النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير… الدكتور عبد الإله الصائغ 7
ولم يكتف الشاعر المهجري بانتهاج أسلوب جديد في كتابة للقصيدة وإنما عزز معطاه الشعري بكتابات نقدية رصينة تخلصت بشكل ملحوظ من الديباجات الإنشائية والمجاملات السمجة، وانفتحت على الكتابات التجريبية ثم سعى بعض الشعراء إلى دراسة الميتالوجيا العربية القديمة ودور الخرافات والأساطير في صياغتها، ولعل كتاب عبقر الفخم خير دليل على عمق تلك الدراسات . ويمكن القول إن معظم الآثار النقدية والثقافية والإبداعية محفوظة في كتاب فخم عنوانه (الغربال) صنعه ميخائيل نعيمة وأصدره عام 1923م وقد جاء فيه(ما تعود البعض أن يدعوه نهضة أدبية عندنا ليس سوى نغمة هبت على بعض شعرائنا وكتابنا من حدائق الآداب الغربية فدبت في مخيلاتهم وقرائحهم كما تدب العافية في أعضاء المريض بعد إبلاله من سقم طويل، والمرض الذي ألمَّ بلغتنا أجيالاً متوالية كان شللاً أوقف فيها حركة الحياة وجعلها بعد عزِّها السابق جيفة تتغذى بها أقلام الزعانف المستعبدين وقرائح النظامين والمقلدين). وكتاب الغربال متألف من قسمين الأول نظري يتضمن الآراء والقناعات والمناهج النقدية التي شكلت الذهنية المهجرية، أما الآخر فهو تطبيقي يحاول اعتماد آراء القسم الأول دليلَ عمل في نقد نصوص القسم الثاني، ونعيمة ميال إلى اعتماد الذائقة الخاصة في النقد وهو ما أسماه (المنهج الإنطباعي) وفي المقابل تلاحظ ضيق نعيمة من المناهج العلمية!! (لكل ناقد غرباله، ولكل موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا على الأرض ولا من قوة تدعمها وتظهرها صادقة سوى قوة الناقد نفسه) ويفترض نعيمة امتلاك الناقد قوة ذكاء كبرى بحيث يميّز ويحلل ويقايس. ونعيمة يندد بالدعوات التي تسمع بين حين وآخر زاعمة الغيرة على الأدب التقليدي وتقليدية الأدب ويراها قبراً لكل رغبة في التجديد!! ولعل النقطة الأكثر أهمية والمتصلة برفضه القدامة وأصوليتها هي الموقف من العروض، فقد اشمأز من العناية بالكأس أكثر من محتواه، وبالمعبد أكثر من العبادة، وهو يؤكد (أنه لا الأوزان ولا القوافي من ضرورات الشعر، مثلما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورات الصلاة والعبادة، فربّ عبارة منثورة جميلة التنسيق موسيقية الرنَّة كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية، ورب صلاة خارجة من قلب مفكر فوق رمال الصحراء أدركت غايتها!! وذهبت كصرخة في واد صلوات خارجة من مئات الأفواه بين مئات من القناديل والشموع تحت سقوف مرصعة وقبب مزركشة. ) والملاحظ أن القصيدة المهجرية أو العبارة المهجّرة تحاول محاكاة اللوحة التشكيلية في ألوانها وخطوطها وحرارتها وكثيراً ما تحدث المبدع المهجري عن إعجابه بلوحات الفنانين الكبار، قارن هذه المقتطفات من رسائل جبران خليل جبران إلى صديقته التي لم يرها طوال حياته الأديبة اللبنانية مي زيادة: 1- نيويورك،فبروري شباط 1925،(يا ماري ما رأيت أثراً من آثار ليوناردو دافنشي إلا وشعرت بقوة سحر تتمشى في باطني، بل وشعرت بجزء من روحه يتسرب إلى روحي). 2- بوسطن 28 مارس آذار 1925 (يا ماري أنا شديد الإعجاب بالفنان مانتيجنا، وفي شرعي أن كل صورة من صوره قصيدة غنائية جميلة ولكن عليك أن تزوري فلورنسة والبندقية وباريس لتشاهدي أعمال هذا الرجل الغريبة الشاذة بكل ما في الشذوذ من الإلهام والوحي). ثم لاحظ التماهي بين الطبيعة والصورة والشعر في الآتي: (1)نيويورك 31 ديسمبر كانون الأول 1923م (لا.. لا أعرف عيشاً أهنأ من عيش الأودية، وأحب الأودية، يا ماري في الشتاء، ونحن أمام موقد، ورائحة السرور المحروق تملأ البيت، والسماء تنثر الثلوج خارجاً، والريح تتلاعب بها، وقناديل الجليد مدلاة وراء زجاج النوافذ، وصوت النهر البعيد، وصوت العاصفة البيضاء يتآلفان في مسامعنا ولكن إذا لم تكن صغيرتي المحبوبة قريبة مني فلا كان الوادي ولا الثلج، ولا رائحة عود السرو ولا بلور قناديل الجليد ولا انشودة النهر، ولا هيبة العاصفة). (2)نيو يورك 26 فبروري شباط 1924م (وأنت تعلمين يا ماري أنني أحبُّ جميع العواصف خصوصاً العواصف الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق، وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهولة، حيث يتساقط مرفرفاً، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير منشداً أغنيته المنخفضة، أحبّ الثلج وأحبّ النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الإستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع). والنص المهجري إلى جانب محاكاته لطبائع اللوحة التشكيلية وتماهيه مع الطبيعة وموسيقاها فانه حريص على وحدة الموضوع، قارن (النهر المتجمد) التي كتبها نعيمة يوم كان في بعثة دراسية إلى روسيا فأقام في شقة تطل على النهر، وشعر بصداقة نحو النهر، بيد أنه استغرب من هيئة النهر، فهو يجري متدفقاً بالحياة في الصيف ويتجمّد متجلبباً بالموت في الشتاء!! فكتب هذه القصيدة: (النهر المتجمّد) – ميخائيل نعيمة: يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير ام قد هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير بالأمس كنت مرنّما بين الحدائق والزهور تتلو على الدنيا وما فيها أحاديث الدهور بالأمس كنت تسير لا تخشى الموانع في الطريق واليوم قد هبطت عليك سكينة اللحد العميق بالأمس كنت إذا اتيتك بـاكياً سلّيتني واليوم صرت إذا اتيتك ضاحكاً أبكيتني بالأمس كنت إذا سمعتَ تنهـدي وتـوجعي تبكي… وها ابكي أنا وحدي ولا تبكي معي! ماذا جرى لك بعدما قد كنت تهزج في الصباح؟ هل أجمدتك كآبتي وسمــعت ندْبي والنـواح؟ ماذا جرى لك بعدما قد كنت تنشد في المسا هل داهمتك مصائب مثلي فأخرسك الأسى ما هذه الأكفان… أم هذي قيود من جليد قد كبّلتك و ذللتك بها يد البرد الشديد ها حولك الصفصاف لاورق عليه ولاجمال يجثو كئيباً كلما مرت بـه ريح الشمـال والحور يندب فوق رأسك ناثراً أغصانه لا يسرح الحسَونُ فيه مردداً ألحانــه تأتيه أسراب من الغربان تنعق في الفضا فكأنها ترثي شباباً من حياتك قد مضى وكأنها بنعيبها عند الصباح وفي المســاء جوقٌ يشيع جسمك الصافي إلى دار البقاء لكن سينصرف الشتا و تعود أيام الربيـع فتفكّ جسمك من عقالٍ مكّنته يدُ الصقيع وتكر موجتك النقية حرة نحو البحار حبلى بأسرار البقا؛ ثملى بأنوار النهار وتعود تبسم إذ يلاطف وجهك الصافي النسيم وتعود تسبح في مياهك أنجم الليــل البهيم والبدر يبسط من سماه عليك ستراً من لجين والشمس تستر بالأزاهـر منكبيك العاريين والحور ينسى ما اعتراه من المصائب و المحن ويعود يشمخ أنفـه ويميس مخضرَّ الفنـن وتعود للصفصاف بعد الشيب أيامُ الشباب فيغرّد الحسّون فوق غصونه بدل الغـراب قد كان بي يا نهر قلب ضاحك مثل المروج حر كقلبك فيـه أهواء و آمـال تمـوج قد كان يضحي غير ما يمسى ولا يشكو الملل واليوم قد جَمَدَتْ كوجهك فيه أمواج الأمل فتساوت الأيام فيه… صباحُها ومساؤها وتوازنت فيه الحياة.. نعيمها وشقاؤهـا سيان فيه غدا الربيع مع الخريف أو الشتاء سيان نوح البائسين وضحك أبناء الصفاء نبذته ضوضاء الحياة فمال عنها وانفرد وغدا جماداً لا يحن ولا يميل إلى أحـد وغدا غريباً بين قوم كان قبلاً منهـم وغدوت بين الناس لغزاً فيه لغز مبهم يا نهر ذا قلبي أراه كما اراك مكبلا والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهو… لا. *ميخائيل نعيمة.