التعليم العالي ما بعد جائحة الكورونا
ما هي الاثار المترتبة لانتشار جائحة كوفد 19 على مستقبل التعليم العالي والجامعات؟
يبدو ان احدى هذه الآثار قد بدأ فعلا في الظهور فبعد سنوات من النقاش والجدل حول ما إذا كان على الجامعات ان تتبنى بشكل كبير التعليم عبر الإنترنت، توقف النقاش فجأة وبدأ العمل فعلاً به او بشكل مشابه له. بصورة او بأخرى يتم حاليا استخدام الانترنت لنقل المعلومات من الأستاذ الى الطالب.
الازمات والابتكار
كثيرا ما تؤدي الحروب والأوبئة، بجانب نتائجها الكارثية، الى نتائج في صالح البشرية بصورة اكتشافات علمية واختراعات، والأهم من ذلك منهجيات وأساليب جديدة، فعندما أودت الإنفلونزا الإسبانية بين عامي 1918-1920 بحياة 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، أدت إلى الاعتراف بالتمريض كمهنة للنساء، والى استخدام الأقنعة واكتشاف لقاح الإنفلونزا. وأدت الحرب العالمية الأولى والثانية إلى اختراع الجراحة التجميلية، والفولاذ المقاوم للصدأ، وساعات المعصم، والرادارات، وأجهزة الاتصال اللاسلكية، وأجهزة الرؤية الليلية، والشريط اللاصق، والصواريخ، والتكنولوجيا النووية. وأدت أزمة النفط في أوائل السبعينيات إلى البحث عن مصادر بديلة وطاقة متجددة. هذا لربما يجعلنا نعتقد بأنه عند انتهاء الحرب ضد الفيروس ستظهر بعض النتائج الإيجابية للبشرية. لا اعرف بالضبط ماذا سيحصل لكن لحظات الأزمات والاوبئة توفر أيضًا فرصة لكي نفكر في استخدام أمثل وأكثر مرونة للتكنولوجيا، والاعتماد على العلم بدلاً من الاعتقاد الأعمى، وعلى التعاون بدلاً من التحامل، والرعاية الصحية والاقتصاد وأنماط الحياة الصديقة للبيئة. لا أحد يعرف بالضبط ما سيأتي وما سيحصل.
التعليم الالكتروني
قد يكون فيروس كوفد -19 هو البداية الجديدة لإمكانيات التعلم الإلكتروني لقطاع التعليم العالي في جميع أنحاء العالم. فلم يعد من الممكن رفض الحاجة إلى خيارات التعلم عبر الإنترنت وخيارات ما يسمى ب (الكورسات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت). لربما سيصبح التعليم عن بعد بديلاً معترفًا به للتعليم التقليدي. إنه أقل كثافة في رأس المال ويتلاءم مع الحاجة إلى تحسين الكفاءة الرقمية للطلاب. وقد يحدث التعليم الافتراضي ثورة في التعليم العالي لأن الطلاب في يومنا الراهن لديهم قدرة أعلى على التكيف مع التكنولوجيا والبوابات الإلكترونية. حتى بالنسبة للتعليم المدرسي المتمثل بالصفوف الدراسية، سيضطر التعليم إلى الانتقال عبر الإنترنت – وقد يصبح هذا هو القاعدة من الآن فصاعدًا. سيوفر التعليم الافتراضي فرصاً اجتماعية كبيرة للمحرومين اقتصاديا وللشغيلة ولهؤلاء الذين لا يمكنهم تحمل التنقل لمسافات طويلة.
بالفعل قفزت العديد من الشركات في هذا المجال. ومن الأمثلة على ذلك شركة ادكس (edX) التي أسستها جامعتي هارفارد وأم آي تي(MIT) ، ويستخدم خدماتها اليوم 20 مليون شخص. لديها كورسات لجميع الفئات – من مواضيع تقنية مثل علوم الكمبيوتر إلى الدراسات الانسانية مثل الفنون والأداب. تستجيب هذه الشركات الى حاجة السوق للتدريب والشهادات بالدراسة من أي مكان وبطريقة مرنة وابداعية. إن التعليم عبر الإنترنت، الذي يتم تنظيمه بشكل صحيح، سيتمكن من الاستفادة من التدريسيين الخارجيين من أصحاب الخبرة النادرة والموهوبين الضروريين لإحداث فرق في مستويات التدريس. ولربما تصبح المؤسسات التعليمية التي لا تتكيف مع التدريس الرقمي غير قادرة على المنافسة وغير مستدامة من الناحية التشغيلية.
التعليم العالي العراقي في مرحلة ما بعد كرونا
في العراق، أتوقع ان يضطر المسؤولون في الوزارة والجامعات الى قبول التعليم عن بعد كجزء من عمليات التعليم والتعلم، وهذا بدوره سيؤدي الى اضطرار الكليات والاقسام والتدريسيين إلى التفكير والنظر في أي جزء من المنهج التعليمي سيتم تقديمه عبر المحاضرات الصفية وأي جزء سيتم تقديمه عبر الإنترنت. سيحدث هذا بالرغم من معارضة كثير من الطلبة لهذا النوع من التعليم، وبالرغم من ضعف معارف التدريسيين في اساليبه وطرق استخداماته وانعدام خبرتهم بالتدريس عبر الانترنت. ولان الحاجة أم الاختراع، فقد بدأت إعلانات الدورات التدريبية لمنصات التعليم عن بعد تغرق مواقع التواصل الاجتماعي داعية التدريسيين للمشاركة وتعلم هذه التكنولوجيا الجديدة وطبعا كالعادة تكون المكافأة مضمونة تطبيقا لشعار “لا مشاركة بدون شهادة اشتراك”.
من جانب آخر، قد لا يساعد الهيكل التنظيمي للجامعات العراقية على تحقيق هذا التغيير في طرق التعليم والتعلم حيث انه تاريخيا يعتبر الهيكل التنظيمي الهرمي من بين أكبر العوائق التي تحول دون تغيير هادف. هذا هو الحال بالتأكيد لما نشهده اليوم مع “نظام المقررات المبني على الوحدات” والذي تحول الى نظام الكورسات الفصلي بسبب الحواجز الاكاديمية، والوظيفية بين الكليات والأقسام، وبين هيئة التدريس والإدارة، وفرضه بالقوة وبدون تجربته أولاً كما كان مقررا له في السابق. هناك حواجز أخرى يمكنها ان تكون حجر عثرة امام خلق التآزر اللازم لإنجاح نظام متداخل وفعال من التعليم الصفي والتعليم الالكتروني.
اما توقعاتي لما سيحصل للتعليم العالي والتي لربما هي أبعد عن الحقيقة، وستكون مجرد تمنيات على حسب طبيعة الإدارة الجديدة للتعليم العالي، سأوجزها بالآتي:
– ستزداد الدعوات الى استقلالية الجامعات كحصيلة لفشل الوزارة في إدارة التعليم العالي خلال ازمة الكورونا وستعزز هذه العملية قطاع التعليم العالي المجاني وغير الربحي.
– ستظهر الحاجة لضمان جودة تنفيذ التقنيات التدريسية الجديدة في التعليم العالي، والتي ستكون شرطا لتنفيذ السياسات الجديدة في التعليم والتعلم الالكتروني.
– سيتم الاعتراف بالشهادات التي تعتمد على الدراسة عن بعد وخاصة تلك التي تمنحها الجامعات العالمية الرصينة.
– سيتعين على الدولة، كردة فعل على فشل الجامعات في تقديم مساهمات اكاديمية وبحثية تتعلق بجائحة الكورونا، اتخاذ تدابير تشريعية جديدة للضغط على الجامعات للانفتاح على الابتكار والشراكة المستمرة في نقل المعرفة مع أصحاب العمل، والمجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية وما إلى ذلك، وإعطاء اهتمام أكبر بالمشاريع العلمية للطلاب، وتعزيز تعليم الكبار في الجامعات، والتواصل مع الجامعات الغربية.
– ستضطر الجامعات والكليات الاهلية القريبة عن بعضها في الموقع على الاندماج، وعلى خفض الأجور والتكيف مع الوضع الجديد الذي يحتم الاستثمار في البحث العلمي، وتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
– سيتم تقديم تعليم مهني مرن للطلاب استنادًا إلى برنامج لبناء الكفاءات. من الأفضل ان يتم دمج التعليم عبر الإنترنت مع التعليم المهني، لأن هذا سيتيح فرصًا أكبر لتطوير طبيعة الدراسة المهنية، ولكن ما هو أكثر أهمية هو تجويد الدراسات بإدخال شركاء مختلفين في عملية الدراسة.
– ستدخل مقررات هدفها الأساسي هو التعلم الشخصي، والتعلم الرقمي والتعليم المهني.
– ستدخل طرق جديدة للامتحانات من خلال قياس الكفاءة والنتائج والعمل المختبري.
– سيتم تقديم خدمات استشارية واسعة للتعلم الرقمي والوظيفي.
لقد أجبرت جائحة كرونا الناس بالفعل على اعادة الاعتبار للعلم واحترام أهمية الخبرة وعلى نبذ القيم الفاسدة والخرافات. كان من السهل الاستسلام الى الخرافة، والسخرية من الأفكار العلمية حتى انتشار الوباء، وبدء البحث عن دواء ولقاح، وبعد ذلك بدأ الناس بالاستماع الى رأي العلماء وأصحاب الاختصاص، فأثبت العلم مرة أخرى انه الترياق المضاد للتسمم بالجهل والخرافات.
* بروفسور الهندسة الخلوية، جامعة دبلن