تجربتي مع الأكاديمية العربية في الدنمارك
كم سعدت، و أنا أكتب عن تجربتي مع الأكاديمية بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسها. حقا لقد شعرت بالفخر، وعشت لحظات جميلة مبهجة، وأنا أسجل ما يجول في خاطري حول هذه التجربة.
لم تكن رغبتي في الحصول على درجة علمية عالية وليدة لحظتها، بل كانت تعتمل في نفسي منذ سنوات طوال. كانت تلحّ علي، ويجيش بها قلبي. يجاذبني طيفها في كل حين. ولكن حالت ظروفي المادية من تحقيق رغبتي في الوقت المناسب. كان القدر قد شاء أن أعمل في كلية الحقوق والشريعة بجامعة الكويت في فترة السبعينيات. كانت فرصة عظيمة لكي أتعرف عن قرب على كبار أساتذة القانون في ذلك الوقت، وأغلبهم كان من مصر والعراق وسوريا. عملت معهم مباشرة، وكونت علاقات محترمة مع بعضهم، وكنت أفرح لفرح الكثيرين من الطلبة بتخرجهم، وما زلت أذكر الجميع بكل خير ومودة.
وفي أحد الأيام حصل نقاش مع أحد الأساتذة الأجلاء، فلما اختلفت معه في الرأي قال لي: يا ابني أنا دكتور قبل أن تولد. وفعلا كان دكتورا منذ سنة 1943 حيث تخرج ذالك العام من جامعة باريس. وإثر ذلك، بدأت فكرة نيل درجة الدكتوراه تتبلور لدي. وبدأت أراسل جامعات أجنبية وعربية، وصار لي ملف باسمي شاهدته عند مراجعتي لهم، إلا أن شرط الالتزام بحضور برامج الدراسة بمقر الجامعة كان على قائمة متطلبات الالتحاق بكل جامعة. وقد أحبطني هذا الشرط وحال دون تحقيق رغبتي في وقتها، إضافة إلى ارتفاع الرسوم الجامعية بالنسبة للجامعات الأوروبية.
وشاء الله سبحانه وتعالى إن يتحقق لي أملي، فبدلا من أن أسعى إلى الجامعات، حدث أن عُقِد اجتماع لاتحاد الجامعات العربية في دولة الكويت. وسخر القدر لي شخصا عزيزا هو الأستاذ الدكتور ماهر سليم رئيس جامعة الشرق الأوسط حاليا ومقرها الاردن، حيث عرفني بالأستاذ الدكتور وليد الحيالي رئيس الأكاديمية العربية في الدنمارك، الذي وعدني بالاتصال بعد عودته إلى الدنمارك لإنهاء إجراءات التسجيل لدرجة الدكتوراه في الإدارة البيئية تخصص توعية بيئية.
وفعلا تم ذلك بسهولة دون تعقيد. وكانت الاتصالات في بدايتها تتم عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني. وعندما حاولت الاستفسار عن طبيعة الامتحانات ومكانها، اخبرني الدكتور وليد بأن الدراسة في الأكاديمية تتم عن بعد، وتحت إشراف أستاذ متخصص في كل مادة حسب الدراسة، كما أن الدراسة تعتمد على الاجتهاد والمثابرة ومطالعة الكتب والمقالات المتخصصة، بالإضافة إلى الاستعانة بالإنترنت كلما كان ذلك متاحا، بعكس الدراسة التقليدية المتبعة التي تعتمد على الامتحان النهائي بحيث يتم تفريغ كل المعلومات مرة واحدة كما هو معمول به في الدراسة عن طريق الانتساب. كما عرفني الدكتور وليد بالأستاذ الدكتور كاظم المقدادي، الذي عمل كمشرف لمتابعة دراستي التي تكونت من قسمين: أولهما يختص بالدراسة النظرية لبعض الموضوعات البيئية كمتطلبات للدكتوراه استغرقت أربعة فصول دراسية أي سنتين، وثانيهما كتابة الأطروحة التي استغرقت ثلاث سنوات .
وتحددت علاقتي بالأستاذ الدكتور كاظم المقدادي الذي قدم لي كل عون ومساعدة ونصيحة بكل صدق وإخلاص ومسؤولية، وذلك خلال إشرافه على دراسة الدكتوراه. وما أظن أن هناك مشرفا يخلص في نصحه وتشجيعه لطلابه مثل ما فعل. كان ينقل لي خبراته ويبذل كل جهده معي عن طيب خاطر دون تأفف أو ضجر، برغم ظروف المرض والسن. لم يحدث يوما أن أساء معاملتي عند وقوعي في خطأ لم أكن قادرا على تفاديه بسبب نقص الخبرة في الالتزام بالأنظمة المتبعة في كتابة الرسائل العلمية. وكان دائما حريصا على تزويدي بالمقالات وكل الأخبار البيئية في المنطقة، وخاصة كل ما يتعلق بموضوع رسالتي، مما يدل على متابعته واهتمامه وجديته وإيمانه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، إضافة إلى قيامه بتزويدي بالروابط الإلكترونية التي من خلالها يمكنني الحصول على أي معلومة مهما كانت بسيطة. وكان هاتف منزله في السويد مفتوحا لي طوال أيام الأسبوع باستثناء عطلة نهاية الأسبوع التي خصها بأحفاده أدامه الله لهما وحفظهما له. هذا الأمر يدل على مدى إنسانية هذا الرجل الذي يحاول أن يعطي كل ذي حق حقه.
إن ملاحظات وتوصيات ونصائح الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي، والتحاقي بالأكاديمية العربية في الدنمارك فتح لي آفاق الاطلاع والمعرفة من أوسع الأبواب. عدت طالبا من جديد برغبتي وتصميمي على سبر أغوار الكتب والمقالات والمراجع المختلفة التي ستساعدني على تحقيق ما أصبو إليه على الرغم من أنني في مرحلة عمرية متقدمة، حيث أشرفت على أواخر الستينات. وقد أتاحت لي هذه الفرصة الاطلاع على أكثر من مائتي كتاب حول شتى المواضيع البيئية حصلت عليها من معرض الكتاب السنوي الذي يقام في دولة الكويت ومكتبات كل من جامعة الكويت ومعهد الكويت للأبحاث العلمية ومراجع بيئية متعددة ما بين رسائل ماجستير وكتب بيئية من المملكة العربية السعودية عن طريق الأستاذ العزيز محمد عبدالقادر الفقي، وعن طريق أصدقاء وأساتذة كرام من مصر ساعدوني في الحصول على كثير من الكتب البيئية، إضافة إلى المكتبات التجارية المنتشرة في الأردن بما تحتويه من كتب بيئية متخصصة من تأليف أساتذة عراقيين مخضرمين ممن أسهموا بخبرتهم في نشر الثقافة البيئية في بلدنا الأردن. هذا الإنجاز كان لا بد من الإشارة إليه، خاصة وأن أغلب الكتب من تأليف هذه النخبة التي ظلمت في بلدها وهاجرت إلى بقاع الدنيا بفضل العبقرية السياسية للبعض من حكام المشرق والمغرب حتى أصبحت بلادنا – مع الأسف الشديد – نقطة عبور إلى الغرب، وكان الله في عوننا وعون كل إنسان بعيد عن وطنه .
ومع ذلك، لا انسى الكتب البيئية القيمة التي سعدت بالحصول عليها لمؤلفين أردنيين ساهموا في إغناء المكتبة العربية البيئية في المملكة الأردنية الهاشمية والعالم العربي. كذلك الكتب والتقارير البيئية الصادرة عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية الذي يتخذ من بيروت مقرا له.
كل هذه الجولات والمطالعات ساهمت في بناء الفكر البيئي الذي مكنني من القدرة على صياغة الاطروحة بالشكل النهائي الذي وافق عليه الأستاذ المشرف، حيث حول الموضوع إلى إدارة كلية الإدارة والاقتصاد لاتخاذ اللازم في هذا الشأن. فكان ما كان، وعقدت لجنة المناقشة من أساتذة أفاضل أجلاء لن أنسى ذكراهم طيلة حياتي، حيث استفدت الكثير من المناقشة الإيجابية لما تضمنته آراؤهم من نقد بناء يهدف إلى إعلاء شأن الأكاديمية باتباع الإجراءات العلمية السليمة في مناقشة الاطروحة من حيث الشكل والموضوع.
وقبل اختتام تجربتي مع الكلية لا بد من ذكر الوجوه الطيبة التي سعدت بلقائها في إدارة الأكاديمية بكوبنهاغن، والتي عبرت عن شعورها بتلقائية وعفوية بإكرام الضيف. لقد غُمِرنا بالعطف والمودة من أناس لم نلتق بهم، ولكن ما جمعنا هو الشعور بالحنين الى الوطن والدين الواحد رغم كل المآسي التي لحقت بنا وأصابتنا في الصميم. فلهم منا جميعا كل شكر ومحبة وتقدير واحترام.
وفي الختام، أنتهز هذه المناسبة العزيزة على قلبي بمرور عشر سنوات على إنشاء الأكاديمية العربية في الدنمارك لأتقدم لكل من ساهم في إنشائها وتأسيسها ونشر علمها من خلال موقعها الإلكتروني أو من خلال مكتبتها التي تضم كتبا قيمة في مختلف التخصصات، أو من خلال الندوات والمحاضرات التي تقام في مختلف دول العالم من قبل ممثليها الأساتذة المحترمين. وأدعو الله العزيز القدير أن يوفق القائمين عليها لخدمة العلم والباحثين، وأن يجزيهم خيرا على ما قدموه من تسهيلات ساعدت فئات كثيرة على مواصلة تحصيلهم العلمي حتى أعلى الدرجات.
د. علي عبدالله الهوش
خريج الأكاديمية العربية في الدنمارك
ومسؤول التوعية البيئية
في المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية في دولة الكويت