ما يستطيع ما دام غير ملزم بدفع أي تكلفة، وبالتالي لا يوجد سوق لمثل هذه السلع. ومن هنا تنشأ مشكلة الراكب المجاني.
2- وجود ما يسمى بالتكاليف البيئية الخارجية؛ وتعني التكاليف الخارجية تلك التكاليف التي يتحملها المجتمع دون أن تظهر أو يشار إليها في حسابات المنشأة أو في الحسابات الاقتصادية الوطنية. تعتبر التكاليف الخارجية الناجمة عن الآثار الجانبية (الخارجية) للنشاط الاقتصادي من أهم مظاهر التدمير البيئي، والآثار الخارجية هي تلك الآثار المتبادلة بين الفعاليات الاقتصادية والتي لا تقوّم في السوق. وتتمثل تلك الآثار في التأثيرات الكيميائية والفيزيائية والتأثيرات الأخرى التي لا تقيم تقييماً نقدياً. وكأمثلة على الآثار الخارجية نذكر:
– موت النباتات أو الحد من نموها.
– أضرار صحية ناجمة عن تلوث الهواء أو غيره.
– أضرار في الموجودات المادية.
– انخفاض قيمة وإيجار المساكن بسبب التلوث والضوضاء.
– الإضرار بنوعية المياه.
– الإضرار بالثروة السمكية وتناقص حصيلة الصيد السمكي.
ولا يزال حصر هذه التأثيرات الجانبية صعباً كما أن إمكانية التقويم النقدي لهذه الآثار، أي حساب التكاليف الخارجية، والفرق بين التكاليف الإجمالية (التكاليف الخاصة + التكاليف الاجتماعية) وبين التكاليف الخاصة. وهذه التكاليف الخارجية ما هي في الحقيقة إلا تكاليف اجتماعية إضافية، إن وجود التكاليف الخارجية (التكاليف الاجتماعية الإضافية) يؤدي إلى الأضرار الاقتصادية والبيئية التالية:
· إن الاستخدام الإنتاجي للبيئة سوف يصبح أكثر تكلفة وأعلى ثمناً نظراً لأن ذلك يتطلب تنقية المياه الملوثة وتصفية الهواء المحمّل بالأكاسيد وتحسين التربة المجهدة والوقاية من الضوضاء.
· غالباً ما تكون السلع التي تؤدي إلى تخريب في البيئة عند إنتاجها أو استهلاكها ذات أسعار متدنية مقارنة بالسلع الأخرى الأكثر ملاءمة للبيئة والتي تتطلب تكاليف إضافية لتصبح غير ضارة بيئياً. وهذا يؤدي إلى زيادة إنتاج واستهلاك السلع الضارة بيئياً في ظل نظام الأسعار السائد.
· إن التأثيرات الجانبية والتكاليف الاجتماعية الإضافية تؤدي إلى آثار بيئية سلبية تتطلب القيام بالصيانة والإصلاح والإنفاق لمعالجة الأضرار البيئية المختلفة.
مما سبق يتضح أن سبب نشوء التكاليف الخارجية يكمن في أن الفعاليات الاقتصادية العامة والخاصة تستطيع أن تحسن وضعها وتزيد من أرباحها على حساب إجهاد البيئة، حيث تأخذ التأثيرات الخارجية شكل التكلفة الاجتماعية الإضافية (التكلفة الخارجية) التي لا تظهر في الحسابات الاقتصادية.
3- أسباب تتعلق بالسلوك البشري: في البلدان النامية: نظراً لأن هذه البلدان تعطي الأولوية لإشباع الحاجات الأساسية للسكان، فإن تخريب البيئة لا يعطى إلا قليلاً من الاهتمام؛ إذ يكون الاهتمام منصبّاً على تأمين متطلبات الحياة الأساسية من الغذاء والسكن والكساء ولو كان ذلك على حساب البيئة. في البلدان الصناعية المتقدمة ذات مستوى المعيشة المادي المرتفع وصل السكان إلى مستوى من التربية والتكوين بحيث أنهم غير مستعدين للتخلي عن مستوى المعيشة المادي المتنامي الذي وصلوا إليه مقابل تحسين نوعية البيئة، والفرد الواحد في البلدان الصناعية المتقدمة، حسب التقديرات، هو أخطر على البيئة وعلى الموارد البيئية الطبيعية بمقدار أربعة أمثال نظيره في البلدان النامية، نظراً لما يستهلكه الفرد في البلدان المتقدمة وما يحتاجه من متطلبات تفوق كثيراً ما يحتاجه الفرد في البلدان النامية.
4- أزمة البيئة والنظم الاقتصادية: قد تختلف أسباب المشكلة البيئية بين بلدان اقتصاد السوق وبلدان اقتصاديات التخطيط المركزي، ولكن النتيجة واحدة وهي إضرار وتدمير بيئي في كلا المجموعتين.
– في نظم اقتصاديات السوق: إن أسباب المشكلة البيئية في بلدان اقتصاد السوق هي سعي المنشآت الخاصة للاستغلال الأوسع للموارد ولتعظيم الربح إلى أقصى حد ممكن، فأصحاب الأعمال يسعون لتخفيض التكلفة وتعظيم الربح وذلك باستغلال البيئة إلى أقصى حد ممكن. ومن هنا تنشأ التكاليف الخارجية التي يتحملها المجتمع ككل والتي تأخذ شكل تخريب بيئي.
– وفي نظم الاقتصاديات المخططة مركزياً: يفترض نظرياً أن تكون مشكلة البيئة في بلدان الاقتصاديات المخططة مركزياً أقل حدة نظراً لأن الدولة تسيطر على الإنتاج وتؤثر بشكل كبير في الاستهلاك وبالتالي يمكن أن تؤخذ البيئة بالاعتبار من خلال حسابات التكلفة والتسعير وإجراءات الحماية، وذلك باعتبار أن لا يعتبر هدفاً بحد ذاته في هذه البلدان، ولكن الواقع هو أن هذه البلدان تسعى جاهدة لجعل معدل نمو الناتج الاجتماعي الإجمالي أعلى ما يمكن وباعتبار أن معدل النمو في الناتج هو مقياس لنجاح الخطة، فإنها تسعى لتحسين المستوى المادي لمعيشة مواطنيها ولو كان ذلك على حساب البيئة أحياناً.. والمنشآت في هذه البلدان لا يكون هدفها الأساسي هو تحقيق الربح وإنما هدفها هو تنفيذ أرقام الخطة وبالتالي تنصب اهتمامات الإدارة على تحقيق هذا الهدف.
رأس المال الطبيعي والتنمية المستدامة
يمكن النظر إلى رأس المال الطبيعي على أنه يتكون من :
(i) الموارد الطبيعية Natural Resources
(ii) الأرض Land
(iii) الأنظمة الحيوية Ecosystems
· وظائف رأس المال الطبيعي البيئية.
· ديمومة التنمية ورأس المال الطبيعي
وظائف رأس المال الطبيعي البيئية
وتمثل المكونات الثلاث السابقة أهمية قصوى لكونها تمثل ” وظائف ” للتنمية المستديمة طويلة الأجل للاقتصاد سواء ضمن الاقتصاد القومي أو للبشرية جمعاء، وللأحياء الأخرى. ويمكن أن تقع هذه الوظائف ضمن أحد الفئات التالية:
الفئة الأولى:
وظائف المورد Resource Function : والتي تتضمن تحويل الموارد الطبيعية إلى سلع وخدمات لصالح البشرية، مثل المخزون من المعادن والأخشاب والغابات الطبيعية، وثروة أعماق البحار من الأسماك.
الفئة الثانية:
وظائف مرتبطة بالتخلص من النفايات Sink Function: تقوم بالتخلص من المواد غير المرغوب بها من جرّاء عملية الإنتاج والاستهلاك مثل : الغازات الناتجة عن الاحتراق والعمليات الكيماوية، والمياه المستخدمة لتنظيف المنتجات أو البشر، والمخلفات من المواد. وعادة ما يتم تصريف هذه المواد إما في الهواء، أو المياه، أو دفنها في التربة. ويشار إلى طرق التصريف الثلاث هذه بالتسريبات . Sinks
الفئة الثالثة:
وظائف خدمية Service Functions : تقوم بتوفير متطلبات الحياة للكائنات الحية بما فيها البشر مثل الهواء للتنفس، والماء للشرب. لذا يطلق على هذه الوظائف بوظائف البقاء. ويطلق على بعض مكونات هذه الفئة من الوظائف وظائف أسباب الراحة Amenity Function، التي تحسن من نوعية الحياة مثل المناطق الطبيعية لقضاء أوقات الفراغ، والمرتبطة بالجنس البشري فقط.
ديمومة التنمية ورأس المال الطبيعي
وتبعاً لمنهج رأس المال الطبيعي فإن التنمية المستدامة تعتمد على صيانة هذا النوع من رأس المال (والأنواع الأخرى أيضاً من رأس المال). وفي حالة تآكل رصيد رأس المال الطبيعي إلى المستوى الذي لا يمكنه من القيام بالوظائف المشار إليها في الفئات الثلاث أعلاه، فإن أنماط التنمية المعتمدة على هذه الوظائف لم تعد مستديمة. وغنى عن القول فإن ذلك لا يعني بأن أنماطاً أخرى من التنمية لم تعد موجودة، بل يعني أن هناك حاجة لوقف الاعتماد على مدخلات رأس المال الطبيعي، أو إيجاد وسائل جديدة لتحل محل هذا النوع من رأس المال.
وبناء على ذلك فقد برز اتجاهين فيما يخص مدى اعتماد ديمومة التنمية على رأس المال الطبيعي:
الاتجاه الأول: الديمومة الضعيفة Weak Sustainability : ويؤمن بضرورة المحافظة على مستوى حصة الفرد من الدخل Per Capita Income الناتج عن (إجمالي) رصيد رأس المال (الطبيعي وغير الطبيعي). ومعنى ذلك أن هناك إمكانية إحلال ما بين هذين النوعين من رأس المال. أي أن هذا الاتجاه يسمح بتآكل رأس المال الطبيعي طالما أنه يمكن تعويض ذلك بأنواع أخرى من رأس المال (مثلاً تربة اصطناعية محل تربة طبيعية(
الاتجاه الثاني: الديمومة القوية Strong Sustainability : ويؤمن هذه الاتجاه بضرورة المحافظة على كافة أنواع رأس المال، وما يتضمنه هذا الاتجاه من فرض التكامل Complementary ما بين هذه الأنواع (عكس فرض التنافس السائد في الاتجاه الأول). فعلى سبيل المثال فإن رأس المال المنتج المستخدم في الحصاد ومعالجة الأخشاب لا يملك قيمة بدون وجود رصيد من الأخشاب جاهزة للقطع. وعليه فإنه من خلال المحافظة على كلا النوعين من رأس المال (الطبيعي، والمنتج) يمكن المحافظة على ديمومة التنمية. ويطلق على التحذيرات التي يتبناها هذا الاتجاه في مجال التنمية المستدامة ” المباديء التحوطية Precautionary Principles ” ويُعبر عن هذه المباديء بالبنود التالية:
· يجب أن لا يتم استخدام الموارد المتجددة Renewable بمعدل يفوق معدل تجديدها.
· يجب استخدام الموارد غير المتجددة Non-Renewable بحذر وبكفاءة، مع الحرص على استمرار هذه الموارد للأجيال القادمة أما من خلال التطورات التكنولوجية أو الانتقال لاستخدام الموارد المتجددة.
· يجب أن لا تستخدم الوظائف المرتبطة بالتخلص من النفايات بمعدل يفوق قدراتها التمثيلية Assimilative Capacities.
وأياً كان الاتجاه الذي تتبناه التنمية المستدامة فإن تأثير زيادة السكان يعتبر واحداً في ظل هذين الاتجاهين. فلا يفترض أن لا تتناقص أرصدة رأس المال فقط، بل لا بد أن تنمو هذه الأرصدة بنفس معدل نمو السكان إذا ما كان الهدف هو المحافظة على ثبات متوسط دخل الفرد. وبطبيعة الحال فإن تأثير التغيرات التكنولوجية قد يعني أنه بإمكان أن ينمو عدد السكان بمعدل يفوق معدل نمو أرصدة رأس المال من دون أن يرافق ذلك خفض في متوسط دخل الفرد، وذلك في ظل إمكانية التطور التكنولوجي بتحقيق استخدام أكثر إنتاجية لأرصدة رأس المال المتاحة.
وطالما أن الاتجاه الثاني، الديمومة القوية، يتطلب صيانة مستقلة لأرصدة رأس المال فلا يبدو أن هناك سبب يمنع من تقييم كافة أشكال رأس المال بنفس وحدة القياس: وحدات عينية Physical أو وحدات نقدية Monetary. وتتميز طريقة القياس العيني بأنها طريقة مباشرة وواضحة المعالم. فأرصدة الموارد الطبيعية المختلفة (مثل أصول الأخشاب، وموارد باطن الأرض) يمكن قياسها باستخدام وحدات عينية مبسطة. أما قياس رأس المال الطبيعي المتمثل بالأنظمة البيئية، مثل طاقة استيعاب الأنهار للمخلفات، فهو أمر بغاية الصعوبة.
ويتضمن الدليل البيئي حسابات مصممة لقياس مثل هذا النوع من خدمات الأنظمة الحيوية. إلاّ أنه يجب التنبيه أن المتاح من المعلومات والمعرفة في هذا المجال لا زال محدوداً. وبالتالي لا بد أن يعاد النظر من وقت لآخر، حسب تطور المعلومات، بهذه النوعية من الحسابات.